«الدنيا ظل زائل» قال الله -جل وعلا- في وصف الدنيا: }إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ{ [غافر: 39] وحذر -سبحانه- من فتنة الأموال والأولاد، فقال -تعالى-: }وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ{ [الأنفال: 28] ونهى جل وعلا عن النظر إلى ما في أيدي الناس }وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ{ [طه: 131].
والآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة، وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا، وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتسم على لسانه نظرته إلى الدنيا بقوله: «مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا: كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه الألباني ولكثرة مشاغل الدنيا وأعمال الحياة. وحث -عليه الصلاة والسلام- على الاستعداد ليوم الرحيل والتزود للدار الآخرة، فقال: «كن في الدنيا: كأنك غريب أو عابر سبيل» رواه البخاري.
ومن رأى تهافت الناس على الدنيا وانكبابهم على جمع حطامها من حلال وحرام، تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله -عز وجل- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» رواه أحمد والبيهقي.
ومن تعلق بالدنيا الزائفة، وجرى في اللهث وراء المادة، فإن ذلك ربما يصرفه عن الطاعة، والعبادة، وعن تأدية الواجبات في وقتها، وعلى أتم وجه وأكمله.
قال صلى الله عليه وسلم «اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بعدًا» رواه الحاكم.
أما جمع الدنيا بحلال وصرفه في حلال فهذه: عبادة، يتقرب بها إلى الله -جل وعلا- أما إذا كانت من حرام، أو وضعت في حرام، فبئست الزاد إلى النار.
قال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل.
والدنيا أخي الكريم: أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله -عز وجل- فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحاج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور يمدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنفه الشره، وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الأخرى، فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته.
ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير، إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي: الوسطى، وهي أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها(1)
قال عون بن عبد الله: الدنيا والآخرة في القلب: ككفتي الميزان، ما ترجح أحدهما تخف الأخرى(2)
وقيل للحسن: يا أبا سعيد: من أشد الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل رزق نعمة؛ فاستعان بها على معصية الله(4)
ولا شك أن من استعان على الدنيا بالطاعة، فإنه في خير عظيم، يتصدق، وينفق، ويساهم في نشر العلم وبناء المساجد. وهذه نعمة من الله له، أن وجهه لاستعمال هذا المال فيما ينفعه في آخرته.
والإنسان: محب للمال، جامع للذهب والفضة، يجري من مولده حتى موته خلف الدرهم والدينار، ولكن ماذا يبلغ.. وإلى أين ينتهي..؟!
والدنيا مقبلة ومدبرة.. فمن غنى إلى فقر، ومن فرح إلى ترح، لا تبقى على حال، ولا تستمر على منوال.. فهذه سنة الله في خلقه.. والناس يجرون خلف سراب.. سنوات معدودة وأيام معلومة.. ثم تنقضي.
قال عمر بن الخطاب: الزهد في الدنيا: راحة القلب والبدن(6)
وقال الحسن: أدركت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم(7)
وجماع ذلك قول الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل(8)
والمؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه فيها على جناح سفر(9)
وهذا هو الفهم الصحيح.. والعلم النافع.. ذكر ذلك يحيى بن معاذ فقال: كيف لا أحب دنيا، قدر لي فيها قوت، أكتسب به حياة، أدرك بها طاعة.. أنال بها الجنة(10)
هذا هو من يغبط في هذه الدنيا، لا أصحاب الدور والقصور.. المفرطون في العبادات، والمضيعون للطاعات.
وقال عبد الله بن عمر: إن الدنيا: جنة الكافر وسجن المؤمن.. وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه، كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه، فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها(12)
أيها الناس! إن سهام الموت صوبت إليكم، فانظروها، وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم، فاحذروها، وفتن الدنيا قد حاطت بكم من كل جانب، فاتقوها، ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال، فإنه إلى زوال، ومقيمة إلى ارتحال، وممتدة إلى تقلص واضمحلال(13)
فمن تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر(15)
وقد لهونا في هذه الدنيا.. وتتابعت ذنوب خلف ذنوب.
أخي أختي ... أين نحن من هؤلاء؟!
عن أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة(16)
عجبت لحالنا.. الدنيا مولية عنا، والآخرة مقبلة علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونعرض عن المقبلة.. كأننا لن نصل إليها.. ولن نحط رحالنا فيها..
وقد قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين، إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة(17)
والناس تتصارع وتتكالب على هذه الدنيا.. يفقد البعض دينه، وينسى الكثير أبناءه.. انتشرت الأحقاد.. وزرعت الضغائن.. وعمت البغضاء.. لنرى كيف نظر الفضيل إلى هذه الدنيا بقوله: لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من أكل الدينا.
