، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير فيمن لم يسمعها لكن يشترط فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر شروط:
أولها: أ ن يكون أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خالصًا لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثرًا ولا فائدة ولا نفعًا، وأن يكون ذا علم، وأن يكون ذا بصيرة وحكمة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وأن يكون عاملا بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه!، لن تقبل دعوته.
وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب، بشراء الأرواح، إن الذي يأتي ليغير منكرًا بمنكر، ما فعل شيئًا، بل أعان الشيطان على أخيه، إن من يجرح ويفضح الناس، ويشتم الناس، ويسب الناس، لن يجد أثرًا لدعوته، يقول [الإمام الشافعي] –وهو يعلن مبدأ عظيمًا من مبادئ الدعوة إلى الله-:
ألا يا عباد الله: مروا بالمعروف، لا تخشوا إلا الله، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير فيمن لم يسمعها، ولا تظنوا أن الطريق مفروش بالورود لمن أمر ونهى، إنه طريق محمد -صلى الله عليه وسلم- أوذي فيه، ووضع سلا الجذور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف وما استكان، وما هان، وما كان له ذلك، وللدعاة من بعده، قدوة فيه –صلى الله عليه وسلم-. هاهو[ عبد الله بن علي]- الحاكم العباسي- عم [أبي جعفر المنصور]، يوم دخل لمصر محتلا، دخلها في يوم واحد، فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات، قتل هؤلاء كلهم، كان من جبابرة الدنيا، حتى أدخل الخيول في مسجد بني أمية، ثم دخل قصره، وقال: من يعارضني فيما فعلت؟ قالوا: لا يعارضك أحد، قال: أترون أحدًا من الناس يمكن أن ينكر علىَّ، قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا – [الأوزاعي] –عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد، المحدث الكبير-، قال: عليَّ الأوزاعي ، فلما نُوِدي الأوزاعي، علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ إما أن ينجح، أو يرسب رسوبًا ما بعده رسوب، علم أن الله أراد أن يمتحنه ليصبر، أولا يصبر، قالوا: للأوزاعى عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، الدماء تجري لا زالت لم تجف على أرض دمشق. فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟ لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته وقال يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنوده، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي، ومن كنت حسبه فقد كفيته، ثم دخل، وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي، فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رؤوسها، ثم قال: أدخلوا الأوزاعي، فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي، غضب هذا الأمير غضبًا حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي؟ قال: يقول: الناس أنِّي الأوزاعي، قال: الأوزاعي في هذه اللحظة قال: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزًا يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير، والله ما دخلت قصره إلا بعت نفسي من الله- عز وجل- قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس، أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال:" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"، فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتلت، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: فرفع رأسه، فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟ قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عريانًا كما خلقك؛ فإن كانت حلالا فحساب، وإن كانت حرامًا فعقاب، قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم. قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم. قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج.قال فخرجت فما زادني ربي إلا عزة وكرامة. لما مات هذا الإمام، أتى عبد الله بن علي ذلك الجبار إلى قبره، وقال: والله إني كنت أخافك أخوف أهل الأرض، والله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزًا، لم خافه؟ لأنه صدق مع الله، واعتصم بحبل الله، وخاف الله فخوف الله منه كل شيء. و هاهو [الأسود العنسي]- طاغية اليمن- الكافر، الساحر، القبيح الظالم، يجتمع حوله اللصوص، وقطاع الطرق؛ ليكونوا فرقة للصد عن سبيل الله، ليذبحوا الدعاة إلى الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وحرق من حرق، وطرد من طرد، وفر الناس بدينهم، أخذ يهتك الأعراض، ويعذب الدعاة، ومن بين هؤلاء الدعاة المخلصين [أبو مسلم الخولاني]- عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، حاول أن يثنيه عن دينه، وعن دعوته، وأمره ونهيه، فقال: كلا والذي فطرني لن أقف، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، جمع الأسود الناس، وقال: أتعتقدون في داعيتكم أنه على حق؟ إن كان على حق، فسينجيه الحق، وإن كان على باطل فسترون، ثم أمر بالنار فأضرمت نار هائلة، تمر الطيور من فوقها فتسقط لعِظَمِ ألسنة لهب هذه النار، ثم ربط يديْ أبي مسلم ورجليه بالقيد، ووضعوه في مقلاع، ثم نسفوه بالمقلاع ليهوي في خضم لهيب النار، ولظاها، وجمرها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، كاد الموحدون أن تنخلع قلوبهم، وقف الناس ينظرون، وبدأت النار تخبو وتضعف، وإذ بأبي مسلم يخرج من طرفيها الأخر ماشيًا على قدميه، قد فكت النار وثاقه، عليه ثيابه لم تحترق، يدوس بقدميه الحافيتين الجمر، ويتبسم وينظر إلى الناس، ذهل الطاغية، وخاف أن يسلم من لم يسلم، فهددهم، وتوعدهم، ليصدهم عن سبيل الله، أما أبو مسلم فخرج من النار، وواصل مشيَه فارًا بدينه، والمؤمنون يتبعونه، حتى وصل إلى المدينة –في عهد أبي بكر، رضي الله عنه وأرضاه- دخل المسجد، وصلى ركعتين، وسمع به عمر –رضي الله عنه-، فجاء يَجِدُّ السير إليه، فلما رآه قال: أأنت أبو مسلم؟ قال: نعم، قال: أأنت الذي قذفت في النار، وخرجت منها سليمًا؟ قال: نعم، فاعتنقه عمر يبكي، ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- مثل إبراهيم الخليل -عليه السلام- ألا فادعوا الله أيها المسلمون، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله، فوالله لو كادتكم السماوات والأرض ليجعلن الله لكم منها فرجًا ومخرجًا.
