«أين نحن من هؤلاء؟» لقد نثر طول الأمل رداءه على البعض فأصبح الكثير من الناس يقترف المحرمات، ويتهاون في الطاعات وأمسى التسويف حاجزًا لهم عن التوبة، والفرح بهذه الدنيا منسيًا لما أمامهم من الأهوال والعقبات. فلم يطرق الخوف قلوبهم، ولم يلازم الوجل نفوسهم. فانهمكوا في الفرح والترح، وكأنهم مخلدون في هذه الدنيا.. تجاهلوا سيرة من كانوا قبلهم في تذكر الموت والخوف مما بعد الموت.. فقد كان يقرأ على بعض السلف ما يلين القلوب ويحيي النفوس.. يشحذ الهمم، ويقوي العزائم ويزيل ران الغفلة والسفه.. فهذا ابن المبارك إذا قرئ عليه كتاب الزهد كأنه ثور قد ذبح؛ لا يقدر أن يتكلم([1]).
والخوف أخي! عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل.
ومن توقع مكروهًا في المستقبل سعى إلى الاستعداد له، والمثابرة على اجتيازه.
وقد جمع الله للخائف منه فضلاً عظيمًا، فقال تعالى: }وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ{([2]).
قال القرطبي: المعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية([3]).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: أي خاف القيام بين يدي الله -عز وجل-، وخاف حكم الله فيه، ونهى النفس عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها }فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ أي منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء([4]).
وقال مجاهد والنخعي -رحمهما الله-: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه.
وقال محمد بن علي الترمذي -رحمه الله-: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته.
ومن فضل الله ومنه على عباده الطائعين المنيبين ما جاء في الحديث القدسي، قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي»([5]).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط. قال:
«لو تعملون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين»([6]) [متفق عليه].
ومن ثمرة الخوف من الله -جل وعلا- في الدنيا ما ذكره عامر بن قيس بقوله: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء, ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
وانظر إلى أهل الوجل والخوف من الله؛ إنهم أهل القدوة، وأصحاب الكلمة المسموعة.
أما من عصى الله وفرط في حدوده، فإنه زائغ النظرات، يترقب وقوع المصيبة.. بل هو في قلق وحسرة وندامة.
ويظن البعض أن الخوف هو خوف الدنيا الطبعي من الوحوش والسباع والظلام والوحدة، وما علموا أن ما قطع قلوب المؤمنين الصادقين إنما هو الخوف من عذاب الله ورجاء رحمته وعفوه ومغفرته..
قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف شيئًا دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي([7]).
قال يزيد بن حوشب محدثًا بما كان يراه من صلاح القوم وخوفهم:
ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وعن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:
سمعت عبد الله بن حنظلة يومًا وهو على فراشه، وعدته من علته، فتلا رجل عنده هذه الآية: }لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ{ فبكى حتى ظننت أن نفسه ستخرج، وقال: صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه، فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن اقعد قال: منعني ذكر جهنم القعود، ولا أدري لعلي أحدهم.
فإن هذا هو الخوف المحمود الذي يحرك النفس البشرية إلى الاستعداد والعمل والاستقامة والإنابة.
وهذا هو الخوف الحقيقي والوجل الصادق..
كان عمر بن الخطاب يسأل حذيفة.. أنشدك الله: هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا([8]).
نعم هذا وهو عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين الفاروق وثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
بل ها هو قد جعل نقش خاتمه: كفى بالموت واعظًا يا عمر([9]).
مستوفدين على رحل كأنهم
عفت جوارحهم عن كل فاحشة
أخي المسلم: إن اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد. فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدًا، وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها([11]).
قال الفضيل بن عياض: إذا قيل لك: هل تخاف الله؟ فاسكت، فإنك إن قلت: نعم، كذبت، وإن قلت: لا، كفرت([12]).
والكثير لو سئل هذا السؤال لأجاب بالجواب الأول، وهو مقيم على معصية، مصر على كبيرة، مستغرق في صغيرة؟!
فأين الخوف من الله؟ وأين التفكر في المآل والمعاد والجزاء والحساب..
أيها الفاضل وأيتها الفاضلة:
هذا أبو سليمان الداراني لما حضره الموت، قال له أصحابه:
أبشر فإنك تقدم على رب غفور رحيم. فقال لهم: ألا تقولون تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير.
