ضوابط وتنبيهات عند اختيار مشروعك المناسب
عند اختيار المشروع المناسب لابد من مراعاة ما يلي:
1- لا تغفل الجانب التَّعَبُّديَّ عند اختيارك للمشروع:
فمحورُ حياة المرء كلِّها هو عبادة الله- عز وجل، وبالتالي فالإنسان حين يفكِّر في أي مشروع لابدَّ أن يتذكَّرَ أنَّه عبدٌ لله- عز وجل، وعليه واجبُ تحقيق العبوديَّة.
ومن هنا فلابدَّ لأيِّ مشروع تخطِّطُ له أن تسأل نفسك: هل هذا المشروع سيجعلني أقرب إلى الله- عز وجل- أم أبعد؟
فكما نضع دراسات جدوى اقتصادية ودراسات جدوى فنِّيَّة، ودراسات جدوى اجتماعية للمشروعات التي نفكِّر فيها، فلابدَّ أن نسألَ أنفسَنا أيضاً ما جَدْوَى هذا المشروع الأُخرويّ؟
والعاقل لا يُقْبلُ على ما يضرُّه في الآخرة ويبعده عن الله.
وقد أرشدنا إلى ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. حين تكلَّم عن المشروع الذي يفكِّر فيه كلُّ شابٍّ، وهو مشروع الزَّواج! فَبَيَّنَ معاييرَ الاختيار التي يلجأ إليها من يريد النّكاح، فقال صلى الله عليه وسلم.: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»([1]).
والبعدُ التَّعَبُّديّ في مشاريعنا نغفل عنه كثيراً؛ لذلك لابدَّ أن يكون هذا البعدُ حاضراً في أذهاننا عند التَّفكير في المشروع، وعند التفاضل بين المشروعات؛ فجميع مشروعات المسلم الدُّنيويَّة لها بعدُها التَّعبُّديّ؛ فمشروع الزَّواج له بُعدٌ تَعَبُّديٌّ في إعفاف النَّفس وعدم الوقوع في الحرام «وفي بضع أحدكم صدقة»([2]).
ومن يفكر في مشروع اقتصادي؛ كشركة أو مؤسَّسة لتدرّ له ربحاً، ويحصل على الرِّزق الحلال، ولا يأكل الحرام، فهذا جانب تعبُّديٌّ.
ومن لديه مشروع إعلامي! كعمل صحيفة أو إنشاء قناة، أو موقع إعلامي، وله هدف هو: تعريف الناس بواقعهم، وهدف نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فهذا جانب تعبدي.
ومن له مشروع اجتماعي! مثل عمل مؤسَّسة خيريَّة لكفالة الأيتام، أو عمل منتدى للأسرة، أو عمل مشروع لصالة الأفراح والمناسبات أو غير ذلك من المشروعات الاجتماعية فهذه لها غايتُها الدِّينيَّة.
إذن كُلُّ مشروعاتنا لها بعدٌ تعبُّديٌّ؛ سواء كانت دينيَّةً محضةً، أو دنيويَّةً؛ فالإنسان كما ذكرنا عبدٌ لله في كلِّ شؤونه.
2- مراعاةُ الإمكانات المتاحة والمتوقَّعة ثم تحديد المشروعبناءً على مقدارها:
فلا يكون المشروعُ ضخماً بينما الإمكانات المعدَّة له متواضعة جدًّا؛ إذ لابدَّ أن يكون المشروعُ ممكنَ الحصول والتَّحقيق؛ فمثلاً: عندما نريد إقامةَ عمل تجاريٍّ يجب أن تنظر كمَّ المال الذي يمكنك توفيره لهذا العمل التِّجاريِّ، ثم حدِّد حجمَ هذا العمل بناء على مقدار هذا المال.
أو عندما تريد البحثَ عن وظيفة فانظر ما هي الشَّهادة الدِّراسية التي تحملها والخبرات العملية التي تتمتع بها، ثم على ضوء ذلك حدِّد نوعيَّة ومرتبةَ الوظيفة التي تسعى لها.
فربَّما تحدِّد لنفسك مثلاً أن تحفظَ كلَّ يوم ربعَ حزب من القرآن، وأنت قدرتُك على الحفظ لا تتجاوز أربعة أسطر، أو تحدِّد خطةً وبرنامجاً لعمل عشر رحلات، وأنت لا تملك المالَ الكافي إلا لرحلتين فقط!
وفي المقابل يجب الحذرُ من إهدار أو تجميد الموارد والإمكانات المتاحة والانشغال بمشاريع متواضعة جدًّا مع إمكان القيام بأكثر منها... كما لو أنَّنا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة فقط؛ فكلا الأمرين– التَّعَلُّق بمشاريع خيالية أو الانشغال بمشاريع متواضعة- مَضْيَعَةٌ للوقت وإهدارٌ للطَّاقات.
والمشروع الملائم هو ذلك المشروع الذي يستخرج الطَّاقةَ الكامنةَ ويعين على استخدام الموارد المهملة عند الشخص، وتكون ممكنةَ التَّطبيق، وكما قال صلى الله عليه وسلم. «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون»([3])؛ أي تَحَمَّلوا من العمل ما تطيقونه على الدَّوام والثَّبات؛ لا تفعلونه أحياناً وتتركونه أحياناً([4]).
يُحكَى عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ- رحمه الله- أنَّه قال: كان يتردَّدُ إليَّ شخص يتعلَّم العروض وهو بعيد الفهم، فأقام مدَّةً ولم يعلق في خاطره شيء منه.
فقلت له يوماً: قَطِّع هذا البيت:
فالمشروعات متنوعة وكثيرة؛ فخذ ما يناسبك؛ }قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ{ [البقرة: 60]، }وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا{ [البقرة: 148]؛ فتحديد المشروع الذي يناسب ويلائم الشَّخصَ من أَهَمِّ الأمور لنجاح المشروع بعد النِّيَّة الصَّالحة والاستعانة بالله تعالى وطلب توفيقه.
