التفسيرالنبوي للقرآن
فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة
(الحَمدُ لله الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبدِهِ الكِتَابَ وَلَم يَجعَل لَهُ عوَجًا.قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِن لَدُنهُ وَيُبَشِّرَ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا حَسَنًا.مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا.وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا) [الكهف:1-4].
والصلاة والسلام على رسوله القائل -كما في حديث المقدام رضي الله عنه وغيره-: "ألا إني أوتيت القـرآن ومثله معه، ألا يوشك رجـل شبعان على أريكته أن يقول حين يأتيه الأمر من أمري فيما أمرت به، أو فيما نهيت عنه، فيقول: عندنا كتاب الله حسبنا، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى"
أمَّا بعد:
فإن من نعمة الله تعالى على الناس أجمعين أن توجد بين أظهرهم كلمات الله المنـزلة محفوظة من الزيادة والنقصان.
ولعل هذه أعظم نعمة يفيض الله تعالى خيرها على البشر أجمعين، أن يكون بين أيديهم كتاب محفوظ، يحكِّمونه في حياتهم، ويحتكمون إليه فيما يقع بينهم من اختلاف، وذلك بعد أن حُرِّفت الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل وغيرها، وضاع أكثرها، ولعبت بها أيدي التغيير والتبديل، قال تعالى: (فَوَيلٌ لِلَّذِينَ يَكتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيدِيهِم ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِن عِندِ الله لِيَشتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَت أَيدِيهِم وَوَيلٌ لَهُم مِمَّا يَكسِبُونَ) [البقرة:79].
ولذلك كان علم التفسير من أعظم العلوم على الإطلاق؛ إذ هو الطريق إلى فهم معاني القرآن الكريم ومراد الله سبحانه وتعالى من خلقه، ومن هنا اعتنى العلماء -سلفًا وخلفًا- بهذا العلم اهتمامًا عظيمًا، وصنَّفوا فيه الكثير من المصنفات.
وقد بدأت مسيرة تفسير كتاب الله تعالى في عهد النبوة؛ حيث يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم المرجع الأول في تفسير كتاب الله تعالى، فقد فسّر آيات الكتاب العزيز بقوله وعمله صلى الله عليه وسلم.
وسوف نتناول في هذه الرسالة موضوع: التفسير النبوي للقرآن الكريم، وذلك من خلال الفصول الآتية:
.الفصل الأول: خصائص القرآن الكريم.
.الفصل الثاني: عناية الأمة بتفسير القرآن الكريم.
.الفصل الثالث: البلاغ النبوي للقرآن الكريم.
.الفصل الرابع: تفسير الصحابة للقرآن الكريم.
.الفصل الخامس: أنواع بيان السنة للقرآن الكريم.
الفصل الأول
خصائص القرآن الكريم
إن القرآن الكـريم كلام الله تعالى، وهـذه أعظم مزايا وخصائص القـرآن الكريم، فحسبه أنه كـلام الله.
وقد وصفه الله عز وجل بقوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ.لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ تَنـزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:41، 42].
وكما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله تعالى على خلقه"
إذًا فكون القرآن كلام الله، فهذا يغني عن تعداد خصائص القرآن وفضائله ومزاياه، لكن أجدني مضطرًّا إلى أن أشير إلى ثلاث خصائص لهذا القرآن؛ لابد من ذكرها في مطلع هذه الرسالة:
الخاصية الأولى: الحفظ:
قال تعالى: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
لقد قيَّض الله تعالى للقرآن منذ نزل من يحفظه من الصحابة ومن بعدهم في الصدور وفي السطور، وبلغت عناية المسلمين بالقرآن الكريم، وتدوينه، وكتابته، وحفظه، وضبطه شيئًا يفوق الوصف، حتى إن جميع حروف القرآن وكلماته مضبوطة محفوظة بقراءاتها المختلفة لا يزاد فيها ولا ينقص.
وقد ذكر بعض المفسرين -كالقرطبي وغيره- قصة طريفة تتعلق بحفظ القرآن الكريم.
وذلك أنه كان للمأمون -وهو أمير إذ ذاك- مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده، فقال: ديني، ودين آبائي، وانصرف.
فلمَّا كان بعد سنة جاء مسلمًا، فتكلم في الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون، وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببتُ أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط.
فعمدتُ إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة، فاشتريت مني.
وعمدتُ إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني.
وعمدتُ إلى القرآن، فعملت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان، رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ؛ فكان هذا سبب إسلامي.
الخاصية الثانية: الشمول والكمال:
فإن هذا الكتاب -كما قال الله عز وجل فيه-: (تَفصِيلَ كُلِّ شَيءٍ) [يوسف:111].
فما من أمر يحتاجه الناس في دينهم أو دنياهم إلا في القرآن بيانه، سواء بالنص عليه، أو بدخوله تحت قاعدة كلية عامة بينها الله تعالى في كتابه الكريم، أو بالإحالة على مصدر آخر؛ كالإحالة على السنة النبوية، أو القياس الصحيح، أو إجماع أهل العلم، أو ما أشبه ذلك.
فما من قضية يحتاجها الناس في اجتماعهم، أو أخلاقهم، أو عقائدهم، أو اقتصادهم، أو سياستهم، أو أمورهم الفردية أو الاجتماعية، الدنيوية أو الأخروية، إلا وفي القرآن بيانها إجمالاً أو تفصيلاً.
فجاء القرآن بأصول المسائل؛ فأصول العقائد؛ وأصول الأحكام في القرآن الكريم، فالقرآن شامل كامل مهيمن على جميع شئون الحياة.
الخاصية الثالثة: الحق المطلق:
إن القرآن الكريم هو الحق المطلق الذي لا ريب فيه، قال تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ) [البقرة:2].
فالقرآن حق كله، وصدق كله، فهو -فيما أخبر به عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل- صدق، ويستحيل استحالة مطلقة قطعية لا تردد فيها أن يتعارض خبر القرآن مع الواقع، أو مع التاريخ الماضي، أو مع ما يكتشفه العلم في المستقبل.
فنجزم ونقطع بلا تردد -من منطلق إيماننا بالله العظيم- أن كل ما أخبر به القرآن عن الأمم السابقة، من أخبار الأنبياء، وأخبار الأمم والدول، والقصص والأخبار في الواقع، وفي الكون، والفلك، والنجوم، والأرض، والسماء، والأرحام، والنفس البشرية... أنه صدق وحق قطعي لا تردد فيه.
ولذلك يستحيل أن يثبت العلم حقيقة تتناقض مع ما جاء في القرآن، ومن ادَّعى أن هناك حقيقة علمية تناقض القرآن، فهو إما أنه لم يفهم القرآن حق فهمه، فظن أنه يناقض العلم، أو لم يفهم العلم حق فهمه، فظن أنه يناقض القرآن.
أما أن توجد حقيقة علمية تناقض نصًّا قطعيًّا صريحًا، فهذا لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال؛ لأن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأكوان، وأوجد الإنسان، فلا يمكن أن يخبر عن الإنسان أو عن الأكوان إلا فيما هو الحق والواقع. (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وكذلك ما أخبر به الله عز وجل في القرآن من الأخبار المستقبلة في آخر الدنيا، أو في يوم القيامة، فإنه لابد أن يكون حقًّا لا شك فيه.
فأخبار الله تعالى في القرآن صدق لا ريب فيها، وأحكامه في القرآن عدل لا ظلم فيها ؛ ولذلك يقول الله عز وجل: (وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلاً) [الأنعام:115]، صدقًا في الأخبار: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، وعدلاً في الأحكام: خاصها وعامها، فرعها وأصلها، فهو الحق المطلق الذي لا شك فيه.
نعمة القرآن:
والقرآن هو الميزان والفيصل فيما يشتجر فيه الناس ويختلفون فيه من أمور الدين، وبذلك تُعرف نعمة الله تعالى بحفظ هذا القرآن إلى هذا الزمان، وأنه نعمة كبرى على المسلمين؛ بل على البشرية كلها.
وشكر هذه النعمة أن يكون القرآن هو المهيمن على حياتنا: أفرادًا، وأسرًا، ومجتمعات، ودولاً، وأممًا، بحيث يكون القرآن هو المحكَّم في كل أمورنا.
وإذا لم نفعل نكون كفرنا هذه النعمة، وعقوبة كفران هذه النعمة عقوبة أليمة، وهي أن يُرفع هذا القرآن من بين أيدينا، فلا يبقى في الأرض منه آية.
روى ابن ماجة وغيره بسند صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية"، فيُنـزع القرآن من المصاحف ومن صدور الرجال؛ لأنه لا يُعمل به، فتعطلت منافعه، فرفعه الله تعالى تكريمًا لكلامه العظيم أن يوضع عند من لا يستعينون به، ولا يستحقونه.
* * *
الفصل الثاني
عناية الأمة بتفسير القرآن الكريم
نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاه عنه أصحابه، ثم تلقاه عنهم المسلمون، وعنوا به عناية كبيرة، وكان من أوجه عنايتهم به عنايتهم بتفسيره.
عناية الصحابة بتفسير القرآن الكريم:
كان الصحابة يعنون بتفسير القرآن، حتى كان منهم من اشتهر بذلك، فصرفوا حياتهم ووقتهم في فهم معاني القرآن الكريم، ومن هؤلاء:
- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
حبر الأمة، وترجمان القرآن وإمام المفسِّرين، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"، وقد ورد عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من قراء الصحابة، وسيد الحفاظ.
- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد -أي عبد الله بن مسعود- فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة"
وقال عبد الله بن مسعود: "والله، لقد أخذت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم"، قال الراوي: فجلستُ في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعتُ رادًّا يقول غير ذلك"
وقال رضي الله عنه -كما في الرواية الصحيحة عنه-: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"
ومن الصحابة رضي الله عنهم من ورد عنه اليسير في تفسير القرآن الكريم، ومن هؤلاءعمر وعلي وأبي بن كعب و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم:
روى مالك في الموطّأ أن ابن عمر رضي الله عنه مكث في تعلم سورة البقرة ثماني سنين، فلمَّا أتمَّها نحر بَدَنَة شكرًا لله تعالى، وهو لا شك كان يتعلم البقرة ألفاظًا ومعاني، وإلا فصغار الطلبة اليوم في المدارس الابتدائية يحفظون سورة البقرة في أسبوع أو في شهر، حاشا ابن عمر أن يحتاج إلى ثماني سنين في حفظ ألفاظها فحسب؛ بل كان يتفهمها ويتلقاها ألفاظًا ومعاني.