وصدق الله عز وجل إذ يقول: }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ{.
والخوف ليس من الذنوب وحدها، بل أيضًا من سوء الخاتمة وسوء المنقلب.. قال عبد الرحمن بن مهدي: بات سفيان عندي فلما اشتد به الأمر، جعل يبكي. فقال له رجل: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب. فرفع شيئًا من الأرض، وقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت([13]).
وقال جل وعلا: }يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ{.
نعم يا عبد الله لقد خافوا هذا اليوم العظيم يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة: }يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ{[الحج: 2].
قال الحسن -رحمه الله-:
ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لا يأكلون فيها أكلة، ولا يشربون فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشًا، واحترقت أجوافهم جوعًا، انصرف بهم -يقصد العصاة والمجرمين- إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد لفحها([14]).
قال وهيب بن الورد:
بلغنا أنه ضرب لخوف الله مثل في الجسد، قيل: إنما مثل خوف الله كمثل الرجل يكون في منزله فلا يزال عامرًا ما دام فيه ربه، فإذا فارق المنزل ربه وسكنه غيره خرب المنزل، وكذلك خوف الله تعالى إذا كان في جسد لم يزل عامرًا ما دام فيه خوف من الله، فإذا فارق خوف الله الجسد خرب، حتى إن المار يمر بالمجلس من الناس فيقولون: بئس العبد فلان، فيقول بعضهم لبعض: ما رأيتم منه؟ فيقولون: ما رأينا منه شيئًا غير أنا نبغضه، وذلك أن خوف الله فارق جسده.
وإذا مر بهم الرجل فيه خوف الله، قالوا: نعم والله الرجل فيقولون: أي شيء رأيتم منه؟ فيقولون ما رأينا منه شيئًا غير أنا نحبه([15]).
فكرت في نار الجحيم وحرها
فدعوت ربي إن خير وسيلتي
جاء سائل إلى ابن عمر فقال لابنه: أعطه دينارًا، فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله يتقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، أتدري ممن يتقبل؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
وقد فسر الحسن قوله تعالى: }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ{.
قال: كانوا يعملون ما يعملون من أعمال البر وهم مشفقون؛ ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله عز وجل([17]).
ولهذا الفهم الصحيح والإدراك الصادق، قال يونس بن عبيد عن الحسن: ما رأيت أطول حزنًا من الحسن. وكان يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئًا.
والخوف من الله حصن من المهالك، وحماية دون المنزلقات.. قال الفضيل: من خاف الله دله الخوف على كل خير([18]).
والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن محمودًا([19]).
قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الخوف المحمود ما حجز عن محارم الله([20]).
وحين مر طاوس برأس (بائع الرؤوس) قد أخرج رؤوسًا، فغشي عليه وكان إذا رأى الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة([21]).
قال: سفيان بن عيينة: خلق الله النار رحمة يخوف بها عبادة لينتهوا.
والخائفون الوجلون المشفقون هم أهل الصلاح والتقى والورع والزهد..
فإن من لامس الخوف شغاف قلبه وسرى في عروقه أورثه ذلك عملاً وصلاحًا.. أولئك الخائفون الذين سئل عنهم ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قلوبهم بالخوف فرحة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله موقفنا([22]).
والخوف الحقيقي خوف السر والخلوة حيث لا يراك مخلوق ولا تراءى عيون وآذان هذا أنس بن مالك يقول: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، وخرجت معه، حتى دخل حائطًا، فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين..([23])، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك([24]).
وبكى معاذ رضي الله عنه بكاءً شديدًا فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لأن الله عز وجل قبض قبضتين، فجعل واحدة في الجنة والأخرى في النار، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون([25]).
قال موسى بن مسعود:
كنا إذا جلسنا إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه([26]).
قال الحسن البصري:
يخرج من النار رجل بعد ألف عام ياليتني كنت ذلك الرجل([27]).
أيها الكريم أولئك أعلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم فبهداهم اقتد وعلى نهجهم سر وأسرع الخطا.
قال شقيق بن إبراهيم -رحمه الله-:
ليس للعبد صاحب خيرًا له من الهم والخوف، هم فيما مضى من ذنوبه وخوف فيما بقى لا يدري ما ينزل به.
