عبودية شهر رمضان الزمان والمكان والحال
خلق الله تعالى الإنسان في هذه الحياة لغاية عظمى، تمثلت في أمرين:-
1 - عمارة الكون ، قال تعالى ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال إني أعلم مالا تعلمون )
فتبين من هذا أن الله خلق الإنسان لا ليفسد ولا يسفك الدماء، ومعنى هذا أنه ليصلح ، ويقيم الحياة .
2 - والثانية عبوديته لله سبحانه ، قال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) وهيأ سبحانه الوسائل الكبرى ليتبصر الإنسان بهذه العبودية فأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليدلوا الخلق على هذه العبودية ، وأنزل معهم الكتب ، قال سبحانه ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال سبحانه ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم ) .
وهذه الغاية: يترتب عليها سعادة الإنسان وشقاوته في الدنيا والآخرة .
ومن الواجب على هذا الإنسان أن يعي مقتضيات العبودية ليقوم بها.
وهي – أي العبودية لله – ميدان للتنافس العظيم للوصول إليها بأقرب الطرق وأيسرها.
ومن الخير العظيم إدراك هذه الطرق، ومعرفتها وكيفية التعامل معها .
وأضرب لذلك مثالاً أحسب أنها من أهم ما يجب إدراكه لنحقق العبودية لله سبحانه في أقصر طرقها ، وأفضل مكاسبها . وهو مايلي:
تتجلى العبودية لله سبحانه في جميع الأحوال ، والأمكنة ، والأزمان ، فقد فضل الله سبحانه بعض الأمكنة على بعض ، وبعض الأزمنة على بعض ، وبعض الأحوال على بعض .
فمن الأمكنة تفضيل المسجد الحرام على غيره من المساجد ، وتفضيل المساجد على غيرها من الأمكنة ، وحرّم الصلاة في بعض الأمكنة كالمزابل والحمامات ومعاطن الإبل والمقابر .....وهكذا
فإدراك هذا التفضيل يقود المسلم إلى أن يقوم بالعبودية لله سبحانه فيما يتوافق مع هذه الأمكنة ، ويعظم الأجر ويزداد ، فإذا وفق لزيارة المسجد الحرام أكثر من الصلاة فيه لأن الصلاة فيه تزيد عن غيره بمائة ألف صلاة ، كما يكثر من الطواف متى ما تيسر له ذلك لأن الطواف لا يشرع في غيره .. ومن التأخر عن الفضائل ألا يستثمر هذه الأمكنة بتلك العبودية .
ومثله الأزمان فعلى مستوى اليوم ، فآخر الليل ومابين الأذان والإقامة ، وعلى مستوى الأسبوع يوم الجمعة ، وعلى مستوى السنة شهر رمضان المبارك ، وعشر ذي الحجة ، وغيرها ، ولكل زمن ووقت عبوديته التي تفضل عن غيرها فآخر الليل يستحب فيه الصلاة والدعاء وفي السحر : الاستغفار ، ومابين الأذان والإقامة الصلاة والدعاء ، وفي شهر رمضان مختلف العبادات كقراءة القرآن الكريم والذكر والدعاء ويزيد عن غيره بصلاة التراويح ، وتفطير الصائمين وبذل الجود ... وعشر ذي الحجة بمختلف الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث المعروف المشهور .
ومن الخير العظيم: أن يدرك المسلم عظم هذه الأزمنة فيعبد الله تعالى بما تقتضيه هذه الأزمنة.
أما عبودية الأحوال فلا تنحصر وتحتاج إلى فقه دقيق، وإدراك حصيف ، ومن ذلك :-
·حال القوة وحال الضعف .
·حال الصحة وحال المرض .
·حال الشباب وحال المشيب .
·حال وجود الأبوين وحال فقدهما .
·حال الغنى وحال الفقر .
·حال قدرته على الأعمال، وعدم قدرته .
·حال سماع كلمته وعدم ذلك .
·حال تعلمه وعدم تعلمه .
·حال وجود زوجة وأبناء وبنات أو عدم ذلك .
·حال إقباله على الطاعة وعدم إقباله وفتوره .