عناية التابعين بتفسير القرآن الكريم:
وكذلك التابعون تلقوا التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم، فكان منهم أئمة في التفسير كمجاهد بن جبر المكي، الذي يقول فيه سفيان الثوري: "إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك به"، وليس هذا بغريب؛ فقد تلقى عن ابن عباس، حتى إنه كان يقول: "عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية"
وكذلك ممن عرف بالتفسير من التابعين: قتادة، وعكرمة ، والسدي ، وغيرهم كثير من التابعين وأتباعهم.
المصنَّفات في التفسير:
ثم انتهى الأمر إلى الأئمة المصنِّفين، فصنَّفوا مئات -بل ألوف- الكتب في تفسير كتاب الله تعالى بمختلف الفنون، فأهل اللغة صنَّفوا كتبًا في تفسير القرآن من النواحي اللغوية؛ في الإعراب، والبلاغة، والبيان، والبديع، وغيرها..
وأهل الفقه صنَّفوا كتبًا في معاني آيات الأحكام، وتفسيرها، ودلالاتها، واختلاف العلماء فيها.
وأهل الحديث صنَّفوا كتبًا في جمع الروايات التي وردت في تفسير معاني كتاب الله تعالى.
وهكذا أهل كل فن صنَّفوا كتبًا في التفسير، تتناول القرآن من الزاوية التي يحسنونها ويتحدثون فيها، وهذه الكتب لاشك فيها الغث والسمين، والقوي والضعيف، والجيد والرديء؛ بل إن بعض الذين فسَّروا القرآن الكريم، فسروه ليوافق ما لديهم من الأغراض، سواء أكانت حقًّا أم باطلاً.
فالمعتزلة -مثلاً- منهم من فسَّر القرآن ليخدم مذهبه الفاسد، كما فعل القاضي عبد الجبار في تفسيره، وكما فعل الزمخشري في كشافه ، حيث جعل القرآن دليلاً لمذهبه في الاعتزال.
وكذلك بعض المتكلمين، فسّروا القرآن ليوافق آراءهم وأصولهم، كما فعل الرازي في تفسيره الكبير، والماتُريدي، وغيرهم.
ومن الصوفية من يفسِّر القرآن ليخدم مذهبه الصوفي، كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي وغيره.
وبعض الفقهاء فسَّروا آيات الأحكام تفسيرًا يخدم اتجاهاتهم المذهبية، ويؤيد ما اختاروه من الأقوال الفقهية.
ووُجد من أرباب العلوم -خاصة المعاصرين- من يحاول أن يحمِّل القرآن وألفاظه ما لا يحتمل من الدلالة على أنواع العلوم العصرية، كما فعل طنطاوي جوهري في تفسيره المسمّى "بالجواهر"، والذي فيه كل شيء إلا التفسير، فهو كتاب في الفلك، والعلوم المادية، والأحياء، والفيزياء، والجيولوجيا، لكن ليس فيه شيء من تفسير القرآن الكريم.
وكما يفعل بعض الذين يتحدَّثون عمّا يُسمى "الإعجاز العلمي للقرآن"، فإن منهم من يغلو فيحمِّل ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه ما لا تحتمل؛ لتوافق بعض مكتشفات ومخترعات العلم؛ بل بعض النظريات العلمية التي لم تصل بعد إلى حد أن تكون حقيقة قطعية ثابتة.
* * *
الفصل الثالث
البلاغ النبوي للقرآن الكريم
إن هذا الخلاف في تفسير القرآن الكريم، يوجب على المسلم الحريص على معرفة كلام الله عز وجل أن يعود إلى المصدر الأول والمنبع الصافي، ألا وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام الصحيحة الثابتة، فهي خير ما يفسِّر كتاب الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالبلاغ، قال تعالى: (إِن عَلَيكَ إِلاَّ البَلاغُ) [الشورى:48]، وقال: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ.إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرآنَهُ.فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِع قُرآنَهُ.ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ) [الإنسان:16]، وقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة:67].
فالرسول عليه الصلاة والسلام مطالب بالبلاغ والبيان، لكن ما هو البلاغ الذي طولب به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إن البلاغ النبوي للقرآن الكريم يشتمل على الأمور الآتية:
أولاً: بلاغ الألفاظ:
والمقصود به بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم لألفاظ القرآن الكريم كما نزلت، وكما بلغه جبريل إياها، دون زيادة أو نقص.
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: (لَقَد مَنَّ الله عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ) [آل عمران:164]، فالبلاغ النبوي لألفاظ القرآن الكريم هو المقصود بقوله تعالى: (يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على بلاغ ألفاظ القرآن الكريم، حتى إن ابن عباس رضي الله عنهما يقول -كما في الحديث المتفق عليه-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدة، وكان يحرك شفتيه"، "فأنزل الله عز وجل: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَـانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ.إِنَّ عَلَينَا جَمعَـهُ وَقُرآنَـهُ) [القيامة:16، 17]، قال: جَمعه في صدرك ثم تقرؤه، (فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِع قُرآنَهُ) [القيامة:18]، قال: فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه"
وهذا البيان اللفظي جزء من البلاغ الذي أُمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ ألفاظ القرآن الكريم بلاغًا تامًّا، ولم يكتم شيئًا مما أُنزل عليه.
ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزل عليه، لكتم هذه الآية: (وَإِذ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيهِ وَأَنعَمتَ عَلَيهِ أَمسِك عَلَيكَ زَوجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخفِي فِي نَفسِكَ مَا الله مُبدِيهِ وَتَخشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخشَاهُ) [الأحزاب:37]، فهذه الآية فيها عتاب شديد للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقرؤها على الناس في الصلاة وفي غيرها وهو المخاطب بها!!
أو يكتم هذه الآيات: (عَبَسَ وَتَولَّى.أَن جَاءَهُ الأعمَى. وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى.أَو يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى.أَمَّا مَنِ استَغنَى.فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى.وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى.وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسعَى.وَهُوَ يَخشَى.فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى) [عبس:1-10]، ففيها عتاب شديد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يتلو هذه الآيات على الناس كما نزلت عليه!!
إن الله تعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم على علم على العالمين، قال تعالى: (الله أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124]، اختار رجلاً يعلم أنه لن يكتم شيئًا مما يوحى إليه، فحتى الآيات التي عاتبه ولامه الله فيها على بعض ما صدر منه صلى الله عليه وسلم، ينقلها للناس كما ينقل الآيات التي مُدح فيها!.
فيقرأ على الناس قول الله جل وعلا له صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، ويقرأ عليهم قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ الله وَرِضوَانًا) [الفتح:29]، كما يقرأ الآيات التي فيها اللوم والعتاب، سواء بسواء.
إذًا يجزم كل موحِّد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ القرآن الكريم بألفاظه بلاغًا تامًّا لا ريب فيه.
ثانيًا: بلاغ المعاني:
كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على البلاغ اللفظي للقرآن الكريم، لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكتف ببلاغ ألفاظه ولكن بلغهم معانيه أيضاً.
إن تبليغه صلى الله عليه وسلم لمعاني كتاب الله تعالى هي بنص كتاب الله تعالى جزء من مهمته في البلاغ، فمن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومسئوليته أن يبلِّغ الناس ألفاظ القرآن ومعانيه.
فبعد أن قال تعالى: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ.إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرآنَهُ) [القيامة:16، 17]، وهذا هو البلاغ اللفظي كما سبق، قال سبحانه: (ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ) [القيامة:19]، أي: علينا أن نبين لك لفظه ومعناه.
وبعد أن قال تعالى: (رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ) [آل عمران:164]، قال: (وَيُزَكِّيهِم)، والتزكية تعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على القرآن الكريم، بحيث يتحوَّل القرآن من مجرد كتاب مكتوب ومقروء إلى واقع حياة عملية، تتحقق على ظهر الأرض.
حتى قال بعضهم: "إن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الواحد منهم كأنه قرآن يمشي على الأرض"، وهذا التعبير ليس بعيدًا، فإن عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل -كما في مسلم وغيره-: "أتقرأ القرآن؟"، قال: "نعم"، قالت: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"
فهذا معنى قوله تعالى: (وَيُزَكِّيهِم) أي: يربيهم ويزكيهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك الحسن، ويعدُّهم للدور العالمي الذي ينتظرهم لقيادة البشرية.
ثم قال تعالى: (وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ)، فما الكتاب؟ وما الحكمة؟
قال الشافعي: "قال تعالى: (وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ الله وَالحِكمَةِ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب:34]، فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله"
إذن إذا تأملنا قول الله تعالى: (رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ) [آل عمران:164]، فإننا نلاحظ أنه في أول الآية قال: (يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ)، أي: يقرأ عليهم القرآن ويتلو عليهم ألفاظه، وهو البيان اللفظي للقرآن، فإذا ضبطوا القرآن وحفظوه وأتقنوه، انتقل إلى مرحلة أخرى، وهي: (وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ)، يعني: يفقههم في معاني القرآن، ويعلمهم معاني ما حفظوه وضبطوه، ثم ينتقل إلى مرحلة ثالثة، وهي: (وَيُزَكِّيهِم)، أي: يؤدِّبهم بهذا الكتاب حتى يعملوا به وهي التزكية.
ولذلك قال أبو عبد الرحمن الجهني:حدَّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل.فمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ اللفظي والمعنوي، وقد قام بمهمة البلاغ بشقيها خير قيام، عليه الصلاة والسلام.