وقال عامر بن قيس -رحمه الله- وكأنه يرى حال كثير منا:
أكثر الناس فرحًا في الآخرة أطولهم حزنًا في الدنيا، وأكثر الناس ضحكًا في الآخرة أكثرهم بكاءً في الدنيا، وأخلص الناس إيمانًا يوم القيامة أكثرهم تفكرًا في الدنيا.
والإنسان -أخي المسلم- بين منزلتي الخوف والرجاء.. خوف من الله، ورجاء لما عنده. وهو بهذا الميزان يسير خائفًا راجيًا.
قال الفضيل بن عياض: ما دمت حيًا فلا يكن شيء عندك أخوف من الله عز وجل، وإذا نزل بك الموت فلا يكن عندك شيء أرجى من الله عز وجل([28]).
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: كان أبي إذا دعا له رجل، يقول الأعمال بخواتيمها([29]).
([1]) تذكرة الحفاظ: 1/278.
([2]) سورة الرحمن، آية: 46.
([3]) الجامع لأحكام القرآن: 17/176.
([4]) تفسير ابن كثير 4/469.
([5]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب.
([6]) الخنين: البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف.
([7]) تاريخ الخلفاء: 224.
([8]) الجواب الكافي: 79.
([9]) البداية والنهاية: 7/147.
([10]) ترتيب المدارك: 1/36.
([11]) الفوائد: 130.
([12]) تزكية النفوس: 117.
([13]) صفة الصفوة: 3/150.
([14]) الإحياء: 4/500.
([15]) التخويف من النار لابن رجب 5.
([16]) شذرات الذهب: 4/3.
([17]) الزهد: 420.
([18]) الإحياء: 4/170.
([19]) التخويف من النار: 33.
([20]) مدارج السالكين: 1/514.
([21]) حلية الأولياء: 4/4، والبداية والنهاية: 9/272.
([22]) الإحياء: 4/194.
([23]) بخ! أي: عظم الأمر وفخم.
([24]) محاسبة النفس: 31، والزهد للإمام أحمد: 171.
([25]) الزهر الفائح: 21.
([26]) الإحياء: 4/181.
([27]) الإحياء: 4/181.
([28]) العاقبة: 146.
([29]) السير: 11/226.
والخوف أخي! عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل.
ومن توقع مكروهًا في المستقبل سعى إلى الاستعداد له، والمثابرة على اجتيازه.
وقد جمع الله للخائف منه فضلاً عظيمًا، فقال تعالى: }وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ{([2]).
قال القرطبي: المعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فترك المعصية([3]).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: أي خاف القيام بين يدي الله -عز وجل-، وخاف حكم الله فيه، ونهى النفس عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها }فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ أي منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء([4]).
وقال مجاهد والنخعي -رحمهما الله-: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه.
وقال محمد بن علي الترمذي -رحمه الله-: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته.
ومن فضل الله ومنه على عباده الطائعين المنيبين ما جاء في الحديث القدسي، قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي»([5]).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط. قال:
«لو تعملون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين»([6]) [متفق عليه].
ومن ثمرة الخوف من الله -جل وعلا- في الدنيا ما ذكره عامر بن قيس بقوله: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء, ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء.
وانظر إلى أهل الوجل والخوف من الله؛ إنهم أهل القدوة، وأصحاب الكلمة المسموعة.
أما من عصى الله وفرط في حدوده، فإنه زائغ النظرات، يترقب وقوع المصيبة.. بل هو في قلق وحسرة وندامة.
ويظن البعض أن الخوف هو خوف الدنيا الطبعي من الوحوش والسباع والظلام والوحدة، وما علموا أن ما قطع قلوب المؤمنين الصادقين إنما هو الخوف من عذاب الله ورجاء رحمته وعفوه ومغفرته..
قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كنت تعلم أني أخاف شيئًا دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي([7]).
قال يزيد بن حوشب محدثًا بما كان يراه من صلاح القوم وخوفهم:
ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وعن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:
سمعت عبد الله بن حنظلة يومًا وهو على فراشه، وعدته من علته، فتلا رجل عنده هذه الآية: }لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ{ فبكى حتى ظننت أن نفسه ستخرج، وقال: صاروا بين أطباق النار ثم قام على رجليه، فقال قائل: يا أبا عبد الرحمن اقعد قال: منعني ذكر جهنم القعود، ولا أدري لعلي أحدهم.
