اسم المقال : الصحبة وأثرها في السلوك كاتب المقال: حنفي مصطفي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فاعلم أخي -رحمك الله وهداك وسدد إلى الخير خطاك-.. أن الرجل بلا خَدِين -صاحب- كذي الشمال بلا يمين؛ فاتخِذ ذوي الصلاح والدين أعوانًا، واخَلط نفسك مع الأبرار وطهرها مِن الفجار، واجتنب الصغار الأخطار اللئام الأقذار، فالمرء يُعرف بقرينه؛ فاصحب مَن يحملك في سيرك إلى الله -عز وجل- لا مَن تحمله(1).
اصحب مَن يعظك بلحظه قبل وعظه بلفظه، ومَن كان بعالي الخير موصوفًا لا وصّافًا؛ فاصحب أهل المعاني ودع أرباب الدعاوي والأماني، صاحِب علاة الهمم وصافِهم واستفد مِن أخلاقِهم وأوصافِهم، فلا تلتفت إلا إلى مَن دلك على الله وعلى الطريق الموصلة إليه، فصحبةِ الصالحين ومجالستهم تُكسب المرء الصلاح، والتقوى تَرْقى بالعبد إلى مدارج الكمال، وتعد سياجًا واقيًا مِن أفات النفس ومكائد الشيطان، فالرفقة الصالحة مِن أعظم الأسباب المعينة على الهدى والخير ومحاسن الأخلاق؛ وذلك لأن الطبع لص يسرق مَن الطبع الخير والشر، فمن كان جليسه وصاحبه ورفيقه صالحًا استفاد منه صلاحًا وهدى.
وهل تجد أعظم صحبة -وأثرها- مِن صحبة المهاجرين والأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فكانت هذه الصحبة سببًا لسعادتهم الدنيوية، وهدايتهم إلى الخير والهدى، وسعادتهم الأٌخروية ونعيمهم الدائم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟!
وهل تجد أخطر وأسوأ مِن صحبة جنود فرعون له، وهامان.. كانت سببًا لشقاء الدنيا وضلالهم فيها، وشقاء الآخرة؟!
فأثر الصحبة الطيبة خير الدنيا ونعيم الآخرة، قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100).
أما قرناء السوء فإنهم يكونون وبالاً عليه على شفا جرف هار، وسرعان ما ينهار به في نار جهنم شقاءً في الدنيا، وعذابًا في الآخرة.
قال -تعالى- عن فرعون وجنوده وصحبتهم ورفقتهم له: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود98-99)، وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً) (الفرقان:27-29).
نزلت هذه الآيات في صحبة ورفقة قرناء السوء في خاتمة ونهاية مصيرهم في الدنيا والآخرة، كصحبة أهل البدع والأهواء والفسق، نعوذ بالله -تعالى- من صحبتهم ورفقتهم.
وهناك ستة صفات ذكرها أهل العلم ينبغي توافرها فيمن تؤثر صحبته ومحبته:
أولها: أن يكون مؤمنًا.
ثانيها: أن يكون مِن ذوي العقول الراجحة، فالعقل رأس المال، ولا خير في صحبة الأحمق.
ثالثها: أن يكون حسن الخلق، طيب السمت. فلا خير في صحبة مَن يغلبه الغضب أو الكذب، أو البخل أو الجبن، أو أطاع هواه.
رابعها: ألا يكون حريصًا على الدنيا؛ لأن صحبة الحريص على الدنيا تورث الحرص؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء.
خامسها: أن يكون عدلاً غير فاسق؛ لئلا يجره إلى فسقه.
سادسها: أن يكون غير مبتدع يلقي عليك الشبه فيتشربها قلبك والشبه خطافة.
وهذه الصفة مِن أهم الصفات في الصديق والصاحب، فإن في مخالطة المبتدع الهلاك والضلال والزيغ كله.
فعليك -أخي الكريم-: أن تراعي هذه الصفات الست فيمن تتخذه صديقًا، ولا تتساهل في واحدة منها.
ووصي لقمان الحكيم ابنه حيث قال له في وصيته: "يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة؛ فاصحب مَن إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك. اصحب مَن إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأي منك حسنة عدها، وإن رأي سيئة سدها. اصحب مَن إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتدأك، وإن نزلت بك نازلة واساك. اصحب مَن إذا قلت صدق قولك، وإن حاولت أمرًا آزرك، وان تنازعتما آثرك".
وقد أمرنا -سبحانه وتعالى- بصحبة أهل الصدق والتقوى، والحرص على مجالستهم وملازمتهم، فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119)، وقال الله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف:28).
كما بيَّن المولى -سبحانه وتعالى- أن كل صحبة أو صداقة لا ترتبط عُرَاها على أساس الدين والإيمان والتقوى، فسوف تنقلب إلى عداوة يوم القيامة؛ قال -تعالى-: (الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67).
