إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تهاني المقبولين وتعازي المحرومين بعد انقضاء شهر رمضان الكريم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تهاني المقبولين وتعازي المحرومين بعد انقضاء شهر رمضان الكريم





    تهاني المقبولين وتعازي المحرومين بعد انقضاء شهر رمضان الكريم

    المصدر شبكة الالوكة
    إهـداء
    تهانينا لمن ملأ اللهُ قلوبهم بالتَّقوى المُعينة لهم على القيام بما أمَر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة على شَرْعه المطهَّر.

    تهانينا لمن ملأ الله قلوبهم يقينًا بالجنَّة؛ يقينًا ينشطهم على الطاعة والعبادة، ويقينًا بالنار؛ يقينًا يُبعدهم عن المعصية والرَّذيلة.

    تهانينا لمن أذاقهم الله حلاوةَ الإيمان، ولذَّة المناجاة، والأنس بذِكْره الكريم.

    تهانٍ لا تدفعهم إلى العُجْب، بل للثَّبات على الطريق.

    تعازينا لمن حُرِموا من كلِّ هذا، ولم يزالوا عن الطاعة مخذولين، وبالخطيئة مُتلطِّخين، وعن الله مقطوعين، ومن لذَّة الأنس به مَحرومين.

    تعازٍ لا تحملهم على اليأس، ولا تدعوهم للقُنُوط، بل تشعرهم بعظيم خسارتهم، وتشحذ هممهم لتعويضها، ومُلازمة قرع الباب، والانقطاع على عتبته، حتى ينفتح برحمة الله.

    والله وحده نسألُ أن يجبرَ كسرنا، ويغفرَ خطايانا، وأن يجعلَنا من المقبولين.

    مَن هم المقبولون؟
    المقبولون ليسوا هم أصحابَ أكثر عددٍ من ركعات القيام، ولا أصحاب أكثر عدد من السَّاعات في الصَّلوات، والتلاوات، ولا أصحاب أكثر عددٍ من الختمات.

    إنَّما المقبولون هم الذين استطاعوا التخلُّص من الأداء الآليِّ لهذه العبادات؟ واستطاعوا استصحابَ قلوبهم في أثناء أدائها.

    إنَّما المقبولون هم الذين زوَّدَهم ربُّهم عزَّ وجلَّ من هذه الصلوات، والزكوات، والتِّلاوات بالتقوى المُعِينة لهم على اجتناب ما نَهاهم عزَّ وجلَّ عنه، بل عن مجرَّد الهمِّ بذلك.

    والمُعِينة لهم على العَمَل بكلِّ ما أمر الله عزَّ وجلَّ به.

    وبصورةٍ مختصرة: استطاعوا أن يُحصِّلوا التقوى التي تُعينهم على الاستقامة على شرع الله - عزَّ وجلَّ.

    واللهَ عزَّ وجلَّ نسأل أن نكونَ منهم؛ آمين يا أرحم الراحمين.

    الحمد لله غافر الذَّنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذي الرحمة الواسعة، والعذاب الأليم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على أعبد الخلق للحق، وأتقاهم له، إمام المتبتِّلين، وسيد الشاكرين صلَّى الله عليه وسلَّم.

    مقـدمة
    أحبَّتي في الله!
    رمضان سوق قام ثم انفضَّ، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.

    وإن شئتم فقولوا:
    رمضان مرحلةٌ دراسيةٌ، هلَّتْ ثم انقضت، نجح فيها من نجح، ورسب فيها مَن رسب.

    وبعد انقضاء هذا المتجر الربَّاني، وقفة مع النفس نتذاكر فيها قول نبينا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ورَغِم أنف رجلٍ دخل عليه رمضان، فانسلخَ قبل أن يغفر له))؛ (م).

    وقفة مع النفس نتذاكر فيها قولَ الصحابيَّين الجليلين؛ علي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما حيثُ كانا يخرجان أوَّل أيام عيد الفطر، فيقول كلٌّ منهما: يا ليت شعري: مَن هذا المقبول؟! فنُهنيه، ومَن هذا المحروم؟! فنعزِّيه!

    علامات القبول والحرمان
    مَن هم المقبولون الفائزون الرَّابحون؟!
    المقبولون الفائزون الرابحون ليسوا هم أصحابَ أكثر عدد من الرَّكعات في القيام.
    المقبولون الفائزون الرابحون ليسوا هم أصحاب أكثر عدد من الساعات في الصلوات، والتلاوات.
    المقبولون الفائزون الرابحون ليسوا هم أصحابَ أكثر عدد من الختمات.

    إنما الفائزون حقًّا، والناجحون صدقًا، هم الذين وفَّقهم ربُّهم عزَّ وجلَّ فاستطاعوا أن يتزوَّدوا من هذه الصلوات، والزكوات، والتلاوات، بالتَّقوى التي تعينهم على اجتناب ما نهاهم ربُّهم عزَّ وجلَّ عنه، بل عن مجرد الهمِّ بذلك.

    إنما الفائزون حقًّا، والناجحون صدقًا هم الذين وفَّقهم ربهم عزَّ وجلَّ فتزوَّدوا من هذه الصلوات والزكوات والتلاوات بالتقوى التي تعينهم على العمل بكلِّ ما أمر الله عزَّ وجلَّ به، فخرجوا من هذا الشهر الفضيل وقد أصبحوا بفضل ربِّهم جلَّ وعلا قادرين على اجتناب ما لم يكونوا قادرين على اجتنابه قبل رمضان، خرجوا من هذا الشهر الفضيل وقد أصبحوا قادرين - بفضل ربِّهم جلَّ وعلا على القيام بما لم يكونوا قادرين على القيام به قبل هذا الشهر الفضيل، وبصورةٍ مختصرة استطاعوا أن يحصِّلوا التقوى التي تعينهم على الاستقامة على شرع الله - عزَّ وجلَّ.

    خرَجوا من هذا الشهر الفضيل وقد ملأ الله عزَّ وجلَّ قلوبَهم يقينًا بالجنة والثواب، يقينًا ينشِّط نفوسهم للقيام بشتَّى الطاعات والقُربات.

    خرجوا من هذا الشهر الفضيل وقد ملأ الله عزَّ وجلَّ قلوبهم يقينًا بالنار والعقاب، يقينًا ينسف من قلوبهم مجرد الهمِّ بالمكروهات والشبهات، بَلْه التفكير في المعاصي والمنكرات.
    هؤلاء هم الفائزون حقًّا بهذا الشهر الفضيل، وهؤلاء هم الناجحون فيه صدقًا.
    مِن أيِّ الفريقين نحن؟!

    فيا ليت شعري:
    أمِن الرابحين نحن؟ أم من الخاسرين؟!
    أمِن الناجحين نحن؟ أم من الرَّاسبين؟!
    أمِن المقبولين الذي يستحقُّون التهنئة؟ أم من المحرومين الذين يستحقون التعزية؟!
    أمن الفائزين بمغفرة الغفور - جلَّ وعلا؟! أم من الرَّاغِمة أنوفُهم، الذين خرجوا منه بغير أن يُغفر لهم؟! عياذًا بالله عزَّ وجلَّ من الخزي، والخِذْلان، والحرمان من نور الإيمان.