* * *
الفصــــل الــرابع
تفسير الصحابة للقرآن الكريم
إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عربًا، يعرفون بالسليقة معاني الكلام العربي، فبمجرد سماعهم الكلام العربي يفقهونه؛ ولذلك كان الكفار في مكة يعرفون عموم معاني الكلام العربي والقرآن، والله عز وجل يقول عن القرآن: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ.عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ.بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195]، وقال تعالى: (وَمَا أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَومِهِ) [إبراهيم:4]، ومن هنا فإن العرب -حتى الكفار منهم- فهموا القرآن من حيث الجملة؛ ولذلك ردوه حيث خالف أهواءهم.
وكانوا أيضًا يفهمون معنى: "لا إله إلا الله"، فلمَّا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله"( )، عرفوا أن معناها: لا عبودية إلا لله، فلا معبود بحق إلا الله، ولا أحد يستحق العبادة إلا الله؛ ولذلك رفضوها، وقالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ) [ص:5].
إن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قارن بين مسلمي هذا الزمان ومشركي الأولين، فقال: إن الأولين كانوا أعلم بمعنى "لا إله إلا الله" ممن ينسبون إلى الإسلام في هذا الزمان.
فأبو جهل وأبو لهب يفهمون معانيها في اللغة العربية، لكن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر ومنذ عصور يقولون: لا إله إلا الله، ولا يفهمون منها حتى المعنى الذي فهمه أبو جهل وأبو لهب. يفهم كثير من المسلمين معنى لا إله إلا الله أي لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله. وهذا جزء من معناها، لكن المعنى الأصلي الذي أنكره المشركون هو إفراد الله في العبادة.
فالصحابة كانوا عربًا أقحاحاً، يفهمون معاني الكلام؛ ولذلك فهموا كثيرًا من القرآن الكريم بمجرد تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم له، كما أن العربي اليوم يفهم بالسليقة من القرآن الكريم أشياء كثيرة لا يحتاج معها إلى الرجوع إلى كتب التفسير.
فأنت -مثلاً- إذا سمعتَ كلام الله تعالى عن الجنة، عن النار، عن الرسل، عن القرآن الكريم، عن المواريث... فهمت معناها مباشرة بمجرد سماعها، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون أيضًا وراء ذلك أشياء كثيرة.
أسباب اختلاف الصحابة في فهم القرآن الكريم:
إن الصحابة الكرام كانوا أكثر الناس فهمًا لكتاب الله عز وجل، ومع ذلك فإنهم كانوا يتفاوتون في فهمهم للقرآن الكريم لأسباب كثيرة؛ ولذلك كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياء من القرآن مما يحتاجون إلى بيانه، فيبينه لهم، ومن أسباب اختلافهم - رضي الله عنهم - في فهمهم للكتاب العزيز:
أولاً: تفاوتهم في مداركهم وعقولهم:
فإن الله تعالى قسَّم بين الخلق أرزاقهم وأخلاقهم وعقولهم؛ فهذا عقله كبير عبقري نابغة، وآخر دون ذلك.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشتركون في قدر من العلم بالقرآن، إلا أن بعضهم كان يفوق بعضًا في ذلك.
وفي الصحيحين أن عليًّا رضي الله عنه سئل: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ فقال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة" -إشارة إلى صحيفة معلَّقة في سيفه-، فقال السائل:"وما في هذه الصحيفة؟"، قال: "العقل -يعني الديات-، وفكاك الأسير، وألا يُقتل مسلم بكافر"
والشاهد قوله: "إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن"، إذًا قد يُؤتى أحد الصحابة -أو غيرهم- من الفهم ما لم يؤته غيره.
وفي الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما وضع للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره، فقال: "من وضع هذا؟" قالوا: "ابن عباس"، وكان شابًّا دون الحُلُم في ذلك الوقت، فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بعمله وذكائه وأدبه، فدعا له قائلاً: "اللهم فقِّههُ في الدين، وعلمه التأويل"، فكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يشق له غبار في فهمه لكتاب الله تعالى، وله في ذلك قصص وأخبار، لعل من أعجبها وأطرفها قصته مع نافع بن الأزرق الخارجي.
وذلك أنه سأل ابن عباس عن أشياء كثيرة في كتاب الله عز وجل، وكلَّما أجابه قال: هل تعرف ذلك العرب في كلامها؟ فيقول: نعم، ثم يستشهد ابن عباس بأبيات من أبيات العرب، وهي من محفوظه، وهي عجب من العجب.
ولتفاوتهم في مداركهم تجد الاختلاف بينهم، فقد اختلف الصحابة في معاني آيات كثيرة، وفهم بعضهم من معاني الآيات خلاف ما تدل عليه، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
ثانيًا: اختلافهم في فهم اللغة العربية:
فإنهم وإن كانوا عربًا إلا أنهم متفاوتون في التوسع في فهم اللغة العربية، وألفاظها، ومعانيها.
ولذلك جاء في تفسير الطبري وغيره: أن عمر بن الخطاب قرأ قول الله تعالى: (ثُمَّ شَقَقنَا الأرضَ شَقًّا.فَأَنبَتنَا فِيهَا حَبًّا.وَعِنَبًا وَقَضبًا.وَزَيتُونًا وَنَخلاً. وَحَدَائِقَ غُلبًا.وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس:26-31]، فقال: "قد عرفنا الفاكهة، فما الأبّ؟"، ثم رجع إلى نفسه وقال: "والله إن هذا لهو التكَلُّف ياعمر!
فما كان يعرف الأبّ، أي نوع من أنواع النباتات هو؟
وفي رواية: أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية، فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إن قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم؟"
فكانوا يتفاوتون في فهمهم للغة العربية، كما كانوا يتفاوتون في فهمهم لمراد الله تعالى بالآية.
وهذا عدي بن حاتم رضي الله عنه لمَّا سمع قول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأبيَضُ مِنَ الخَيطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجرِ) [البقرة:187]، فهم أن الخيط هو الحبل المعروف، فلمَّا نام وضع تحت وسادته حبلين: أحدهما أبيض والآخر أسود، فلما قام لكي يتسحر وضع الخيطين بجواره، وصار يأكل وينظر حتى أسفر، وصار يعرف الأبيض من الأسود.
فلمَّا أصبح غدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" -الخيط الأبيض هو النهار والخيط الأسود هو الليل-، فإذا بان لك النهار -يعني طلع الصبح- فأمسِك.
فهذا من اختلافهم في فهم مراد الله تعالى؛ لأن اللغة العربية تحتمل أن يكون الخيط هو الحبل، ويحتمل أن يكون المقصود هو الليل والنهار، فعديٌّ فهم الأول، فبيَّن له الرسول عليه الصلاة والسلام أن المراد هو المعنى الثاني، ولا شك أن بقية الصحابة لم يفهموا هذا المعنى الذي فهمه عدي؛ ولذلك لم يقعوا في الأمر الذي وقع فيه.
ثالثًا: اختلافهم في معرفة التواريخ والأحداث والأخبار والعلوم الأخرى التي يستفاد منها في فهم القرآن الكريم:
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى نصارى نجران يدعوهم إلى الإسلام ويعلِّمهم، فكان من ضمن ما قرأ عليهم المغيرة بن شعبة سورة مريم: (يَا أُختَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ وَمَا كَانَت أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم:28]، فقال النصارى: "يا مغيرة، كيف يقول: يا أخت هارون، ومريم بينها وبين هارون قرون متطاولة؟!".
فتحيَّر المغيرة رضي الله عنه ولم يستطع أن يجيبهم، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم"، فحلَّ له الإشكال، وبيَّن له أن هارون المذكور في الآية ليس هارون أخا موسى؛ بل هارون آخر سموه عليه؛ لأنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء؛ ولذلك يكثر مثلاً في اليهود اسم موسى وهارون.
ولا شك أن المغيرة لو كان يعلم هذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لكن لمَّا سأله النصارى وقع عنده الإشكال، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه.
* * *
الفصـــل الخــامس
أنواع بيان السنة للقرآن الكريم
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَيّن في سنته كل ما يحتاج إلى بيانه من القرآن، وهل بيَّنه كله أو بعضه؟
من العلماء من يقول: لم يبين الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن إلا قليلاً كما يقول السيوطي، ويستدلون بحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسِّر شيئًا من القرآن برأيه إلا آيًا بعدد"، وهذا الحديث لا يصح، رواه البزار وغيره وهو معلول، في إسناده محمد بن جعفر الزبيري، وهو ضعيف لا يُحتج بحديثه.
ومن العلماء من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن القرآن كله، ومقصودهم بأنه بيَّن ما يحتاج إلى بيان، فهناك آيات لا تحتاج إلى بيان لأنها بيِّنة بنفسها.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما -كما ذكر الطبري وغيره -: التفسير أربعة أوجه:
وجه تعرفه العرب من كلامها، فإذا قرئ على العرب فإنهم يفهمونه.
وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وذلك كتفسير الآيات في الأحكام والعقائد التي يحتاج الناس إلى معرفتها.
وتفسير تعلمه العلماء، وهي المعاني الخفية التي لايفقهها عامة الناس.
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
فهذه أربعة أنواع من التفسير.
والخلاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن كل ما يحتاج الناس إلى بيانه من القرآن الكريم في سنته.
وبشكل عام فإن السنة النبوية تفسير للقرآن الكريم، وأنواع بيان السنة للقرآن على أربعة أضرب:
الأول: بيان القرآن بالقول (بالنص):
وذلك بأن يبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن بقوله، وهذا كثير جدًّا، حتى صنَّف فيه العلماء مصنفات مستقلة، مثل: تفسير عبد بن حميد, وتفسير ابن مردويه، وتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير الطبري، وجمع السيوطي من ذلك أشياء طيبة في كتابه: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"
وكثير من كتب السنة تفرد بابًا خاصًّا بالتفسير، فمثلاً: "جامع الأصول" لابن الأثيرخصَّص مجلدًا تقريبًا للمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن في الكتب الستة، وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وموطأ مالك، ولم يستقص؛ بل فرَّق بعضها في مواضع أخرى، وهو قريب من مجلد كامل.
