كيف ترانا على هذه الدنيا؟ كيف ترانا على هذه الدنيا؟ ! ما أحسن الدنيا إذا أتت من حلال.. وصرفت في حلال.. فأوجه الخير لا تحصى.. فمن: صدقة، إلى إعانة ملهوف، ونجدة مصاب.. إلى رعاية أرامل، وكفالة أيتام.
أخي.. قال سفيان: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئًا من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك.
إن من قسم الأرزاق في هذه الدنيا هو: الله، فلا بد أن ترضى لما قسم لك قل أو كثر.. أتى أو ذهب.. وسواء أقبلت الدنيا أو أدبرت.. لا بد أن ترضى بنصيبك منها ولا تشغل بالك.. فلا تتسخط لما قسم لك الله، ولا تنظر إلى من أعلى منك دنيا، ولكن انظر إلى الصالحين الأخيار..
قال إبراهيم الأشعث: سمعت الفضيل يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة، من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفقه الله لما يعلم، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته([2]).
قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدًا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها: بذكر، أو صلاة، أو قراءة، أو إحسان، فقال له رجل: إني أكثر البكاء، فقال: إنك إن تضحك مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك. وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبًا وإن أطعمت أطعمت طيبًا، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه([3]).
أخي الفاضل أختي الفاضلة :
ما تذكر أحد الموت إلا هانت الدنيا في عينه، وزالت الغشاوة من أمام ناظره.. فإنها سنوات معدودة مهما جمعت فيها ومهما حصلت على كنوزها؛ فإن وراء ذلك هادم اللذات ومفرق الجماعات.
قال الحسن: إن الموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحًا([4]).
وأي فرح -أخي- وها هي الدنيا..
قال أبو عبيدة الناجي -رحمه الله-: دخلنا على الحسن البصري -رحمه الله- في يومه الذي مات فيه، فقال: مرحبًا بكم وأهلاً، وحياكم الله بالسلام، وأحلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة إن صدقتم وصبرتم، فلا يكونن حظكم من هذا الأمر أن تسمعوه بهذه الآذان، وتخرجوه من هذه الأفواه، فإن مَنْ رأى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم فشمر إليه.. الوحا الوحا، النجاء النجاء، علام تعرجون؟ ارتبتم ورب الكعبة، كأنكم والأمر معًا، رحم الله امرءًا جعل العيش عيشًا واحدًا، فأكل كسرة، ولبس خلقًا، ولصق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وفر من العقوبة، وطلب الرحمة، حتى يأتيه أجله وهو على ذلك([6]).
قال النابغة الجعدي عن الدنيا وحال الإنسان فيها:
أخي:أختي
يكفي من الدنيا أنها مزرعة الآخرة، وأنها موسم العبادات وزمن الطاعات، فيها نتزود للآخرة.. ونسير مرحلة إلى الآجلة.
قال الفضيل -رحمه الله-: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت مفتاحه الزهد في الدنيا([9]).
أخي اختي.. أين نحن من هؤلاء؟
قال عبد الله بن داود: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه، أي كان لا ينام طول الليل، يصلي ويسبح ويستغفر.. يستدرك ما مضى من عمره ويستعد لما أقبل من أيامه.
يا راقدًا وقد أوذن بالرحيل، يا مشيد البنيان في مدارج السيول، بادر العمل قبل انقضاء العمر.. لا تنس من يعد الأنفاس للقائك.
أخي أختي:
أخي المسلم:أختي المسلمة
من بذل وسعه في التفكر التام، علم أن هذه الدار رحلة، فجمع للسفر رحله، ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات، وهي دار الخلود، والعدو سبانا إلى دار الدنيا، فنجتهد في فكاك أسرنا، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى. وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة ولا يحس بسيرها وهو جالس فيها.
ولا بد له في سفره من زاد، ولا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى، لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون، فيقال: كلا، فلينتبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفًا لعباده، لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، ونهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة، فرأى ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل، فيتوب من معصيته([12]).
والحال في الدنيا كما وصفها الربيع بن خثيم عندما سئل: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا([13]).
وكان شميط بن عجلان يقول إذا وصف أهل الدنيا: حيارى سكارى، فارسهم يركض، وراجلهم يسعى سعيًا، لا غنيهم ولا فقيرهم يقنع([14]).
أخي:أختي
قال أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم.. لو قيل له غدًا القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة([15]).
هؤلاء قوم جاهدوا أنفسهم.. وتفكروا في آخرتهم.. واستعدوا لمعادهم.
فمن أراد الدنيا للدنيا انقطعت عنه مع أنفاسه الأخيرة.. وولت هاربة عنه في لحظاته الرهيبة.. ومن أراد الدنيا طريقًا إلى الآخرة وسبلاً إلى جنة عرضها السموات والأرض، فحسبه ما طرق.. وسبيله إلى دار السلام برحمة من الله ورضوان.