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ضرورة اختيار الجليس الصالح والبعد عن جلساء وقرناء السوء، فعن أبي موسي الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما رأيت أكثر أذى للمؤمن مِن مخالطة مَن لا يصلح فإن الطبع يسرق، فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منه فتر عن عمله".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)(رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) (رواه البخاري ومسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "لما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه؛ نبَّه الله -تعالى- على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69)، فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم؛ ليزول في الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط: هم الذين أنعم الله عليهم؛ فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرًا وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وكلما استوحشت في تفردك.. فانظر إلى الرفيق في السابق واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك مِن الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك".
ثم قال -رحمه الله-: "القصد أن في ذكر الرفيق ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم، وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: (اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني) أي: أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقًا لهم ومعهم.
ولله در أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذ يقول: "عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم، فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء".
فصاحب يا أخي أهل المعاني؛ المتيقظين للدقائق والثواني، فإن صحبة هؤلاء تُعلِّم منافسة الزمان، واحترز عن مجالسة صاحب السوء، فقد قيل: "الصاحب ساحب".
فإن فقدت في زمننا هذا الصاحب الصالح الصادق فعليك بصحبة السلف الصالح في سيرهم وتراجمهم، فصاحبهم في الكتب، فقد كان الناس إذا رأوا وجه "وكيع بن الجراح" -رحمه الله- قالوا: "هذا مَلك"! وإذا رأوا وجه "محمد بن سيرين" سبحوا الله لمخايل النور التي على وجهه!
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب، ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى، مَن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة".
قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقتُ نفسي، ثم بكي".
ولله در مَن قال:
فإن أخبار العلماء العاملين والنبهاء الصالحين مِن خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتبعثها إلى التأسي بذوي التضحيات والعزامات؛ لتسمو إلى أعلى الدرجات وأشرف المقامات.
وسماع أخبار الصالحين لذة ما تفوقها لذة، وخير وسيلة لإشعال العزائم وإثارة الروح الوثابة، قدح المواهب وإذكاء الهمم و تقويم الأخلاق والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والاتساء بالأسلاف الأجلاء هو قراءة سير نبغاء العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجددين؛ فذلك خير حافز لرفع الهمم وشد العزائم وسمو المقاصد، وإنارة القلوب وإخلاص النيات، وتفجير النبوغ والطاقات المدفونة، والصبر على اجتياز العقبات الصعاب، واحتلال ذرا المجد الرفيع، وكسب الذكر الحسن، واغتنام الباقيات الصالحات.
فنسأل الله -جلَّ وعلا- بأسمائه الحسني وصفاته العلى أن يجعل لنا إخوان صدقٍ، وأصحاب نصح نبلغ بهم الكمال وحسن الأفعال، وجميل الأخلاق والصفات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقدمة بتصرف مِن كتاب: "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ.
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفى
فاعلم أخي -رحمك الله وهداك وسدد إلى الخير خطاك-.. أن الرجل بلا خَدِين -صاحب- كذي الشمال بلا يمين؛ فاتخِذ ذوي الصلاح والدين أعوانًا، واخَلط نفسك مع الأبرار وطهرها مِن الفجار، واجتنب الصغار الأخطار اللئام الأقذار، فالمرء يُعرف بقرينه؛ فاصحب مَن يحملك في سيرك إلى الله -عز وجل- لا مَن تحمله(1).
اصحب مَن يعظك بلحظه قبل وعظه بلفظه، ومَن كان بعالي الخير موصوفًا لا وصّافًا؛ فاصحب أهل المعاني ودع أرباب الدعاوي والأماني، صاحِب علاة الهمم وصافِهم واستفد مِن أخلاقِهم وأوصافِهم، فلا تلتفت إلا إلى مَن دلك على الله وعلى الطريق الموصلة إليه، فصحبةِ الصالحين ومجالستهم تُكسب المرء الصلاح، والتقوى تَرْقى بالعبد إلى مدارج الكمال، وتعد سياجًا واقيًا مِن أفات النفس ومكائد الشيطان، فالرفقة الصالحة مِن أعظم الأسباب المعينة على الهدى والخير ومحاسن الأخلاق؛ وذلك لأن الطبع لص يسرق مَن الطبع الخير والشر، فمن كان جليسه وصاحبه ورفيقه صالحًا استفاد منه صلاحًا وهدى.
وهل تجد أعظم صحبة -وأثرها- مِن صحبة المهاجرين والأنصار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فكانت هذه الصحبة سببًا لسعادتهم الدنيوية، وهدايتهم إلى الخير والهدى، وسعادتهم الأٌخروية ونعيمهم الدائم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟!
وهل تجد أخطر وأسوأ مِن صحبة جنود فرعون له، وهامان.. كانت سببًا لشقاء الدنيا وضلالهم فيها، وشقاء الآخرة؟!
فأثر الصحبة الطيبة خير الدنيا ونعيم الآخرة، قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100).
أما قرناء السوء فإنهم يكونون وبالاً عليه على شفا جرف هار، وسرعان ما ينهار به في نار جهنم شقاءً في الدنيا، وعذابًا في الآخرة.
قال -تعالى- عن فرعون وجنوده وصحبتهم ورفقتهم له: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ . وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود98-99)، وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً) (الفرقان:27-29).
