رنات قويَّة ومتتالية على الجرس، دفعتْ بأُمِّ سارة إلى الإسراع لفَتْح الباب والخوف من مكروه قد حَدَث لوحيدتها جعلَها تُسرع أكثر.
دخلتْ سارة البيت والغضب بادٍ على وجْهها، وبنبرة حادَّة وغاضبة صاحتْ:
• أمي، أنا لا أرغبُ في العودة إلى هذه المدرسة، عليك أن تغيِّريها لي.
ابتسمتِ الأُمُّ في وجْه صغيرتها، وحنان الأُم يغزو مُحَيَّاها وهي تردُّ عليها قائلة:
• اهْدَئي يا حبيبتي، كلُّ شيءٍ سنجد له حلاًّ - إن شاء الله.
فَصاحتْ سارة في غضبٍ وإصرار:
• لا، لنْ أهْدَأَ، أريد تغيير المدرسة، فأنا بتُّ أكرهها، وأكره زُملائي ومُعَلِّماتي، أرجوك يا أمي، أنا لنْ أعودَ إليها ثانية مَهْمَا حصَل.
نظرتِ الأم إلى ابنتها وهي تُفكِّر: الأمر لا بدَّ وأنَّه كبير، فسارة تحبُّ مدرستها كثيرًا وكذلك مُعَلِّميها، وهي الأولى دائمًا في صفِّها، عليَّ أنْ أعرِفَ ماذا حصَل، وليساعدني الله في حلِّ هذه الْمُعضلة.
ابتسمتِ الأم لسارة، وقالتْ في نبرة أوْدَعَتْها الكثير من الحبِّ والتعاطف:
• كما تشائين يا صغيرتي، لكنَّك تعرفين أنَّ المدارس بدأتْ منذ أكثر من شهر، وسيتعذَّر عليك الانتقالُ إلى مدرسة ثانية.
هزَّتْ سارة رأْسَها وقالتْ:
• لن يتعذَّرَ ذلك؛ "فرينا" طالبة جديدة أتتِ اليوم إلى المدرسة.
• "رينا" ؟ "رينا"؟ المهم، أخبريني بما حصَل، وإنْ شاء الله لنْ يكونَ إلاَّ ما تريدينه.
تنفَّسَتْ سارة الصُّعَداء، فها هي أُمُّها توافِق على تغيير المدرسة، مدرسة جديدة أفضل من تمضية أيام السنة بجوار "رينا".
نظرتْ إليها أُمُّها مستفسرة، فأسرعتْ سارة تقول:
لقد أجْلَستِ المعلمة "رينا" بالمقعد المجاور لي، وأنا لا أريد هذا، وهي لَم تسمعْ لاحتجاجي، بل قالتْ أنَّ عليَّ تقبُّل الآخرين، وبدأ زملائي كلُّهم يَضحكون عليّ.
أنْهَتْ سارة جُملتها الأخيرة، بينما راحتِ الدموع تَنهمر من عَينيها.
ضمَّتْها أُمُّها إلى صَدْرها تُطيِّب خاطرها وسألتْها قائلة:
• وماذا في ذلك يا سارة؟ لماذا تَرفضين جلوس "رينا" إلى جانبك؟
هتفتْ سارة بحدَّة وبلهجة احتجاجٍ على ما قالتْه أُمُّها:
• أمي، "رينا" هذه، هذه الطالبة الجديدة التي حضرتِ اليوم، لو تنظرين إليها، إلى لباسها، إلى وجْهها، لو تسمعين كلامَها، أمي، إنها ليستْ من بلدنا، هي لا تُتْقِن اللغة العربية جيِّدًا، كلامُها مُضْحِك، ومَنظرها، آه من منظرها! أمي إنَّ لونَها، لونها، أُمِّي إنَّها من إفريقيا، أفهمتِ؟
تفاجأتِ الأمُّ من موقف ابنتها حيال هذه الطالبة الوافدة من بلدٍ أجنبي، كيف لها أن تتكلَّمَ عن زميلتها بهذا الشكل، وأن تنظرَ إليها هذه النظرة الفوقيَّة؟
هزَّتِ الأمُّ رأسَها وقالتْ لابنتها:
• فهمتِ يا سارة، سأفعل ما تريدينه، ولكن الآن هيَّا اذهبي غيِّري ملابسك، وصلِّي الظهر؛ فالعصر قد اقتربَ، وتَعالي لتأْكُلي طعامَ الغداء.