وأهل الطاعة والصلاح قوم مثلنا يحبون الدنيا وزينتها، ولكنهم قدموا باقية على فانية، فسهل الله لهم الطريق وأذل لهم الصعاب.
وحال الكثير منا يصفه عوف بن عبد الله حينما قال: إن من كان قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم([20]).
وما نراه اليوم من بذل الأوقات والجهد والأخذ والعطاء والتدقيق والتمحيص لأجل الدنيا لوجدنا العجب... حتى إن البعض لو أراد شراء حاجة حقيرة أشغل نفسه أيامًا عديدة، وأضاع من أوقاته ساعات ثمينة... ولو رأيته في المسجد لرأيت نقر الصلاة وعدم الاهتمام بركوعها وسجودها.. بل ومسابقة الإمام.. يؤديها بغير خشوع.. ولا ترى منه الدموع.
فالكثير من الناس مهموم مغموم في أمور الدنيا، ولا يتحرك له طرف إذا فاتته مواسم الخيرات أو ساعات تحري الإجابات.. تراه لاهيًا، ساهيًا.. شاردًا.. يجمع ويطرح، ويزيد وينقص.. وكأن يومه الذي يمر به سيعود إليه.. أو شهره الذي مضى سيرجع إليه؟!
قال بندار يتحدث عن يحيى بن سعيد: اختلفت إليه عشرين سنة، فما أظن أنه عصي الله قط([21]).
أخي المسلم:
([1]) الإحياء: 4/ 131.
([2]) السير: 8/ 426.
([3]) الفوائد: 153.
([4]) تاريخ بغداد: 14/444.
([5]) طبقات الشافعية: 6/78.
([6]) العاقبة: 89.
([7]) جامع العلوم والحكم: 429.الحديث رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح [تحفة الأحوذي 6/1615] وقال الشيخ الألباني، صحيح.
([8]) أدب الدنيا والدين: 134.
([9]) الإحياء: 4/257.
([10]) العاقبة: 88.
([11]) الزهد: للبيهقي، 248.
([12]) عدة الصابرين: 330.
([13]) صفة الصفوة: 3/67.
([14]) صفة الصفوة: 3/ 346.
([15]) حلية الأولياء: 3/ 159.
([16]) صفة الصفوة: 4/ 114.
([17]) حلية الأولياء: 3/176.
([18]) شذرات الذهب: 2/364.
([19]) حلية الأولياء: 8/86.
([20]) تذكرة الحفاظ: 1/299.
([21]) موارد الظمآن: 3/276.
([22]) عدة الصابرين: 355.
أخي.. قال سفيان: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئًا من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك.
إن من قسم الأرزاق في هذه الدنيا هو: الله، فلا بد أن ترضى لما قسم لك قل أو كثر.. أتى أو ذهب.. وسواء أقبلت الدنيا أو أدبرت.. لا بد أن ترضى بنصيبك منها ولا تشغل بالك.. فلا تتسخط لما قسم لك الله، ولا تنظر إلى من أعلى منك دنيا، ولكن انظر إلى الصالحين الأخيار..
من شاء عيشًا رحيبًا يستطيل به
في دينه ثم في دنياه إقبالاً
فلينظرن إلى من فوقه ورعًا
ولينظرن إلى من دونه مالا([1])
وخير من ذلك كله ما قاله -جل وعلا- في محكم كتابه: }لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ{ [طه: 131].في دينه ثم في دنياه إقبالاً
فلينظرن إلى من فوقه ورعًا
ولينظرن إلى من دونه مالا([1])
قال إبراهيم الأشعث: سمعت الفضيل يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة، من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم، ومن عمل بما علم وفقه الله لما يعلم، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته([2]).
قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحدًا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها: بذكر، أو صلاة، أو قراءة، أو إحسان، فقال له رجل: إني أكثر البكاء، فقال: إنك إن تضحك مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك. وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبًا وإن أطعمت أطعمت طيبًا، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه([3]).
أخي الفاضل أختي الفاضلة :
ما تذكر أحد الموت إلا هانت الدنيا في عينه، وزالت الغشاوة من أمام ناظره.. فإنها سنوات معدودة مهما جمعت فيها ومهما حصلت على كنوزها؛ فإن وراء ذلك هادم اللذات ومفرق الجماعات.
قال الحسن: إن الموت فضح الدنيا، فلم يترك لذي لب فيها فرحًا([4]).
وأي فرح -أخي- وها هي الدنيا..