إذًا فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وفسَّر أشياء كثيرة من القرآن الكريم بقوله ولفظه، ومن أمثلة ذلك:
أ- ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عجرة في تفسير قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِن رَأسِهِ فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) [البقرة:196]، فقوله: (مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) يحتاج إلى تفسير، فهو مجمل، ما الصيام؟ ما مقداره؟ ما الصدقة؟ ما النسك؟
قال كعب: "كان بي أذى من رأسي فحُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ فقلت: لا، فنـزلت هذه الآية: (فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ)، قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعامًا لكل مسكين"( ). فبيَّن عليه الصلاة والسلام تفسير هذه الآية في هذا الحديث.
ب- قوله تعالى: (يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا) [الأنعام:158].
بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حين تطلع الشمس من مغربها، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ (لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا).
ج- كذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ)، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"
ففسَّر القوة بالرمي؛ والمراد الرمي بكل شيء سواء كان بالسهام كما في وقتهم، أو بالمدفعية والطائرات والصواريخ في وقتنا هذا.
د - ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك"، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ.فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب"
فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالحساب اليسير، هو أن تعرض على العبد أعماله وذنوبه ولا يناقش فيها، وإلاَّ لو نوقش الحساب عُذِّب.
هـ - وما جاء في الصحيحين من حديث البراء، في تفسير قوله تعالى: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ).
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقعد المؤمن في قبره، أُتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ)
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: ما جاء في السنة النبوية استنباطًا واستقراء من القرآن الكريم:
أحيانًا تكون المعاني الواردة في النصوص النبوية تفصيلاً لمعاني آيات الكتاب العزيز، وهذا الضرب لطيف، فتأتي إلى معنى جاء في السنة فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عُني به الحافظ ابن كثير في تفسيره.
وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتابًا يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجًا من القرآن الكريم استنباطًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لطيف ذلك:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، ففي القرآن الكريم آية تدل على هذا المعنى، وهي قوله تعالى: (كَلاَّ لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب) [العلق:19].
ب - أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء"
فالآية التي تدل على هذا المعنى هي قوله تعالى: (وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكهُم فِي الأموَالِ وَالأولادِ وَعِدهُم) [الإسراء:64]، فمن مشاركته في الأموال، أن يأكل الشيطان ويشرب وينام معك، إذا لم تذكر الله تعالى.
ج- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا"، والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود, فكأن الحديث تفسير للصلاة الوسطى الواردة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسطَى) [البقرة:238].
وفي القرآن الكريم آية تدل على هذا وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ مِنكُم ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ) [النور:58].
ويمكن أن يستأنس بهذه الآية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبتدئ بالفجر وتنتهي بالعشاء… إذًا يكون الوقت الأوسط هو العصر، وقبله الفجر والظهر، وبعده المغرب والعشاء، فقد بدأ الله تعالى بقوله: (قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ)، وانتهى بقوله: (وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ)، فأول الأوقات هو الفجر وآخرها العشاء.
ولذلك كان مسلك بعض الفقهاء وكثير من المحدِّثين في ذكر المواقيت في كتب الفقه، أن يبدأوا بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء.
د – ومنه أن بني سلمة -وهم حي من الأنصار- أرادوا أن يتحولوا بمنازلهم قرب مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فلمَّا علم بذلك النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم"، يعني: الزموا دياركم وابقوا فيها.
وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يخلوا أنحاء المدينة، وأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، ولا يكونون موجودين فقط حول المسجد، وتخلو بقية الأحياء عنهم.
وقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: (إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم) [يس:12]، فمن الآثار التي تُكتب خطى الإنسان إلى المسجد ذهابًا وإيابًا.
هـ- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهر", والحديث حسن بمجموع طرقه وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم الطاهر من الحدثين الأكبر والأصغر.
فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ.فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ.لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ.تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ) [الواقعة:77-80]، فقوله: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ) كل ما بعده وصف له، فهو (فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ)، وهو (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ)، وهو (تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ)؛ ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ بهذه الآية.
الثالث: بيان أسباب نزول القرآن الكريم:
ولا شك أن من يعلم سبب نزول القرآن يكون أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النـزول، ومعرفة على أي وجه أُنزلت، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
أ- ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الزهري عن عروة بن الزبير أنه قال: "سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله فَمَن حَجَّ البَيتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة:158]، فوالله ما على أحـد جناح أن لا يطُوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلُّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله) الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
ثم أخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعتُه، ولقد سمعتُ رجالاً من أهل العلم يذكرون: أن الناس -إلا من ذكرت عائشةُ ممن كان يهل بمناة- كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية.
قال أبو بكر: فأسمعُ هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما؛ في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت"
إذن الآية نزلت لأمرين: الأول: لتقول للأنصار: طوفوا بين الصفا والمروة خلافًا لما كنتم تفعلونه في الجاهلية يوم أن كنتم تُهلُّون لمناة.
والثاني: لتقول للمهاجرين ولسائر المسلمين: طوفوا بالصفا والمروة وإن كنتم تطوفون بهما في الجاهلية؛ لأن هذا من شعائر الله، وليس من عادات الجاهلية.
فمعرفة سبب النـزول هاهنا تبيِّن معنى الآية بيانًا شافيًا.
ب- قوله تعالى: (لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم فَإِذَا أَفَضتُم مِن عَرَفَاتٍ فَاذكُرُوا الله عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ) [البقرة:198]، ما هو المقصود بالفضل؟ يحتمل أن يكون هو الذكر، والدعاء، والأجر... والآية شاملة جامعة لهذا كله، لكن من معاني الفضل التجارة في الحج.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجروا في المواسم، فنـزلت: (لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم) في مواسم الحج"( )، أي ليس عليهم جناح أن يذهبوا للحج ويتاجروا فيه، فبيَّن سببُ النـزول معنى الآية.
ج- قوله تعالى: (لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108]، ما المقصود بالتطهر؟
ثبت عند أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، أن هذه الآية نزلت في أهل قباء، قال: "كانوا يستنجون بالماء"، يعني: يستخدمون الماء في الاستنجاء.
وفي رواية عند البزار: "أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء"، وهذه رواية ضعيفة جدًّا. فلم يكونوا يتبعون الحجارة بالماء، يعني يستنجون بالحجارة ثم الماء؛ بل كانوا يستنجون بالماء لا بالحجارة.
د- قوله تعالى: (يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:48، 49].
هذه الآية يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات القدر، وأن كل شيء بقدر، أي بقضاء من عند الله تعالى، وقد رأيت بعض من ينكر ذلك، يقول: إن معنى الآية خلقناه بقدر، يعني مقدرًا مفصلاً مناسبًا لأوانه وزمانه، ولا مانع بأن يكون هذا جزءًا من معنى الآية، لكن أيضًا بقدر يعني: مكتوب عند الله تعالى.
والذي يفصل في هذا ويبيِّن المعنى الصحيح للقدر، ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنـزلت: (يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ)
الرابع: بيان القرآن بالفعل:
قال بعض الأئمة المهتدين في هذا العصر -لمَّا سئل عن تفسير القرآن-: أعظم كتاب يُفهم منه تفسير القرآن هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن ترجمة عملية للقرآن الكريم، بأقواله، وأفعاله، وتقريراته عليه الصلاة والسلام.
ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم، قالت: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن" ويقول جابر أيضًا في حديثه الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم-: "ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينـزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به"، يعني في الحج وغير الحج.
ومن أمثلة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي تفسير للقرآن:
أ - صلاته عليه الصلاة والسلام، فقد صلَّى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فالصلاة كلها داخلة تحت قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة:43]، وصلاته تفسير لهذه الآية.
ب - حجه عليه الصلاة والسلام، فقد حجَّ وأدى المناسك كلها؛ من الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف، والنحر، وغيرها...، وقال: "خذوا عني مناسككم", فكل أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج داخلة في تفسير قوله تعالى: (وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ) [آل عمران:97].
ج - وهكذا بيَّن لنا أحكام الصيام بعمله صلى الله عليه وسلم، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة:183].
د- وبيَّن لنا مقادير الزكاة، فكلها تفسير لقوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43].
هـ. ومن الأمثلة التفصيلية لذلك:
يقول الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كَانَ مَشهُودًا) [الإسراء:78]، هذه الآية تحدد مواقيت الصلوات الخمس.
وقد أتاه صلى الله عليه وسلم سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئًا: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: "قد انتصف النهار" وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق.
ثم أخَّر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: "قد طلعت الشمس أو كادت"، ثم أخَّر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخَّر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: "قد احمرَّت الشمس"، ثم أخَّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخَّر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل، فقال: "الوقت بين هذين".
و- ومثله أيضًا: قول الله عز وجل عن السعي بين الصفا والمروة في الحـج: (فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّـوَّفَ بِهِما) [البقرة:185]، وهذا يدل على أنه لا يحرم السعي بين الصفا والمروة ولا يجب أيضًا، لكن لما فعله صلى الله عليه وسلم عُلِم أنه واجب؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها -كما سبق-: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته، لم يَطُف بين الصفا والمروة" .
فكل أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم هي بيان للقرآن الكريم؛ ولذلك قال الشافعي رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن".
وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان ، لا يفترقان إلى يوم القيامة، ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة.نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في كتابه والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة
(الحَمدُ لله الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبدِهِ الكِتَابَ وَلَم يَجعَل لَهُ عوَجًا.قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِن لَدُنهُ وَيُبَشِّرَ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُم أَجرًا حَسَنًا.مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا.وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا) [الكهف:1-4].
والصلاة والسلام على رسوله القائل -كما في حديث المقدام رضي الله عنه وغيره-: "ألا إني أوتيت القـرآن ومثله معه، ألا يوشك رجـل شبعان على أريكته أن يقول حين يأتيه الأمر من أمري فيما أمرت به، أو فيما نهيت عنه، فيقول: عندنا كتاب الله حسبنا، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى"
أمَّا بعد:
فإن من نعمة الله تعالى على الناس أجمعين أن توجد بين أظهرهم كلمات الله المنـزلة محفوظة من الزيادة والنقصان.
