أبي الإسلام
عباد الله ..
كان بين العرب قبل الإسلام أشياء مشتركة كثيرة ..
كاللغة والعادات والتقاليد وغيرها ..
ولكنها لم تربط بينهم ..
بل كانوا في عداوة وحروب طاحنة لا يعلمها إلا الله ..
فكان لا بدَّ من آصرة ورابطة تجمع ذلك الاختلاف وتؤلف بينه ..
فجعل الإسلام رابطة العقيدة هي الأساس الأول ..
هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم ..
كما أقرَّ بعض الأواصر الأخرى التي لا تخالف الدين ..
فحافظ الإسلام على التقسيم القبلي ..
ولكنه فرغه من العصبية ، والتعالي ، والأحقاد ..
ورفع الإسلام شعار ..
أن الناس عند الله سواسية كأسنان المشط ..
وأن قيمة الناس عند الله ..
بتقواهم ، وإيمانهم ..
لا بأحسابهم ، ولا بأنسابهم ..
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ..
وقال أيضاً جل في علاه : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} ..
ويوم أن ودّع ؛ نبي الأمة ؛ الأمة في حجة وداعه قام فيهم خطيباً صلى الله عليه وسلم وقال :
( يا أيها الناس ..
إن ربكم واحد ..
وإن أباكم واحد ..
ألا لا فضل لعربي على أعجمي ..
ولا لعجمي على عربي ..
ولا لأحمر على أسود ..
ولا لأسود على أحمر ..
إلا بالتقوى ..
ألا هل بلغت ) ..
قالوا : بلى ..
قال : ( اللهم فاشهد ) ..
نعم عباد الله ..
كانت الحياة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم ظلاماً ، ولا يجهل ذلك أحد ..
وكان الظلم ولم يكن غيره ، ولا يشك في ذلك أحد ..
كان الحق للقوة ..
والعدل للرجل لا للمرأة ..
ومع البعثة ..
ولدت الحياة وارتوى الناس بعد الظمأ ..
لما أطل محمد زكت الربا واخضر في البستان كل هشيم
إعلان لإهلاك الطاغوت ، والطغاة ..
وولادة فجر جديد ..
شعاره ..
العدل ..
الذي لا يتحقق إلا إذا ..
عُبَد الله وحده ..
وحُكِّم في الناس شرعه ..
يقول جعفر رضي الله عنه للنجاشي يوم أن حاوره وناظره :
أيها الملك ..
كنا قوماً أهل جاهلية ..
نعبد الصنام ..
ونأكل الميتة ..
ونأتي الفواحش ..
ونقطع الأرحام ..
ونسيء الجوار ..
يأكل القوي منا الضعيف ..
فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ..
نعرفه ..
ونعرف نسبه ..
ونعرف صدقه وأمانته ..
ونعرف عفافه ..
قال الله : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } ..
جاء الإسلام ..
ليوحد الصفوف ..
ويؤلف القلوب ..
وينبذ أمور الجاهلية ..
ومن تلك الأمور ..
بل من أخطرها ..
النعرات الجاهلية ..
والتعصبات القبلية ..
فخر بالأحساب ..
وطعن بالأنساب ..
فأصبح الناس يتعاظمون ، ويتفاخرون ، ويتكبرون على الناس ..
بعرض مناقب الآباء ومآثرهم ..
عباد الله ..
إن الإسلام نهى عن الفخر ولو كان بحق ..
فكيف إذا كان بغير حق ..
قال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } ..
وقال صلى الله عليه وسلم :
( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد ) ..
أليس هو صلى الله عليه وسلم سيد البشر ، وسيد المرسلين ، ومع هذا يقول لنا :
( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ..
وأنا أول من تنشق الأرض عنه ولا فخر ..
وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ..
ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر ) ..
و ياليت الذين يفتخرونبأبائهم ..
قدّموا ولو شيئاً يسيراً مما قدّم آبائهم وأجدادهم من فتوحات وبطولات !!..
فالذي يفتخر بالمجد ..
لا بد أن يسير على هذا المجد بالأفعال ، وليس بالأقوال ..