ومعرفة الشَّخص لما يصلح له من الأمور المهمة؛ فليس بالضَّرورة أن تكون ماهراً في كلِّ شيء؛ لقد علم يوسف- عليه السلام- من نفسه القدرةَ على الولاية فطلبها؛ }قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ{ [يوسف: 55]؛ بينما منعها النبيُّ صلى الله عليه وسلم. أبا ذر- رضي الله عنه.
وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يتميَّز بعضهم عن بعض في أشياء متعدِّدة؛ فمنهم من تَمَيَّزَ بالجهاد. ، ومنهم مَنْ تَمَيَّزَ بالعلم، ومنهم من تَمَيَّزَ ببعض فنون العلم، ومنهم مَنْ تَمَيَّزَ بالبذل والعطاء، وهكذا.
4- يجب أن يكون المشروعُ الذي تسعى لتحقيقه مناسباً للزَّمن الذي قدَّرتَه لإنجازه:
لأنَّ من أخطر مقاتل المشروعات الجيِّدة عدم وجود الوقت الكافي لإنجازها؛ كمن يريد أن يحصل على الشَّهادة الجامعيَّة في تخصُّص الطِّبِّ مثلا خلال عام واحد بعد تَخَرُّجه من الثَّانوية.
ومن ذلك أيضاً مَن يسرف ويبذِّر في إعطاء الأوقات الواسعة جدًّا للمشروعات التي يمكن إنجازها في أقل من ذلك؛ كمن يمكنه التخرج من الجامعة مثلا خلال أربع سنوات ولكنه يماطل ويسوِّف ويتأخر؛ فلا يحقق هذا المشروع إلا في ثمان سنوات!
وكذلك من يمكث عشر سنوات لتحقيق مشروعه في الزواج.
وليس هناك خسارة أشد من خسارة الوقت؛ وهي خسارة لا يمكن تعويضها، وللزمن قيمة تتضاءل أمامها قيمة المال والدِّرهم والدينار في نظر أصحاب العقول الرَّاجحة والبصائر النَّافذة.
5- يجب أن يكون هدف المشروع الذي تسعى لتحقيقه هدفاً مشروعاً:
فالمشروعات الممكنة كثيرة، ولا تضيق الحياة إلا على العاجزين، ولم يعدم يونس- عليه السلام- عملا وهو في بطن الحوت؛ إذ كان من المسبِّحين؛ ولكن من المشروعات ما يجوز أن يتصدَّى الإنسان لتحقيقه وإنجازه، ومنها ما لا يجوز له أن يسعى له أو يفكر فيه؛ فالسَّعيُ لكسب المال وتنمية الثَّروة للتَّمتُّع بطيِّبات الحياة والإنفاق في وجوه البرِّ مشروع ممكن لكلِّ مَن بذل جهدَه في ذلك، ولكن يمكن أن يكون عن طريق مشروع كتجارة، أو زراعة، أو صناعة، ويمكن أن يكون عن طريق الغش، والرِّشوة، والاحتيال، والرِّبا، والمخدِّرات؛ لكن أين الثَّرى من الثُّرَيَّا!
الأولُ جَمَعَ مالَه من الحلال؛ فهو سعادة له في الدنيا، ونجاة له في الآخرة إن أحسن إنفاقَه، والآخرُ جَمَعَه من الحرام فهو شقاءٌ له في الدُّنيا وجحيم وعذابٌ في الآخرة.
ومثال آخر.. من يريد أن ينجح في الدِّراسة بالجدِّ والاجتهاد والمثابرة والاعتماد على النَّفس بعد التَّوَكُّل على الله ودعائه واللُّجوء إليه، وفي مقابله من يريد أن ينجح ولكن بالغشِّ والاحتيال والاعتماد على زملائه.
ومن المشروعات المذمومة ما يخطِّط له البعضُ بأن يكون فنَّاناً، أو ممثِّلاً، أو مطرباً.
يقول أحدهم: لا أريد من الدُّنيا سوى أن أنال جائزة أفضل موسيقار، ثم أرحل عنها!! هذا جُلُّ هدفه من الحياة؛ يعيش ويموت ليحقِّقَ هذا الهدف ويكمل هذا المشروع.
والمقصودُ أن يكون المشروعُ مندمجاً في الهدف الأسمى والأكبر الذي يحيا المسلم من أجله على هذه الأرض؛ ألا وهو الفوز برضوان الله- تبارك وتعالى.
رجل طَلَبَتْ زوجتُه منه الطَّلاقَ لأنَّ تَخَصُّصَه الدَّقيقَ كان في علم الصَّراصير!! وكان مصرًّا على فتح الموضوع بتفاصيله في كلِّ زيارة عائليَّة يقومان بها؛ فلم تَعُدْ تطيق ذلك.
6- يجب أن يكون المشروعُ محدَّداً واضحاً:
لا غموض فيه ولا لبس؛ لأنَّ عدمَ تحديد الهدف أو عدمَ وضوحه يجعل الإنسانَ غيرَ قادر على الوصول إلى ما يريد، أو عدم معرفة ما يريد.
يقول أحد الغربيِّين (ريدير كلينج): "عندي ستة من الخدَّام الأوفياء عنهم أخذت كل ما أعلم من العلوم، وهذه أسماؤهم: ماذا؟ لماذا؟ متى؟ كيف؟ أين؟ من؟".
ماذا تريد من هذا المشروع؟
لماذا تريد هذا المشروع؟
متى سيبدأ المشروع؟ ومتى سينتهي؟
كيف؟ الآليات والوسائل لتحقيق المشروع.
أين يُقام هذا المشروع؟
من الذين ستحتاجهم لتستعين بخبراتهم؟
وهكذا تكون هذه الأسئلة: ماذا؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ من الأدوات المهمَّة جدًّا في الوصول إلى النَّتيجة.