ولعل هذه أعظم نعمة يفيض الله تعالى خيرها على البشر أجمعين، أن يكون بين أيديهم كتاب محفوظ، يحكِّمونه في حياتهم، ويحتكمون إليه فيما يقع بينهم من اختلاف، وذلك بعد أن حُرِّفت الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل وغيرها، وضاع أكثرها، ولعبت بها أيدي التغيير والتبديل، قال تعالى: (فَوَيلٌ لِلَّذِينَ يَكتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيدِيهِم ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِن عِندِ الله لِيَشتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيلٌ لَهُم مِمَّا كَتَبَت أَيدِيهِم وَوَيلٌ لَهُم مِمَّا يَكسِبُونَ) [البقرة:79].
ولذلك كان علم التفسير من أعظم العلوم على الإطلاق؛ إذ هو الطريق إلى فهم معاني القرآن الكريم ومراد الله سبحانه وتعالى من خلقه، ومن هنا اعتنى العلماء -سلفًا وخلفًا- بهذا العلم اهتمامًا عظيمًا، وصنَّفوا فيه الكثير من المصنفات.
وقد بدأت مسيرة تفسير كتاب الله تعالى في عهد النبوة؛ حيث يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم المرجع الأول في تفسير كتاب الله تعالى، فقد فسّر آيات الكتاب العزيز بقوله وعمله صلى الله عليه وسلم.
وسوف نتناول في هذه الرسالة موضوع: التفسير النبوي للقرآن الكريم، وذلك من خلال الفصول الآتية:
.الفصل الأول: خصائص القرآن الكريم.
.الفصل الثاني: عناية الأمة بتفسير القرآن الكريم.
.الفصل الثالث: البلاغ النبوي للقرآن الكريم.
.الفصل الرابع: تفسير الصحابة للقرآن الكريم.
.الفصل الخامس: أنواع بيان السنة للقرآن الكريم.
الفصل الأول
خصائص القرآن الكريم
إن القرآن الكـريم كلام الله تعالى، وهـذه أعظم مزايا وخصائص القـرآن الكريم، فحسبه أنه كـلام الله.
وقد وصفه الله عز وجل بقوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ.لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ تَنـزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:41، 42].
وكما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله تعالى على خلقه"
إذًا فكون القرآن كلام الله، فهذا يغني عن تعداد خصائص القرآن وفضائله ومزاياه، لكن أجدني مضطرًّا إلى أن أشير إلى ثلاث خصائص لهذا القرآن؛ لابد من ذكرها في مطلع هذه الرسالة:
الخاصية الأولى: الحفظ:
قال تعالى: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].
لقد قيَّض الله تعالى للقرآن منذ نزل من يحفظه من الصحابة ومن بعدهم في الصدور وفي السطور، وبلغت عناية المسلمين بالقرآن الكريم، وتدوينه، وكتابته، وحفظه، وضبطه شيئًا يفوق الوصف، حتى إن جميع حروف القرآن وكلماته مضبوطة محفوظة بقراءاتها المختلفة لا يزاد فيها ولا ينقص.
وقد ذكر بعض المفسرين -كالقرطبي وغيره- قصة طريفة تتعلق بحفظ القرآن الكريم.
وذلك أنه كان للمأمون -وهو أمير إذ ذاك- مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم، قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده، فقال: ديني، ودين آبائي، وانصرف.
فلمَّا كان بعد سنة جاء مسلمًا، فتكلم في الفقه فأحسن الكلام، فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون، وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك، فأحببتُ أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط.
فعمدتُ إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة، فاشتريت مني.
وعمدتُ إلى الإنجيل، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني.
وعمدتُ إلى القرآن، فعملت ثلاث نسخ، وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان، رموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا كتاب محفوظ؛ فكان هذا سبب إسلامي.
الخاصية الثانية: الشمول والكمال:
فإن هذا الكتاب -كما قال الله عز وجل فيه-: (تَفصِيلَ كُلِّ شَيءٍ) [يوسف:111].
فما من أمر يحتاجه الناس في دينهم أو دنياهم إلا في القرآن بيانه، سواء بالنص عليه، أو بدخوله تحت قاعدة كلية عامة بينها الله تعالى في كتابه الكريم، أو بالإحالة على مصدر آخر؛ كالإحالة على السنة النبوية، أو القياس الصحيح، أو إجماع أهل العلم، أو ما أشبه ذلك.
فما من قضية يحتاجها الناس في اجتماعهم، أو أخلاقهم، أو عقائدهم، أو اقتصادهم، أو سياستهم، أو أمورهم الفردية أو الاجتماعية، الدنيوية أو الأخروية، إلا وفي القرآن بيانها إجمالاً أو تفصيلاً.
فجاء القرآن بأصول المسائل؛ فأصول العقائد؛ وأصول الأحكام في القرآن الكريم، فالقرآن شامل كامل مهيمن على جميع شئون الحياة.
الخاصية الثالثة: الحق المطلق:
إن القرآن الكريم هو الحق المطلق الذي لا ريب فيه، قال تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ) [البقرة:2].
فالقرآن حق كله، وصدق كله، فهو -فيما أخبر به عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل- صدق، ويستحيل استحالة مطلقة قطعية لا تردد فيها أن يتعارض خبر القرآن مع الواقع، أو مع التاريخ الماضي، أو مع ما يكتشفه العلم في المستقبل.
فنجزم ونقطع بلا تردد -من منطلق إيماننا بالله العظيم- أن كل ما أخبر به القرآن عن الأمم السابقة، من أخبار الأنبياء، وأخبار الأمم والدول، والقصص والأخبار في الواقع، وفي الكون، والفلك، والنجوم، والأرض، والسماء، والأرحام، والنفس البشرية... أنه صدق وحق قطعي لا تردد فيه.
ولذلك يستحيل أن يثبت العلم حقيقة تتناقض مع ما جاء في القرآن، ومن ادَّعى أن هناك حقيقة علمية تناقض القرآن، فهو إما أنه لم يفهم القرآن حق فهمه، فظن أنه يناقض العلم، أو لم يفهم العلم حق فهمه، فظن أنه يناقض القرآن.
أما أن توجد حقيقة علمية تناقض نصًّا قطعيًّا صريحًا، فهذا لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال؛ لأن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأكوان، وأوجد الإنسان، فلا يمكن أن يخبر عن الإنسان أو عن الأكوان إلا فيما هو الحق والواقع. (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
وكذلك ما أخبر به الله عز وجل في القرآن من الأخبار المستقبلة في آخر الدنيا، أو في يوم القيامة، فإنه لابد أن يكون حقًّا لا شك فيه.
فأخبار الله تعالى في القرآن صدق لا ريب فيها، وأحكامه في القرآن عدل لا ظلم فيها ؛ ولذلك يقول الله عز وجل: (وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلاً) [الأنعام:115]، صدقًا في الأخبار: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، وعدلاً في الأحكام: خاصها وعامها، فرعها وأصلها، فهو الحق المطلق الذي لا شك فيه.
نعمة القرآن:
والقرآن هو الميزان والفيصل فيما يشتجر فيه الناس ويختلفون فيه من أمور الدين، وبذلك تُعرف نعمة الله تعالى بحفظ هذا القرآن إلى هذا الزمان، وأنه نعمة كبرى على المسلمين؛ بل على البشرية كلها.
وشكر هذه النعمة أن يكون القرآن هو المهيمن على حياتنا: أفرادًا، وأسرًا، ومجتمعات، ودولاً، وأممًا، بحيث يكون القرآن هو المحكَّم في كل أمورنا.
وإذا لم نفعل نكون كفرنا هذه النعمة، وعقوبة كفران هذه النعمة عقوبة أليمة، وهي أن يُرفع هذا القرآن من بين أيدينا، فلا يبقى في الأرض منه آية.
روى ابن ماجة وغيره بسند صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية"، فيُنـزع القرآن من المصاحف ومن صدور الرجال؛ لأنه لا يُعمل به، فتعطلت منافعه، فرفعه الله تعالى تكريمًا لكلامه العظيم أن يوضع عند من لا يستعينون به، ولا يستحقونه.
* * *
الفصل الثاني
عناية الأمة بتفسير القرآن الكريم
نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاه عنه أصحابه، ثم تلقاه عنهم المسلمون، وعنوا به عناية كبيرة، وكان من أوجه عنايتهم به عنايتهم بتفسيره.
عناية الصحابة بتفسير القرآن الكريم:
كان الصحابة يعنون بتفسير القرآن، حتى كان منهم من اشتهر بذلك، فصرفوا حياتهم ووقتهم في فهم معاني القرآن الكريم، ومن هؤلاء:
- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
حبر الأمة، وترجمان القرآن وإمام المفسِّرين، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل"، وقد ورد عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة، وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من قراء الصحابة، وسيد الحفاظ.
- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد -أي عبد الله بن مسعود- فبدأ به، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة"
وقال عبد الله بن مسعود: "والله، لقد أخذت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم"، قال الراوي: فجلستُ في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعتُ رادًّا يقول غير ذلك"
وقال رضي الله عنه -كما في الرواية الصحيحة عنه-: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"
ومن الصحابة رضي الله عنهم من ورد عنه اليسير في تفسير القرآن الكريم، ومن هؤلاءعمر وعلي وأبي بن كعب و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم:
روى مالك في الموطّأ أن ابن عمر رضي الله عنه مكث في تعلم سورة البقرة ثماني سنين، فلمَّا أتمَّها نحر بَدَنَة شكرًا لله تعالى، وهو لا شك كان يتعلم البقرة ألفاظًا ومعاني، وإلا فصغار الطلبة اليوم في المدارس الابتدائية يحفظون سورة البقرة في أسبوع أو في شهر، حاشا ابن عمر أن يحتاج إلى ثماني سنين في حفظ ألفاظها فحسب؛ بل كان يتفهمها ويتلقاها ألفاظًا ومعاني.