فإن هذا هو الخوف المحمود الذي يحرك النفس البشرية إلى الاستعداد والعمل والاستقامة والإنابة.
وهذا هو الخوف الحقيقي والوجل الصادق..
كان عمر بن الخطاب يسأل حذيفة.. أنشدك الله: هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدًا([8]).
نعم هذا وهو عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين الفاروق وثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة.
بل ها هو قد جعل نقش خاتمه: كفى بالموت واعظًا يا عمر([9]).
مستوفدين على رحل كأنهم
ركب يريدون أن يمضوا وينتقلوا
عفت جوارحهم عن كل فاحشة
فالصدق مذهبهم والخوف والوجل([10])
أخي المسلم: إن اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد. فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدًا، وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها([11]).
قال الفضيل بن عياض: إذا قيل لك: هل تخاف الله؟ فاسكت، فإنك إن قلت: نعم، كذبت، وإن قلت: لا، كفرت([12]).
والكثير لو سئل هذا السؤال لأجاب بالجواب الأول، وهو مقيم على معصية، مصر على كبيرة، مستغرق في صغيرة؟!
فأين الخوف من الله؟ وأين التفكر في المآل والمعاد والجزاء والحساب..
أيها الفاضل وأيتها الفاضلة:
هذا أبو سليمان الداراني لما حضره الموت، قال له أصحابه:
أبشر فإنك تقدم على رب غفور رحيم. فقال لهم: ألا تقولون تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير.
وصدق الله عز وجل إذ يقول: }فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ{.
والخوف ليس من الذنوب وحدها، بل أيضًا من سوء الخاتمة وسوء المنقلب.. قال عبد الرحمن بن مهدي: بات سفيان عندي فلما اشتد به الأمر، جعل يبكي. فقال له رجل: يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب. فرفع شيئًا من الأرض، وقال: والله لذنوبي أهون عندي من ذا، إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت([13]).
وقال جل وعلا: }يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ{.
نعم يا عبد الله لقد خافوا هذا اليوم العظيم يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة: }يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ{[الحج: 2].
قال الحسن -رحمه الله-:
ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لا يأكلون فيها أكلة، ولا يشربون فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشًا، واحترقت أجوافهم جوعًا، انصرف بهم -يقصد العصاة والمجرمين- إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد لفحها([14]).
قال وهيب بن الورد:
بلغنا أنه ضرب لخوف الله مثل في الجسد، قيل: إنما مثل خوف الله كمثل الرجل يكون في منزله فلا يزال عامرًا ما دام فيه ربه، فإذا فارق المنزل ربه وسكنه غيره خرب المنزل، وكذلك خوف الله تعالى إذا كان في جسد لم يزل عامرًا ما دام فيه خوف من الله، فإذا فارق خوف الله الجسد خرب، حتى إن المار يمر بالمجلس من الناس فيقولون: بئس العبد فلان، فيقول بعضهم لبعض: ما رأيتم منه؟ فيقولون: ما رأينا منه شيئًا غير أنا نبغضه، وذلك أن خوف الله فارق جسده.
وإذا مر بهم الرجل فيه خوف الله، قالوا: نعم والله الرجل فيقولون: أي شيء رأيتم منه؟ فيقولون ما رأينا منه شيئًا غير أنا نحبه([15]).
فكرت في نار الجحيم وحرها
يـا ويلتاه ولات حين مناص
فدعوت ربي إن خير وسيلتي
يوم المعاد شهادة الإخلاص([16])
جاء سائل إلى ابن عمر فقال لابنه: أعطه دينارًا، فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله يتقبل مني سجدة واحدة وصدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت، أتدري ممن يتقبل؟ إنما يتقبل الله من المتقين.
وقد فسر الحسن قوله تعالى: }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ{.
قال: كانوا يعملون ما يعملون من أعمال البر وهم مشفقون؛ ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله عز وجل([17]).
ولهذا الفهم الصحيح والإدراك الصادق، قال يونس بن عبيد عن الحسن: ما رأيت أطول حزنًا من الحسن. وكان يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئًا.
