من علامات حب الدنيا أخي الفاضل : أختي الفاضلة
أساس كل خير أن تعلم: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه، فتشكره عليها، وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك([1]).
عندما سئل إبراهيم بن أدهم: كيف أنت؟ قال:
إن من علامات حب الدنيا: حب أهل الدنيا، والتملق لهم، ومحاباتهم، وعدم إنكار منكرهم.. وقد أكد ذلك سفيان الثوري بقوله: إني لأعرف حب الرجل للدنيا، بتسليمه على أهل الدنيا([2]).
وانظر إلى الفقير الصالح المتعفف.. لا يتحدث معه.. بل ويسلم عليه سلام من يخاف أن يعديه بفقره.. السلام: بأطراف الأصابع.. والسؤال عن الحال: فيه عبوس وجه، وسوء أدب.
والتفت -أخي- يمنة لترى كيف وقف القوم .. يهللون ويرحبون .. من القادم؟ إنه من أهل الدنيا .. من حاز الدينار والدرهم.. وربما أنه لا يصلي..
وربما يصم الآذان، ويزكم الأنوف.. سوء عمله.. ولكن انظر الفرق.. بين من لو أقسم على الله لأبره، وكيف هو لا يسأل عنه، إن غاب أو حضر، وبين من لا يزن عند الله جناح بعوضة كيف استقباله والحفاوة به..
إنها الدنيا..
قال عبد الله بن عون: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم([3]).
أخي المسلم:أختي الممسلمة
إن عمر الدنيا والله قصير، وأغنى غني فيها فقير، وكأني بك في عرصة الموت، وقد استنشقت ريح الغربة قبل الرحيل، ورأيت أثر اليتم في الولد قبل الفراق، فتيقظ إذن من رقدة الغفلة، وانتبه من السكرة، وأقلع حب الدنيا من قلبك، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة فقيل كلا([4]).
في يوم من أيام الحياة ستدبر الدنيا وتقبل الآخرة.. وما كان بعيدًا أضحى قريبًا.. وما كنت تراه في الذاهبين.. سيراه الأحياء فيك.. موت فجأة.. أو مرض بغتة.. أو أنت على فراشك تحمل إلى قبرك .. إنها عبر ترى ومصارع تترى.. ونحن في غفلتنا نائمون.. وفي غينا تائهون.
قال أبو حازم: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء .. ولم يحزن على بلوى.
وقال علي بن أبي طالب: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلبًا ولا عن النار مهربًا، أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها([6]).
والوجل -أخي الكريم- أختي الفاضلة هو الخوف مما ذكره الفضيل بن عياض بقوله: الدخول في الدنيا هين، ولكن الخروج منها شديد([7]).
الخروج أنفاس تتوقف.. ولحظات عصيبة.. تنتزع فيها الروح انتزاعًا.. وحتى إن كان الخروج سهلاً، فإن الجري وراء الدنيا واللهث وراء المادة.. يجلب تشتت الذهن وكثرة الهموم.. واضطراب النفس.
أخي الكريم: أختي الفاضلة
كن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن الولد يتبع الأم، والدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها([9])؟
قالت امرأة حبيب بن محمد: كان يقول: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني، وافعلي كذا واصنعي كذا، فقيل لامرأته: أرأى رؤيا؟ قالت: هذا قوله كل يوم([11]).
أخي..أختي إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم؛ لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله، وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة([12]).
وخطب عمر بن عبد العزيز فقال في خطبته: لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلبكم. وتنقادوا لعدوكم، فإن الله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه، ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يطمئن؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق([13]).
قال محمد بن أبي عمران: سمعت حاتمًا الأصم وسأله رجل: على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه.
قال عبد الله بن المبارك: يابن آدم.. استعد للآخرة، وأطع الله بقدر حاجتك إليه، وأغضب الله بقدر صبرك على النار.
سبحانك ربنا لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. نعصيك بجهلنا وتعفوا برحمتك.
هذا الفضيل بن عياض يصور حال المؤمن في هذه الدار بقوله: المؤمن في الدنيا مهموم حزين.. همه مرمة جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم([16]).
قال وهيب بن الورد: اتق أن تسب إبليس في العلانية وأنت صديقه في السر.
فهذا إبليس، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى أرسو قلاعهم ليصدوا المسلم عن دينه ويزينوا له العثرات... فإنهم يعملون في هذه الدنيا لصده عن الحق وتزيين المعصية.
أخي الفاضل أختي الفاضلة:
الدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة...
ونحن نسير إلى آجالنا.. تنقص أعمارنا وتدنو نهاياتنا.. نسير: لاهون غافلون، لا نحسب لهذا اليوم حساب.. ولا نتجهز ليوم المعاد.