وصدق المتنبي حين قال :
ليس الفتى من قال هذا أبي إنما الفتى من قال ها أنا ذا
وهم لا يساوون عند الله جناح بعوضة ..
ما ضرَّ سلمان أنه فارسي ، ما دام تقي ..
وهو الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ..
ما ضرَّ بلال أنه حبشي ، ما دام تقي ..
فلقد كان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أقربهم عنده مجلساً ..
وما ضرّ عكرمة بن أبي جهل أنَّ أباه فرعون الأمة ..
فلقد كان من فضلاء الصحابة وممن أبلى بلاءً حسناً ..
وما ضرّ خالد بن الوليد أنَّ أباه أحد رؤوس الضلالة ومن كبار المستهزئين بكتاب ربّ العالمين ..
بل كان ذراع النبي صلى الله عليه وسلم الأيمن وسيفه المسلول ..
وما ضرّ أبا عبيدة أنَّ أباه أحد المشركين المعادين للدين ..
ولم يضره أبداً فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ..
فكل هؤلاء ..
من خيرة خلق الله ..
وممن باعوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ..
أفيحق أن يُقال لهؤلاء :
ما هو أصلكم ، وفصلكم حتى نلبسهم لباس الشرف وتاج السيادة ..
وهل يُفتخر بالكفار والمشركين أصلاً !..
وفي المقابل عباد الله ..
لم ينتفع أبو طالب من كونه عمّ للنبي صلى الله عليه وسلم وممن يدافعون عنه بكل قوة ، فهو من أهل النار ..
وكذا أبو لهب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي تبَّت يداه ..
بل هل انتفع كنعان من كون أبيه نوح عليه الصلاة السلام !!..
بل هل يصح أن ننتقص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً من صحابته لأنَّ آباؤهم أو أعمامهم كانوا كفاراً من أهل النار ..
لعمر الله ما الإنسان إلا بدينه
لقد رفع الإسلام سلمان فارس
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
فالإنسان يوزن ويقيّم ..لقد رفع الإسلام سلمان فارس
فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
بدينه وإيمانه ..
لا بنسبه ..
وأنت يا عبد الله ..
لن تُسأل يوم القيامة عن نسبك ..
وإنما ستُسأل :
من ربك ؟؟ ..
ومن نبيك ؟؟ ..
وما دينك ؟؟ ..
فـأعدد للسؤال جواباً ..
وكثير من الشباب اليوم أفنى شبابه ..
في البحث عن نسبه ..
والطعن في نسب الآخرين ..
اعلم رعاك الله ..
اعلم رعاك الله ..
إنَّ أول من افتخر بحسبه وبأصله وطعن في أصل الاخرين ..
هو إبليس ..
فهو أسوة ..
للمفتخرين بالأحساب ..
وللطاعنين في الأنساب ..
هو الذي قال متكبراً ومتعاظما لما أمره ربه بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ }..{ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ..
ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ ..
الفخر بالأحساب ..
والطعن بالأنساب ..
من خصال أهل الجاهلية يا أهل الإيمان ..
أخبر أن ذلك من خصال أهل الجاهلية يا أهل الإيمان ..
عند مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن ..
الفخر في الأحساب ..
والطعن في الأنساب ..
والاستسقاء بالأنواء ..
والنياحة على الميت ) ..
افهم الكلام !!..
أما قوله صلى الله عليه وسلم :
( لا يتركونهن ) : لا يعني أنه لا يُنكر ذلك على الناس ..
معناه : أنه لا يُترك الناس على ذلك ..
بل لا بد من بيان الحق ..
وإزهاق الباطل ..
لأن السكوت على ذلك ..
سبب لانتشار الفتن ، والأحقاد في المجتمع ..
عند أبي داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن الله قد أذهب عنكم عبية أهل الجاهلية _ أي تكبر أهل الجاهلية _ أذهب عنكم عبية أهل الجاهلية وفخرها بالآباء ، مؤمن تقي ؛ وفاجر شقي ، أنتم بنو آدم ..أنتم بنو آدم ؛ وآدم من تراب..
ليدعنّ رجال من فخرهم بأقوامهم إنما هم من فحم جهنم
أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن ) ..
بل أسألكم بالله ..
أسأل كل واحد منا ..