ابتسمتْ سارة وشعرتْ بارتياحٍ لموقف أُمِّها المؤيِّد لها، وكأَنَّها في معركة وكسبتها، فأسرعتْ على التوِّ لتنفِّذ ما طلبتْه أُمُّها منها بفَرحٍ.
جلستْ سارة تأكل طعامَها بِنَهَمٍ وبلذَّة الجائع، وجلستْ أُمُّها تنظر إليها ساهمة وهي غارقة في التفكير.
نظرتْ سارة إلى أُمِّها مستفسرة:
• أمي، ما لكِ صامتة؟
• أفكِّر يا حبيبتي في سيِّدنا "بلال بن رباح" - رضوان الله عليه.
سألتْ سارة باستعجاب:
• "بلال، بلال بن رباح"! مَن هو يا أُمِّي؟
ابتسمتْ أُمُّ سارة وهي ترى الاهتمام يَنبعث من عَينَي وحيدتها، وقالتْ:
• إنَّه يا حبيبتي من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
سارة بسرعة:
• صلى الله عليه وسلم.
• "بلال بن رباح" ليس إنسانًا عاديًّا؛ فهو عندما أسْلَمَ كتَمَ إسلامَه في بادئ الأمر، إلا أنَّه ما لبثَ أنِ افتُضِح، فَعُذِّب كثيرًا جدًّا؛ حتى يعودَ عن دين الله، إلاَّ أنَّه رفَضَ وبَقِي على الإسلام رغم شدَّة العذاب وهَوْله، فقد وضَعوا - يا سارة - صخرة على صَدْره وألقوه في الصحراء تحت شمس الظهيرة؛ ليعود إلى الكفر بالله، إلاَّ أنَّه تماسَك ورَفَض، حتى نجَّاه الله - تعالى - منه.
"بلال بن رباح" يا حبيبتي، ما لبثَ أنْ هاجَر إلى المدينة المنورة مع مَن هاجر، وشَهِد معركة بدر والمعارك الباقية كلَّها، وهو بجانب الرسول لا يُفارِقه أَبدًا، وكان يحبُّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُبًّا كثيرًا.
سارة بسرعة:
• صلى الله عليه وسلم.
• عاشَ بلال مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يَشْهد معه المشاهدكلَّها، وكان يَزداد قُربًا من قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد وَصَفه بأنَّه (رجلٌ من أهل الجنة)، ولَمَّا جاء فتح مكة، ودَخَل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة ومعه "بلال"، أَمَره أنيَصْعَدَ إلى أَعلى مكان ويؤذِّن، ويؤذِّن بلال، فيا لروعة الزمان والمكان والمناسبة!
وقال -صلى الله عليه وسلم- عنه أيضًا: ((إني دخلتُ الجنة، فسمعتُخَشَفةً بين يديَّ، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الخشفة؟ قال: بلال يَمشي أمامك))، وقد سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلالاً بأرْجى عملٍ عَمِله في الإسلام، فقال: "لا أتطهَّرُ إلا إذا صليتُ بذلك الطهور ما كُتِبَ لي أن أُصلِّي".
• يا ألله يا أُمِّي، كم أنَّ هذا الرجل رائع! أخبريني المزيد عنه.
هزَّتْ أُمُّ سارة رأْسَها وأكملتْ كلامَها وابتسامة رضًا تُغَلِّف وجْهَها:
• أصبح "بلال" مؤذِّنَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يفارِقه أبدًا، ويَصْحبه في حِلِّه وتَرْحاله.
• صلى الله عليه وسلم.
• وبَقِي مرافِقًا لحبيبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُحَارب ويُدافع عن الإسلام، حتى ماتَ الرسول - صلى الله عليه وسلم.