    وقفة مع النفس لا بدَّ منها بعد هذا الموسم، أو بعد هذه المرحلة الدراسيَّة؛ لنعلم مَن هم الرابحون، والناجحون فنهنِّيهم؛ ومن هم الخاسرون والراسبون فنعزِّيهم؟! وقبل هذا وذاك لنرى أنفسنا من أيِّ الفريقين نحن؟! وإلى أيِّهما ننتمي؟!

    أصناف الناس بعد الموسم الماضي
    أيُّها الأحبَّة! في نفس هذا اليوم من العام الماضي، ودَعْنا موسمًا ذاهبًا من مواسم الغفران، وقد خرج منه الناس خمسة أصناف:
    الصنف الأول (الأبعدون):
    وهم السَّواد الأعظم، وهم الذين لا يعلمون أيَّ شيء عن ثمرة الصِّيام والقيام، ولا يعلمون الوظيفة التي تهيِّئهم للعمل بها هذه المدرسةُ الرمضانية الربَّانية، هؤلاء الذين لا يتجسَّد احتفالهم بهذا الشهر الفضيل إلا عن طريق مُضاعفة كميات اللُّحوم، والحلوى، والمكسرات، و(الياميش)، وإطالة ساعات العصيان بالمكث أمام المسلسلات، والفوازير، والمسرحيات، والأفلام التي اعتادوا أن ينسبوها لرمضان، وقد علم الله أنَّه منها بريء!

    تلك التي يتدنَّسون أمامها برؤية الفسق والفجور، والخلاعة، والزِّنا، والعهر عياذًا بالله من الخزي، والخِذْلان، والحرمان من نور الإيمان.

    كذلك مِنْ هؤلاء مَنْ يعتبرون هذا الشهر الفضيل موعدًا لبدء دورات رمضانيَّة لمختلِف الألعاب؛ تلك التي تجري على نظام الميسر الذي طهَّرنا الله منه بالإسلام، تلك التي يُستهان فيها بالسِّباب، والشتائم بالألفاظ النابية، بل وربما بسبِّ دين رب العالمين، عياذًا بالله من الكفر بعد الإيمان.

    وهناك شريحة من هذه الفئة من المخلوقات لا تتورَّع عن ارتكاب أيِّ جريمة أو فاحشة في رمضان؛ إذْ لا يمثِّل عندهم أيَّ قدسية تُذْكَر، فهو بالنسبة لهم كغيره من الشهور، وربما لم يَركعوا فيه لله ركعة؛ أو اقتَصروا على الصلاة في أول يومٍ من أيامه، أو في نصفه الأول، فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.

    بينما هناك شريحة أخرى من هذه الفئة من المخلوقات قد تؤجِّل عمل بعض الفواحش والمنكرات كالزِّنا، وشرب الخمر إلى ما بعد رمضان، وما من ريب أنَّ هذا الصنف من الخلق - بشتَّى شرائحه - هم أخسر الخاسرين خسارة، وأرسب الراسبين رسوبًا، وهم في الخبث شرٌّ مِن بعض - عياذًا بالله - وهؤلاء لا يكون رمضانُ إلاَّ حجة عليهم، وهؤلاء مِن أوَّل من يندرجون تحت قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ورغم أنفُ رجل دخل عليه رمضان، فانسلخ قبل أن يُغفر له))؛ (م).
    ولهؤلاء نقول لهم مُعزِّين: أعظم الله أجرَكم في رمضان الغفران!

    الصنف الثاني (الأخسرون):
    وهم الذين وإن كانوا يُخالطون القسم الأول في بعض المنكرات - كمشاهدة المسلسلات، والإسراف المنكر في الطَّعام، والشراب، والألعاب - إلا أنَّهم مع ذلك لا يفتقرون إلى بعض المظاهر الدينيَّة التي يحتفلون من خلالها برمضان؛ فبعضهم يواظب على الصلاة في رمضان، ينقرها وحده بالمنـزل نقر الدِّيَكة، أو يؤخِّرها عن وقتها كفعل المنافقين، أو يصلِّيها في أسرع المساجد؛ ليخرج أول خارج مغتبطًا سعيدًا بسرعة انقضاء الصلاة، وبعضهم يواظب على الصلاة بعد العشاء لمدَّة نصف ساعة تقريبًا، ويسمِّيها صلاة التراويح - زعم - ومن هذا الصِّنف تلك المرأة التي تخفِّف من تبَرُّجها وفسقها في هذا الشهر، فتمتنع عن وضع المساحيق وطلاء الأظافر، والعطور المدمِّرة المصيبة بالغثيان لمن يشمُّها، وتضع خرقة على رأسها تستر بعض شعرها، وتطيل ثوبها لتغطِّي قدرًا من لحمها العاري! ثم لا يلبثون عقب رمضان أن يهجروا كلَّ هذه الصور والمظاهر من تخفيف المعاصي، مع تركٍ كاملٍ للصلاة، وذلك مع أول أيام عيد الفطر المبارك، وكأن شيئًا لم يكن! فلا حول ولا قوة إلا بالله.

    وهؤلاء الخلق لا يفترقون كثيرًا عن القسم الأول من الناس، ونقول لهم كذلك حديث نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يغفر له))؛ (م).
    نقول لهم معزين: أعظم الله أجركم في رمضان الغفران!

    الصنف الثالث (المغبونون):
    وهو يختلف عن الصنفين الأولين اللَّذَين لم يكونا يَعْلمان شيئًا عن وظيفة رمضان، وثمرة الصِّيام، والقيام، فهو قسم قد هداه الله عزَّ وجلَّ وتاب عليه من الكبائر، والإصرار على الصغائر.

    فهو يعلم أنَّ رمضان هو المنحة الربَّانية التي اقتضَتْها رحمته الإلهية لِخَلقه؛ حيث يستعينون بثمرة هذا الشهر الفضيل - وهي التَّقوى - على القيام بشريعة الله عزَّ وجلَّ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

    فهو يعلم أنَّ الاحتفال بهذا الشهر لا يكون إلاَّ عن طريق القيام والسَّهر على الصلاة، والتِّلاوة، والذِّكر، والتبتُّل، والدعاء، والبكاء من خشية الله عزَّ وجلَّ والاعتكاف في المساجد، والانقطاع عن أمور الدنيا الفانية الزائلة، والصيام بمعناه الحقيقي الذي تتحقَّق معه تزكية النفس ومضاعفة الصدقات للفقراء والمساكين، والأرامل، والأيتام سرًّا وعلانية.

    وهو مع هذه المعرفة النظريَّة لوظائف رمضان الربانيَّة، إلا أنه من الناحية التطبيقيَّة لم يستطع القيام بما يعلمه من العلم.