فالذي يريد إيجادَ بديل لعمله الوظيفيّ يحتاج أن يخطِّطَ كثيراً وبإتقان، وقد تحتاج المسألةُ إلى قراءة، وسعة اطلاع، وبحث، واستشارة؛ حتَّى يصلَ إلى تحديد واضح لما يريد.
فمثلاً من يريد أن يتخرَّج من الجامعة لكنَّه لم يحدِّد أيّ تخصُّص يريد، ولا في أي جامعة سيدرس، ولا متى سيكون ذلك، فمثل هذا يصعب عليه الوصول؛ لعدم تحديده الهدف.
وكمن يريد إيجادَ بديل لعمله الوظيفيّ ويقف عند هذا فقط، أو يريد السَّفَرَ فقط دون أن يحدِّد وجهتَه أو طبيعةَ العمل الذي يسعى لتحقيقه في سفره.
ربَّما تقول: أريد أن (أقرأ). ولكنَّك لا تحدِّد الكتبَ التي ستقرؤها، أو تقول: أريد أن أعمل أنشطةً اجتماعيةً أو خيريَّةً، ولم تحدِّد هذه الأنشطةَ هل هي الاشتراك في رعاية الأيتام، أم تحفيظ القرآن، أم الجهود الإغاثيَّة، أم غير ذلك.
لابدَّ من وضوح المشروع، وتحديده بدقَّة؛ حتى لا يختلط بغيره ويتعذَّر تحقيقُه والسَّعيُ له، ومن وضوح الهدف أن تتخيَّلَ أكبرَ قدر ممكن من تفاصيله كأنَّه مُنْجَزٌ متحقِّقٌ حاصلٌ بين يديك.
7- يجب أن يكون المشروع الذي تسعى لتحقيقه محتاجاًإليه، وأولى من غيره:
فقد يكون الإنسانُ يسعى لأهداف تتوفَّر فيها جميع الشُّروط السَّابقة؛ لكنَّه لا يحتاج إليها؛ بل حاجته لمشروعات أخرى أكثر إلحاحاً؛ كمن يريد أن يبني له استراحة يقيم فيها أيامَ أجازته، وهو لم يَبْن منـزلاً سكنيًّا يقيم فيه طوالَ العام.
وهناك مشروعات لا فائدة منها ولا ثمرة: كجمع الطَّوابع والعملات مثلاً.
وهناك مشروعات مباحة: ككرة القدم.. وقراءة المجلَّات والدَّوريَّات.. وزيارة الأصدقاء.. والرحلات.. والرَّسم المباح.
وهناك مشروعات مستحبَّة: كتعلُّم السِّباحة والرَّمي وغير ذلك.
وهناك مشروعات واجبة كالزَّواج في بعض الأحيان.
وهكذا فلابد للإنسان من ترتيب أولويَّاته، والاختلال في الأولويَّات يجعله يقدِّم ما حقُّه التَّأخير، ويؤخِّرُ ما حقُّه التَّقديم.
وربما تمادى الحال بمن هذه صفته إلى أن يقضي حياته في توافه الأمور وصغارها، بينما كان يمكن أن يعمل غير ذلك، ويترك أثراً بلآثاراً يناله نفعُها وينال غيره في الدنيا والآخرة.
فمثلاً.. إنسان يتمتَّع بذكاء عال جدًّا، ويتخرَّج من الثانوية بتقدير ممتاز، ولديه قدرات أن يواصل دراسته حتى يحصل على شهادة الدُّكتوراه؛ لكنَّه يرضى بما تحقق له في الثانوية ويبحث له عن وظيفة محدودة؛ فهو بهذا قد قتل قدراته ووَأَدَ إمكاناته، والسببُ أن أهدافَهمتواضعةٌ وطموحه محدودٌ.
8- من عوامل النجاح في تحقيق المشروعات: أن يكتم أمرها والعمل لتحقيقها عمَّن لا حاجةَ إلى علمه بها:
وكما ورد في الأثر: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»([5])، ومن عَجَزَ عن حفظ سرِّه فلا يلوم غيره إذا أفشاه، وكم من المشروعات ضاعت وفشل في تحقيقها أو سرقت بسبب إفشاء أسرارها.
9- المبـادرة:
إن هممتَ فبادر، وإن عزمتَ فثابر، واعلم أنَّه لا يدرك المَفاخرَ مَن رضي بالصَّفِّ الآخر؛ فليبادر المسلم بما يستطيع قبل أن يحال بينه وبين ما يشتهي:
10- من شروط تحقيق المشروع وضعُ خطَّة عمليَّة للوصولإليه: فالمشروع مهما كان عظيماً وممكناً ومشروعاً ومحدَّداً ما لم يبيَّن سبيلُ الوصول إليه يبقى أفكاراً وآمالاً فقط؛ أمَّا تحقُّقُه في الواقع فلابدَّ له من خطَّة توصل إليه.
وهذا هو مفترق الطريق بين الجادِّين والهازلين في الحياة.
الهدف عند أهل الجدّ والعزائم بمجرَّد أن يتحدَّد يتبعه التَّفكير والإعداد لكيفيَّة تحقيقه والوصول إليه، وما هو مدى البعد والقرب منه، وما هي العوائق الموجودة في الطَّريق أو التي يتوقَّع حصولُها؟ وكيف يمكن تجاوزُ هذه العوائق والتَّغَلُّب عليها؟
أمَّا أهل التَّسويف والبطالة فما أكثر الأهداف الخياليَّة عندهم؛ ولذا تراهم لا يخطون خطوةً واحدةً في سبيل تحقيقها؛ فمَن يضع له مشروعاً مثل بناء منـزل خلال سنتين، فلابدَّ له من وضع خطَّة للوصول إلى هذا الهدف تشتمل على توفير المبالغ الماليَّة والبحث عن الأرض المناسبة، ووضع التَّصاميم الهندسيَّة اللَّازمة، والتعاقد مع المقاول، وشراء الاحتياجات، وتحديد جميع هذه الخطوات بالدِّقَّةوالتَّفصيل.
