الأخفياء والعبادة.
في الصلاة مثلا قالت امرأة حسن بن سنان:
كان يجيء – أي حسان- فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي.
قالت فقلت له يا أبا عبد الله، كم تعذب نفسك، أرفق بنفسك.
فقال اسكتي ويحك ، فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا.
وعن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة.
وفي الصيام:
فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير، قال الفلاس، سمعت ابن أبي علي يقول: (صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غذائه فيتصدق به في الطريق.)، وكان بعضهم إذا أصبح صائما أدهن، ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يري أنه صائم.
وفي قراءة القرآن ، ذكر اين الجوزي في صفوة الصفوة. عن سفيان قال :
أخبرتني مرية الربيع بن هيثم قالت: (كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه). أي إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يرى الرجل أنه يقرأ القرآن.
الأخفياء والبكاء.
أما الأخفياء والبكاء، فقال محمد بن واسع:
(لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر امرأته).
يقول رحمه الله تعالى:
(إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم، ولقد أدركت رجال يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه).
وذكر الذهبي في السير عن محمد بن زيد – رضي الله عنه ورحمه- قال:
(كان أيوب السختياني في مجلس، فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام).
يظهر-رحمه الله تعالى- أنه مزكوم لإخفاء البكاء.
هكذا حرصهم على هذه الصفة الخفاء في الأعمال تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعاته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة.
كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، وذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد يوم قال:(إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام).
خفاء شديد.
واسمع إلى هذه القصة العجيبة الغريبة، و والله لقد أدهشتني هذه القصة.
واسمع لها يا أخي واسمعي اختي الفاضلة ، فهي قصة طويلة، فسر مع أحداثها وفصولها.
واسمع عن محمد ابن المنكدر، وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة وذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن محمد بن المنكدر ، وفي ترجمته قال:
(كانت لي سارية في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أجلس أصلي إليها الليل.
فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا.
فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي.
فجاء رجل أسود، تعلوه صفرة، متزر بكساء، وعلى رقبته كساء أصغر منه.
فتقدم إلى السارية التي بين يدي وقمت خلفه.
فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال:
أي رب أي رب، خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقيهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم.
يقول ابن المنكثر: فقلت مجنون.
قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي .يعني من كثرة المطر.
فلم سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، ثم قال:
ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكني عذت بحمدك، وعذت بطولك.
ثم قال فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه ثم قام، فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس.
ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى الباب.
فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسطت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد، ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر.
وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معهم.
ثم إذا سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي واتبعه حتى دخل دار عرفتها من دور المدينة.
ورجعت إلى المسجد فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعدا يخرز وإذا هو إسكافي.
فلما رآني عرفني، وقال: أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة، تريد أن أعمل لك خفا ؟
فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولى؟
فاسود وجهه، وصاح بي، وقال: ابن المنكدر ما أنت وذلك.
قال وغضب، قال ففرقت والله منه أي (خفت والله من غضبه).
وقلت: أخرج من عنده الآن، فلم كانت الليلة الثالثة صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسطت إليها، فلم يجئ فقلت: أن لله ما صنعت! إنا لله ما صنعت!.
فلما أصبحت جلس في المسجد حتى طلعت الشمس ، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح وإذا ليس في البيت شيء.
فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟
قلت ماله ؟ قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كسائه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج، فلم ندر أين ذهب.
يقول ابن المنكدر:
فلم يبقى في المدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها، فلم أجده.
-رحمه الله- خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عُرف خرج من المدينة كلها، وهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله.
يا أخي يا أختي المسلمة.
أترك لكم هذه القصة العجيبة ، أتركها لكم لتعيش معها، ولتقفوا معها، انظروا إليها وانظروا إلى أنفسكم، لنرى من أنفسنا عجبا.
ذكر الذهبي في السير بإسناده إلى جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته ، وقد فرغ من التشهد، يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، فقال له جبير:
(ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟
فقال دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل يقلب عن دينه في الساعة الواحدة، فيخلع منه). وقال الذهبي في إسناده الصحيح..
الأخفياء والجهاد.
أما الأخفياء والجهاد ، فقد ذكر الذهبي عن أبي حاتم الرازي، قال:
(حدثنا عبدة بن سليمان المروزي، قال كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو قلما التقى الصفان خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز.
فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله.
ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده سعد فطعنه فقتله.
( أي الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو).