عناية التابعين بتفسير القرآن الكريم:
وكذلك التابعون تلقوا التفسير عن الصحابة رضي الله عنهم، فكان منهم أئمة في التفسير كمجاهد بن جبر المكي، الذي يقول فيه سفيان الثوري: "إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك به"، وليس هذا بغريب؛ فقد تلقى عن ابن عباس، حتى إنه كان يقول: "عرضتُ القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية"
وكذلك ممن عرف بالتفسير من التابعين: قتادة، وعكرمة ، والسدي ، وغيرهم كثير من التابعين وأتباعهم.
المصنَّفات في التفسير:
ثم انتهى الأمر إلى الأئمة المصنِّفين، فصنَّفوا مئات -بل ألوف- الكتب في تفسير كتاب الله تعالى بمختلف الفنون، فأهل اللغة صنَّفوا كتبًا في تفسير القرآن من النواحي اللغوية؛ في الإعراب، والبلاغة، والبيان، والبديع، وغيرها..
وأهل الفقه صنَّفوا كتبًا في معاني آيات الأحكام، وتفسيرها، ودلالاتها، واختلاف العلماء فيها.
وأهل الحديث صنَّفوا كتبًا في جمع الروايات التي وردت في تفسير معاني كتاب الله تعالى.
وهكذا أهل كل فن صنَّفوا كتبًا في التفسير، تتناول القرآن من الزاوية التي يحسنونها ويتحدثون فيها، وهذه الكتب لاشك فيها الغث والسمين، والقوي والضعيف، والجيد والرديء؛ بل إن بعض الذين فسَّروا القرآن الكريم، فسروه ليوافق ما لديهم من الأغراض، سواء أكانت حقًّا أم باطلاً.
فالمعتزلة -مثلاً- منهم من فسَّر القرآن ليخدم مذهبه الفاسد، كما فعل القاضي عبد الجبار في تفسيره، وكما فعل الزمخشري في كشافه ، حيث جعل القرآن دليلاً لمذهبه في الاعتزال.
وكذلك بعض المتكلمين، فسّروا القرآن ليوافق آراءهم وأصولهم، كما فعل الرازي في تفسيره الكبير، والماتُريدي، وغيرهم.
ومن الصوفية من يفسِّر القرآن ليخدم مذهبه الصوفي، كتفسير أبي عبد الرحمن السلمي وغيره.
وبعض الفقهاء فسَّروا آيات الأحكام تفسيرًا يخدم اتجاهاتهم المذهبية، ويؤيد ما اختاروه من الأقوال الفقهية.
ووُجد من أرباب العلوم -خاصة المعاصرين- من يحاول أن يحمِّل القرآن وألفاظه ما لا يحتمل من الدلالة على أنواع العلوم العصرية، كما فعل طنطاوي جوهري في تفسيره المسمّى "بالجواهر"، والذي فيه كل شيء إلا التفسير، فهو كتاب في الفلك، والعلوم المادية، والأحياء، والفيزياء، والجيولوجيا، لكن ليس فيه شيء من تفسير القرآن الكريم.
وكما يفعل بعض الذين يتحدَّثون عمّا يُسمى "الإعجاز العلمي للقرآن"، فإن منهم من يغلو فيحمِّل ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه ما لا تحتمل؛ لتوافق بعض مكتشفات ومخترعات العلم؛ بل بعض النظريات العلمية التي لم تصل بعد إلى حد أن تكون حقيقة قطعية ثابتة.
* * *
الفصل الثالث
البلاغ النبوي للقرآن الكريم
إن هذا الخلاف في تفسير القرآن الكريم، يوجب على المسلم الحريص على معرفة كلام الله عز وجل أن يعود إلى المصدر الأول والمنبع الصافي، ألا وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام الصحيحة الثابتة، فهي خير ما يفسِّر كتاب الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالبلاغ، قال تعالى: (إِن عَلَيكَ إِلاَّ البَلاغُ) [الشورى:48]، وقال: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ.إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرآنَهُ.فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِع قُرآنَهُ.ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ) [الإنسان:16]، وقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَم تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة:67].
فالرسول عليه الصلاة والسلام مطالب بالبلاغ والبيان، لكن ما هو البلاغ الذي طولب به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
إن البلاغ النبوي للقرآن الكريم يشتمل على الأمور الآتية:
أولاً: بلاغ الألفاظ:
والمقصود به بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم لألفاظ القرآن الكريم كما نزلت، وكما بلغه جبريل إياها، دون زيادة أو نقص.
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: (لَقَد مَنَّ الله عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ) [آل عمران:164]، فالبلاغ النبوي لألفاظ القرآن الكريم هو المقصود بقوله تعالى: (يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على بلاغ ألفاظ القرآن الكريم، حتى إن ابن عباس رضي الله عنهما يقول -كما في الحديث المتفق عليه-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدة، وكان يحرك شفتيه"، "فأنزل الله عز وجل: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَـانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ.إِنَّ عَلَينَا جَمعَـهُ وَقُرآنَـهُ) [القيامة:16، 17]، قال: جَمعه في صدرك ثم تقرؤه، (فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِع قُرآنَهُ) [القيامة:18]، قال: فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه"
وهذا البيان اللفظي جزء من البلاغ الذي أُمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلَّغ ألفاظ القرآن الكريم بلاغًا تامًّا، ولم يكتم شيئًا مما أُنزل عليه.
ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزل عليه، لكتم هذه الآية: (وَإِذ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيهِ وَأَنعَمتَ عَلَيهِ أَمسِك عَلَيكَ زَوجَكَ وَاتَّقِ الله وَتُخفِي فِي نَفسِكَ مَا الله مُبدِيهِ وَتَخشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخشَاهُ) [الأحزاب:37]، فهذه الآية فيها عتاب شديد للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقرؤها على الناس في الصلاة وفي غيرها وهو المخاطب بها!!
أو يكتم هذه الآيات: (عَبَسَ وَتَولَّى.أَن جَاءَهُ الأعمَى. وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى.أَو يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى.أَمَّا مَنِ استَغنَى.فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى.وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى.وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسعَى.وَهُوَ يَخشَى.فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى) [عبس:1-10]، ففيها عتاب شديد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يتلو هذه الآيات على الناس كما نزلت عليه!!
إن الله تعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم على علم على العالمين، قال تعالى: (الله أَعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124]، اختار رجلاً يعلم أنه لن يكتم شيئًا مما يوحى إليه، فحتى الآيات التي عاتبه ولامه الله فيها على بعض ما صدر منه صلى الله عليه وسلم، ينقلها للناس كما ينقل الآيات التي مُدح فيها!.
فيقرأ على الناس قول الله جل وعلا له صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، ويقرأ عليهم قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم تَرَاهُم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ الله وَرِضوَانًا) [الفتح:29]، كما يقرأ الآيات التي فيها اللوم والعتاب، سواء بسواء.
إذًا يجزم كل موحِّد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ القرآن الكريم بألفاظه بلاغًا تامًّا لا ريب فيه.
ثانيًا: بلاغ المعاني:
كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على البلاغ اللفظي للقرآن الكريم، لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يكتف ببلاغ ألفاظه ولكن بلغهم معانيه أيضاً.
إن تبليغه صلى الله عليه وسلم لمعاني كتاب الله تعالى هي بنص كتاب الله تعالى جزء من مهمته في البلاغ، فمن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ومسئوليته أن يبلِّغ الناس ألفاظ القرآن ومعانيه.
فبعد أن قال تعالى: (لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ.إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرآنَهُ) [القيامة:16، 17]، وهذا هو البلاغ اللفظي كما سبق، قال سبحانه: (ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا بَيَانَهُ) [القيامة:19]، أي: علينا أن نبين لك لفظه ومعناه.
وبعد أن قال تعالى: (رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ) [آل عمران:164]، قال: (وَيُزَكِّيهِم)، والتزكية تعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على القرآن الكريم، بحيث يتحوَّل القرآن من مجرد كتاب مكتوب ومقروء إلى واقع حياة عملية، تتحقق على ظهر الأرض.
حتى قال بعضهم: "إن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الواحد منهم كأنه قرآن يمشي على الأرض"، وهذا التعبير ليس بعيدًا، فإن عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل -كما في مسلم وغيره-: "أتقرأ القرآن؟"، قال: "نعم"، قالت: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"
فهذا معنى قوله تعالى: (وَيُزَكِّيهِم) أي: يربيهم ويزكيهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك الحسن، ويعدُّهم للدور العالمي الذي ينتظرهم لقيادة البشرية.
ثم قال تعالى: (وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ)، فما الكتاب؟ وما الحكمة؟
قال الشافعي: "قال تعالى: (وَاذكُرنَ مَا يُتلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن آيَاتِ الله وَالحِكمَةِ إِنَّ الله كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب:34]، فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله"
إذن إذا تأملنا قول الله تعالى: (رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ) [آل عمران:164]، فإننا نلاحظ أنه في أول الآية قال: (يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ)، أي: يقرأ عليهم القرآن ويتلو عليهم ألفاظه، وهو البيان اللفظي للقرآن، فإذا ضبطوا القرآن وحفظوه وأتقنوه، انتقل إلى مرحلة أخرى، وهي: (وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ)، يعني: يفقههم في معاني القرآن، ويعلمهم معاني ما حفظوه وضبطوه، ثم ينتقل إلى مرحلة ثالثة، وهي: (وَيُزَكِّيهِم)، أي: يؤدِّبهم بهذا الكتاب حتى يعملوا به وهي التزكية.
ولذلك قال أبو عبد الرحمن الجهني:حدَّثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل.فمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ اللفظي والمعنوي، وقد قام بمهمة البلاغ بشقيها خير قيام، عليه الصلاة والسلام.
* * *
الفصــــل الــرابع
تفسير الصحابة للقرآن الكريم
إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عربًا، يعرفون بالسليقة معاني الكلام العربي، فبمجرد سماعهم الكلام العربي يفقهونه؛ ولذلك كان الكفار في مكة يعرفون عموم معاني الكلام العربي والقرآن، والله عز وجل يقول عن القرآن: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ.عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ.بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195]، وقال تعالى: (وَمَا أَرسَلنَا مِن رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَومِهِ) [إبراهيم:4]، ومن هنا فإن العرب -حتى الكفار منهم- فهموا القرآن من حيث الجملة؛ ولذلك ردوه حيث خالف أهواءهم.