هل أنت اخترت أن تكون :
فلان ابن فلان ؟؟ ..
أو اخترت القبيلةأوالعائلة التي أنت منها ؟؟..
سبحان الله ..
إنه اختيار الله ..
إنه اختيار الله ..
فكيف نطعن بأمر الله واختياره ..
أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ؛ قال صلى الله عليه وسلم :
( انتسب رجلان على عهد موسى عليه الصلاة والسلام ..
فقال أحدهما : أنا فلان ابن فلان ؛ حتى عدَّ تسعة منهم ..
ثم قال للآخر : فمن أنت لا أم لك ؟!..
فقال الآخر : أنا فلان ابن الإسلام ..
فقال الآخر : أنا فلان ابن الإسلام ..
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن قل لهذين المنسبين :
أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم ..
أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم ..
وأما أنت المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة ) ..قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله رجال الصحيح ..
عباد الله ..
وهذه الخصلة من نعرات الجاهلية وتعصبات القبلية لا يزال لها وجود وانتشار بين كثير من المسلمين ..
وكثير منهم لا يشعر بأنه واقع فيها ..
لأنها _ ويا للأسف _ صارت من المألوفات عندهم في المجتمعات ..
فما أكثر ما نسمع ويسمع الناس من يتغنى بأمجاده وأمجاد آبائه ..
بل ويتعالى بها عليهم ..
بل ما أكثر ما نسمع من يتمدح ويتشدق بفعل آباء لا يُعرف عنهم سوى الفجور الطغيان ..
ولو سلمنا من الفخر بالأحساب ..
لم نسلم من الطعن في الأنساب ..
والمراد بالطعن في الأنساب : الوقوع فيها بالعيب والنقص ..
كقولهم هذا ليس من آل فلان ..
أو آل فلان ليسنسبهم جيداً ، أو لاأصل لهم !!..
عجيبٌ أمرهم !! ..
إن لم يكن لهم أصل .. فمن أين أتوا ؟؟!!..
إن لم يكن لهم أصل .. فمن أين أتوا ؟؟!!..
أليس ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) ..
أفيقوا أيها الناس ..
ولما عيَّر أبو ذر بلالاً رضي الله عنه بأمه قائلاً له : يا ابن السوداء ..
قال له صلى الله عليه وسلم غاضباً منتصراً للحق :
( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ..
( إنك امرؤ فيك جاهلية ) ..
نعم عباد الله ..
فكيف يعير الناس بالعصبيات والعنصريات والألوان ..
هلاختار فلان أن يكون أبيضا ؟!..
أو اختارفلان أن يكون أسوداً ؟!..
الله { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } ..
تأثر أبو ذر وتحسر ، وتندم يوم أن قال ما قال ..
يقول رضي الله عنه : وددت والله لو ضُرب عنقي بالسيف ، وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ويضع أبو ذر خده على التراب ويقول :
لن أرفع خدي حتى تضع قدمك عليه يا بلال ..
يريد أن يكسر تكبر الجاهلية وعنجهيتها وأن يزيح الظلام ..
فيبكي بلال وتذرف عيناه الدموع ويقول :
يغفر الله لك يا أبا ذر ..
يغفر الله لك يا أبا ذر ..
والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله تعالى ..
فيعتنقان ، ويبكيان ، وذهب ما في قلوبهما ..والخبر عند البخاري ..
كانوا إذا ذُكّروا تذكروا ..
وعند حدود الله وأومره واقفين ..
من هو بلال !!..
من هو بلال !!..
اسمع ما يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه ..أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا ..
اسمع عمر القرشي المخزومي يقول : أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا ..
عباد الله ..
لا يُفهم من الكلام هذا أنَّ الدين ضد معرفة الأنساب والأمجاد ..
لا والله .. فلا حرج على الإنسان أن يعرف نسبه وأهله ..
لكن الدين يحارب ..
التعصب للأنساب ..
والطعن فيها ..
ويحذر من أن نجعل الأنساب ..
هي الميزان عند الناس ..
ومقياس الشرف والرجولة ..
وأنا والله لا أقدح بآل فلان ولا فلان ..
ولكن الكلام للجميع عام ..