    وذلك إيثارًا فيه لِحَظِّه من الدنيا على حظِّه من الله عزَّ وجلَّ فهو ممن يندرجون تحت قوله تعالى: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16 - 17]، ومندرجًا تحت قوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20 - 21]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 27]، فتراه غارقًا في أشغاله وكسبه، منهمكًا في ذلك، منشغلاً بالدُّنيا عن أعمال الآخرة، فيأتي أول يوم من رمضان، ثم لا يلبث أن ينصرم كسائر أيامِ غير رمضان، فيسلِّي نفسه قائلاً: غدًا سأنصَلِح، غدًا سأتوب، غدًا سأتلو وِرْدَ اليومين من القرآن، ثم يأتي الغدُ ويصير حاضرًا مشهودًا، فإذا هو لا يعمل فيه إلاَّ كما عمل بالأمس، ثم يذهب الغدُ ويصير أمسًا غابرًا، وإذا هو ينضمُّ إلى قائمة أيام الغفلة والتقصير والعصيان، ولكنها الأمانِيُّ - قاتلها الله - فيمنِّي نفسه ثانيةً: غدًا سأنصلح، غدًا سأتوب، غدًا سأُضاعف العبادة أضعافًا مضاعفة، ثم يأتي الغدُ ليصير حاضرًا مشهودًا، ولتتكرَّر فيه خطيئة الغفلة والتقصير، والانشغال بالفانية الزَّائلة عن الباقية الخالدة، ثم سرعان ما يصير أمسًا ماضيًا لا يعود بعدها إلينا إلى يوم القيامة، وليطول بذلك ماضي الغفلة، والتقصير والإساءة، وليطول معه انتظار ذلك الغدِ البعيد الذي نُمَنِّي أنفسنا فيه بالتوبة، والصلاح والهداية، والعبادة.

    وهكذا ينسلخ رمضانُ بأيامه ولياليه، بغير أن يأتي ذلك الغدُ البعيد، تمامًا كما ينسلخ عمر الإنسان بأيامه ولياليه في الغفلة والإساءة، والتقصير والحرمان، حتَّى تأتي هذه اللحظة المحتومة، وهي أخطر لحظة في حياة الإنسان، تلك التي ينتقل فيها من حياة العمل إلى حياة الجزاء، فإذا به يندم على عمرٍ ضائعٍ في الشهوات، والغفلات، والحظوظ الفانيات، والأعراض الزائلات، ويتمنَّى أنْ لو أخَّره ربُّه عامًا واحدًا؛ فيتفرَّغ فيه للطاعة، وينقطع فيه للعبادة؛ عساه أن يعوِّض سنين الغفلة، والتقصير، والحرمان!

    ولكن هيهات هيهات، فنَت السنون فلا سنَة، فيتمنى ولو أمهله ربُّه شهرًا، فلا يكون، فأسبوعًا، فلا يكون، فيومًا، فلا يكون، فساعةً، فلا يكون، فلحظةً، فلا يكون، فنَت اللحظات فلا لحظة، وصدق الله عزَّ وجلَّ إذْ يقول: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]، وصدَق الله إذْ يقول مُصَوِّرًا هذا الموقف الهزلي الذي يؤدِّيه كلُّ الخلق، إلاَّ ذوي البصيرة منهم؛ إذْ يقول: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].

    هذه الأمنية الخَرْقاء، وهذا الطَّلب الأبله، وهو التأخير عن الموت حتى ننشغل بالطاعة، ليس لهما عند الله عزَّ وجلَّ أيُّ قَدْر، ولا أدنى قيمة؛ إذْ أمهلَنا ربُّنا أيامًا بعد أيام، وشهورًا بعد شهور، وسنين بعد سنين، ومواسم بعد مواسم، ونحن لم نـزَل مُصرِّين على أن نرفس هذه المنح الربانيَّة، مُعْرِضين عن التعرُّض لهذه العطايا الإلهية؛ انشغالاً منا بالدنيا، وإيثارًا منا لحظوظنا الفانية الزائلة عن حظِّنا من الله، والاستعداد للباقية الخالدة.

    وهَبْ أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أجاب هذه الأمنية الساذجة؟ هل ترانا يمكن أن نغتنم هذا الوقت المعدود في طاعة الله - عزَّ وجلَّ؟! كلاَّ، وألف كلا وكلا، إنَّما الأمر كما قال ربُّنا جلَّ وعلا: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الأنعام: 28].

    لقد حكَم الله عزَّ وجلَّ على هؤلاء الرَّاغبين في العودة إلى الدُّنيا أنَّهم لن يكونوا إنْ رجعوا - وما هم براجعين - أحسنَ منهم أوَّل مرة، وهذه الفئة وإن كانت من الناحية النظريَّة تعرف معنى رمضان، إلاَّ إنهم لم يستطيعوا أن يَعملوا بما علموا من الناحية التطبيقيَّة؛ انشغالاً منهم بالفانية عن الباقية، وإيثارًا منهم للحظوظ الفانيات عن الصالحات الباقيات.

    وهذه الفئة - التي جَعلت تُمَنِّي نفسها بالصلاح، واغتنام رمضان في العام الماضي حتَّى خرجت منه صِفْرَ اليدين، محرومة من الخير - انقسمت في رمضان هذا العام إلى قسمين:

    أولاً: قسم لم يزَل صريعَ الأماني الكاذبة، وأسير الأوهام الباطلة، ولم يزل غَدُه المأمول بعيدَ المنال، ولم يزل في مطاردته لهذا الغد السَّرابي، كمطاردته للظلِّ الذي لا يمكن إدراكه أبدًا، فخرج في هذا الشهر محرومًا خاسرًا كسابقِه، ولِيَنضمَّ بذلك إلى سنين العمر الطويلة؛ سنين الغفلة، والعصيان، والحرمان.

    ولهؤلاء نقول لهم مُعزِّين: أعظم الله أجركم في رمضان الغفران! ليس مرَّة واحدة، بل مراتٍ ومرات بعدد الحسرات المتتابعات، عندما تفقدون ما وجده الأكياس يوم القيامة! يا أخسر الخاسرين خسارةً عند ربِّ العالمين، يا مَن علمتم ما علمه العاملون، ولكنَّكم عملتم ما عمله الجاهلون! فأعظِمْ بخسارتكم من خسارةٍ لم يخسرها إلاَّ مَن كان في غبنكم، عياذًا بالله أن نكون منهم!

    ثانيًا: قسم أصرَّ أن يَخرج بدرس ينفعه فيما بقي من حياته، وهو أنَّ أمور الدُّنيا لا يمكن أن تستقرَّ على حالة، وأنه لو علَّق القيام بأعمال الآخرة لحين الانتهاء من أعمال الدُّنيا، وترتيبها، فلن يتفرَّغ لأعمال الآخرة إلى يوم القيامة.

