من سنّة النبيّ ومِن حديثه ننطلق، ونأخذ النورَ ممّا وجَّهنا به عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة العظيمة التي هي من الأمور المهمّة في حِفظ مجتمع المسلمين وصيانةِ دينهم وعفافهم، روى الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: (( كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعملَ الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبِح يكشِف سترَ الله عليه)).
لماذا أيّها الإخوة؟ كلُّ الأمة معافى إلا أهل الإجهار؟
1). لأننا مأمورين إذا ابتلينا بالمعاصي أن نستتر بستر الباري ولا نفضح أنفسنا، وفي الحديث: ( اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألمَّ بشيءٍ منها فليستتر بستر الله تعالى) رواه الحاكم
2). خوفاً من سقوط وقع المعاصي من النفس، وجرأته عليها؛ فإن النفس متى ألفت ظهور المعاصي زاد انهماكها فيها ولم تبالي باجتنابها، وهذا الخوف من هتك الستر في الدنيا يتبعه خوفٌ من هتكِ الستر في الآخرة وهو أشد وأخزى.
3). لئلا يقلده غيره فيكون سببا في انتشار المعاصي في الأرض وتجرؤ الناس على ارتكابها، لهذا ينبغي على العاصي أن يخفي معصيته حتى عن أقرب الناس إليه مثل أهله وولده حتى لا يتأسوا به، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « .. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا » .
4). ليكون العاصي في مظنة العفو والعافية من الله ولا يدخل في زمرة المجاهرين بالسوء، قال تعالى: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم )
5). ليكون من أهل الحياء الذين يمنعهم حياؤهم وسلامة طبعهم من إظهار المعصية لحديث: ( الحياء لا يأتي إلا بخير).
6). ليدخل في زمرة المشهود لهم من الأمة بالخير وكما قيل: ألسنة الخلق أقلام الحق، والناس شهداء الله في الأرض لحديث: ( ما من مسلم يموت يشهد له أهل أربعة أبيات من جيرانه الأدنَيين أنهم لا يعلمون إلا خيراً، إلا قال الله قد قبلت علمكم منه وغفرت له ما لا تعلمون ) رواه أحمد.
7). لئلا يتسبب في ذم الناس له فيقعوا في المعصية بسبب ذنبه.
8). لئلا يتألم لذم الناس إذا اطلعوا على معصيته فإن الذم مؤلم للقلب، خوفا من أن يقصد بسوء أو أذى إن أظهر معصيته.
وماذا بالنسبة للسَّتر عليه؟ وما حكم غيبته؟ يندب الستر على المسلم عمومًا لأن النبي قال: ((من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))، فإذا علمتَ عن مسلم ذنبا فاستره، وخصوصًا إذا كان ممّن ينسَب لأهل الدين، والطعن فيه طعن في الإسلام، والعيب عليه عيب في أهل الإسلام، لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: "وأما المجاهر والمتهتّك فيستحبّ أن لا يستَر عليه، بل يُظهَر حاله للناس حتى يجتنبوه، وينبغي رفع أمره للقاضي حتى يقيم عليه ما يستحقّه؛ لأن سترَ مثل هذا الرجل أو المرأة يُطمعه في مزيد من الأذى والمعصية، وإذا كانت غيبة المسلمين حرامًا فإن هذا الرجلَ قد أباح للناس أن يتكلّموا في شأنه بمجاهرته، فأجاز العلماء غيبةَ المجاهر بفسقه أو ببدعته، كالمجاهر بشرب الخمر وغيره، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة"..
وإن الله لحييٌّ ستّير، يحب الحياء والستر، فيجب على من ابتلي بمعصيةٍ أن يكتم ولا يفضح نفسه، فإذا جاهر فقد هتك ما بينه وبين الله تعالى من ستر وحِجاب، وأحل للناسِ عرضه. وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممّن لم يُعرف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد ولم يكن داعيًا إليه وإنما يفعله متخوِّفًا متخفِّيًا أنه لا يجوز فضحُه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصّة، ولا يُرفَع أمره إلى القاضي، لماذا؟ لأن النبي حثّ على ستر عورةِ المسلم، وحذّر من تتبُّع زلاته: ((من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته)).
وننهي حديثنا فنقول: إن الأصل في الإنسان أن يجاهد نفسه ويبتعد عن المعاصي ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فالجنة قد حفت بالمكاره، وتستحق منا بذل الغالي والنفيس لأجل الوصول إليها والتنعم في نعيمها الأزلي.. فإن غلبه هواه وعصى الله تعالى ( بنظرةٍ أو همسةٍ أو لمسةٍ أو سماعٍ أو ذهابٍ إلى الحرام...) فليتق الله وليراجع نفسه ويزجرها، ويستر على نفسه ولا يخبر أحداً بما فعل، عل الله عزوجل بذلك يتوب عليه ويغفر ذنبه ويستره في الآخرة كما ستره في الدنيا، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين
تعليق