فازدحم إليه الناس ، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه ، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال (أي عبد الله أبن المبارك لعبدة بن سلمان) وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا،) يعني (يفضحنا).
وعن عبيدة الله بن عبد الخالق قال:
(سبى الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر الرق وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين.
فقيل لمنصور بن عمار أحد العلماء :
لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين، فحرضت الناس عل الغزو.
ففعل منصور بن عمار، وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم يقول:
إذا نحن بخرقة مسرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار، وإذا بكتاب مضمون إلى الصرة، ففك الكتاب ، فقرأه فإذا فيه:
إني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك.
فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتي (يعني جديلتي) فقطعتهما وصررتهما في الخرقة المختومة فأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله.
فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال، فينظر إلى نظرة فيرحمني بها.
قال: فبكى منصور بن عمار وأبكء الناس.
وأمر هارون الرشيد أن نيادي بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى بالروم، وفتح الله عليه).
وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول:
كيف القرار وكيف يهدأ المسلم........والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنة..............الداعيات نبيهن محمد
القائلات إذا خشين فضيحة...........جهد المقالة ليتنا لم نولد
ما نستطيع وما لها من حيلة...........إلا التستر من أخيها باليد.
أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات، لينظرن إلى المرأة المسلمة إذا أخلصت إلى الله وكان همها العمل لله، فإنها دائما تبحث عن العمل.
أيا كان هذا العمل لا يقف آمالها ذلك السؤال ماذا أعمل؟
وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع ؟
فإن من اهتم لأمر عمل وفكر بالعمل، ووجد ماذا يعمل.
هذه المرأة عملت وسمعت واهتمت واحترق قلبها فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها، أكرم شيء في بدنها حتى يصنعوا من هاتين الجدلتين قيد فرس غازي في سبيل الله.
وقل ماذا قدمتي أيها المسلمة للمسلمات وأنت تسمعين الروم كيف يفعلن بهن ؟
ومذا قدمت يا أخي ؟ وماذا فعلنا؟
وماذا فعلتي للمسلمين في كل مكان؟
والروم وغيرهم ترون وتسمعون، بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يفعل بالمسلمات .
الأخفياء والعلم.
جاء في ترجمة الإمام الماوردي – رحمه الله- كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه ((وفيات الأعيان)) ، قال:
إن الماوردي لم يظهر شيء من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه:
(الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، فإن عاينت الموت ووقعت في النزاع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فأعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى الكتب فألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يديك فأعلم أنها قبلت ، وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة.
قال ذلك الشخص:
فلما قارب الموت ووضعت يدي في يده، فبسطها ولم يقبض على يدي ، فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده).
وقبله كان الإمام الشافعي- رحمه الله- يقول:
(وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأوجر عليه ولا يحمدوني).
فالإمام الشافعي –رحمه الله- يظن أن حمد الناس به منقصة للأجر، ونقص من صفة الخفاء، تلك الصفة التي عشقت منهم –رحمهم الله تعالى- .
وينقل الذهبي أيضا في السير قول هشام الدستوائي، -واسمع لهذا القول- يقول هشام:
(والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث، أريد به وجه الله عز وجل).
سبحان الله!! القائل هشام الدستوائي!
يقول الذهبي معلقا على هذا الكلام:
(والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق).
إلى آخر كلامه الجميل في السير، في ج7ص52، لمن أراد أن يرجع إليه.
فإذا كان هذا كلام هشام، وكلام الذهبي – رحمهما الله تعالى ورضي عنهما – فماذا يقول إذا طلاب العلم اليوم؟
بل ماذا يقول المتعلمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى؟
ويصل الخفاء منتهاه عند أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – رحمه الله تعالى ورضي عنه- قال محمد بن منصور:
كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري.
رفع إنسان قذاة من لحيته، وطرحها إلى الأرض، أي في المسجد.
فرأيت البخاري، (أنظر إلى حركة البخاري) ينظر إليها أي القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أحرجها وطرحها إلى الأرض.
سبحان الله! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفائها بدقة.
رحمهم الله تعالى ورضى الله عنهم.
هذا الموقف وهذه الصور من حياة أولئك العلام، وحياة أولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من العمل.
الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار.
وتلك العمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا وتكشف الصحف.
فإذا الصحف مليئة بتلك العمال، وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل .
والقصص وهذه الصور ليست لمجرد القصص أيها الأخ الصالح، وليست لمجرد الحديث.
بل هي للعبرة والعضة.