والخوف من الله حصن من المهالك، وحماية دون المنزلقات.. قال الفضيل: من خاف الله دله الخوف على كل خير([18]).
والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات كان ذلك فضلاً محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًا لازمًا بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل لم يكن محمودًا([19]).
قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الخوف المحمود ما حجز عن محارم الله([20]).
وحين مر طاوس برأس (بائع الرؤوس) قد أخرج رؤوسًا، فغشي عليه وكان إذا رأى الرؤوس المشوية لم يتعش تلك الليلة([21]).
قال: سفيان بن عيينة: خلق الله النار رحمة يخوف بها عبادة لينتهوا.
والخائفون الوجلون المشفقون هم أهل الصلاح والتقى والورع والزهد..
فإن من لامس الخوف شغاف قلبه وسرى في عروقه أورثه ذلك عملاً وصلاحًا.. أولئك الخائفون الذين سئل عنهم ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قلوبهم بالخوف فرحة، وأعينهم باكية، يقولون: كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله موقفنا([22]).
والخوف الحقيقي خوف السر والخلوة حيث لا يراك مخلوق ولا تراءى عيون وآذان هذا أنس بن مالك يقول: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، وخرجت معه، حتى دخل حائطًا، فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين..([23])، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك([24]).
وبكى معاذ رضي الله عنه بكاءً شديدًا فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لأن الله عز وجل قبض قبضتين، فجعل واحدة في الجنة والأخرى في النار، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون([25]).
قال موسى بن مسعود:
كنا إذا جلسنا إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه([26]).
قال الحسن البصري:
يخرج من النار رجل بعد ألف عام ياليتني كنت ذلك الرجل([27]).
أيها الكريم أولئك أعلام أمة محمد صلى الله عليه وسلم فبهداهم اقتد وعلى نهجهم سر وأسرع الخطا.
قال شقيق بن إبراهيم -رحمه الله-:
ليس للعبد صاحب خيرًا له من الهم والخوف، هم فيما مضى من ذنوبه وخوف فيما بقى لا يدري ما ينزل به.
وقال عامر بن قيس -رحمه الله- وكأنه يرى حال كثير منا:
أكثر الناس فرحًا في الآخرة أطولهم حزنًا في الدنيا، وأكثر الناس ضحكًا في الآخرة أكثرهم بكاءً في الدنيا، وأخلص الناس إيمانًا يوم القيامة أكثرهم تفكرًا في الدنيا.
والإنسان -أخي المسلم- بين منزلتي الخوف والرجاء.. خوف من الله، ورجاء لما عنده. وهو بهذا الميزان يسير خائفًا راجيًا.
قال الفضيل بن عياض: ما دمت حيًا فلا يكن شيء عندك أخوف من الله عز وجل، وإذا نزل بك الموت فلا يكن عندك شيء أرجى من الله عز وجل([28]).
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: كان أبي إذا دعا له رجل، يقول الأعمال بخواتيمها([29]).
([1]) تذكرة الحفاظ: 1/278.
([2]) سورة الرحمن، آية: 46.
([3]) الجامع لأحكام القرآن: 17/176.
([4]) تفسير ابن كثير 4/469.
([5]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب.
([6]) الخنين: البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف.
([7]) تاريخ الخلفاء: 224.
([8]) الجواب الكافي: 79.
([9]) البداية والنهاية: 7/147.
([10]) ترتيب المدارك: 1/36.
([11]) الفوائد: 130.
([12]) تزكية النفوس: 117.
([13]) صفة الصفوة: 3/150.
([14]) الإحياء: 4/500.
([15]) التخويف من النار لابن رجب 5.
([16]) شذرات الذهب: 4/3.
([17]) الزهد: 420.
([18]) الإحياء: 4/170.
([19]) التخويف من النار: 33.
([20]) مدارج السالكين: 1/514.
([21]) حلية الأولياء: 4/4، والبداية والنهاية: 9/272.
([22]) الإحياء: 4/194.
([23]) بخ! أي: عظم الأمر وفخم.
([24]) محاسبة النفس: 31، والزهد للإمام أحمد: 171.
([25]) الزهر الفائح: 21.
([26]) الإحياء: 4/181.
([27]) الإحياء: 4/181.
([28]) العاقبة: 146.
([29]) السير: 11/226.
تعليق