قال أبو عبيدة الناجي -رحمه الله-: دخلنا على الحسن البصري -رحمه الله- في يومه الذي مات فيه، فقال: مرحبًا بكم وأهلاً، وحياكم الله بالسلام، وأحلنا وإياكم دار المقام، هذه علانية حسنة إن صدقتم وصبرتم، فلا يكونن حظكم من هذا الأمر أن تسمعوه بهذه الآذان، وتخرجوه من هذه الأفواه، فإن مَنْ رأى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه غاديًا ورائحًا، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، ولكن رفع له علم فشمر إليه.. الوحا الوحا، النجاء النجاء، علام تعرجون؟ ارتبتم ورب الكعبة، كأنكم والأمر معًا، رحم الله امرءًا جعل العيش عيشًا واحدًا، فأكل كسرة، ولبس خلقًا، ولصق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وفر من العقوبة، وطلب الرحمة، حتى يأتيه أجله وهو على ذلك([6]).
قال النابغة الجعدي عن الدنيا وحال الإنسان فيها:
المرء يرغب في الحيا
ة وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبـ
ـقى بعد حلو العيش مره
وتسوءه الأيام حتـ
ـى ما يرى شيئًا يسره
روى أبو كبشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الدنيا أربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالاً؛ فهو صادق النية، فيقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يتخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم فيه لله حقًا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، وهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان؛ فهو بنيته فوزرهما سواء»([7]).ة وطول عيش قد يضره
تفنى بشاشته ويبـ
ـقى بعد حلو العيش مره
وتسوءه الأيام حتـ
ـى ما يرى شيئًا يسره
أخي:أختي
يكفي من الدنيا أنها مزرعة الآخرة، وأنها موسم العبادات وزمن الطاعات، فيها نتزود للآخرة.. ونسير مرحلة إلى الآجلة.
قال الفضيل -رحمه الله-: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا، وجعل الخير كله في بيت مفتاحه الزهد في الدنيا([9]).
أخي اختي.. أين نحن من هؤلاء؟
قال عبد الله بن داود: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه، أي كان لا ينام طول الليل، يصلي ويسبح ويستغفر.. يستدرك ما مضى من عمره ويستعد لما أقبل من أيامه.
إن لله رجالاً فطنا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوا لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
كان عبد الله بن ثعلبة يقول في موعظته: تضحك يا هذا ولعل أكفانك عند القصار!!([10]).طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي وطنا
جعلوا لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
يا راقدًا وقد أوذن بالرحيل، يا مشيد البنيان في مدارج السيول، بادر العمل قبل انقضاء العمر.. لا تنس من يعد الأنفاس للقائك.
أخي أختي:
خذ من الرزق ما كفا
ومن العيش ما صفا
كل هذا سينقضي
كسراج إذا انطفا
قال يحيى بن معاذ: الدنيا ذات اشتغال، والآخرة دار أهوال، ولا يزال العبد بين الأشغال والأهوال حتى يستقر به القرار، إما إلى جنة وإما إلى نار([11]).ومن العيش ما صفا
كل هذا سينقضي
كسراج إذا انطفا
أخي المسلم:أختي المسلمة
من بذل وسعه في التفكر التام، علم أن هذه الدار رحلة، فجمع للسفر رحله، ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر، ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات، وهي دار الخلود، والعدو سبانا إلى دار الدنيا، فنجتهد في فكاك أسرنا، ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى. وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة ولا يحس بسيرها وهو جالس فيها.
ولا بد له في سفره من زاد، ولا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الشخص والتصبر على مرارة التقوى، لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون، فيقال: كلا، فلينتبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفره آيات يرسلها تخويفًا لعباده، لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، ونهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة، فرأى ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه عما ارتكبه من السبل، فيتوب من معصيته([12]).
والحال في الدنيا كما وصفها الربيع بن خثيم عندما سئل: كيف أصبحت يا أبا يزيد؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا([13]).
وكان شميط بن عجلان يقول إذا وصف أهل الدنيا: حيارى سكارى، فارسهم يركض، وراجلهم يسعى سعيًا، لا غنيهم ولا فقيرهم يقنع([14]).
أخي:أختي
خذ القناعة من دنياك وارض بها
لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
ومن استعد للقاء الله، واستثمر أوقاته فيما يعود عليه نفعها في الآخرة؛ فإنه سيفرح يوم لا ينفع مال ولا بنون.. يوم تتطاير الصحف، وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة.. وترى الناس سكارى وما هم بسكارى.. ولكن عذاب الله شديد.لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
قال أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم.. لو قيل له غدًا القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة([15]).
هؤلاء قوم جاهدوا أنفسهم.. وتفكروا في آخرتهم.. واستعدوا لمعادهم.