يا أخي ، أنت تجلس في المجالس، وتتحدث مع الآخرين.
ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها ؟
أو في الغيبة والنميمة و الكلام عن فلان وعلان!
يا أختي المسلمة، لنعلم مثل هذه المواقف ولنحفظ شيء منها وإن كان قليلا.
ولنملأ مجالسنا بذكرها، حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور، ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال، فيخرج الأجيال من مدارسهم -رحمهم الله تعالى- بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم..
في الصلاة مثلا قالت امرأة حسن بن سنان:
كان يجيء – أي حسان- فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم فيصلي.
قالت فقلت له يا أبا عبد الله، كم تعذب نفسك، أرفق بنفسك.
فقال اسكتي ويحك ، فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا.
وعن بكر بن ماعز قال: ما رئي الربيع متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة.
وفي الصيام:
فمن أعجب المواقف ما ذكره الذهبي في السير، قال الفلاس، سمعت ابن أبي علي يقول: (صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان خزازاً يحمل معه غذائه فيتصدق به في الطريق.)، وكان بعضهم إذا أصبح صائما أدهن، ومسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فلا يري أنه صائم.
وفي قراءة القرآن ، ذكر اين الجوزي في صفوة الصفوة. عن سفيان قال :
أخبرتني مرية الربيع بن هيثم قالت: (كان عمل الربيع كله سرا، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه). أي إذا قدم الرجل على الربيع قام الربيع فغطى المصحف بثوبه حتى لا يرى الرجل أنه يقرأ القرآن.
الأخفياء والبكاء.
أما الأخفياء والبكاء، فقال محمد بن واسع:
(لقد أدركت رجالا كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر امرأته).
يقول رحمه الله تعالى:
(إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته لا تعلم، ولقد أدركت رجال يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه).
وذكر الذهبي في السير عن محمد بن زيد – رضي الله عنه ورحمه- قال:
(كان أيوب السختياني في مجلس، فجاءته عبرة، فجعل يمتخط ويقول ما أشد الزكام).
يظهر-رحمه الله تعالى- أنه مزكوم لإخفاء البكاء.
هكذا حرصهم على هذه الصفة الخفاء في الأعمال تلك الصفة التي عشقوها رحمهم الله تعالى، فإذا فشل أحدهم في إخفاء دمعاته أو بكائه أو اصطناع المرض لإخفاء هذه الدمعة.
كان يقوم من مجلسه مباشرة خشية أن يكشف أمره، وذكر ذلك الإمام أحمد في كتاب الزهد يوم قال:(إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام).
خفاء شديد.
واسمع إلى هذه القصة العجيبة الغريبة، و والله لقد أدهشتني هذه القصة.
واسمع لها يا أخي واسمعي اختي الفاضلة ، فهي قصة طويلة، فسر مع أحداثها وفصولها.
واسمع عن محمد ابن المنكدر، وقد ذكر هذه القصة ابن الجوزي في صفة الصفوة وذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، عن محمد بن المنكدر ، وفي ترجمته قال:
(كانت لي سارية في مسجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أجلس أصلي إليها الليل.
فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا.
فلما كان من الليل صليت عشاء الآخرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئت فتساندت إلى ساريتي.
فجاء رجل أسود، تعلوه صفرة، متزر بكساء، وعلى رقبته كساء أصغر منه.
فتقدم إلى السارية التي بين يدي وقمت خلفه.
فقام فصلى ركعتين ثم جلس فقال:
أي رب أي رب، خرج أهل حرم نبيك يستسقون فلم تسقيهم، فأنا أقسم عليك لما سقيتهم.
يقول ابن المنكثر: فقلت مجنون.
قال فما وضع يده حتى سمعت الرعد ثم جاءت السماء بشيء من المطر أهمني الرجوع إلى أهلي .يعني من كثرة المطر.
فلم سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، ثم قال:
ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي ولكني عذت بحمدك، وعذت بطولك.
ثم قال فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه ثم قام، فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأوتر وصلى ركعتي الصبح ثم أقمت صلاة الصبح فدخل في الصلاة مع الناس.
ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى الباب.
فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسطت إليها وجاء فقام فتوشح بكسائه، وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام يصلي، فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد، ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر.
وأقيمت الصلاة فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معهم.
ثم إذا سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه، فجعل يمشي واتبعه حتى دخل دار عرفتها من دور المدينة.
ورجعت إلى المسجد فلما طلعت الشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعدا يخرز وإذا هو إسكافي.