قال الحسن: تؤمل أن تعمر عمر نوح، وأمر الله يطرق كل ليلة([18]).
قال أبو حازم سلمة بن دينار: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك، فأدنى عيش من الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك([20]).
فوالله رأينا من يملك الدنيا رحل بكفن.. ورأينا من لا يملك من الدنيا شيء رحل بكفن.. تساوى الجميع عند هذه الحفرة -القبر- واختلفوا في داخلها.. فإما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من
حفر النار.
إنما الدنيا إلى الجنة والـنار طـريق
عندما سئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن، والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أحببت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أحببت منها تريد به الآخرة فليس منها([22]).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف الدنيا: حلالها حساب، وحرامها النار.
وقيل: أوحي إلى داود عليه السلام: يا داود: إني لأنظر إلى الشيخ في كل يوم صباحًا ومساءً وأقول له: يا عبدي، كبر سنك، ورق جلدك، ودق عظمك، وحان قدومك علي، فاستحي مني فإني استحي منك([23]).
قال الحسن رضي الله عنه: يابن آدم، إنما هي أيام إذا مضى يومك ينقصك.
ولهفنا ولهثنا وراء الدنيا.. نخاف من الفقر ونطمع في جمع الحطام.. كأننا نخلد أو نبقى فيها إلى الأبد.. نخاف الفقر، ولا نخاف الحساب.. نخاف الجوع، ولا نخاف من التقريع والعقاب.
قال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة([25]).
وانظر إلى حال من سلف كما قال عنهم الحسن البصري: والذي نفسي بيده، لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه.
قال الفضيل، يفصل واقع الأيام، ويحكى سيرها: إنما أمس: فعل، واليوم: عمل، وغدًا. أمل([27]).
([1]) الفوائد: 127.
([2]) حلية الأولياء: 7/37.
([3]) صفة الصفوة: 3/101.
([4]) عدة الصابرين: 329.
([5]) مكاشفة القلوب: 329.
([6]) الإحياء: 3/221.
([7]) الإحياء: 3/224.
([8]) الإحياء: 2/344.
([9]) الفوائد: 68.
([10]) شذرات الذهب: 3/388.
([11]) صفة الصفوة: 3/320.
([12]) الفوائد: 152.
([13]) البداية والنهاية: 9/283.
([14]) التبصرة: 1/49.
([15]) شذرات الذهب: 6/349.
([16]) جامع العلوم والحكم: 379.
([17]) الشافعي: 54.
([18]) الزهد: للحسن البصري.
([19]) صفة الصفوة: 4/65.
([20]) صفة الصفوة: 2/158.
([21]) الزهد: للبيهقي 317.
([22]) تزكية النفوس: 128.
([23]) الزهر الفائح: 42.
([24]) تاريخ بغداد: 10/367.
([25]) الإحياء: 4/ 170.
([26]) جنة الرضا: 2/260.
([27]) السير: 8/ 427.
أساس كل خير أن تعلم: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه، فتشكره عليها، وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك([1]).
عندما سئل إبراهيم بن أدهم: كيف أنت؟ قال:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربه
وجاد بدنياه لما يتوقع
إن من علامات حب الدنيا: حب أهل الدنيا، والتملق لهم، ومحاباتهم، وعدم إنكار منكرهم.. وقد أكد ذلك سفيان الثوري بقوله: إني لأعرف حب الرجل للدنيا، بتسليمه على أهل الدنيا([2]).
وانظر إلى الفقير الصالح المتعفف.. لا يتحدث معه.. بل ويسلم عليه سلام من يخاف أن يعديه بفقره.. السلام: بأطراف الأصابع.. والسؤال عن الحال: فيه عبوس وجه، وسوء أدب.
والتفت -أخي- يمنة لترى كيف وقف القوم .. يهللون ويرحبون .. من القادم؟ إنه من أهل الدنيا .. من حاز الدينار والدرهم.. وربما أنه لا يصلي..
وربما يصم الآذان، ويزكم الأنوف.. سوء عمله.. ولكن انظر الفرق.. بين من لو أقسم على الله لأبره، وكيف هو لا يسأل عنه، إن غاب أو حضر، وبين من لا يزن عند الله جناح بعوضة كيف استقباله والحفاوة به..
إنها الدنيا..
واعلم بأن المرء غير مخلد
والناس بعد لغيرهم أخبار
قال عبد الله بن عون: إن من كان قبلنا كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم تجعلون لآخرتكم ما فضل عن دنياكم([3]).