نزلت هذه الآيات في صحبة ورفقة قرناء السوء في خاتمة ونهاية مصيرهم في الدنيا والآخرة، كصحبة أهل البدع والأهواء والفسق، نعوذ بالله -تعالى- من صحبتهم ورفقتهم.
وهناك ستة صفات ذكرها أهل العلم ينبغي توافرها فيمن تؤثر صحبته ومحبته:
أولها: أن يكون مؤمنًا.
ثانيها: أن يكون مِن ذوي العقول الراجحة، فالعقل رأس المال، ولا خير في صحبة الأحمق.
ثالثها: أن يكون حسن الخلق، طيب السمت. فلا خير في صحبة مَن يغلبه الغضب أو الكذب، أو البخل أو الجبن، أو أطاع هواه.
رابعها: ألا يكون حريصًا على الدنيا؛ لأن صحبة الحريص على الدنيا تورث الحرص؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء.
خامسها: أن يكون عدلاً غير فاسق؛ لئلا يجره إلى فسقه.
سادسها: أن يكون غير مبتدع يلقي عليك الشبه فيتشربها قلبك والشبه خطافة.
وهذه الصفة مِن أهم الصفات في الصديق والصاحب، فإن في مخالطة المبتدع الهلاك والضلال والزيغ كله.
فعليك -أخي الكريم-: أن تراعي هذه الصفات الست فيمن تتخذه صديقًا، ولا تتساهل في واحدة منها.
إن أخـاك الحق مَن كان معك ومـن يـضـر نـفـسـه لينـفعـك
ومَن إذا رَيْبُ الزمان صدعك شـتـت فـيـك شـمـله ليجمعـك
وقد أمرنا -سبحانه وتعالى- بصحبة أهل الصدق والتقوى، والحرص على مجالستهم وملازمتهم، فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119)، وقال الله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف:28).
كما بيَّن المولى -سبحانه وتعالى- أن كل صحبة أو صداقة لا ترتبط عُرَاها على أساس الدين والإيمان والتقوى، فسوف تنقلب إلى عداوة يوم القيامة؛ قال -تعالى-: (الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67).
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ضرورة اختيار الجليس الصالح والبعد عن جلساء وقرناء السوء، فعن أبي موسي الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما رأيت أكثر أذى للمؤمن مِن مخالطة مَن لا يصلح فإن الطبع يسرق، فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منه فتر عن عمله".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)(رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).
أنت في الناس تـقـاس بالـذي اخترت خـليـلاً
فاصحب الأخيار تعلو وتـنـل ذكــرًا جـمـيـلاً
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) (رواه البخاري ومسلم).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "لما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه؛ نبَّه الله -تعالى- على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين: (أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69)، فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم؛ ليزول في الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط: هم الذين أنعم الله عليهم؛ فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له، فإنهم هم الأقلون قدرًا وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وكلما استوحشت في تفردك.. فانظر إلى الرفيق في السابق واحرص على اللحاق بهم، وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك مِن الله شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم؛ فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك".
ثم قال -رحمه الله-: "القصد أن في ذكر الرفيق ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم، وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: (اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني) أي: أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقًا لهم ومعهم.
ولله در أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إذ يقول: "عليك بإخوان الصدق فعش في أكنافهم، فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء".
فصاحب يا أخي أهل المعاني؛ المتيقظين للدقائق والثواني، فإن صحبة هؤلاء تُعلِّم منافسة الزمان، واحترز عن مجالسة صاحب السوء، فقد قيل: "الصاحب ساحب".
فإن فقدت في زمننا هذا الصاحب الصالح الصادق فعليك بصحبة السلف الصالح في سيرهم وتراجمهم، فصاحبهم في الكتب، فقد كان الناس إذا رأوا وجه "وكيع بن الجراح" -رحمه الله- قالوا: "هذا مَلك"! وإذا رأوا وجه "محمد بن سيرين" سبحوا الله لمخايل النور التي على وجهه!
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب، ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى، مَن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة".
قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقتُ نفسي، ثم بكي".
ولله در مَن قال:
تـعـللا إن حرمنا طـيـب رؤيـتهم مَن فاته العين هد الشوق بالأثر
وسماع أخبار الصالحين لذة ما تفوقها لذة، وخير وسيلة لإشعال العزائم وإثارة الروح الوثابة، قدح المواهب وإذكاء الهمم و تقويم الأخلاق والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والاتساء بالأسلاف الأجلاء هو قراءة سير نبغاء العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجددين؛ فذلك خير حافز لرفع الهمم وشد العزائم وسمو المقاصد، وإنارة القلوب وإخلاص النيات، وتفجير النبوغ والطاقات المدفونة، والصبر على اجتياز العقبات الصعاب، واحتلال ذرا المجد الرفيع، وكسب الذكر الحسن، واغتنام الباقيات الصالحات.
فنسأل الله -جلَّ وعلا- بأسمائه الحسني وصفاته العلى أن يجعل لنا إخوان صدقٍ، وأصحاب نصح نبلغ بهم الكمال وحسن الأفعال، وجميل الأخلاق والصفات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المقدمة بتصرف مِن كتاب: "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ.
www.anasalafy.com
موقع أنا السلفى
تعليق