أخي أختي :
قال بلال بن سعد ليذكرنا بمآلنا ومصيرنا: يا أهل التقى، إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما تنقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار(20)
ولذلك قال الحسن: إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب(21)
وقال ابن السماك: من جرعته الدنيا حلاوتها لميله إليها، جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها(22)
([1]) مختصر منهاج القاصدين: 211.
([2]) تزكية النفوس: 129.
([3]) بستان العارفين: 17.
([4]) الحسن البصري: 47.
([5]) شذرات الذهب: 20/10.
([6]) تاريخ عمر: 26.
([7]) الزهد لأحمد: 230.
([8]) مدارج السالكين: 2/11.
([9]) جامع العلوم: 3780.
([10]) تزكية النفوس: 128.
([11]) الزهد للبيهقي: 116.
([12]) شرح الصدور: 13.
([13]) العاقبة: 69.
([14]) شذرات الذهب: 6/231.
([15]) صيد الخاطر: 25.
([16]) السير: 5/366.
([17]) جامع العلوم: 379.
([18]) شذرات الذهب: 2/119.
([19]) المنتخب: 401.
([20]) السير: 5/91.
([21]) الزهد، لابن المبارك: 189.
([22]) شذرات الذهب: 1/304.
([23]) وفيات الأعيان: 3/310.
والآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة، وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا، وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتسم على لسانه نظرته إلى الدنيا بقوله: «مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا: كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه الألباني ولكثرة مشاغل الدنيا وأعمال الحياة. وحث -عليه الصلاة والسلام- على الاستعداد ليوم الرحيل والتزود للدار الآخرة، فقال: «كن في الدنيا: كأنك غريب أو عابر سبيل» رواه البخاري.
ومن رأى تهافت الناس على الدنيا وانكبابهم على جمع حطامها من حلال وحرام، تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الله -عز وجل- يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» رواه أحمد والبيهقي.
ومن تعلق بالدنيا الزائفة، وجرى في اللهث وراء المادة، فإن ذلك ربما يصرفه عن الطاعة، والعبادة، وعن تأدية الواجبات في وقتها، وعلى أتم وجه وأكمله.
قال صلى الله عليه وسلم «اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بعدًا» رواه الحاكم.
أما جمع الدنيا بحلال وصرفه في حلال فهذه: عبادة، يتقرب بها إلى الله -جل وعلا- أما إذا كانت من حرام، أو وضعت في حرام، فبئست الزاد إلى النار.
قال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل.
والدنيا أخي الكريم: أعيان موجودة للإنسان، فيها حظ وهي الأرض وما عليها، فإن الأرض مسكن الآدمي، وما عليها ملبس ومطعم ومشرب وكل ذلك علف لراحلة بدنه السائر إلى الله -عز وجل- فإنه لا يبقى إلا بهذه المصالح، كما لا تبقى الناقة في طريق الحاج إلا بما يصلحها، فمن تناول منها ما يصلحه على الوجه المأمور يمدح، ومن أخذ منها فوق الحاجة يكتنفه الشره، وقع في الذم، فإنه ليس للشره في تناول الدنيا وجه، لأنه يخرج عن النفع إلى الأذى، ويشغل عن طلب الأخرى، فيفوت المقصود، ويصير بمثابة من أقبل يعلف الناقة، ويرد لها الماء، ويغير عليها ألوان الثياب، وينسى أن الرفقة قد سارت، فإنه يبقى في البادية فريسة للسباع هو وناقته.
ولا وجه أيضًا للتقصير في تناول الحاجة، لأن الناقة لا تقوى على السير، إلا بتناول ما يصلحها، فالطريق السليم هي: الوسطى، وهي أن يؤخذ من الدنيا قدر ما يحتاج إليه من الزاد للسلوك، وإن كان مشتهى، فإن إعطاء النفس ما تشتهيه عون لها وقضاء لحقها(1)
قال عون بن عبد الله: الدنيا والآخرة في القلب: ككفتي الميزان، ما ترجح أحدهما تخف الأخرى(2)
ومن يحمد الدنيا لعيش يسره
فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
وإن أقبلت كانت كثيرًا همومها(3)
وقيل للحسن: يا أبا سعيد: من أشد الناس صراخًا يوم القيامة؟ فقال: رجل رزق نعمة؛ فاستعان بها على معصية الله(4)
ولا شك أن من استعان على الدنيا بالطاعة، فإنه في خير عظيم، يتصدق، وينفق، ويساهم في نشر العلم وبناء المساجد. وهذه نعمة من الله له، أن وجهه لاستعمال هذا المال فيما ينفعه في آخرته.
والإنسان: محب للمال، جامع للذهب والفضة، يجري من مولده حتى موته خلف الدرهم والدينار، ولكن ماذا يبلغ.. وإلى أين ينتهي..؟!
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها
والنفس واحدة والهم منتشر
فالمرء ما عاش ممدود له أجل
لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
والدنيا مقبلة ومدبرة.. فمن غنى إلى فقر، ومن فرح إلى ترح، لا تبقى على حال، ولا تستمر على منوال.. فهذه سنة الله في خلقه.. والناس يجرون خلف سراب.. سنوات معدودة وأيام معلومة.. ثم تنقضي.