و هاهو أحد الصالحين، ذكر أهل السير أنه دخل على [ابن مقلة]، وزير المجرم العباسي، سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟ أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك. ويستجيب الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مر عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله، وقطعت يده، وقطع لسانه، وأخذ يبكي، ويكتب على الحيطان:
يبكي ويكتب على الحيطان:
يا عباد الله: الأمر والنهي من خصائصنا إن كنا نريد الخيرية والأمان والاطمئنان، ومتى تركناه فلننتظر الجوع، والدمار، والحرب، والخوف، والجفاف، والغضب، والمقت، واللعنة. هاهو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص، رأى صراخ أهلها، وبكاء بعضهم إلى بعض، فبكى كثيرًا، قيل له: يا أبا الدرداء: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة ظاهرة طاهرة تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترون. ولا نذهب بعيدًا بل نقلب النظر إلى من كانوا في رغد من العيش، في هناء وسعادة، فطغى أمراؤهم، وسكت علماؤهم، وأُبْلس دعاتهم، فما تُكِلم بمعروف، وما نُهِي عن منكر، ولم يؤخذ على يد ظالم، فأمهلهم الله، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى إن أخذه أليم شديد وما هي من الظالمين ببعيد). إليكم خياريْن لا ثالث لهما: إما أمر بمعروف، ونهي عن منكر بقوة، وأخذ على يد الظالم. وإما ضرب للقلوب، ثم لعنة توجب طردًا وإبعادًا من رحمة الله- جل وعلا- أقول هذا إعذارًا بين يدي الله، وإقامة للحجة عليكم، وتحذيرًا من أن يقع بنا بأس الله؛ فإن بأس الله لا يُرد عن القوم المجرمين، بينما الأمم هانئة وادعة، تترك أمر الله، وترتكب نهيه، ولا آمِر، ولا ناهٍ، إذ بالجو يدلَهِمُّ، والدماء تجري، والخوف والقلق يعم، هذه سنة الله، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا يومه، بل هذه ساعته، هذا وقت البيان، آن الوقت لئلا تأخذ الأمة في الله لومة لائم، إن الأمر جد خطير، وإن الله ينذر، ثم ينذر، ثم ينذر، ونُذُرُ الله تأتي في صور متعددة؛ فإن ارعوى الناس، وآبوا، وعادوا، وإلا (وَإِنْ تَتَوْلَّوْا يَسْتَبِدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أسأل الله أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بمسئولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، كما كنا إنك على كل شيء قدير. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله –صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
أولها: أ ن يكون أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خالصًا لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثرًا ولا فائدة ولا نفعًا، وأن يكون ذا علم، وأن يكون ذا بصيرة وحكمة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وأن يكون عاملا بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه!، لن تقبل دعوته.
لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله *** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
تعمدني بنُصحكَ في انفرادي *** وجَنِّبْنِي النَّصِيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ *** من التوبيخِ لا أرضى استماعَه
فإن خالفتني وعصيتَ أمري *** فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة
فاشدد يديْك بحبلِ الِله معتصمًا *** فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ *** يا حياتي بانت يميني فبِيني
إذا ما مات بعضك فابكِ بعضًا *** فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ
تعليق