    وعلى هذا، فمنذ بداية هذا الشهر الفضيل، وقد اقتَطع جزءًا من وقته مخصَّصًا لأعمال الآخرة من قيامٍ، وذِكْر، وتلاوة، ودعاء، ولا يمكن أن يجور على هذا الوقت مهما تراكمَتْ عليه أمور الدُّنيا، وقد لحق في رمضان هذا العام بأحد الصِّنفين اللَّذين سيأتي ذِكْرُهما قريبًا - إن شاء الله تعالى.

    الصنف الرابع (المُبَعِّضُون):
    الَّذين يعملون ببعض الدِّين، ويتركون البعض، وما يتركون أهمُّ وأهم، وهي الفئة التي تعلم وظائف رمضان، وتعلم كذلك طبيعة الدنيا وكيفيَّة استدراجها لأهلها المخدوعين فيها، المفتونين بها، فإذا هَلَّ رمضان بالخير والبرَكة عرفوا كيف ينسَلِخون من أعمال الدُّنيا، مهما تراكمت عليهم أعمالهم، أو على الأقل عرفوا كيف يُفرِّغون جزءًا من يومهم لأعمال رمضان من قيامٍ للَّيل، وتلاوة للقرآن، وذِكْر، ودعاء، وابتهال، واستغفار، وتَبتُّل وإنابة.

    وراحوا يجتهدون في إصلاحِ وترميم ما تهدَّم من الأوراد، والأذكار، والرَّواتب، والنوافل والمستحبَّات، وجهدوا للتأهُّب بالفوز بليلة القدر الغرَّاء.

    وهذا الصنف مع تحقيقه بعضَ العبادات الظاهرة، إلاَّ أنَّ هناك من العبادات ما فاته تحصيلها، والفوزُ بأجرها، وقد ظنَّ ألاَّ ترابُط بين رمضان وهذه العبادات الجليلة التي لم يَقُم بها لله ربِّ العالَمين؛ فقد يقع منه التقصير في بِرِّ الوالدين، أو صلة الأرحام، أو غضِّ البصر، أو حفظ اللِّسان من الكذب، والغيبة، والنَّميمة، والزُّور، والبهتان، والثَّرثرة، واللَّغو، وغير ذلك من آفاته المهلكة، أو في حفظ الجوارح عمومًا، أو في حُسْن الخلق، أو في الإحسان إلى أهله والحنوِّ عليهم، أو تحرِّي المكاسب الشرعية، وتوقِّي الشُّبهات والتورُّع عن المكروهات، أو كمال الطاعة الشرعيَّة، وحسن التبعُّل بالنسبة للأخوات الفُضْليات، أو غير ذلك من التقصير في سائر العبادات.

    بل وقد يكون غائبًا عن تزكية النفس من الشُّح الهالع، والجبن الخالع، والدَّناءة، والخِسَّة والنذالة، والتطفُّل، وحُبِّ الأخذ، والكسل، والخمول، والبلادة، والتجسُّس على أحوال الخلق، وغير ذلك من خبائث النفس، وغافلاً عن تَحْليتها بالمروءة والشَّهامة، والنَّجْدة، والجود، والشجاعة، والعفَّة، والعفو عن المسيئين في حقِّه الشخصي، والحياء، والرحمة على سائر المسلمين، والسُّمو الأخلاقي، وغير ذلك من سمات الشخصيات الفاضلة.

    كما قد يخرج بغير أن يلتفت إلى ما استقرَّ في قلبه من الأمراض المدمِّرة، والأوبئة الفتَّاكة، والأدواء المهلكة؛ كالحقد على أهل الصلاح، والحسد لأهل الفضل على ما آتاهم الله من فضله، أو الرِّياء، والسُّمعة والعُجْب، والكِبْر، وغير ذلك من الآفات الخبيثة.

    كما قد يكون أغفلَ الغافلين عن مُجاهدة نفسه على القيام لله ربِّ العالمين، بتحقيق العبادات القلبيَّة على أكمل وجه، تلك العبادات الجليلة التي سقطَتْ من حساب الكثيرين ممن يظنُّون الخير في أنفسهم، وهم عن الخير بعيدون بقدر بُعْدِهم عن تحقيق هذه العبادات القلبية الجليلة؛ كالصِّدق، والإخلاص، والخشوع، والخشية، والإخبات، والإنابة، والتوكُّل، واليقين، والحبِّ في الله، والبغض في الله.

    كذلك قد يكون مبتلًى بعطب في جانب خطير من جوانب العبوديَّة لله ربِّ العالمين؛ كأنْ يكون مبتلًى بالخشية لغير ربِّ العالمين، ممتلئًا رعبًا وفزعًا وهلعًا وجبنًا من أعداء الله؛ مما يُعرِّضه - عند التحام جيوش الحق بجيوش الباطل - لتولِيَة الأدبار، فيكون من أصحاب النار، عياذًا بك اللَّهم من ذلك.
    كذلك قد يكون لديه خللٌ في إقامة عبادة الدعاء على النحو الموجب للإجابة والقبول من ربِّ العالمين.

    الخلاصة:
    أن هذا الصنف وإن كان حقَّق قدرًا من العبادات الجليلة في هذا الشهر الفضيل - وعلى رأسها الصِّيام، والقيام - إلا أن لديه خللاً شديدَ الخطورة في بعض الجوانب العبودية الخطيرة، كما أنه سريع تفسُّخِ العزم عقب انقضاء هذا الشهر الفضيل.

    وذلك أن بعض هذا الصنف يهمُّ بالاستقامة على بعض مكاسب هذا الشهر الفضيل من قيام، وصيام، وذِكْر، وأوراد، وتلاوة، ودعاء، ثم لا يلبث أن ينفسخ عزمه، وتَهِنُ إرادته، ويقع في مزاولة كلِّ المعاصي والآثام التي كان قد عاهد الله على التوبة الصادقة منها في رمضان.

    بينما القسم الثَّاني من هذا الصِّنف لم يهمَّ أصلاً بالمداومة على هذه المكاسب، ولم يَدُرْ بخلده أصلاً أن يواظب على شيء مما رزقه الله إيَّاه من الطَّاعات والقربات، فمع توديعه لرمضان يودِّع الصيام مع آخر أيامه، والقيامَ مع آخر لياليه، وليكون هلال شوال إيذانًا بهجر القرآن، والأذكار والعبادات، كذلك ليكون موعدًا لمعاودة سائر الخطايا والدنايا، وهذا الصنف بقسميه على خطر عظيم، ونسأل الله السلامة والعافية في الدُّنيا والآخرة.

    الصنف الخامس (الأكياس السابقون):
    لله دَرُّهم! ما أقلَّهم!