وكانوا أيضًا يفهمون معنى: "لا إله إلا الله"، فلمَّا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله"( )، عرفوا أن معناها: لا عبودية إلا لله، فلا معبود بحق إلا الله، ولا أحد يستحق العبادة إلا الله؛ ولذلك رفضوها، وقالوا: (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ) [ص:5].
إن الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قارن بين مسلمي هذا الزمان ومشركي الأولين، فقال: إن الأولين كانوا أعلم بمعنى "لا إله إلا الله" ممن ينسبون إلى الإسلام في هذا الزمان.
فأبو جهل وأبو لهب يفهمون معانيها في اللغة العربية، لكن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر ومنذ عصور يقولون: لا إله إلا الله، ولا يفهمون منها حتى المعنى الذي فهمه أبو جهل وأبو لهب. يفهم كثير من المسلمين معنى لا إله إلا الله أي لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله. وهذا جزء من معناها، لكن المعنى الأصلي الذي أنكره المشركون هو إفراد الله في العبادة.
فالصحابة كانوا عربًا أقحاحاً، يفهمون معاني الكلام؛ ولذلك فهموا كثيرًا من القرآن الكريم بمجرد تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم له، كما أن العربي اليوم يفهم بالسليقة من القرآن الكريم أشياء كثيرة لا يحتاج معها إلى الرجوع إلى كتب التفسير.
فأنت -مثلاً- إذا سمعتَ كلام الله تعالى عن الجنة، عن النار، عن الرسل، عن القرآن الكريم، عن المواريث... فهمت معناها مباشرة بمجرد سماعها، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون أيضًا وراء ذلك أشياء كثيرة.
أسباب اختلاف الصحابة في فهم القرآن الكريم:
إن الصحابة الكرام كانوا أكثر الناس فهمًا لكتاب الله عز وجل، ومع ذلك فإنهم كانوا يتفاوتون في فهمهم للقرآن الكريم لأسباب كثيرة؛ ولذلك كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياء من القرآن مما يحتاجون إلى بيانه، فيبينه لهم، ومن أسباب اختلافهم - رضي الله عنهم - في فهمهم للكتاب العزيز:
أولاً: تفاوتهم في مداركهم وعقولهم:
فإن الله تعالى قسَّم بين الخلق أرزاقهم وأخلاقهم وعقولهم؛ فهذا عقله كبير عبقري نابغة، وآخر دون ذلك.
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يشتركون في قدر من العلم بالقرآن، إلا أن بعضهم كان يفوق بعضًا في ذلك.
وفي الصحيحين أن عليًّا رضي الله عنه سئل: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ فقال: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة" -إشارة إلى صحيفة معلَّقة في سيفه-، فقال السائل:"وما في هذه الصحيفة؟"، قال: "العقل -يعني الديات-، وفكاك الأسير، وألا يُقتل مسلم بكافر"
والشاهد قوله: "إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن"، إذًا قد يُؤتى أحد الصحابة -أو غيرهم- من الفهم ما لم يؤته غيره.
وفي الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما وضع للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره، فقال: "من وضع هذا؟" قالوا: "ابن عباس"، وكان شابًّا دون الحُلُم في ذلك الوقت، فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بعمله وذكائه وأدبه، فدعا له قائلاً: "اللهم فقِّههُ في الدين، وعلمه التأويل"، فكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يشق له غبار في فهمه لكتاب الله تعالى، وله في ذلك قصص وأخبار، لعل من أعجبها وأطرفها قصته مع نافع بن الأزرق الخارجي.
وذلك أنه سأل ابن عباس عن أشياء كثيرة في كتاب الله عز وجل، وكلَّما أجابه قال: هل تعرف ذلك العرب في كلامها؟ فيقول: نعم، ثم يستشهد ابن عباس بأبيات من أبيات العرب، وهي من محفوظه، وهي عجب من العجب.
ولتفاوتهم في مداركهم تجد الاختلاف بينهم، فقد اختلف الصحابة في معاني آيات كثيرة، وفهم بعضهم من معاني الآيات خلاف ما تدل عليه، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
ثانيًا: اختلافهم في فهم اللغة العربية:
فإنهم وإن كانوا عربًا إلا أنهم متفاوتون في التوسع في فهم اللغة العربية، وألفاظها، ومعانيها.
ولذلك جاء في تفسير الطبري وغيره: أن عمر بن الخطاب قرأ قول الله تعالى: (ثُمَّ شَقَقنَا الأرضَ شَقًّا.فَأَنبَتنَا فِيهَا حَبًّا.وَعِنَبًا وَقَضبًا.وَزَيتُونًا وَنَخلاً. وَحَدَائِقَ غُلبًا.وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس:26-31]، فقال: "قد عرفنا الفاكهة، فما الأبّ؟"، ثم رجع إلى نفسه وقال: "والله إن هذا لهو التكَلُّف ياعمر!
فما كان يعرف الأبّ، أي نوع من أنواع النباتات هو؟
وفي رواية: أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية، فقال: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إن قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم؟"
فكانوا يتفاوتون في فهمهم للغة العربية، كما كانوا يتفاوتون في فهمهم لمراد الله تعالى بالآية.
وهذا عدي بن حاتم رضي الله عنه لمَّا سمع قول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأبيَضُ مِنَ الخَيطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجرِ) [البقرة:187]، فهم أن الخيط هو الحبل المعروف، فلمَّا نام وضع تحت وسادته حبلين: أحدهما أبيض والآخر أسود، فلما قام لكي يتسحر وضع الخيطين بجواره، وصار يأكل وينظر حتى أسفر، وصار يعرف الأبيض من الأسود.
فلمَّا أصبح غدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" -الخيط الأبيض هو النهار والخيط الأسود هو الليل-، فإذا بان لك النهار -يعني طلع الصبح- فأمسِك.
فهذا من اختلافهم في فهم مراد الله تعالى؛ لأن اللغة العربية تحتمل أن يكون الخيط هو الحبل، ويحتمل أن يكون المقصود هو الليل والنهار، فعديٌّ فهم الأول، فبيَّن له الرسول عليه الصلاة والسلام أن المراد هو المعنى الثاني، ولا شك أن بقية الصحابة لم يفهموا هذا المعنى الذي فهمه عدي؛ ولذلك لم يقعوا في الأمر الذي وقع فيه.
ثالثًا: اختلافهم في معرفة التواريخ والأحداث والأخبار والعلوم الأخرى التي يستفاد منها في فهم القرآن الكريم:
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى نصارى نجران يدعوهم إلى الإسلام ويعلِّمهم، فكان من ضمن ما قرأ عليهم المغيرة بن شعبة سورة مريم: (يَا أُختَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ وَمَا كَانَت أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم:28]، فقال النصارى: "يا مغيرة، كيف يقول: يا أخت هارون، ومريم بينها وبين هارون قرون متطاولة؟!".
فتحيَّر المغيرة رضي الله عنه ولم يستطع أن يجيبهم، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين قبلهم"، فحلَّ له الإشكال، وبيَّن له أن هارون المذكور في الآية ليس هارون أخا موسى؛ بل هارون آخر سموه عليه؛ لأنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء؛ ولذلك يكثر مثلاً في اليهود اسم موسى وهارون.
ولا شك أن المغيرة لو كان يعلم هذا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لكن لمَّا سأله النصارى وقع عنده الإشكال، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه.
* * *
الفصـــل الخــامس
أنواع بيان السنة للقرآن الكريم
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَيّن في سنته كل ما يحتاج إلى بيانه من القرآن، وهل بيَّنه كله أو بعضه؟
من العلماء من يقول: لم يبين الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن إلا قليلاً كما يقول السيوطي، ويستدلون بحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسِّر شيئًا من القرآن برأيه إلا آيًا بعدد"، وهذا الحديث لا يصح، رواه البزار وغيره وهو معلول، في إسناده محمد بن جعفر الزبيري، وهو ضعيف لا يُحتج بحديثه.
ومن العلماء من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن القرآن كله، ومقصودهم بأنه بيَّن ما يحتاج إلى بيان، فهناك آيات لا تحتاج إلى بيان لأنها بيِّنة بنفسها.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما -كما ذكر الطبري وغيره -: التفسير أربعة أوجه:
وجه تعرفه العرب من كلامها، فإذا قرئ على العرب فإنهم يفهمونه.
وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وذلك كتفسير الآيات في الأحكام والعقائد التي يحتاج الناس إلى معرفتها.
وتفسير تعلمه العلماء، وهي المعاني الخفية التي لايفقهها عامة الناس.
وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.
فهذه أربعة أنواع من التفسير.
والخلاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بيَّن كل ما يحتاج الناس إلى بيانه من القرآن الكريم في سنته.
وبشكل عام فإن السنة النبوية تفسير للقرآن الكريم، وأنواع بيان السنة للقرآن على أربعة أضرب:
الأول: بيان القرآن بالقول (بالنص):
وذلك بأن يبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن بقوله، وهذا كثير جدًّا، حتى صنَّف فيه العلماء مصنفات مستقلة، مثل: تفسير عبد بن حميد, وتفسير ابن مردويه، وتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير الطبري، وجمع السيوطي من ذلك أشياء طيبة في كتابه: "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"
وكثير من كتب السنة تفرد بابًا خاصًّا بالتفسير، فمثلاً: "جامع الأصول" لابن الأثيرخصَّص مجلدًا تقريبًا للمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن في الكتب الستة، وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وموطأ مالك، ولم يستقص؛ بل فرَّق بعضها في مواضع أخرى، وهو قريب من مجلد كامل.
إذًا فقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وفسَّر أشياء كثيرة من القرآن الكريم بقوله ولفظه، ومن أمثلة ذلك:
أ- ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عجرة في تفسير قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو بِهِ أَذًى مِن رَأسِهِ فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) [البقرة:196]، فقوله: (مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ) يحتاج إلى تفسير، فهو مجمل، ما الصيام؟ ما مقداره؟ ما الصدقة؟ ما النسك؟
قال كعب: "كان بي أذى من رأسي فحُملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ فقلت: لا، فنـزلت هذه الآية: (فَفِديَةٌ مِن صِيَامٍ أَو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ)، قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع طعامًا لكل مسكين"( ). فبيَّن عليه الصلاة والسلام تفسير هذه الآية في هذا الحديث.
