عن علمه ماذا عمل به ؟!
اعلم يقينا أنك ستسأل عن كل كلمة استمعت إليها فى خطبة جمعة ، أو محاضرة أو قرأتها فى كتاب ، ستسأل عن علمك الذى تعلمت ، ماذا عملت به ؟؟ تُرى منذ متى ونحن نسمع عن اللـه ؟! تُرى منذ متى ونحن نسمع عن رسول اللـه ؟! ومع ذلك سترى البون شاسعاً بين القول والعمل ، سترى فجوة خطيرة بين القول ، والعمل ، وهذه الفجوة سبب من أسباب النفاق ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2،3 ] .
وقال جل وعلا : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 44 ] .
أسأل اللـه أن يرزقنا الصدق ، والإخلاص فى القول ، والعمل .
أيها الأخوة الكرام: العلم أغلى ما يطلب فى هذه الحياة بلا شك ، ولا نزاع فلا سبيل إلى معرفة اللـه ، ولا سبيل إلى الوصول إلى رضوان اللـه فى الدنيا والآخرة إلا بالعلم الشرعى ، العلم يبذل له المال ، العلم يبذل له العمر ، العلم يبذل له الوقت كله ، فإن أغلى ما يضحى له هو العلم ، ولم يأمر اللـه نبيه بطلب الزيادة من شئ إلا من العلم ، كما قال تعالى آمراً نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114] .
ثم قال { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ]
ثم قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [ المجادلة : 11 ] .
ثم قال سبحانه: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] .
وفى الصحيحين من حديث عبد اللـه بن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ((إن اللـه لا يقبض العلم انتزاعاً– قال ابن حجر فى الفتح : أى محواً من الصدور- ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً– وفى لفظ رؤساء جهالا - فسئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلُّوا وأَضَلُّوا))([1]) .
وفى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ((من يرد اللـه به خيراً يفقه فى الدين))([2]).
وفى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعلى : ((لأن يهدى اللـه بك رجلاً واحداً خيرُُ لك من حمر النعم)) ([3]) .
وفى الحديث الذى رواه أبو داود والترمزى وابن ماجه وغيرهم وحسنه شيخنا الألبانى بشواهده من حديث أبى الدرداء رضى اللـه عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل اللـه له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ، وإن العالم ليستغفر له كل من فى السموات والأرض حتى الحيتان فى الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً أو درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) ([4]) .
من أتاه اللـه العلم أتاه الحظ الوافر ، وأتاه الخير كله ، فإن اللـه يعطى الدنيا من يحب ، ومن لم يحب ، ولكن اللـه لا يعطى الدين إلا لمن يحب ، ومن يرد اللـه به خيراً يفقه فى الدين ، قال صلى الله عليه وسلم كما فى صحيح مسلم وغيره : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) ([5]) .
هذا العلم إن لم يحرك قلبك وجوارحك للعمل ، ولخشية اللـه وتقواه فلا خير فيه ، ولا بركة له .
ما ثمرة العلم إن لم يورثك العمل ؟! ما ثمرة العلم إن لم يقر بنا من اللـه سبحانه وتعالى ؟!
ما ثمرة هذه المحاضرات والخطب والكلمات التى تخلع القلوب إن لم تعبد القلوب لرب الأرض والسموات ؟!
إن لم يورثنا هذا العلم خشية اللـه .. إذا لم يورثنا هذا العلم تقوى القلوب .
إن لم يورثنا هذا العلم حُب السنة وبُغض البدعة فما ثمرة هذا العلم ؟!
يقول الإمام الشاطبى فى كتابه القيم الموافقات :
" إن كل علم لا يفيد عملا ليس فى الشرع ما يدل على استحسانه "
قال تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [ البقرة : 44 ] .
وفى الصحيحين من حديث اسامة بن زيد ان النبى صلى الله عليه وسلم قال : ((يؤتى بالرجل فيلقى فى النار فتندلق أقتاب بطنه ( أى أمعاءه ) ، فيدور بها كما يدور الحمار فى الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول : بلى كنت أمر بالمعروف
ولا أتيه وأنهى عن المنكر وأتيه)) ([6]) .