    وهم الرابحون حقًّا، والفائزون صدقًا، والنَّاجحون في هذه المرحلة وبكمال التفوُّق والتألُّق، ونسأله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى، وبحقِّ وجهه الكريم، وذِكْره العظيم أن يجعلنا منهم؛ آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

    هذه الفئة التي أراد الله بها من الخير ما حُرِم منه الآخرون، فرزقها الفقه في دين ربِّ العالمين، وأنعم عليها بأعظم نعمة في الوجود بعد نعمة الإسلام، ألا وهي نعمة الفهم للقرآن العظيم، والسُّنة المطهَّرة، فتدبَّرَت قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فعلمَتْ حقًّا ويقينًا ما الهدف من تشريع رمضان؟ ولماذا كان رمضان؟! فعلمت أنَّه ما جُعل هذا الشهر إلاَّ لتزويد القلب بحاجته من التَّقْوى لربِّ العالمين، فشمَّرَت عن ساعِدَي الجدِّ، وعزمت عزم الصادقين، وسعت سعي المجتهدين، وآلتْ على نفسها أن تُعلن الحرب على نفسها؛ حتَّى لا ينسلخ موسمُ الغفران إلا وقد جنَوْا ثمرة التقوى من بذرة الصِّيام.

    هذه الفئة الصالحة التي بدأَتْ في الاستعداد لشهر رمضان منذ رمضان الذي يسبقه، كما آلت على نفسِها أن تجعل من هذا الشهر الفضيل محطَّةَ محاسبةٍ للنَّفس على النَّقير والقِطْمير، محطة يتمُّ فيها ترميم سائر العبادات الَّتي أصابها عطَبُ الغفلة، والتقصير، والفتور، والوهن، سواء كانت تخصُّ التبتُّل والتنسُّك من رواتب، ونوافل، ومستحبَّات، وأوراد، وأذكار، أو فيما يخصُّ المعاملات؛ كبِرٍّ للوالدين، وصلةٍ للأرحام، وحسنٍ للخُلق، وإحسانٍ للأهل والحنوِّ عليهم، أو حسنٍ للتبعُّل بالنسبة للفضليات من النِّساء، وغضٍّ للبَصَر، وحفظ للجوارح، وغير ذلك من العبادات.

    فهم جعَلوا من هذا الشهر محطَّة يزوِّدون منها قلوبَهم بما يلزمه من التَّقوى لله، والخشية منه عزَّ وجلَّ.
    لا أعني تلك الخشية التي يدَّعيها كلُّ المحرومين منها، مِمَّن لا برهان لهم على تحصيلها.
    ولا أعني هذه التَّقوى التي ما أكثر مَن يدَّعيها! وما أقلَّ من يحقِّقها!
    إنَّما أعني تلكم الخشية التي تَحُول بين مَن امتلأ قلبُه بها ومجرد الهمِّ فقط بعصيان ربِّ العالَمين.

    تلك الخشية التي كان يدعو بها أعظمُ الخلق خشيةً - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في الدعاء المأثور عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللهم اقْسِم لنا من خشيتك ما تَحُول به بيننا وبين معاصيك)).

    فهم يحرصون كلَّ الحرص على تحقيق هذه الخشية التي تَحُول بينهم وبين مجرَّد الهم بمعصية خالقهم، ووليِّ نعمتهم - سبحانه وتعالى، وعزَّ وجلَّ.

    فالفوز بالنِّسبة لهؤلاء ليس مجرَّد الإتمام لعبادتي الصِّيام والقيام، إنما الفوز الذي يعنيهم أن يتزوَّدوا من كلِّ يوم يصومونه، ومن كل ركعةٍ يركعونها بمزيد من التقوى التي تعينهم على إتمام عبادة لم يكونوا قادرين على إتمامها قبل رمضان.

    إنَّ الفوز عندهم أن يتزوَّدوا من كلِّ يوم يصومونه، ومن كلِّ سجدة يسجدونها بمزيدٍ من التَّقوى والخشية المُعِينة لهم على اجتناب شيءٍ من المنهيَّات التي كانوا عاجزين عن اجتنابها قبل رمضان، وباختصارٍ شديد: فهم يتزوَّدون من رمضان بالتقوى التي يُعمِّرون بها قلوبهم؛ كي تكون أقدرَ على القيام بسائر التكاليف الشرعية الأخرى؛ حتَّى يحققوا كمال العبوديَّة لله ربِّ العالمين.

    فهي تجتهد في الدُّعاء أن يحقِّق الله لها في هذا الشهر اليقينَ بالجنة، والأجر والثواب، ذلك اليقين الباعث للنَّفس الفاترة على النشاط إلى القيام بسائر الطاعات والقُربات، وأن يحقِّق لها اليقين بالنار، والعذاب، والعقاب، ذلك اليقين الكابح للنَّفْس الجامحة إلى العصيان عن مجرد الهمِّ باقتراف ما لا طاقة بعقوبته من الدَّنايا في الدُّنيا أو الآخرة.

    كيف نكون منهم؟!
    أحبَّتي في الله! إنَّني لم أقصد من وراء خطابي لكم أن أكشف عن عورات المجتمع الذي نعيش فيه، والتي ينتهي العمر قبل أن يتمَّ الكشف عنها، ولا أن أندِّد بكثرة المخالفات والانتكاسات، والتي تنقضي الآجالُ قبل أن ينقضي التنديد بها، وأحسبني قد وصلت معكم أيُّها الأحبة عند هذا الموضع من الرسالة إلى مفترَقِ طرق، فثمَّ فئة من الخلق قد أسكرَتْها الدنيا سكرة لم تعد معها تتذكَّر بتذكرة، أو تتَّعِظ بوعظ، أو تلين لحديثٍ؛ فهي ماضيةٌ في تكالُبِها على الدنيا، لا يلتفت ذهنها أصلاً لحديث يتناول تصحيحًا للعبادة التي لا حاجة لهم إلى تصحيحها، حيث لا تنشط أنفسهم إلاَّ لما يزيدون به دخلهم المادِّي، ويرفعون به من مستوى معيشتهم في الحياة الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    أجارَكم الله، أجارَكم الله، أجارَكم الله - أحبَّتي في الله - أن تكونوا منهم.

    وثم فئة أخرى قد أنار الله بصيرتَها، فأحزنها تقصيرُها، وأقلقَها عصيانُها، فهي وإن كانت في العصيان غارقةً إلاَّ أنها إلى التوبة مشتاقة، فهي وإن كانت بالذُّنوب متلطِّخة إلا أنَّها للإقلاع عنها متشوقة، فهي وإن كانت عن الصلاح بعيدة إلاَّ إنها لسلوك كلِّ السبل إليها مستعدَّة، ولبذل كل شيء في سبيل نَيْلها جوادة، فهي وإن كانت بكل الأمراض قد امتلأ قلبها إلا انها في الشفاء منها راغبة، وعلى تناول الدواء الموصوف لها من أجل الشفاء منها عازمة، ومهما بلغت مرارته فهي متحمِّلة.

    فهذه الفئة الطيِّبة لا ينقصها إلاَّ الطبيب الشفيق، والمرشد الحنون، والموجِّه الحكيم الذي يصف لها الدواء، ويأخذ بيدها إلى الطريق.