• صلى الله عليه وسلم، ماذا حصَل بعد ذلك؟
ابتسمتِ الأم وأكملتْ كلامَها وهي تنظر إلى البعيد، وفي عينيها دمعتان تُصِرَّان على السقوط:
• رَفَض "بلال" أن يؤذِّن لأحدٍ، واستأذَنَ الخليفة أبا بكر الصديق في أنْ يسمحَ له بالذهاب إلى الشام، فكيف يَبقى بالمدينة وحبيبُه قد مات؟! كيف يُمكنه أن يتنفَّسَ الهواء الذي كان يتنفَّسه رسولُنا - صلى الله عليه وسلم؟! بل كيف يُمكنه أن يُصَلِّي في المسجد الذي كان يُصَلِّي فيه؟!
مسحتْ سارة دمعة فرَّتْ من عينها، وقلبتْ شفتاها بحزنٍ وهي تنظر إلى أمِّها تُطَالبها بإكمال القصة.
أكملتْ أُمُّ سارة قائلة:
• وهكذا كان، وانتقلَ بلال إلى الشام وبَقِي فيها يدعو إلى دين الله، وفي يوم وبعد وفاة سيِّدنا أبي بكرٍ، وانتقال الخلافة لسيِّدنا عمر بن الخطاب، زارَ الشام وقابَلَ "بلالاً" فيها، فطَلَب منه أن يؤذِّنَ له وللمسلمين، فَرفَضَ "بلال" في بادئ الأمر، لكنَّه ما لبثَ تحت وطْأة إلحاح عمر أنْ وافَقَ.
صَعِد "بلال" وأذَّنَ، فبكت الصحابة وبلال يؤذِّن، بكوا كما لَم يَبكوا من قبل أبدًا، وكان عمرُ أشدَّهم بكاءً، وكان "بلال" يَبكي وهو يؤذِّن، فلم يستطعْ أَنْ يتمَالَك نفسَه، فتوقَّف عن الأذان ولَم يُكْمِلْه، ومن بعدها لَم يؤذِّن لأحدٍ حتى مات..
مسحتْ سارة الدموع عن وجْهها، فاحتضنتْها أُمُّها وسألتْ:
• هل أعجبتكِ قصة سيِّدنا "بلال بن رباح" يا حبيبتي؟
هزَّتْ سارة رأْسَها وأجابتْ بسرعة:
• نعم، أكيد يا أمي.
ابتسمتِ الأم وسألتْ وحيدتها:
• هل أحببتِه كما أحببتُه أنا؟
• أجَل يا أُمِّي.
اتسعتِ ابتسامة أُم سارة أكثر وهي تسمع تصريحَ ابنتها، وسألتْها قائلة:
• ما الذي أحببتِه في سيدنا "بلال"؟
• كلَّ شيءٍ يا أُمِّي، خاصَّة حُبَّ سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - له.
نظرتِ الأم في عَينَي ابنتها وقالتْ:
• أريد أنْ أُخبرك يا سارة أمرًا، سيدنا "بلال بن رباح" عبدٌ حَبَشي.
• ماذا يعني هذا؟
• يعني أنه إفريقي لون بشرته شديدة السُّمْرة يا سارة، كما أنَّه كان نحيفًا جدًّا، طويلاً جدًّا، وكثَّ الشعر، إلا أنَّ لونَه وهَيْئَته لَم يؤثِّرا في تقرُّبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بل ومِن الله تعالى.
فيا حبيبتي، الإنسان يُوْزَن بعقْله ودينه وأخلاقه، ولا يُوْزَن بشَكْله ولونه ولبسه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: ((لا فرقَ بين عربي وأَعجمي، ولا بين أبيض وأَسود إلاَّ بالتقوى)).
هزَّتْ سارة رأْسَها وقامتْ من مكانها بصمتٍ تريد صلاة العصر، وقبل أنْ تَصِلَ باب الغرفة نادتْها أُمُّها قائلة:
• سارة، هل ما زِلْتِ تريدين تغيير المدرسة؟
هزَّتْ سارة رأْسَها وقالتْ:
• لا، لا يا أُمي، بل سأبْقَى وسأعمل على أنْ أجعلَ "رينا" صديقةً لي، ومن صديقاتي المُقَرَّبَات.
لا تنسونا من صالح دعائكم
اللهم ارزقنا الصدق والاخلاص فى القول والعمل
اللهم اهدنا واهدى بناواجعلنا سببا لمن اهتدى
اللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
اللهم آمين
منقول
تعليق