وهذا يختلف عمَّن يريد أن يبني منـزلاً سكنيًّا فقط، ثم لا يفكِّر في شيء بعد ذلك.
ومن وضع له مشروع تأليف كتاب مثلاً فلابدَّ له من تحديد موضوعه، ثم الاطِّلاع الأَوَّليّ على مصادره، ثم وضع مخطَّط له يحتوي على أبوابه وفصوله مباحثه ومسائله وأمثلته وغير ذلك.
ومن التَّخطيط للمشاريع التِّجارية عمل جدوى اقتصادية لها؛ وهي عبارة عن عملية جمع المعلومات عن مشروع مقترح، ومن ثمَّ تحليلها لمعرفة إمكانية تنفيذه وتقليل المخاطر وربحية المشروع.
وبالتالي يجب معرفة مدى نجاح هذا المشروع أو خسارته مقارنة بالسوق المحلي واحتياجاته.
ومن هنا يجب عمل دراسة للسوق المحلي من حيث احتياجاته ومتطلباته.
فكلُّ مشروع من مشروعات الدُّنيا والدِّين يحتاج ليتمَّ تنفيذه إلى دراسة وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمَّات والأولويَّات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويلُ الخطط والدِّراسات النَّظَريَّة إلى واقع وعمل.
أهل الغلو والإفراط الذين أغرقوا في التَّنظير والتَّخطيط حتى تمرَّ الأيَّام والشُّهور بل والسَّنوات وهم ما زالوا في تخطيطهم ودراساتهم.
أهل التفريط والإضاعة: الذين أهملوا الأخذ بالأسباب فأهملوا التَّخطيطَ والدِّراسة المتأنِّية التي تسبق العمل والتَّنفيذ، فقامت مشروعاتهم على الفوضى والتَّخَبُّط.
11- المرونة:
المشروع يجب أن يكون مرناً؛ أي: له حدود دنيا، وله حدود عُليا؛ وذلك كأن يخطِّطَ أحدُنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع ساعات، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا.
12- بعد إنجاز الخُطَّة، وتوفير الاحتياجات، وتحديد زمن التَّنفيذ، يكون العمل على تنفيذ الخطَّة من أجل الوصول إلى الهدف:
سيواجه الإنسان أثناءَ تقدُّمه نحو هدفه كثيراً من العقبات التي قد تستدعي منه تعديلَ خططه، والنظر في أهدافه المرحليَّة التي توصله للهدف الرَّئيسيّ.
13- الإصرار على إكمال المشروع:كن صلباً وقادر على مواصلة السَّير في مواجهة الصِّعاب والعقبات للوصول إلى النَّجاح، حتى وإن كنتَ تلقَّيتَ من قبل صدمةً كبيرة.
ويروى أن معين والد يحيى بن معين المحدِّث الكبير خلَّف لابنه ألف ألف درهم (أي مليون) فأنفقه كلَّه على الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسه([8]).
وروي عن الحافظ محمد بن سلَّام البيكنديّ رحمه الله أنَّه قال: أنفقتُ في طلب العلم أربعين ألفاً، وأنفقت في نشره أربعين ألفا([9]).
فعليك بالاستمرار والإصرار، ولا تمنعك ضعفُ الإمكانات من البدء أو المواصلة:
فهذا الحافظ ابن حجر العسقلانيّ- رحمه الله- ابتدأ في تأليف كتاب يشرح فيه صحيح البخاريّ، وابتدأ في الشَّرح سنة 718هـ وانتهى منه 842هـ.
ولما أتمَّ الكتابَ "فتح الباري" عمل وليمةً عظيمةً يوم خَتْم الشَّرح.
قال تلميذه السَّخاويّ رحمه الله: (وكان يوماً مشهوداً لم يعهد أهلُ العصر مثله، بمحضر من العلماء والقضاة والرؤساء والفضلاء.. وقال الشُّعراء في ذلك فأكثروا، وفرق عليهم الذَّهَبَ، وكان المصروف في الوليمة نحو خمسمائة ديناراً) ([10]).
([1]) البداية والنهاية (10/176).
([2]) رواه البخاري (5090)، ومسلم (1466).
([3]) رواه مسلم (1006).
([4]) حاشية السندي على النسائي (2/68).
([5]) رواه الطبراني في المعجم الصغير (1186).
([6]) رواه الترمذي (2306) وحسنه.
([7]) سير أعلام النبلاء (7/220).
([8]) سير أعلام النبلاء (11/77).
([9]) المرجع السابق (10/630).
([10]) انظر: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (2/702).
عند اختيار المشروع المناسب لابد من مراعاة ما يلي:
1- لا تغفل الجانب التَّعَبُّديَّ عند اختيارك للمشروع:
فمحورُ حياة المرء كلِّها هو عبادة الله- عز وجل، وبالتالي فالإنسان حين يفكِّر في أي مشروع لابدَّ أن يتذكَّرَ أنَّه عبدٌ لله- عز وجل، وعليه واجبُ تحقيق العبوديَّة.
ومن هنا فلابدَّ لأيِّ مشروع تخطِّطُ له أن تسأل نفسك: هل هذا المشروع سيجعلني أقرب إلى الله- عز وجل- أم أبعد؟
فكما نضع دراسات جدوى اقتصادية ودراسات جدوى فنِّيَّة، ودراسات جدوى اجتماعية للمشروعات التي نفكِّر فيها، فلابدَّ أن نسألَ أنفسَنا أيضاً ما جَدْوَى هذا المشروع الأُخرويّ؟
والعاقل لا يُقْبلُ على ما يضرُّه في الآخرة ويبعده عن الله.