أخي المسلم:أختي الممسلمة
إن عمر الدنيا والله قصير، وأغنى غني فيها فقير، وكأني بك في عرصة الموت، وقد استنشقت ريح الغربة قبل الرحيل، ورأيت أثر اليتم في الولد قبل الفراق، فتيقظ إذن من رقدة الغفلة، وانتبه من السكرة، وأقلع حب الدنيا من قلبك، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة فقيل كلا([4]).
في يوم من أيام الحياة ستدبر الدنيا وتقبل الآخرة.. وما كان بعيدًا أضحى قريبًا.. وما كنت تراه في الذاهبين.. سيراه الأحياء فيك.. موت فجأة.. أو مرض بغتة.. أو أنت على فراشك تحمل إلى قبرك .. إنها عبر ترى ومصارع تترى.. ونحن في غفلتنا نائمون.. وفي غينا تائهون.
تبًا لطالب دنيا لا بقاء لها
كأنما هي في تصريفها حلم
صفاؤها كدر، وسراؤها ضرر
أمانها غرر، أنوارها ظلم
شبابها هرم، راحاتها سقم
لذاتها ندم، وجدانها عدم
لا يستفيق من الأنكاد صاحبها
لو كان يملك ما قد ضمنت إرم
فخل عنها، ولا تركن لزهرتها
فإنها نعم في طيتها نقم
واعمل لدار نعيم لا نفاد لها
ولا يخاف بها موت ولا هرم([5])
قال أبو حازم: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء .. ولم يحزن على بلوى.
وقال علي بن أبي طالب: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلبًا ولا عن النار مهربًا، أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها([6]).
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرًا وكن منها على وجل
والوجل -أخي الكريم- أختي الفاضلة هو الخوف مما ذكره الفضيل بن عياض بقوله: الدخول في الدنيا هين، ولكن الخروج منها شديد([7]).
الخروج أنفاس تتوقف.. ولحظات عصيبة.. تنتزع فيها الروح انتزاعًا.. وحتى إن كان الخروج سهلاً، فإن الجري وراء الدنيا واللهث وراء المادة.. يجلب تشتت الذهن وكثرة الهموم.. واضطراب النفس.
أرى الدنيا لمن هي في يديه
هموما كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصفر
وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه([8])
أخي الكريم: أختي الفاضلة
كن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا، فإن الولد يتبع الأم، والدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها، فكيف تعدو خلفها([9])؟
انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا([10])
قالت امرأة حبيب بن محمد: كان يقول: إن مت اليوم فأرسلي إلى فلان يغسلني، وافعلي كذا واصنعي كذا، فقيل لامرأته: أرأى رؤيا؟ قالت: هذا قوله كل يوم([11]).
أخي..أختي إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم؛ لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله، وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة([12]).
وخطب عمر بن عبد العزيز فقال في خطبته: لكل سفر زاد، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من عذابه، فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلبكم. وتنقادوا لعدوكم، فإن الله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعد إصباحه، ولا يصبح بعد إمسائه، وربما كانت له كامنة بين ذلك خطرات الموت والمنايا، وإنما يطمئن من وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة، فأما من لا يداوي من الدنيا كلما إلا أصابه جارح من ناحية أخرى، فكيف يطمئن؟ أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي، فتخسر صفقتي وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق([13]).
يا لاهيًا بالمنايا قد غره الأمل
وأنت عما قليل سوف ترتحل
تبغي اللحوق بلا زاد تقدمه
إن المخفين لما شمروا وصلوا
لا تركنن إلى الدنيا وزخرفها
فأنت من عاجل الدنيا ستنتقل
أصبحت ترجو غدًا يأتي وبعد غد
ورب ذي أمل قد خانه الأمل
هذا شبابك قد ولت بشاشته
ما بعد شيبك لا لهو ولا جدل
ماذا التعلل بالدنيا وقد نشرت
لأهلها صحة في طيها علل([14])
قال محمد بن أبي عمران: سمعت حاتمًا الأصم وسأله رجل: على ما بنيت أمرك هذا في التوكل على الله؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة، فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله حيث كنت فأنا مستحي منه.
زعم الذين تشرقوا وتغربوا
أن الغريب وإن أعز ذليل
فأجبتهم إن الغريب إذا اتقى
حيث استقل به الركاب جليل([15])
قال عبد الله بن المبارك: يابن آدم.. استعد للآخرة، وأطع الله بقدر حاجتك إليه، وأغضب الله بقدر صبرك على النار.
سبحانك ربنا لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. نعصيك بجهلنا وتعفوا برحمتك.
هذا الفضيل بن عياض يصور حال المؤمن في هذه الدار بقوله: المؤمن في الدنيا مهموم حزين.. همه مرمة جهازه، ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم([16]).
