العقل
نص الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز و منزل خطابه الوجيز على شرف العقل ولقد ضرب الله سبحانه الامثال واوضحها ، و بين بدائع مصنوعاته و شرحها فقال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل12 )
و قال اهل المعرفة و العلم :العقل جوهر مضيء خلقه الله عز وجل في الدماغ ،وجعل نوره في القلب يدرك به المعلومات بالوسائط ، والمحسوسات بالمشاهد.
و اعلم ان العقل ينقسم الى قسمين كقسم لا يقبل الزيادة و النقصان ،وقسم يقبلها .
فأما الاول :فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء.
واما الثاني :فهو العقل التجريبي وهو مكتسب ،وتحصل زيادته بكثرة التجارب و الواقع ،وباعتبار هده الحالة يقال :ان الشيخ اكمل عقلا و اتم دراية، و ان صاحب التجارب اكثر فهما ،و ارجح معرفة ،
و لهدا قيل :من بيضت الحوادث سواد لمته ،واخلقت التجارب لباس جدته، واراه الله تعالى لكثرة ممارسته تصاريف اقداره و اقضيته كان جديرا برزانة العقل و رجاحة الدراية و قد يخص الله تعالى بألطافه الخفية من يشاء من عباده ،فيفيض عليه من خزائن مواهبه رزانة عقل و زيادة معرفة تخرجه عن حد الاكتساب ويصير بها راجحا على دوي التجارب والآداب،
ويدل على ذلك قصة يحي بن زكريا عليهما السلام فيما اخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز حيث يقول:» يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً« (مريم12 )
من سبقت له سابقة من الله تعالى في قسم السعادة ،و ادركته عناية ازلية ، اشرقت على باطنه انوار ملكوتيه و هداية ربانيه، فاتصف بالذكاء و الفطنة قلبه، واسفر عن وجه الاصابة ظنه ،و ان كان حديث السن قليل التجربة ،كما نقل في قصة سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام و هو صبي حيث رد حكم ابيه داود عليه السلام في امر الغنم و الحرث.
و شرح ذلك فيما نقله المفسرون ان رجلين دخلا على داود عليه السلام ،احدهما صاحب غنم ،و الاخر صاحب حرث ،فقال احدهما :إن هذا دخلت غنمه بالليل إلى حرثي فأهلكته و أكلته ولم تبقي لي فيه شيئا، فقال داود عليه السلام : الغنم لصاحب الحرث عوضا عن حرثه ،فلما خرجا من عنده مرّا على سليمان عليه السلام ،و كان عمره إذ ذاك على ما نقله أئمة التفسير إحدى عشرة سنة، فقال لهما :ما حكم بينكما الملك؟ فذكرا له ذلك.
فقال : غير هذا أرفق بالفرقين .فعادا الى داود عليه السلام و قالا له ما قاله ولده سليمان عليه السلام ،فدعاه داود عليه السلام ،و قال له :ما هو الأرفق بالفريقين ؟فقال سليمان : تسلم الغنم الى صاحب الحرث .-وكان الحرث كرما قد تدلت عناقيده في قول اكثر المفسرين – فيأخذ صاحب الكرم الاغنام يأكل لبنها وينتفع بدرها و نسلها ،ويسلم الكرم إلى صاحب الأغنام ليقوم به ،فإذا عاد الكرم إلى هيئته و صورته التي كان عليها ليلة دخلت الغنم إليه سلم صاحب الكرم الغنم إلى صاحبها و تسلم كرمه كما كان بعناقيده وصورته، فقال له داود: القضاء كما قلت .
وحكم به كما قال سليمان عليه السلام .و في هده القصة نزل قوله تعالى :{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }.. (الانبياء 87،97)
فهده المعرفة و الدراية لم تحصل لسليمان بكثرة التجربة وطول المدة ،بل حصلت بعناية ربانية و الطاف إلهية ،وإذا قذف الله تعالى شيئا من انوار مواهبه في قلب من يشاء من خلقه اهتدى إلى مواقع الصواب ،ورجح على دوي التجارب والاكتساب في كثير من الاسباب ،و يستدل على حصول كمال العقل في الرجال بما يوجد منه وما يصدر عنه ،فان العقل معنى لا يمكن مشاهدته، فان المشاهدة من خصائص الاجسام.
فأقول :يستدل على عقل الرجل بأمور متعددة منها : ميله الى محاسن الاخلاق و اعراضه عن رذائل الاعمال ،
و قال على بن عبيدة :{ العقل ملك و الخصال رعيته ،فادا ضعف عن القيام عليها ،وصل الخلل اليها } ......فكل شيء اذا كثر رخص الا العقل فانه كلما كثر غلا. و قيل لكل شيء غاية وحد، والعقل لا غاية له ولا حد. ولكن الناس يتفاوتون فيه تفاوت الازهار في المروج................
.................................يتبع............. ................................
تعليق