وقد أرشدنا إلى ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. حين تكلَّم عن المشروع الذي يفكِّر فيه كلُّ شابٍّ، وهو مشروع الزَّواج! فَبَيَّنَ معاييرَ الاختيار التي يلجأ إليها من يريد النّكاح، فقال صلى الله عليه وسلم.: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»([1]).
والبعدُ التَّعَبُّديّ في مشاريعنا نغفل عنه كثيراً؛ لذلك لابدَّ أن يكون هذا البعدُ حاضراً في أذهاننا عند التَّفكير في المشروع، وعند التفاضل بين المشروعات؛ فجميع مشروعات المسلم الدُّنيويَّة لها بعدُها التَّعبُّديّ؛ فمشروع الزَّواج له بُعدٌ تَعَبُّديٌّ في إعفاف النَّفس وعدم الوقوع في الحرام «وفي بضع أحدكم صدقة»([2]).
ومن يفكر في مشروع اقتصادي؛ كشركة أو مؤسَّسة لتدرّ له ربحاً، ويحصل على الرِّزق الحلال، ولا يأكل الحرام، فهذا جانب تعبُّديٌّ.
ومن لديه مشروع إعلامي! كعمل صحيفة أو إنشاء قناة، أو موقع إعلامي، وله هدف هو: تعريف الناس بواقعهم، وهدف نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فهذا جانب تعبدي.
ومن له مشروع اجتماعي! مثل عمل مؤسَّسة خيريَّة لكفالة الأيتام، أو عمل منتدى للأسرة، أو عمل مشروع لصالة الأفراح والمناسبات أو غير ذلك من المشروعات الاجتماعية فهذه لها غايتُها الدِّينيَّة.
إذن كُلُّ مشروعاتنا لها بعدٌ تعبُّديٌّ؛ سواء كانت دينيَّةً محضةً، أو دنيويَّةً؛ فالإنسان كما ذكرنا عبدٌ لله في كلِّ شؤونه.
2- مراعاةُ الإمكانات المتاحة والمتوقَّعة ثم تحديد المشروعبناءً على مقدارها:
فلا يكون المشروعُ ضخماً بينما الإمكانات المعدَّة له متواضعة جدًّا؛ إذ لابدَّ أن يكون المشروعُ ممكنَ الحصول والتَّحقيق؛ فمثلاً: عندما نريد إقامةَ عمل تجاريٍّ يجب أن تنظر كمَّ المال الذي يمكنك توفيره لهذا العمل التِّجاريِّ، ثم حدِّد حجمَ هذا العمل بناء على مقدار هذا المال.
أو عندما تريد البحثَ عن وظيفة فانظر ما هي الشَّهادة الدِّراسية التي تحملها والخبرات العملية التي تتمتع بها، ثم على ضوء ذلك حدِّد نوعيَّة ومرتبةَ الوظيفة التي تسعى لها.
فربَّما تحدِّد لنفسك مثلاً أن تحفظَ كلَّ يوم ربعَ حزب من القرآن، وأنت قدرتُك على الحفظ لا تتجاوز أربعة أسطر، أو تحدِّد خطةً وبرنامجاً لعمل عشر رحلات، وأنت لا تملك المالَ الكافي إلا لرحلتين فقط!
وفي المقابل يجب الحذرُ من إهدار أو تجميد الموارد والإمكانات المتاحة والانشغال بمشاريع متواضعة جدًّا مع إمكان القيام بأكثر منها... كما لو أنَّنا طلبنا من شخص أن يقرأ في كل يوم ربع ساعة فقط؛ فكلا الأمرين– التَّعَلُّق بمشاريع خيالية أو الانشغال بمشاريع متواضعة- مَضْيَعَةٌ للوقت وإهدارٌ للطَّاقات.
والمشروع الملائم هو ذلك المشروع الذي يستخرج الطَّاقةَ الكامنةَ ويعين على استخدام الموارد المهملة عند الشخص، وتكون ممكنةَ التَّطبيق، وكما قال صلى الله عليه وسلم. «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون»([3])؛ أي تَحَمَّلوا من العمل ما تطيقونه على الدَّوام والثَّبات؛ لا تفعلونه أحياناً وتتركونه أحياناً([4]).
يُحكَى عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ- رحمه الله- أنَّه قال: كان يتردَّدُ إليَّ شخص يتعلَّم العروض وهو بعيد الفهم، فأقام مدَّةً ولم يعلق في خاطره شيء منه.
فقلت له يوماً: قَطِّع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
3- اعرف ما يناسبك من المشروعات:وجاوزه إلى ما تستطيع
فالمشروعات متنوعة وكثيرة؛ فخذ ما يناسبك؛ }قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ{ [البقرة: 60]، }وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا{ [البقرة: 148]؛ فتحديد المشروع الذي يناسب ويلائم الشَّخصَ من أَهَمِّ الأمور لنجاح المشروع بعد النِّيَّة الصَّالحة والاستعانة بالله تعالى وطلب توفيقه.
ومعرفة الشَّخص لما يصلح له من الأمور المهمة؛ فليس بالضَّرورة أن تكون ماهراً في كلِّ شيء؛ لقد علم يوسف- عليه السلام- من نفسه القدرةَ على الولاية فطلبها؛ }قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ{ [يوسف: 55]؛ بينما منعها النبيُّ صلى الله عليه وسلم. أبا ذر- رضي الله عنه.
وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. يتميَّز بعضهم عن بعض في أشياء متعدِّدة؛ فمنهم من تَمَيَّزَ بالجهاد. ، ومنهم مَنْ تَمَيَّزَ بالعلم، ومنهم من تَمَيَّزَ ببعض فنون العلم، ومنهم مَنْ تَمَيَّزَ بالبذل والعطاء، وهكذا.