    فما هي أن تراه حتى تُسلِسَ له قيادَها، وتسلم له زمامها، وتفي له بحقِّ الطاعة، والانقياد، نسأله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته الأعلى أن يجعلني وإياكم - أيُّها الأحبة - من هذه الفئة الطيِّبة والتي لا همَّ لها إلاَّ تحقيق كمال العبودية لله ربِّ العالمين، وإلى هذه الفئة الطيِّبة فحسب أشرف بالحديث معها، سائلاً إيَّاه جلَّ وعلا أن يجمعني وإياها تحت ظلِّ عرشه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظلُّه مع المتحابِّين فيه - جلَّ وعلا.

    بشرى المحرومين ونصيحتهم:
    يا ليت شعري: من هذا المقبول منا فنهنِّيه؟! ومن ذا المحروم منا فنعزيه؟!

    ولسائلٍ أن يسأل، ولمتعجِّب أن يتعجَّب: أما المقبولون فلهم التهنئة والبشرى، قد عَلِمنا ذلك، أما نحن المحرومون فبِم تبشرنا؟! وقد حُرِمنا رضوان ربِّ العالمين ومغفرته؟! فبم تبشرنا إذًا وقد خسرنا أغلى شيء؟!

    بحقٍّ أقول لكم إخواني المحرومين: إنَّ ما خسرناه حقًّا لَعظيم، إلاَّ أن هذه الخسارة لا ينبغي أن تبعدنا عن الاغتنام لما وراء ذلك من الخير، إنَّ هذين الصحابِيَّين الجليلين لم يقصدا بتعزية أمثالنا من المحرومين أن يُيَئِّسانا من روح الله، التي لا ييئس منها إلا القوم الكافرون، ولا أن يقنطانا من رحمة الله، والتي لا يقنط منها إلا الضالُّون.

    كل ما هنالك أنهما أرادا تنبيهنا من غفلتنا التي غشَتْ أبصارنا، وأطفأت نور بصائرنا، أرادا أن يَلْفتا نظرنا إلى شيءٍ بالغ الأهمية قد فقدناه، وأن يُذكِّرانا بأن نعمةً عظيمةَ القيمة قد ضاعت من أيدينا؛ ألا وهي نعمة العفو، والرِّضا، والغفران في شهر رمضان.

    فإذا اضطرب القلب حزنًا على فوات هذه النِّعمة، وندم على فوات هذه الفرصة، وتمزَّق ألَمًا لاندراجنا تحت طائلة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ورَغِم أنف رجلٍ دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يغفر له))؛ (م).

    تطلَّعت نفسه إلى إدراك فرصة جديدة، ومنحة إلهيَّة يستطيع بتحصيلها أن يعوِّض سنين الخسران الماضية.

    فإذا تشوَّقت النفس إلى هذه الفرصة، رغبةً في اغتنامها، جاءها الفرَجُ من الله عزَّ وجلَّ متمثلاً في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله عزَّ وجلَّ يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتَّى تطلع الشمس من مغربها))؛ (م).

    فالنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد أخبر أن يد الله عزَّ وجلَّ مبسوطة ليلاً ونهارًا، لا تنقبض عن الصادقين من التائبين أبدًا، حتى تطلع الشمس من مغربها.

    فباب التوبة لم يزل مفتوحًا، ولم ينغلق بانقضاء هذا الشهر الفضيل، كما أخبر - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الطويل: ((... ذكَر بابًا من قبل المغرب مسيرة سبعين عامًا، عرضه - أو يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين عامًا، قال سفيان: - قبل الشام - خلقه الله يوم خلق السموات والأرض مفتوحًا - يعني: للتوبة - لا يغلق حتَّى تطلع الشمس منه))؛ (ت).

    فما أحوجَنا نحن المحرومين من تحقيق ثمرة التَّقوى إلى هذه البشرى الطيبة! وما أفرحَنا نحن المحرومين بها!

    إذًا نحن لسنا محتاجين إلى أن نمنِّي أنفسنا بالأماني الكاذبة، ونـزعم كذبًا أننا - في رمضان المقبل - سنتوب توبة عظيمة، ونتعبَّد عبادة لا نظير لها؛ وذلك صرفًا للنَّفس عن الاجتهاد في التوبة طول العام إلى أن يأتي رمضان - إن أتى - المقبل، ويضيع كما ضاعت سائر الرمضانات الفائتة.

    فإني أحذر نفسي وسائر المحرومين أن تغرَّنا الأمانيُّ كما غرَّت فئاتِ المخذولين؛ حيث ترى أحدَ مَن غرتهم الأمانيُّ يقول مُغترًّا: "في رمضان القادم تنضبط كل الأمور التي لم تَنضبِطْ في هذا الشهر"!

    سبحان الله!
    من هذا الذي غرَّ ذلك المسكينَ، وخدعه، وأعطاه أمان أن يعيش لرمضان القادم؟!
    يا ترى ما سرُّ هذا الأمن؟! إنه يتحدث تحدُّثَ الواثق الذي بجيبه صكُّ أمان من الله، يؤكِّد له فيه أنه سيعيش لرمضان القادم!

    ومع ذلك أيها المسكين!
    سلَّمنا لك! هب أنَّ في جيبك صكَّ أمان من الله عزَّ وجلَّ يقول إنك: تعيش إلى رمضان القادم، هل ضمنت أن يتحقَّق لك العون الإلهيُّ على اغتنام هذا الشهر الفضيل؟!

    وهل تستطيع أن تحقِّق الفوز إلا على قدر تحقيق العون الإلهي؟! هذا العون الإلهيُّ الذي ليس منحة مجانية لكل بطَّال بليد.

    فمِن ثواب الطاعة أن يعينك الله على طاعةٍ أفضل منها، ومن عقوبة المعصية أن تُبتلى بمعصيةٍ شر منها.

    فما هي يا ترى تلك الطاعة التي قدَّمناها، ونرجو من الله أن يثيبنا عليها؟!
    أولاً: بتبليغنا شهر رمضان القادم.

    ثانيًا: بإعانته عزَّ وجلَّ لنا على اغتنامه حق الاغتنام، والفوز به حق الفوز؟!

    فهل تحسب أيُّها المسكين أنك مستحقٌّ عونَ الله لك على طاعته، هذا مع كونه يهَبُك الفرصة تلو الفرصة، ويرسل الموسم بعد الموسم، بينما أنت لم تزل معرضًا عن هذا كلِّه تمام الإعراض؟! بينما أنت مُؤْثر للحظوظ الفانيات على الباقيات الصالحات؟! هيهاتَ هيهات يا صاحب الأماني الكاذبات!

    كيف وأنت لو ذهبت لزيارة صديق، وكان معك من الهدايا ما لا يُحصى ولا يُعدُّ بعد طول غياب، فلم يُحْسِن استقبالك، ولم يتفرَّغ لمقابلتك، هل كنت تفكِّر في إهدائه مرة أخرى؟! بل هل كانت تراودك نفسك لزيارته - مجرد المراودة - مرة أخرى؟!