إنما الدنيا فناء
ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت
نسجته العنكبوت([17])
قال وهيب بن الورد: اتق أن تسب إبليس في العلانية وأنت صديقه في السر.
فهذا إبليس، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى أرسو قلاعهم ليصدوا المسلم عن دينه ويزينوا له العثرات... فإنهم يعملون في هذه الدنيا لصده عن الحق وتزيين المعصية.
أخي الفاضل أختي الفاضلة:
الدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة...
سوف ترى إذا انجلى الغبار
أفرس تحتك أم حمار؟
ونحن نسير إلى آجالنا.. تنقص أعمارنا وتدنو نهاياتنا.. نسير: لاهون غافلون، لا نحسب لهذا اليوم حساب.. ولا نتجهز ليوم المعاد.
قال الحسن: تؤمل أن تعمر عمر نوح، وأمر الله يطرق كل ليلة([18]).
يؤمل دنيا لتبقى له
فوافى المنية قبل الأمل
حثيثًا يروي أصول الفسيل
فعاش الفسيل ومات الرجل([19])
قال أبو حازم سلمة بن دينار: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك، فأدنى عيش من الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك([20]).
فوالله رأينا من يملك الدنيا رحل بكفن.. ورأينا من لا يملك من الدنيا شيء رحل بكفن.. تساوى الجميع عند هذه الحفرة -القبر- واختلفوا في داخلها.. فإما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من
حفر النار.
إنما الدنيا إلى الجنة والـنار طـريق
والليالي متجر الإنسان والأيام سوق([21])
عندما سئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن، والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أحببت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أحببت منها تريد به الآخرة فليس منها([22]).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف الدنيا: حلالها حساب، وحرامها النار.
وقيل: أوحي إلى داود عليه السلام: يا داود: إني لأنظر إلى الشيخ في كل يوم صباحًا ومساءً وأقول له: يا عبدي، كبر سنك، ورق جلدك، ودق عظمك، وحان قدومك علي، فاستحي مني فإني استحي منك([23]).
يا بؤس للإنسان في الـ
ـدنيا وإن نال الأمل
يعيش مكتوم العلل
فيها ومكتوم الأجل
بينا يرى في صحة
مغتبطًا قيل اعتلل
وبينما يوجد فيـ
ـها ثاويًا قيل انتقل
فأوفر الحظ لمن
يتبعه حسن العمل([24])
قال الحسن رضي الله عنه: يابن آدم، إنما هي أيام إذا مضى يومك ينقصك.
ولهفنا ولهثنا وراء الدنيا.. نخاف من الفقر ونطمع في جمع الحطام.. كأننا نخلد أو نبقى فيها إلى الأبد.. نخاف الفقر، ولا نخاف الحساب.. نخاف الجوع، ولا نخاف من التقريع والعقاب.
قال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة([25]).
وانظر إلى حال من سلف كما قال عنهم الحسن البصري: والذي نفسي بيده، لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه.
نذم زمانا ما له من جناية
ونشكوه لو يغني عن المرء شكواه
ولا ذنب فيها للزمان وإنما
جنينا فعوقبنا بما جنيناه
هو القدر الجاري على الكره والرضا
فصبر وتسليمًا لما قدر الله([26])
قال الفضيل، يفصل واقع الأيام، ويحكى سيرها: إنما أمس: فعل، واليوم: عمل، وغدًا. أمل([27]).
([1]) الفوائد: 127.
([2]) حلية الأولياء: 7/37.
([3]) صفة الصفوة: 3/101.
([4]) عدة الصابرين: 329.
([5]) مكاشفة القلوب: 329.
([6]) الإحياء: 3/221.
([7]) الإحياء: 3/224.
([8]) الإحياء: 2/344.
([9]) الفوائد: 68.
([10]) شذرات الذهب: 3/388.
([11]) صفة الصفوة: 3/320.
([12]) الفوائد: 152.
([13]) البداية والنهاية: 9/283.
([14]) التبصرة: 1/49.
([15]) شذرات الذهب: 6/349.
([16]) جامع العلوم والحكم: 379.
([17]) الشافعي: 54.
([18]) الزهد: للحسن البصري.
([19]) صفة الصفوة: 4/65.
([20]) صفة الصفوة: 2/158.
([21]) الزهد: للبيهقي 317.
([22]) تزكية النفوس: 128.
([23]) الزهر الفائح: 42.
([24]) تاريخ بغداد: 10/367.
([25]) الإحياء: 4/ 170.
([26]) جنة الرضا: 2/260.
([27]) السير: 8/ 427.
تعليق