4- يجب أن يكون المشروعُ الذي تسعى لتحقيقه مناسباً للزَّمن الذي قدَّرتَه لإنجازه:
لأنَّ من أخطر مقاتل المشروعات الجيِّدة عدم وجود الوقت الكافي لإنجازها؛ كمن يريد أن يحصل على الشَّهادة الجامعيَّة في تخصُّص الطِّبِّ مثلا خلال عام واحد بعد تَخَرُّجه من الثَّانوية.
ومن ذلك أيضاً مَن يسرف ويبذِّر في إعطاء الأوقات الواسعة جدًّا للمشروعات التي يمكن إنجازها في أقل من ذلك؛ كمن يمكنه التخرج من الجامعة مثلا خلال أربع سنوات ولكنه يماطل ويسوِّف ويتأخر؛ فلا يحقق هذا المشروع إلا في ثمان سنوات!
وكذلك من يمكث عشر سنوات لتحقيق مشروعه في الزواج.
وليس هناك خسارة أشد من خسارة الوقت؛ وهي خسارة لا يمكن تعويضها، وللزمن قيمة تتضاءل أمامها قيمة المال والدِّرهم والدينار في نظر أصحاب العقول الرَّاجحة والبصائر النَّافذة.
5- يجب أن يكون هدف المشروع الذي تسعى لتحقيقه هدفاً مشروعاً:
فالمشروعات الممكنة كثيرة، ولا تضيق الحياة إلا على العاجزين، ولم يعدم يونس- عليه السلام- عملا وهو في بطن الحوت؛ إذ كان من المسبِّحين؛ ولكن من المشروعات ما يجوز أن يتصدَّى الإنسان لتحقيقه وإنجازه، ومنها ما لا يجوز له أن يسعى له أو يفكر فيه؛ فالسَّعيُ لكسب المال وتنمية الثَّروة للتَّمتُّع بطيِّبات الحياة والإنفاق في وجوه البرِّ مشروع ممكن لكلِّ مَن بذل جهدَه في ذلك، ولكن يمكن أن يكون عن طريق مشروع كتجارة، أو زراعة، أو صناعة، ويمكن أن يكون عن طريق الغش، والرِّشوة، والاحتيال، والرِّبا، والمخدِّرات؛ لكن أين الثَّرى من الثُّرَيَّا!
الأولُ جَمَعَ مالَه من الحلال؛ فهو سعادة له في الدنيا، ونجاة له في الآخرة إن أحسن إنفاقَه، والآخرُ جَمَعَه من الحرام فهو شقاءٌ له في الدُّنيا وجحيم وعذابٌ في الآخرة.
ومثال آخر.. من يريد أن ينجح في الدِّراسة بالجدِّ والاجتهاد والمثابرة والاعتماد على النَّفس بعد التَّوَكُّل على الله ودعائه واللُّجوء إليه، وفي مقابله من يريد أن ينجح ولكن بالغشِّ والاحتيال والاعتماد على زملائه.
ومن المشروعات المذمومة ما يخطِّط له البعضُ بأن يكون فنَّاناً، أو ممثِّلاً، أو مطرباً.
يقول أحدهم: لا أريد من الدُّنيا سوى أن أنال جائزة أفضل موسيقار، ثم أرحل عنها!! هذا جُلُّ هدفه من الحياة؛ يعيش ويموت ليحقِّقَ هذا الهدف ويكمل هذا المشروع.
والمقصودُ أن يكون المشروعُ مندمجاً في الهدف الأسمى والأكبر الذي يحيا المسلم من أجله على هذه الأرض؛ ألا وهو الفوز برضوان الله- تبارك وتعالى.
رجل طَلَبَتْ زوجتُه منه الطَّلاقَ لأنَّ تَخَصُّصَه الدَّقيقَ كان في علم الصَّراصير!! وكان مصرًّا على فتح الموضوع بتفاصيله في كلِّ زيارة عائليَّة يقومان بها؛ فلم تَعُدْ تطيق ذلك.
6- يجب أن يكون المشروعُ محدَّداً واضحاً:
لا غموض فيه ولا لبس؛ لأنَّ عدمَ تحديد الهدف أو عدمَ وضوحه يجعل الإنسانَ غيرَ قادر على الوصول إلى ما يريد، أو عدم معرفة ما يريد.
يقول أحد الغربيِّين (ريدير كلينج): "عندي ستة من الخدَّام الأوفياء عنهم أخذت كل ما أعلم من العلوم، وهذه أسماؤهم: ماذا؟ لماذا؟ متى؟ كيف؟ أين؟ من؟".
ماذا تريد من هذا المشروع؟
لماذا تريد هذا المشروع؟
متى سيبدأ المشروع؟ ومتى سينتهي؟
كيف؟ الآليات والوسائل لتحقيق المشروع.
أين يُقام هذا المشروع؟
من الذين ستحتاجهم لتستعين بخبراتهم؟
وهكذا تكون هذه الأسئلة: ماذا؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ من الأدوات المهمَّة جدًّا في الوصول إلى النَّتيجة.
فالذي يريد إيجادَ بديل لعمله الوظيفيّ يحتاج أن يخطِّطَ كثيراً وبإتقان، وقد تحتاج المسألةُ إلى قراءة، وسعة اطلاع، وبحث، واستشارة؛ حتَّى يصلَ إلى تحديد واضح لما يريد.
فمثلاً من يريد أن يتخرَّج من الجامعة لكنَّه لم يحدِّد أيّ تخصُّص يريد، ولا في أي جامعة سيدرس، ولا متى سيكون ذلك، فمثل هذا يصعب عليه الوصول؛ لعدم تحديده الهدف.
وكمن يريد إيجادَ بديل لعمله الوظيفيّ ويقف عند هذا فقط، أو يريد السَّفَرَ فقط دون أن يحدِّد وجهتَه أو طبيعةَ العمل الذي يسعى لتحقيقه في سفره.