    إنني أدعو نفسي الآثمة، وسائر إخوانها، وأخواتها من المحرومين - والمحرومات من الَّذين يندرجون تحت الأصناف الأربعة الأولى التي سبق الحديث عنها أن نحبس أنفسنا منكسرين في المحراب، باكين على فوات حظِّنا من الحق جلَّ وعلا عسى إن رآنا ربُّنا مهمومين، مكروبين، محزونين، متحسرين، آسفين على فوات حظنا منه عزَّ وجلَّ وعسى إن اطَّلع على قلوبنا فعلم يقينًا أننا لم نبك - إذْ بَكينا - على مالٍ فقدناه، ولم نغتمَّ - إذ اغتمَمْنا - على حبيب في التراب واريناه، ولم نتحسر - إذْ تحسرنا - على منصب بجدٍّ سعينا إليه، ولكن ما أدركناه، ولم نزفر - إذْ زفرنا - على جدوة عشق في القلب ما رويناها، وعلم أنه ليس وراء ذلك الحزن، والهم، والغم، والكآبة إلا الحسرة على فوات حظنا من الله عزَّ وجلَّ عساه إن رآنا كذلك أن يرحم حزننا، وأن يحن علينا، وأن يهَبنا لبعض عبيده المحسنين، فيقربنا من بعد طول البعد، ويصلنا من بعد طول الانقطاع، ويؤنسنا من بعد طولِ وحشة.

    حريٌّ بنا أن نحبس أنفسنا في هذه الأيام - التي يكثر فيها اللَّهو، واللعب والعبث - على التضرُّع والابتهال.

    اللهم ربَّنا عفْوَك إذْ لم ترنا مع الراكعين إذْ ركعوا، ولا مع الساجدين إذْ سجدوا، ولا مع المتضرعين إذْ تضرعوا، ولا مع المُخْبِتين إذ أخبتوا.

    اللهم ربنا عفوك إذْ كانت أجسامنا تؤدِّي حركات الصلاة، ولم تزل القلوب منشغلةً بترتيب أمور الفانية الزائلة، وتدبير شؤونها لا عن قصد، إنَّما عن غفلة وضعف وتقصير.

    اللهم ربَّنا وصل إليك الواصلون من الصادقين المخلصين، وقعدَتْ بنا عنك الخطايا والدَّنايا.

    اللهم ربنا تجليت بفيوض رحمتك على قلوب ذوي البصائر من خلقك، وملأتها بك حبًّا، ومنك خشية، وبك يقينًا، وعليك توكلنا.

    وأمَّا قلوبنا فليست أهلاً لهذه الفيوض الربَّانية المباركة، ولا محلاًّ لهذه المقامات الإلهية المقدَّسة.

    كيف، وقد امتلأت بالشهوات، والشُّبهات؟! كيف وقد طمسَها الحرص على العاجلة، وحبها، وتَرْك الآخرة وإهمالها؟! كيف؟ وقد تدَّنست بتقديم الحظوظ الفانيات على الباقيات الصَّالحات؟! كيف وقد تلطَّخَتْ بالرِّياء، والسُّمعة، والعُجْب، والكِبْر، والحقد، والحسَد، والغل، والأمراض الفتاكة؟!

    سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك! بذنوبنا حُرِمنا مما تفضَّلتَ به على المقبولين.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك! ما ظلمتَنا، ولكن كنا لأنفسنا من الظَّالمين.

    عسى أن نبلغ بهذا الحزن، والدُّعاء، والتضرع شيئًا مما فاتنا من الخير الذي أدركه إخواننا المقبولون!

    أو على أقلِّ الأحوال تُكْشَط أسماؤنا من ديوان المُعْرِضين، وتُمْحى من سجل المحرومين.

    وحذارِ حذارِ حذارِ، أن يطَّلِع الله علينا فيرانا نلعب مع اللاعبين، أو نلهو مع اللاَّهين، أو نعبث مع العابثين، فيعلم عدم مبالاتنا بفوات حظِّنا منه، وهوان أمر حرمانه لنا في نفوسنا، فيزداد هوانُنا عنده، ونسقط من عين الله، ويكتمل شقاؤنا، ويتحقَّق بؤسنا وينظر إلينا نظرة سخط لا يرضى بعدها عنا أبدًا.

    عياذًا بك اللهم من غضبك، وسخطك، وعقابك، وعذابك في الدُّنيا والآخرة.



    تهاني المقبولين ونصيحتهم:
    يا ليت شعري: من ذا المقبول منا، فنهنيه؟!
    هنيئًا لكم أيُّها المقبولون! يا من أعانكم ربُّنا على حقيقة الصيام، والقيام، يا من تزوَّدتم من صيامكم، وقيامكم بالتقوى التي أعانتكم على الاستقامة على شرع ربِّكم جلَّ وعلا فأصلحتم سائر العبادات الأخرى من بِرٍّ للوالدين، وصلةٍ للأرحام، وحسن للخلق، وإحسان للأهل، وحسنٍ للتبعُّل، وحفظ للجوارح إلى آخر هذه العبادات التي لا يُحصيها غير ربِّي جلَّ وعلا وزكَّيتم أنفسكم من دناياها، وحليتموها بالفضائل، وطهرتم قلوبكم من الأمراض والأوباء، حتَّى أصبحت أهلاً لحلول المحبة، والتوكل، واليقين بالله - عزَّ وجلَّ.

    تهانينا لكم تهانِيَ لا نقصد بها أن ندفع بها العُجْب لقلوبكم، ولكن ندفعكم إلى مضاعفة إحسانكم.
    تهانينا لكم تهاني لا نقصد بها حسدكم حسدًا تزول به عنكم نعمة القبول، ولكن غبطة نرجو بها أن يحشرنا الله معكم، وإن لم نكن منكم؛ كثوابٍ على محبَّتِنا لكم.

    أيُّها المقبولون، يا من صنتم أعمالكم - بفضل ربِّكم - من الرِّياء، والسمعة، والعجب، والكبر، والمنِّ على الله، أو على الناس، وصنتم أعمالكم - بفضل ربكم - من سائر الأمراض المدمِّرة لهذه الأعمال.

    أشهد الله أنِّي أحبُّكم في الله حبًّا أرجو به أن يرفعني الله لمنزلتكم، وإن لم أقدر على العمل بأعمالكم.

    ومقتضى هذه المحبة أمران:
    أوَّلُهما: الدعاء لكم بدوام القبول، وكمال العبودية، ونيل درجاتٍ أعلى عند الله - عزَّ وجلَّ.
    هذه الدعوة التي أرفع بها يديَّ إلى الله على استحياء، وما كان لمثلي أن يدعو لأمثالكم، ولكنها دعوةٌ أرجو بها أن يُوكل الله بها ملَكًا يقول لي: آمين، ولك بمثل.

    ثانيهما: النصيحة، وإنما مَثلي ومثَلُكم في نصحي إيَّاكم كهدهد سليمان حيث قال: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: 22].

    فكما لم يمتنع الهدهد – لضآلته - أن ينصح سليمان - عليه السَّلام - لعظيم منزلته، كذلك لا أمتنع عن نصحي لكم.
    فحذارِ! حذارِ! حذارِ، أن تَسْخروا منا، أو تهزؤوا بنا نحن معشر المحرومين؛ فيعافِينا الله من الحرمان، ويَبْتليكم به.