فلما رآني عرفني، وقال: أبا عبد الله مرحبا ألك حاجة، تريد أن أعمل لك خفا ؟
فجلست فقلت ألست صاحبي بارحة الأولى؟
فاسود وجهه، وصاح بي، وقال: ابن المنكدر ما أنت وذلك.
قال وغضب، قال ففرقت والله منه أي (خفت والله من غضبه).
وقلت: أخرج من عنده الآن، فلم كانت الليلة الثالثة صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسطت إليها، فلم يجئ فقلت: أن لله ما صنعت! إنا لله ما صنعت!.
فلما أصبحت جلس في المسجد حتى طلعت الشمس ، ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح وإذا ليس في البيت شيء.
فقال لي أهل الدار: يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس؟
قلت ماله ؟ قالوا لما خرجت من عنده أمس بسط كسائه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا إلا وضعه في كسائه، ثم حمله ثم خرج، فلم ندر أين ذهب.
يقول ابن المنكدر:
فلم يبقى في المدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها، فلم أجده.
-رحمه الله- خشية أن يفتضح عمله ولأجل أنه عُرف خرج من المدينة كلها، وهو يريد أن يكون السر بينه وبين الله.
يا أخي يا أختي المسلمة.
أترك لكم هذه القصة العجيبة ، أتركها لكم لتعيش معها، ولتقفوا معها، انظروا إليها وانظروا إلى أنفسكم، لنرى من أنفسنا عجبا.
ذكر الذهبي في السير بإسناده إلى جبير بن نفير، أنه سمع أبا الدرداء وهو في آخر صلاته ، وقد فرغ من التشهد، يتعوذ بالله من النفاق، فأكثر التعوذ منه، فقال له جبير:
(ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟
فقال دعنا عنك، دعنا عنك، فوالله إن الرجل يقلب عن دينه في الساعة الواحدة، فيخلع منه). وقال الذهبي في إسناده الصحيح..
الأخفياء والجهاد.
أما الأخفياء والجهاد ، فقد ذكر الذهبي عن أبي حاتم الرازي، قال:
(حدثنا عبدة بن سليمان المروزي، قال كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو قلما التقى الصفان خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز.
فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله.
ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل من المسلمين فطارده سعد فطعنه فقتله.
( أي الرجل من المسلمين قتل وطعن الرجل من العدو).
فازدحم إليه الناس ، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه ، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال (أي عبد الله أبن المبارك لعبدة بن سلمان) وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا،) يعني (يفضحنا).
وعن عبيدة الله بن عبد الخالق قال:
(سبى الروم نساء مسلمات، فبلغ الخبر الرق وبها هارون الرشيد أمير المؤمنين.
فقيل لمنصور بن عمار أحد العلماء :
لو اتخذت مجلسا بالقرب من أمير المؤمنين، فحرضت الناس عل الغزو.
ففعل منصور بن عمار، وبينما هو يذكر الناس ويحرضهم يقول:
إذا نحن بخرقة مسرورة مختومة قد طرحت إلى منصور بن عمار، وإذا بكتاب مضمون إلى الصرة، ففك الكتاب ، فقرأه فإذا فيه:
إني امرأة من أهل البيوتات من العرب بلغني ما فعل الروم بالمسلمات وسمعت تحريضك الناس على الغزو وترغيبك في ذلك.
فعمدت إلى أكرم شيء من بدني وهما ذؤابتي (يعني جديلتي) فقطعتهما وصررتهما في الخرقة المختومة فأناشدك بالله العظيم لما جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله.
فلعل الله العظيم أن ينظر إلي على تلك الحال، فينظر إلى نظرة فيرحمني بها.
قال: فبكى منصور بن عمار وأبكء الناس.
وأمر هارون الرشيد أن نيادي بالنفير، فغزا بنفسه فأنكى بالروم، وفتح الله عليه).
وقد كان عبد الله بن المبارك يردد هذه الأبيات دائما يقول:
كيف القرار وكيف يهدأ المسلم........والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنة..............الداعيات نبيهن محمد
القائلات إذا خشين فضيحة...........جهد المقالة ليتنا لم نولد
ما نستطيع وما لها من حيلة...........إلا التستر من أخيها باليد.
أسوق هذا الموقف لنسائنا الصالحات، لينظرن إلى المرأة المسلمة إذا أخلصت إلى الله وكان همها العمل لله، فإنها دائما تبحث عن العمل.
