كيف يفعل من أصابه هم أو غم
في المسند وصحيح أبي حاتم من حديث عبدالله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدا هم ولا حزن, فقال اللهم : اني عبدك, وابن عبدك, ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماضى فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك, أسألك بكل اسم هم لك سمّت به نفسك, أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك, أن تجعل القرآن ربيع قلبي, ونور صدري, وجلاء حزني, وذهاب همّي وغمّي, الا أذهب الله همّه وغمّه, وأبدله مكانه فرحا".. قالوا يارسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال: "بلى, ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن".و صححه الألباني في الكلم ص81.
فتضمّن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبوديّة. منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: "اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك", وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحوّاء, وفي ذلك تملّق (تودد وتلطّف) له واستخذاء بين يديه واعترافه بأنه مملوكه وآبائه مماليكه وان العبد ليس له باب غير باب سيّده وفضله واحسانه, وأن سيّده ان أهمله وتخلّى عنه هلك, ولم يؤوه أحد ولم يعطف عليه, بل يضيع أعظم ضيعة. وتحت هذا الاعتراف: أني لا غنى عنك طرفة عين, وليس لي أن أعوذ به وألوذ به غير سيّدي الذي أنا عبده, وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبّر مأمور منهي, انما يتصرّف بحكم العبوديّة لا بحكم الاختيار لنفسه.
فليس هذا في شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار.
وأمّا العبيد فتصرّفهم على محض العبوديّة فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون اليه سبحانه في قوله:{ انّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} الحجر 42, وقوله:{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} الفرقان63, ومن عداهم عبيد القهر والربوبية, فاضافتهم اليه كاضافة سائر البيوت الى ملكه, واضافة أولئك كاضافة البيت الحرام اليه, واضافة ناقته اليه وداره التي هي الجنة اليه, واضافة عبودية رسوله اليه بقول: { وأنّه لمّا قام عبد الله يدعوه}. الجن 19.
وفي التحقيق بمعنى قوله "اني عبدك" التزام عبوديته من الذل والخضوع والانابة, وامتثال أمر سيّده, واجتناب نهيه, ودوام الافتقار اليه, واللجوء اليه, والاستعانة به, والتوكّل عليه, وعياذ العبد به, ولياذه به, أن لا يتعلّق قلبه الا بغيره محبّة وخوفا ورجاء.
وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه: صغيرا وكبيرا, حيّا وميّتا, مطيعا وعاصيا, معافى ومبتلى القلب واللسان والجوارح.
وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك, فان العبد وما يمتلك لسيّده.
وفيه أيضا انك أنت الذي مننت عليّ بكلّ ما أما فيه من نعمة فذلك كلّه من انعامك على عبدك.
وفيه أيضا اني لا أتصرّف فيما خوّلتني من مالي ونفسي الا بأمرك, كما لا يتصرّف العبد الا باذن سيّده, واني لا أملك لنفسي نقعا ولا ضرّا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فان صحّ له شهود ذلك فقد قال لي اني عبدك حقيقة.
ثم قال" ناصيتي بيدك", أي أنت المتصرّف في تصرّفي كيف تشاء, لست أنا المتصرّف في نفسي.
ثم قال" ناصيتي بيدك", أي أنت المتصرّف في تصرّفي كيف تشاء, لست أنا المتصرّف في نفسي.
وكيف يكون له في تصرّف من نفسه بيد ربه وسيده وناصيته بيده وقلبه بين أصبعين من أصابعه, وموته وحياته وسعادته وشقاؤه وعافيته وبلاؤه كله اليه سبحانه, ليس الى العبد منه شيء, بل هو في تصرّف سيّده أضعف من مملوك ضعيف حقير, ناصيته بيد سلطان قاهر, مالك له تحت تصرّفه وقهره بل الأمر فوق ذلك.
ولهذا قال هود لقومه:{ اني توكّلت على الله ربي وربّكم ما من دابّة الا هو آخذ بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم} هود56.
وقوله :"ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك" تضمّن هذا الكلام أمرين:أحدهما: مضاء حكمه في عبده.
وقوله :"ماض فيّ حكمك, عدل فيّ قضاؤك" تضمّن هذا الكلام أمرين:أحدهما: مضاء حكمه في عبده.
ثانيهم: يتضمّن حكمه وعدله وهو سبحانه له الملك وله الحمد, وهذا معنى قول نبيّه هود:{ ما من دابّة الا هو آخذ بناصيتها}, ثم قال: {ان ربي على صراط مستقيم} أي مع كونه قاهرا مالكا متصرّفا في عباده, نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم.
وهو العدل الذي يتصرّف به فيهم فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره ونهيه وثوابه وعقابه.
فخبره كله صدق, وقضاؤه كلّه عدل, وأمره كله مصلحة, والذي نهى عنه كله مفسدة, وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله, ورحمته وعقابه لمن يستحق له العقاب بعدله وحكمته.
وقوله:" عدل في قضاؤك" يتضمن جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه, من صحة وسقم, وغنى وفقر, ولذّة وألم, وحياة وموت, وعقوبة وتجاوز وغير ذلك. قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} الشورى 30, وقال:{ وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فانّ الانسان كفور} الشورى 48.
فكل ما يمضي على العبد فهو عدل فيه.
وقوله "أسألك بكل اسم" الى آخره, توسل اليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل اليه, فانها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.
وقوله: "أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري" الربيع : المطر الذي يحيي به الأرض. شبّه القرآن به لحياة القلوب به., وجمع بين الماء الذي تحصل به الحياة, والنور الذي تحصل به الانارة والاشراق, كما جمع بينهما سبحانه في قوله:{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار وابتغاء حلية...}الرعد17, وقوله:{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} البقرة 17, ثم قال:{ أو كصيّب من السماء} البقرة 19, وفي قوله :{ الله نور السموات والأرض....} النور 35, ثم قال:{ ألم ترى أن الله يجزي سحابا ثم يؤلّف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزّله من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} النور43, فتضمّن الدعاء أن يجيي قلبه بربيع القرآن وأن ينوّر به صدره فتجتمع له الحياة والنور. قال تعالى: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به بين الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الأنعام122.
ولما كان الصدر أوسع من القلب, كان النور الحاصل له يسري منه الى القلب, لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح, كلها بحياة القلب, تسري الحياة منه الى الصدر, ثم الى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادّتها. ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حيا ة القلب واستنارته, سأل أن يكون ذهابها بالقرآن, فانها أحرى ألا تعود, وأما أنها ذهبت بغير القرآن من صحةأو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد, فانها تعود بذهاب ذلك. والمكروه الوارد على القلب ان كان من أمر ماض أحدث الحزن, وان كان من مستقبل أحدث الهم, وان كان من أمر حاضر أحدث الغم, والله أعلم.
تعليق