وما هي إلا جيفة مستحيلة
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها(5)
قال عمر بن الخطاب: الزهد في الدنيا: راحة القلب والبدن(6)
وقال الحسن: أدركت أقوامًا لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم(7)
وجماع ذلك قول الإمام أحمد: الزهد في الدنيا: قصر الأمل(8)
والمؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه فيها على جناح سفر(9)
وهذا هو الفهم الصحيح.. والعلم النافع.. ذكر ذلك يحيى بن معاذ فقال: كيف لا أحب دنيا، قدر لي فيها قوت، أكتسب به حياة، أدرك بها طاعة.. أنال بها الجنة(10)
هذا هو من يغبط في هذه الدنيا، لا أصحاب الدور والقصور.. المفرطون في العبادات، والمضيعون للطاعات.
إذا ما كساك الدهر ثوبًا لصحة
ولم تخل من قوت يحل ويعذب
فلا تغبطن المترفين فإنه
على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب(11)
وقال عبد الله بن عمر: إن الدنيا: جنة الكافر وسجن المؤمن.. وإنما مثل المؤمن حين تخرج نفسه، كمثل رجل كان في سجن فأخرج منه، فجعل يتقلب في الأرض ويتفسح فيها(12)
أيها الناس! إن سهام الموت صوبت إليكم، فانظروها، وحبالة الأمل قد نصبت بين أيديكم، فاحذروها، وفتن الدنيا قد حاطت بكم من كل جانب، فاتقوها، ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال، فإنه إلى زوال، ومقيمة إلى ارتحال، وممتدة إلى تقلص واضمحلال(13)
تمر بنا الأيام تترى وإنما
نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى
ولا زائل هذا المشيب المكدر(14)
فمن تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر(15)
وقد لهونا في هذه الدنيا.. وتتابعت ذنوب خلف ذنوب.
أخي أختي ... أين نحن من هؤلاء؟!
عن أنس بن عياض قال: رأيت صفوان بن سليم، ولو قيل له: غدًا القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة(16)
عجبت لحالنا.. الدنيا مولية عنا، والآخرة مقبلة علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونعرض عن المقبلة.. كأننا لن نصل إليها.. ولن نحط رحالنا فيها..
وقد قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين، إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة(17)
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها
ولكن إلى الملك القدير أصير
ومالي شيء غير أني مسلم
بتوحيد ربي مؤمن وخبير(18)
والناس تتصارع وتتكالب على هذه الدنيا.. يفقد البعض دينه، وينسى الكثير أبناءه.. انتشرت الأحقاد.. وزرعت الضغائن.. وعمت البغضاء.. لنرى كيف نظر الفضيل إلى هذه الدنيا بقوله: لا يسلم لك قلبك حتى لا تبالي من أكل الدينا.
أخي أختي :
تبلغ من الدنيا بأيسر زاد
فإنك عنها راحل لمعاد
وغض عن الدنيا وزخرف أهلها
جفونك وأكحلها بطيب سهاد
وجاهد على اللذات نفسك جاهدًا
فإن جهاد النفس خير جهاد
وما هي إلا دار لهو وفتنة
وإن قصارى أهلها لنفاد(19)
قال بلال بن سعد ليذكرنا بمآلنا ومصيرنا: يا أهل التقى، إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما تنقلون من دار إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار(20)
ولذلك قال الحسن: إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب(21)
وقال ابن السماك: من جرعته الدنيا حلاوتها لميله إليها، جرعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها(22)
أيا نفس ويحك جاء المشيب
فماذا التصابي وماذا الغزل
تولى شبابي كأن لم يكن
وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة
وخطب المنون بها قد نزل(23)
([1]) مختصر منهاج القاصدين: 211.
([2]) تزكية النفوس: 129.
([3]) بستان العارفين: 17.
([4]) الحسن البصري: 47.
([5]) شذرات الذهب: 20/10.
([6]) تاريخ عمر: 26.
([7]) الزهد لأحمد: 230.
([8]) مدارج السالكين: 2/11.
([9]) جامع العلوم: 3780.
([10]) تزكية النفوس: 128.
([11]) الزهد للبيهقي: 116.
([12]) شرح الصدور: 13.
([13]) العاقبة: 69.
([14]) شذرات الذهب: 6/231.
([15]) صيد الخاطر: 25.
([16]) السير: 5/366.
([17]) جامع العلوم: 379.
([18]) شذرات الذهب: 2/119.
([19]) المنتخب: 401.
([20]) السير: 5/91.
([21]) الزهد، لابن المبارك: 189.
([22]) شذرات الذهب: 1/304.
([23]) وفيات الأعيان: 3/310.
تعليق