ربَّما تقول: أريد أن (أقرأ). ولكنَّك لا تحدِّد الكتبَ التي ستقرؤها، أو تقول: أريد أن أعمل أنشطةً اجتماعيةً أو خيريَّةً، ولم تحدِّد هذه الأنشطةَ هل هي الاشتراك في رعاية الأيتام، أم تحفيظ القرآن، أم الجهود الإغاثيَّة، أم غير ذلك.
لابدَّ من وضوح المشروع، وتحديده بدقَّة؛ حتى لا يختلط بغيره ويتعذَّر تحقيقُه والسَّعيُ له، ومن وضوح الهدف أن تتخيَّلَ أكبرَ قدر ممكن من تفاصيله كأنَّه مُنْجَزٌ متحقِّقٌ حاصلٌ بين يديك.
7- يجب أن يكون المشروع الذي تسعى لتحقيقه محتاجاًإليه، وأولى من غيره:
فقد يكون الإنسانُ يسعى لأهداف تتوفَّر فيها جميع الشُّروط السَّابقة؛ لكنَّه لا يحتاج إليها؛ بل حاجته لمشروعات أخرى أكثر إلحاحاً؛ كمن يريد أن يبني له استراحة يقيم فيها أيامَ أجازته، وهو لم يَبْن منـزلاً سكنيًّا يقيم فيه طوالَ العام.
وهناك مشروعات لا فائدة منها ولا ثمرة: كجمع الطَّوابع والعملات مثلاً.
وهناك مشروعات مباحة: ككرة القدم.. وقراءة المجلَّات والدَّوريَّات.. وزيارة الأصدقاء.. والرحلات.. والرَّسم المباح.
وهناك مشروعات مستحبَّة: كتعلُّم السِّباحة والرَّمي وغير ذلك.
وهناك مشروعات واجبة كالزَّواج في بعض الأحيان.
وهكذا فلابد للإنسان من ترتيب أولويَّاته، والاختلال في الأولويَّات يجعله يقدِّم ما حقُّه التَّأخير، ويؤخِّرُ ما حقُّه التَّقديم.
وربما تمادى الحال بمن هذه صفته إلى أن يقضي حياته في توافه الأمور وصغارها، بينما كان يمكن أن يعمل غير ذلك، ويترك أثراً بلآثاراً يناله نفعُها وينال غيره في الدنيا والآخرة.
إذا غامرتَ في أمر مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فالإنسانُ لابُدَّ أن يكون في تحديد مشاريعه والسَّعي لتحقيقها صاحبَ طموح ونفس تَوَّاقة لمعالي الأمور؛ فالحياةُ محدودة، والفرص قد لا تتكرر، ومن قضى أوقاته ومضت حياته في الاشتغال بتوافه الأمور وصغارها عاش في قاعها، ولم يتسنَّ له الرُّقيّ إلى ذراها وقممها.فلا تقنع بما دون النجوم
فمثلاً.. إنسان يتمتَّع بذكاء عال جدًّا، ويتخرَّج من الثانوية بتقدير ممتاز، ولديه قدرات أن يواصل دراسته حتى يحصل على شهادة الدُّكتوراه؛ لكنَّه يرضى بما تحقق له في الثانوية ويبحث له عن وظيفة محدودة؛ فهو بهذا قد قتل قدراته ووَأَدَ إمكاناته، والسببُ أن أهدافَهمتواضعةٌ وطموحه محدودٌ.
8- من عوامل النجاح في تحقيق المشروعات: أن يكتم أمرها والعمل لتحقيقها عمَّن لا حاجةَ إلى علمه بها:
وكما ورد في الأثر: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»([5])، ومن عَجَزَ عن حفظ سرِّه فلا يلوم غيره إذا أفشاه، وكم من المشروعات ضاعت وفشل في تحقيقها أو سرقت بسبب إفشاء أسرارها.
9- المبـادرة:
إن هممتَ فبادر، وإن عزمتَ فثابر، واعلم أنَّه لا يدرك المَفاخرَ مَن رضي بالصَّفِّ الآخر؛ فليبادر المسلم بما يستطيع قبل أن يحال بينه وبين ما يشتهي:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
وإن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا
فإن فساد العزم أن يتقيدا
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: «بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا: فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة؟ فالساعة أدهى وأمر»([6]).فإن فساد الرأي أن تترددا
وإن كنت ذا عزم فأنفذه عاجلا
فإن فساد العزم أن يتقيدا
فبادر إذا ما دام في العمر فسحة
وعدلك مقبول وصرفك قيم
وجد وسارع واغتنم زمنَ الصِّبا
ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
بادر؛ إذ ربَّما ذهب الوقتُ المناسبُ لعرضها.وعدلك مقبول وصرفك قيم
وجد وسارع واغتنم زمنَ الصِّبا
ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
10- من شروط تحقيق المشروع وضعُ خطَّة عمليَّة للوصولإليه: فالمشروع مهما كان عظيماً وممكناً ومشروعاً ومحدَّداً ما لم يبيَّن سبيلُ الوصول إليه يبقى أفكاراً وآمالاً فقط؛ أمَّا تحقُّقُه في الواقع فلابدَّ له من خطَّة توصل إليه.
وهذا هو مفترق الطريق بين الجادِّين والهازلين في الحياة.