لذا كان الحبيب المصطقى صلى الله عليه وسلم يستعيذ من علم لا ينفع كما فى صحيح مسلم وسنن الترمذى من حديث زيد بن الأرقم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول فى دعاءه ((... اللـهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها)) ([7]) .
وقال أبو الدرداء رضى اللـه عنه : " إننى أخاف أن يقال لى يوم القيامة أعلمت أم جهلت ؟ فأقول : علمت فلا تبقى أية آمرة أو زاجرة إلا جاءتنى تسألنى فريضتها فتقول الآمرة : هل أتمرت ؟ وتقول الزاجرة : هل ازدجرت ؟ "
ليس العلم بكثرة الرواية ، ولكن العلم الحقيقى هو الذى يورثك خشية اللـه هو الذى يورثك العمل .
وكان على بن أبى طالب يقول : " يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ، ووافق علمه عمله ، وسيأتى أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف علمهم عملهم ، وتخالف سريرتهم علانيتهم يقعدون جلفاء يباهى بعضهم بعضاً ، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه ، وجلس إلى غيره ، أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى اللـه عز وجل ".
إن اللـه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً ، لذا قال مالك بن دينار : " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا " ، اللـهم ارزقنا الصدق والإخلاص فى القول والعلم ، وقال ابن السماك :
كم من مُذَكِّر لله وهو ناس لله !!
وكم من مُخَوِّف من اللـه وهو جرئ على اللـه !!
وكم من مُقَرِّب إلى اللـه وهو بعيد عن اللـه !!
وكم من تالى لكتاب اللـه وهو منسلخ عن آيات اللـه !!
فأنت ترى كماً هائلاً من المحاضرات ، والدروس ، وترى كما هائلا من المراجع ، والمجلدات ، والكتب ، ومع ذلك ترى بونا شاسعا وفرقا كبيرا بين هذا المنهج النظرى وبين هذا الواقع العملى .
إن هذه الفجوة تبذز بذور النفاق فى القلوب كما قال علام الغيوب : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2،3 ] .
لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمله ماذا عمل به ؟!
([1]) رواه البخارى (1/174) ، فى العلم ، باب كيف يقبض العلم ، ومسلم رقم (2673) ، فى العلم ، باب رفع العلم وقبضه ، والترمذى رقم (2654) ، فى العلم ، باب ما جاء فى ذهاب العلم .
([2]) رواه البخارى رقم (3116) ، الجهاد ، باب قول الله تعالى { فإن لله خمسه وللرسول} ، ومسلم رقم (1027) ، فى الإمارة ، باب فضل الرمى .
([3]) رواه البخارى رقم (3701) فى فضائل أصحاب النبى r ، باب مناقب على بن أبى طالب رضى الله عنه ، ومسلم رقم (2406) فى فضائل الصحابة ، باب من فضائل على ابن أبى طالب .
([4]) رواه أبو داود رقم (3641،3642) ، فى العلم ، باب الحث على طلب العلم ، والترمذى رقم (2683،2684) ، فى العلم ، باب ما جاء فى فضل الفقه على العبادة ، وهو فى صحيح الجامع حديث رقم (6297) .
([5]) رواه مسلم رقم (1631) ، فى الوصية فى باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، وأبو داود رقم (2880) ، فى الوصايا ، باب ما جاء فى الصدقة عن الميت ، والترمذى رقم (1376) فى الأحكام ، باب فى الوقف ، والنسائى (6/251) ، فى الوصايا ، باب فضل الصدقة عن الميت .
([6]) رواه البخارى (6/238) ، فى بدء الخلق ، باب صفة النار ، ومسلم رقم (2989) ، فى الزهد ، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله .
([7]) رواه مسلم رقم (2722) ، فى الذكر والدعاء ، باب التعوذ من شر ما عمل ، ورواه الترمذى رقم (3478) ، فى الدعوات ، باب رقم (69) ، والنسائى (8/255) ، فى الإستعاذة ، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع .
تعليق