ب- قوله تعالى: (يَومَ يَأتِي بَعضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا) [الأنعام:158].
بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حين تطلع الشمس من مغربها، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ (لا يَنفَعُ نَفسًا إِيمَانُهَا لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمَانِهَا خَيرًا).
ج- كذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوَّةٍ)، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"
ففسَّر القوة بالرمي؛ والمراد الرمي بكل شيء سواء كان بالسهام كما في وقتهم، أو بالمدفعية والطائرات والصواريخ في وقتنا هذا.
د - ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك"، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ.فَسَوفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب"
فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالحساب اليسير، هو أن تعرض على العبد أعماله وذنوبه ولا يناقش فيها، وإلاَّ لو نوقش الحساب عُذِّب.
هـ - وما جاء في الصحيحين من حديث البراء، في تفسير قوله تعالى: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ).
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أُقعد المؤمن في قبره، أُتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ)
وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا.
الثاني: ما جاء في السنة النبوية استنباطًا واستقراء من القرآن الكريم:
أحيانًا تكون المعاني الواردة في النصوص النبوية تفصيلاً لمعاني آيات الكتاب العزيز، وهذا الضرب لطيف، فتأتي إلى معنى جاء في السنة فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عُني به الحافظ ابن كثير في تفسيره.
وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتابًا يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجًا من القرآن الكريم استنباطًا من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لطيف ذلك:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، ففي القرآن الكريم آية تدل على هذا المعنى، وهي قوله تعالى: (كَلاَّ لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب) [العلق:19].
ب - أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء"
فالآية التي تدل على هذا المعنى هي قوله تعالى: (وَاستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخَيلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكهُم فِي الأموَالِ وَالأولادِ وَعِدهُم) [الإسراء:64]، فمن مشاركته في الأموال، أن يأكل الشيطان ويشرب وينام معك، إذا لم تذكر الله تعالى.
ج- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا"، والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود, فكأن الحديث تفسير للصلاة الوسطى الواردة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسطَى) [البقرة:238].
وفي القرآن الكريم آية تدل على هذا وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَستَأذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِينَ لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ مِنكُم ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ) [النور:58].
ويمكن أن يستأنس بهذه الآية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبتدئ بالفجر وتنتهي بالعشاء… إذًا يكون الوقت الأوسط هو العصر، وقبله الفجر والظهر، وبعده المغرب والعشاء، فقد بدأ الله تعالى بقوله: (قَبلِ صَلاةِ الفَجرِ)، وانتهى بقوله: (وَمِن بَعدِ صَلاةِ العِشَاءِ)، فأول الأوقات هو الفجر وآخرها العشاء.
ولذلك كان مسلك بعض الفقهاء وكثير من المحدِّثين في ذكر المواقيت في كتب الفقه، أن يبدأوا بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء.
د – ومنه أن بني سلمة -وهم حي من الأنصار- أرادوا أن يتحولوا بمنازلهم قرب مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم، فلمَّا علم بذلك النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم"، يعني: الزموا دياركم وابقوا فيها.
وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يخلوا أنحاء المدينة، وأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، ولا يكونون موجودين فقط حول المسجد، وتخلو بقية الأحياء عنهم.
وقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: (إِنَّا نَحنُ نُحيِي المَوتَى وَنَكتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُم) [يس:12]، فمن الآثار التي تُكتب خطى الإنسان إلى المسجد ذهابًا وإيابًا.
هـ- أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم -: "لا يمس القرآن إلا طاهر", والحديث حسن بمجموع طرقه وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم الطاهر من الحدثين الأكبر والأصغر.
فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ.فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ.لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ.تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ) [الواقعة:77-80]، فقوله: (إِنَّهُ لَقُرآنٌ كَرِيمٌ) كل ما بعده وصف له، فهو (فِي كِتَابٍ مَكنُونٍ)، وهو (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ)، وهو (تَنزِيلٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ)؛ ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ بهذه الآية.
الثالث: بيان أسباب نزول القرآن الكريم:
ولا شك أن من يعلم سبب نزول القرآن يكون أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النـزول، ومعرفة على أي وجه أُنزلت، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة:
أ- ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الزهري عن عروة بن الزبير أنه قال: "سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله فَمَن حَجَّ البَيتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا) [البقرة:158]، فوالله ما على أحـد جناح أن لا يطُوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلُّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَةَ مِن شَعَائِرِ الله) الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
ثم أخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعتُه، ولقد سمعتُ رجالاً من أهل العلم يذكرون: أن الناس -إلا من ذكرت عائشةُ ممن كان يهل بمناة- كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية.
قال أبو بكر: فأسمعُ هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما؛ في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت"
إذن الآية نزلت لأمرين: الأول: لتقول للأنصار: طوفوا بين الصفا والمروة خلافًا لما كنتم تفعلونه في الجاهلية يوم أن كنتم تُهلُّون لمناة.
والثاني: لتقول للمهاجرين ولسائر المسلمين: طوفوا بالصفا والمروة وإن كنتم تطوفون بهما في الجاهلية؛ لأن هذا من شعائر الله، وليس من عادات الجاهلية.
فمعرفة سبب النـزول هاهنا تبيِّن معنى الآية بيانًا شافيًا.
ب- قوله تعالى: (لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم فَإِذَا أَفَضتُم مِن عَرَفَاتٍ فَاذكُرُوا الله عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ) [البقرة:198]، ما هو المقصود بالفضل؟ يحتمل أن يكون هو الذكر، والدعاء، والأجر... والآية شاملة جامعة لهذا كله، لكن من معاني الفضل التجارة في الحج.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثَّموا أن يتَّجروا في المواسم، فنـزلت: (لَيسَ عَلَيكُم جُنَاحٌ أَن تَبتَغُوا فَضلاً مِن رَبِّكُم) في مواسم الحج"( )، أي ليس عليهم جناح أن يذهبوا للحج ويتاجروا فيه، فبيَّن سببُ النـزول معنى الآية.
ج- قوله تعالى: (لَمَسجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى مِن أَوَّلِ يَومٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108]، ما المقصود بالتطهر؟
ثبت عند أبي داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، أن هذه الآية نزلت في أهل قباء، قال: "كانوا يستنجون بالماء"، يعني: يستخدمون الماء في الاستنجاء.
وفي رواية عند البزار: "أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء"، وهذه رواية ضعيفة جدًّا. فلم يكونوا يتبعون الحجارة بالماء، يعني يستنجون بالحجارة ثم الماء؛ بل كانوا يستنجون بالماء لا بالحجارة.
د- قوله تعالى: (يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:48، 49].
هذه الآية يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات القدر، وأن كل شيء بقدر، أي بقضاء من عند الله تعالى، وقد رأيت بعض من ينكر ذلك، يقول: إن معنى الآية خلقناه بقدر، يعني مقدرًا مفصلاً مناسبًا لأوانه وزمانه، ولا مانع بأن يكون هذا جزءًا من معنى الآية، لكن أيضًا بقدر يعني: مكتوب عند الله تعالى.
والذي يفصل في هذا ويبيِّن المعنى الصحيح للقدر، ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنـزلت: (يَومَ يُسحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.إِنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقنَاهُ بِقَدَرٍ)
الرابع: بيان القرآن بالفعل:
قال بعض الأئمة المهتدين في هذا العصر -لمَّا سئل عن تفسير القرآن-: أعظم كتاب يُفهم منه تفسير القرآن هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن ترجمة عملية للقرآن الكريم، بأقواله، وأفعاله، وتقريراته عليه الصلاة والسلام.
ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم، قالت: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن" ويقول جابر أيضًا في حديثه الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم-: "ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينـزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به"، يعني في الحج وغير الحج.
ومن أمثلة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي تفسير للقرآن:
أ - صلاته عليه الصلاة والسلام، فقد صلَّى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فالصلاة كلها داخلة تحت قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة:43]، وصلاته تفسير لهذه الآية.
ب - حجه عليه الصلاة والسلام، فقد حجَّ وأدى المناسك كلها؛ من الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف، والنحر، وغيرها...، وقال: "خذوا عني مناسككم", فكل أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج داخلة في تفسير قوله تعالى: (وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ) [آل عمران:97].
ج - وهكذا بيَّن لنا أحكام الصيام بعمله صلى الله عليه وسلم، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة:183].
د- وبيَّن لنا مقادير الزكاة، فكلها تفسير لقوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43].
هـ. ومن الأمثلة التفصيلية لذلك:
يقول الله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيلِ وَقُرآنَ الفَجرِ إِنَّ قُرآنَ الفَجرِ كَانَ مَشهُودًا) [الإسراء:78]، هذه الآية تحدد مواقيت الصلوات الخمس.
وقد أتاه صلى الله عليه وسلم سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئًا: فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: "قد انتصف النهار" وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق.
ثم أخَّر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: "قد طلعت الشمس أو كادت"، ثم أخَّر الظهر حتى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثم أخَّر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: "قد احمرَّت الشمس"، ثم أخَّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخَّر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل، فقال: "الوقت بين هذين".
و- ومثله أيضًا: قول الله عز وجل عن السعي بين الصفا والمروة في الحـج: (فَلا جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يَطَّـوَّفَ بِهِما) [البقرة:185]، وهذا يدل على أنه لا يحرم السعي بين الصفا والمروة ولا يجب أيضًا، لكن لما فعله صلى الله عليه وسلم عُلِم أنه واجب؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها -كما سبق-: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته، لم يَطُف بين الصفا والمروة" .
فكل أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم هي بيان للقرآن الكريم؛ ولذلك قال الشافعي رحمه الله: "كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن".
وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان ، لا يفترقان إلى يوم القيامة، ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة.نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في كتابه والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
تعليق