·حال إتقانه لبعض المهارات دون بعض .
·حال نوعية عمله ووظيفته .
·حال شغله، وفراغه .
·حال وجوده مع آخرين وحال كونه منفرداً .
·حال سفره وحال إقامته .
وهكذا فكل حال من هذه الأحوال له عبودية خاصة تعظم فيه دون غيره، ويصعب التفصيل لكل حال في هذه الكلمات، ولكن أذكر مثالاً على تلك الأحوال:-
ففي حال وجود الأبوين على قيد الحياة ، من الخير العظيم للمسلم أن يشتغل ببرهما بما يوافق حالهما ، في القول ، والفعل ، والمال ، قبل أن يغادرا هذه الحياة فيندم على أنه لم يقم بما يجب تجاههما من البر ، وفي هذه الحال تفضل هذه العبادة على غيرها .. فليتأمل .
ومثال آخر : حال السفر يختلف عن الإقامة فيعبد الله سبحانه بما لاستطيع في غيره مثل : التفكر في مخلوقات الله سبحانه ، والذكر ، والتأمل في حاله ، ومحاسبة نفسه ، والتفرغ للأهل بما لايستطيعه حال الإقامة وإفادتهم ، وزيارة بعض الأماكن المناسبة ، وألا يكون حال سفره وإقامته سواء ، وأن يدربهم على مقتضيات السفر ، ويريحهم من ( روتين ) الإقامة ، وهكذا ..
أحسب أن إدراك هذه العبودية بأماكنها وأزمانها، وأحوالها، يورث أمور هامة منها:-
1- استمرار حسنات العبد في جميع أحواله .
2- كثرة الحسنات وزيادتها .
3- الدخول في المنافسة العظمى في الصالحات .
4- عدم دخول الشيطان عليه ليبعده عن مواطن الفضل .
5- المشاركة في كثير من العبادات التي قد لا تتيسر له إلا في هذه الأحوال والحالات .
6- اكتشاف الإنسان لقدراته ومواهبه، فيبدع في مجال يظن نفسه غير قادر عليه .
ونحن في إقبال شهر رمضان أحسب أنه يجتمع فيه فضائل ( الأمكنة، والأزمنة، والأحوال ) وفي نظرة تأمليه يدرك الموفق ذلك.
فلا خلاف أن شهر رمضان أفضل الأزمنة على الإطلاق وبناءً على هذا يعمل الموفق برنامجه وفق هذه الأفضلية ، ويؤسس عمله وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه : صلاة التراويح ، وقراءة القرآن الكريم ، وتفطير الصائمين ، والدعاء عند الفطر والسحر ، والقيام على المساكين والفقراء والمحتاجين ، وغير ذلك ؟
أما أفضلية الحال، فحال الصوم يختلف عن حال غيره، فتأمل – أيها الموفق – ما حال الصائم..؟ الذي أجره لا يعد بعد ولا يحسب بحساب فكيف إذا أضاف لذلك أنواعاً من العبادات.
أما أفضلية الأمكنة : فكم يقضي الصائم في مسجده وأمكنة عباداته ، وفي حال دعائه وذكره وقراءته ، وإذا أضيف إلى ذلك وجوده ولو شيئاً من الوقت في المسجد الحرام ، أو المسجد النبوي ، فكان ذلك خيراً لا يتصوره الإنسان في مخيلته ، ولا في حساباته ، ولا يعلم عظم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى .
إن من المهم والمسلم يستقبل هذا الشهر المبارك :-
·إدراك العبودية ألحقه لله سبحانه وتعالى .
·استشعاره للمنافسة العظيمة التي يجب أن يشارك فيها، ومن أعظم ميادينها عبودية الزمان والمكان والحال .
·إدراكه عظم الزمان والحال .
·بناء برنامجه اليومي والأسبوعي والشهري لتشمل منظومة العمل ما يتوافق مع مكانة الزمان والمكان والحال .
·الاستعداد النفسي لهذه الأعمال الجليلة .
·إعادة صياغة أهدافه في هذه الحياة التي من أعظم وسائل الوصول إلى تحقيقها شهر رمضان المبارك.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، والله من وراء القصد ،،،...
تعليق