الهدف عند أهل الجدّ والعزائم بمجرَّد أن يتحدَّد يتبعه التَّفكير والإعداد لكيفيَّة تحقيقه والوصول إليه، وما هو مدى البعد والقرب منه، وما هي العوائق الموجودة في الطَّريق أو التي يتوقَّع حصولُها؟ وكيف يمكن تجاوزُ هذه العوائق والتَّغَلُّب عليها؟
أمَّا أهل التَّسويف والبطالة فما أكثر الأهداف الخياليَّة عندهم؛ ولذا تراهم لا يخطون خطوةً واحدةً في سبيل تحقيقها؛ فمَن يضع له مشروعاً مثل بناء منـزل خلال سنتين، فلابدَّ له من وضع خطَّة للوصول إلى هذا الهدف تشتمل على توفير المبالغ الماليَّة والبحث عن الأرض المناسبة، ووضع التَّصاميم الهندسيَّة اللَّازمة، والتعاقد مع المقاول، وشراء الاحتياجات، وتحديد جميع هذه الخطوات بالدِّقَّةوالتَّفصيل.
وهذا يختلف عمَّن يريد أن يبني منـزلاً سكنيًّا فقط، ثم لا يفكِّر في شيء بعد ذلك.
ومن وضع له مشروع تأليف كتاب مثلاً فلابدَّ له من تحديد موضوعه، ثم الاطِّلاع الأَوَّليّ على مصادره، ثم وضع مخطَّط له يحتوي على أبوابه وفصوله مباحثه ومسائله وأمثلته وغير ذلك.
ومن التَّخطيط للمشاريع التِّجارية عمل جدوى اقتصادية لها؛ وهي عبارة عن عملية جمع المعلومات عن مشروع مقترح، ومن ثمَّ تحليلها لمعرفة إمكانية تنفيذه وتقليل المخاطر وربحية المشروع.
وبالتالي يجب معرفة مدى نجاح هذا المشروع أو خسارته مقارنة بالسوق المحلي واحتياجاته.
ومن هنا يجب عمل دراسة للسوق المحلي من حيث احتياجاته ومتطلباته.
فكلُّ مشروع من مشروعات الدُّنيا والدِّين يحتاج ليتمَّ تنفيذه إلى دراسة وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمَّات والأولويَّات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويلُ الخطط والدِّراسات النَّظَريَّة إلى واقع وعمل.
أهل الغلو والإفراط الذين أغرقوا في التَّنظير والتَّخطيط حتى تمرَّ الأيَّام والشُّهور بل والسَّنوات وهم ما زالوا في تخطيطهم ودراساتهم.
أهل التفريط والإضاعة: الذين أهملوا الأخذ بالأسباب فأهملوا التَّخطيطَ والدِّراسة المتأنِّية التي تسبق العمل والتَّنفيذ، فقامت مشروعاتهم على الفوضى والتَّخَبُّط.
11- المرونة:
المشروع يجب أن يكون مرناً؛ أي: له حدود دنيا، وله حدود عُليا؛ وذلك كأن يخطِّطَ أحدُنا لأن يقرأ في اليوم ما بين ساعتين إلى أربع ساعات، أو يزور ثلاثة من الإخوة إلى خمسة وهكذا.
12- بعد إنجاز الخُطَّة، وتوفير الاحتياجات، وتحديد زمن التَّنفيذ، يكون العمل على تنفيذ الخطَّة من أجل الوصول إلى الهدف:
سيواجه الإنسان أثناءَ تقدُّمه نحو هدفه كثيراً من العقبات التي قد تستدعي منه تعديلَ خططه، والنظر في أهدافه المرحليَّة التي توصله للهدف الرَّئيسيّ.
13- الإصرار على إكمال المشروع:كن صلباً وقادر على مواصلة السَّير في مواجهة الصِّعاب والعقبات للوصول إلى النَّجاح، حتى وإن كنتَ تلقَّيتَ من قبل صدمةً كبيرة.
وإذا ألحَّ عليك خطبٌ لا تهن
واضرب على الإلحاح بالإلحاح
روي عن شعبة بن الحجَّاج أنَّه قال: بعت طست أمي بسبعة دنانير([7])؛ وذلك لتحقيق مشروعه في طلب الحديث.واضرب على الإلحاح بالإلحاح
ويروى أن معين والد يحيى بن معين المحدِّث الكبير خلَّف لابنه ألف ألف درهم (أي مليون) فأنفقه كلَّه على الحديث، حتى لم يبق له نعل يلبسه([8]).
وروي عن الحافظ محمد بن سلَّام البيكنديّ رحمه الله أنَّه قال: أنفقتُ في طلب العلم أربعين ألفاً، وأنفقت في نشره أربعين ألفا([9]).
فعليك بالاستمرار والإصرار، ولا تمنعك ضعفُ الإمكانات من البدء أو المواصلة:
واصل مسيرتَك لا تقف مترددًا
فالعمر يمضي والسُّنون ثوان
14- لإتمام المشروع فرحةٌ خاصَّةٌ:فالعمر يمضي والسُّنون ثوان
فهذا الحافظ ابن حجر العسقلانيّ- رحمه الله- ابتدأ في تأليف كتاب يشرح فيه صحيح البخاريّ، وابتدأ في الشَّرح سنة 718هـ وانتهى منه 842هـ.
ولما أتمَّ الكتابَ "فتح الباري" عمل وليمةً عظيمةً يوم خَتْم الشَّرح.
قال تلميذه السَّخاويّ رحمه الله: (وكان يوماً مشهوداً لم يعهد أهلُ العصر مثله، بمحضر من العلماء والقضاة والرؤساء والفضلاء.. وقال الشُّعراء في ذلك فأكثروا، وفرق عليهم الذَّهَبَ، وكان المصروف في الوليمة نحو خمسمائة ديناراً) ([10]).
([1]) البداية والنهاية (10/176).
([2]) رواه البخاري (5090)، ومسلم (1466).
([3]) رواه مسلم (1006).
([4]) حاشية السندي على النسائي (2/68).
([5]) رواه الطبراني في المعجم الصغير (1186).
([6]) رواه الترمذي (2306) وحسنه.
([7]) سير أعلام النبلاء (7/220).
([8]) سير أعلام النبلاء (11/77).
([9]) المرجع السابق (10/630).
([10]) انظر: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (2/702).
تعليق