أيا كان هذا العمل لا يقف آمالها ذلك السؤال ماذا أعمل؟
وماذا أفعل وماذا بيدي أن أصنع ؟
فإن من اهتم لأمر عمل وفكر بالعمل، ووجد ماذا يعمل.
هذه المرأة عملت وسمعت واهتمت واحترق قلبها فما كان منها إلا أن قدمت جديلتيها، أكرم شيء في بدنها حتى يصنعوا من هاتين الجدلتين قيد فرس غازي في سبيل الله.
وقل ماذا قدمتي أيها المسلمة للمسلمات وأنت تسمعين الروم كيف يفعلن بهن ؟
ومذا قدمت يا أخي ؟ وماذا فعلنا؟
وماذا فعلتي للمسلمين في كل مكان؟
والروم وغيرهم ترون وتسمعون، بل وعلى مسامع العالم كله ماذا يفعل بالمسلمات .
الأخفياء والعلم.
جاء في ترجمة الإمام الماوردي – رحمه الله- كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتابه ((وفيات الأعيان)) ، قال:
إن الماوردي لم يظهر شيء من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يثق إليه:
(الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، فإن عاينت الموت ووقعت في النزاع فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها وعصرتها فأعلم أنه لم يقبل مني شيء منها، فاعمد إلى الكتب فألقها في نهر دجلة ليلا، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يديك فأعلم أنها قبلت ، وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة.
قال ذلك الشخص:
فلما قارب الموت ووضعت يدي في يده، فبسطها ولم يقبض على يدي ، فعلمت أنها علامة القبول فأظهرت كتبه بعده).
وقبله كان الإمام الشافعي- رحمه الله- يقول:
(وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً، فأوجر عليه ولا يحمدوني).
فالإمام الشافعي –رحمه الله- يظن أن حمد الناس به منقصة للأجر، ونقص من صفة الخفاء، تلك الصفة التي عشقت منهم –رحمهم الله تعالى- .
وينقل الذهبي أيضا في السير قول هشام الدستوائي، -واسمع لهذا القول- يقول هشام:
(والله ما أستطيع أن أقول إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث، أريد به وجه الله عز وجل).
سبحان الله!! القائل هشام الدستوائي!
يقول الذهبي معلقا على هذا الكلام:
(والله ولا أنا، فقد كان السلف يطلبون العلم لله، وحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم، فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق).
إلى آخر كلامه الجميل في السير، في ج7ص52، لمن أراد أن يرجع إليه.
فإذا كان هذا كلام هشام، وكلام الذهبي – رحمهما الله تعالى ورضي عنهما – فماذا يقول إذا طلاب العلم اليوم؟
بل ماذا يقول المتعلمون أمثالنا في مثل هذه المواقف منهم رحمهم الله تعالى؟
ويصل الخفاء منتهاه عند أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – رحمه الله تعالى ورضي عنه- قال محمد بن منصور:
كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري.
رفع إنسان قذاة من لحيته، وطرحها إلى الأرض، أي في المسجد.
فرأيت البخاري، (أنظر إلى حركة البخاري) ينظر إليها أي القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أحرجها وطرحها إلى الأرض.
سبحان الله! حتى القذاة وإخراجها من المسجد كانوا يريدون إخفائها بدقة.
رحمهم الله تعالى ورضى الله عنهم.
هذا الموقف وهذه الصور من حياة أولئك العلام، وحياة أولئك الأخفياء الذين حرصوا أن يكون لهم خبيئة من العمل.
الذين حرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار وأسرار.
وتلك العمال هي المنجية يوم أن تقدم على الله جل وعلا وتكشف الصحف.
فإذا الصحف مليئة بتلك العمال، وتلك الأسرار بينك وبين الله عز وجل .
والقصص وهذه الصور ليست لمجرد القصص أيها الأخ الصالح، وليست لمجرد الحديث.
بل هي للعبرة والعضة.
يا أخي ، أنت تجلس في المجالس، وتتحدث مع الآخرين.
ما بال مجالسنا في هموم الدنيا وملذاتها ؟
أو في الغيبة والنميمة و الكلام عن فلان وعلان!
يا أختي المسلمة، لنعلم مثل هذه المواقف ولنحفظ شيء منها وإن كان قليلا.
ولنملأ مجالسنا بذكرها، حتى يعلم الناس حقيقة هذه الأمور، ويرتبط الناس وترتبط قلوبهم بقلوب أولئك الرجال، فيخرج الأجيال من مدارسهم -رحمهم الله تعالى- بالنظر إلى سيرهم وأحوالهم..
تعليق