إذا ما عدت النفس
عن الحق زجرناها
وإن مالت إلى الدنيا
عن الأخرى منعناها
تخادعنا ونخدعها
وبالصبر غلبناها([16])
قال محمد بن الحنفية: كل ما لا يبتغى به وجه الله يضمحل([17]).عن الحق زجرناها
وإن مالت إلى الدنيا
عن الأخرى منعناها
تخادعنا ونخدعها
وبالصبر غلبناها([16])
فمن أراد الدنيا للدنيا انقطعت عنه مع أنفاسه الأخيرة.. وولت هاربة عنه في لحظاته الرهيبة.. ومن أراد الدنيا طريقًا إلى الآخرة وسبلاً إلى جنة عرضها السموات والأرض، فحسبه ما طرق.. وسبيله إلى دار السلام برحمة من الله ورضوان.
وأهل الطاعة والصلاح قوم مثلنا يحبون الدنيا وزينتها، ولكنهم قدموا باقية على فانية، فسهل الله لهم الطريق وأذل لهم الصعاب.
صبرت على اللذات لما تولت
وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وكانت على الأيام نفس عزيرة
فلما رأت عزمي على الذل ذلت
فقلت لها يا نفس موتي كريمة
فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
خليلي لا والله ما من مصيبة
تمر على الأيام إلا تجلت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت([18])
قال رجل للفضيل بن عياض: كيف أصبحت يا أبا علي؟ فكان يثقل عليه، كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟! فقال: في عافية، فقال: كيف حالك؟ فقال: على أي حال تسأل؟ عن حال الدنيا أو حال الآخرة؟ إن كنت تسأل عن حال الدنيا فإن الدنيا قد مالت بنا وذهبت بنا كل مذهب، وإن كنت تسأل عن حال الآخرة فكيف ترى حال من كثرت ذنوبه، وضعف عمله، وفني عمره، ولم يتزود لمعاده، ولم يتأهب للموت، ولم يخضع للموت، ولم يتشمر للموت، ولم يتزين للموت... وتزين للدنيا([19]).وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وكانت على الأيام نفس عزيرة
فلما رأت عزمي على الذل ذلت
فقلت لها يا نفس موتي كريمة
فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت
خليلي لا والله ما من مصيبة
تمر على الأيام إلا تجلت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن أطعمت تاقت وإلا تسلت([18])
وحال الكثير منا يصفه عوف بن عبد الله حينما قال: إن من كان قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم([20]).
وما نراه اليوم من بذل الأوقات والجهد والأخذ والعطاء والتدقيق والتمحيص لأجل الدنيا لوجدنا العجب... حتى إن البعض لو أراد شراء حاجة حقيرة أشغل نفسه أيامًا عديدة، وأضاع من أوقاته ساعات ثمينة... ولو رأيته في المسجد لرأيت نقر الصلاة وعدم الاهتمام بركوعها وسجودها.. بل ومسابقة الإمام.. يؤديها بغير خشوع.. ولا ترى منه الدموع.
فالكثير من الناس مهموم مغموم في أمور الدنيا، ولا يتحرك له طرف إذا فاتته مواسم الخيرات أو ساعات تحري الإجابات.. تراه لاهيًا، ساهيًا.. شاردًا.. يجمع ويطرح، ويزيد وينقص.. وكأن يومه الذي يمر به سيعود إليه.. أو شهره الذي مضى سيرجع إليه؟!
قال بندار يتحدث عن يحيى بن سعيد: اختلفت إليه عشرين سنة، فما أظن أنه عصي الله قط([21]).
أخي المسلم:
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر
وفي الرواح على الطاعات والبكر
لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها
فالهم يتلف بين اليأس والضجر
إني رأيت في الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطلبه
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر([22])
قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم.. طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها .. فاعقل شأنك.وفي الرواح على الطاعات والبكر
لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها
فالهم يتلف بين اليأس والضجر
إني رأيت في الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطلبه
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر([22])
([1]) الإحياء: 4/ 131.
([2]) السير: 8/ 426.
([3]) الفوائد: 153.
([4]) تاريخ بغداد: 14/444.
([5]) طبقات الشافعية: 6/78.
([6]) العاقبة: 89.
([7]) جامع العلوم والحكم: 429.الحديث رواه أحمد والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح [تحفة الأحوذي 6/1615] وقال الشيخ الألباني، صحيح.
([8]) أدب الدنيا والدين: 134.
([9]) الإحياء: 4/257.
([10]) العاقبة: 88.
([11]) الزهد: للبيهقي، 248.
([12]) عدة الصابرين: 330.
([13]) صفة الصفوة: 3/67.
([14]) صفة الصفوة: 3/ 346.
([15]) حلية الأولياء: 3/ 159.
([16]) صفة الصفوة: 4/ 114.
([17]) حلية الأولياء: 3/176.
([18]) شذرات الذهب: 2/364.
([19]) حلية الأولياء: 8/86.
([20]) تذكرة الحفاظ: 1/299.
([21]) موارد الظمآن: 3/276.
([22]) عدة الصابرين: 355.
تعليق