    ولكن عليكم - إن رأيتم أهل الحرمان - أن تدعوا الله عزَّ وجلَّ بهذا الدعاء: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضَّلني على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً"، فاحمدوا الله على العافية، وسلوا الله عزَّ وجلَّ شكرًا تستوجبون به في الدنيا زيادةَ نعمه عليكم، وفي الآخرة تستأهلون به زيادة ثوابه لكم.

    وحريٌّ بكم - إذْ كنتم حقًّا من المقبولين الذين أصلحوا سائر عبادتهم - أن تجتهدوا في الدُّعاء لنا أن يرفع عنَّا بلاء الوحشة، والهجر، والحرمان، وأن تحبُّوا لنا ما تحبونه لأنفسكم من الأنس به عزَّ وجلَّ ولذَّة المناجاة، وحلاوة الإيمان، والخشوع في الصلاة.

    شروط حصول الأجر والمثوبة على الأعمال الدنيوية
    وأُذكِّركم الله فيما أعانكم عليه من الطاعات، والقربات، حذارِ! حذارِ! حذارِ أن تهجروا هذه القربات والطاعات، تحذف كونوا كما كان نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم * "كان عمَلُه ديمة"، ولا أعني بالدَّوام التفرُّغَ للشعائر في غير رمضان كما تفرَّغتُم لها في رمضان؛ إذْ ليس هذا مِن مقاصد الدين.

    وإنَّما بتنسيق ساعات الليل والنهار بين مختلف العبادات ولن أقول لكم - كما يقول المخطئون - بتنسيق ساعات الليل والنهار بين أعمال الدِّين، وأعمال الدُّنيا، أو بين العمل والعبادة، فكلُّ هذا باطل؛ وذلك أنَّ المسلم يجب أن يكون منشغلاً بالعبوديَّة لربه ومولاه في كلِّ نفَسٍ يتنفَّسه، ولا يجوز له أبدًا أن يخرج عن عبوديته لربِّه طرفةَ عين، ولا أقل من ذلك، فإن هو فعل كان بذلك مخالفًا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فالمولى عزَّ وجلَّ لم يخلقنا إلا لأداء وظيفة واحدة وهي العبادة فحسب، والتي لا يجوز لنا الانشغال بسواها.

    وإنَّما يجب تصحيح النِّية في سائر أعمال الإنسان؛ فمَشْيُ المسلم في الأرض ليبتغي الرزق الحلال من أقدس العبادات، إنْ هو أخلص النيَّة لله - عزَّ وجلَّ.

    إذْ نِعْمَ المال الصالح للعبد الصالح؛ وذلك أن العبد الصالح إذا رزقه الله مالاً أنفقه على الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وبرَّ منه والديه، ووصل منه رَحِمَه، وكفل منه الأيتام، وكفى منه الأرامل، والمساكين، وقضى منه حوائج المُعْوِزين، والمحتاجين، وستر به العورات، وصان به الأعراض، وأهدى منه إخوانه، وحمل منه على الجهاد في سبيل الله، وعفَّ منه نفسه، وأهله، وولده، فجزاه الله خيرًا.

    فإنْ هو أخلص لله النية في طلب الرِّزق بهذه الصورة، كان عمَلُه هذا عبادة من أقدس العبادات، وطاعةً من أجلِّ الطاعات، المهم أن يتوافر في هذا العمل الشروط الثلاثة:

    1- أن يكون العمل مشروعًا بكتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا يشوبه الرِّياء، أو الرِّشوة، أو بيع الدخان، أو المُسْكِرات، أو ثياب المتبرِّجات، أو كتب العقائد المنحرفة، أو أسطوانات أغاني العشق والفجور، أو غير ذلك من المكاسب المُحرَّمة، والتي لم ينكرها المجتمع المُقِرُّ لهذه المنكرات - عياذًا بالله.

    2- أن يستحضر النوايا التي أشَرْنا إليها؛ من إعفاف نفسه، وأهله، وتدعيم مشاريع الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ وبرِّه لوالديه، وصلته لرحمه، إلى آخر المصارف الشرعيَّة التي يسترضي بها ربَّه - جلَّ وعلا.

    3- ألاَّ يشغله عمَلُه هذا عن طاعةٍ أهم؛ كصلاة الجماعة، أو طلب العلم الشرعي الواجب تعلُّمه، وقس على هذا.

    فكلُّ زيارة أو عمل يؤدِّيه يجب أن يصحح النية، وليكون هذا العمل بذلك عبادة يرجو ثوابَها، وأجْرَها عند الحقِّ جلَّ وعلا غدًا عنده - سبحانه وتعالى - فيُحسن التنسيق بين الشَّعائر؛ كالصلاة، والرواتب، والنوافل، والأوراد، والأذكار، وعبادة طلب الرزق الحلال الذي يبغي به العفاف، والزيارات التي يبغي بها صلة الأرحام وتأليف قلوب الإخوان.

    شروط حصول الأجر والمثوبة على المذاكرة
    كذلك المذاكرة قد تكون من أوجب الواجبات إذا توافرت فيها هذه الشروط أيضًا:
    1- أنه يريد أن يقف على ثغرٍ من ثغور الإسلام؛ ليسدَّ حاجة المسلمين لإحدى الصناعات أو الأعمال، ولا يجعل المسلمين محتاجين إلى غيرهم من الأمم الكافرة، ولا يريدُ بذلك الشُّهرةَ، أو السمعة، أو المكانة الاجتماعيَّة، أو تكوين الثروات الطائلة.

    2- ألا تشغله هذه الدراسة عن أعمال أهمَّ منها؛ كصلاة الجماعة، أو طلب العلم الشرعي الذي يجب تعلمه.

    3- ألا يتطلب دراسة هذه المواد ارتكابَ إحدى المخالفات الشرعيَّة التي نَهى عنها الإسلام؛ كالنظر إلى الأجنبيَّات من النساء، أو غير ذلك من المخالفات الشرعية.

    فإن توفَّرت في الدراسة والمذاكرة هذه الشروطُ الثلاثة، كان ذلك من أجلِّ العبادات بل قد يصبح أحيانًا من أوجب الواجبات.

    وتصبح بذلك حياةُ المسلم الفائز برمضان كلُّها عباداتٍ؛ فلا يخرج من عبادة إلاَّ ليدخل في غيرها.

    صيام الدهر
    ولا يفوتني - في هذا المقام - التذكيرُ بأن نقوم لله عزَّ وجلَّ بعبادة صيام الدهر؛ تلك التي حثَّنا عليها نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((من صام رمضان ثم أتبَعه ستًّا من شوَّال كان كصيام الدَّهر)) (م).

    وهنيئًا لك إن أعانك ربُّك على صيام هذه الأيام الستة متتابعةً، بداية من اليوم الثاني لشهر شوال؛ وذلك لما ورد من الأدلة الحاثَّة على المُسارعة إلى الخيرات، واغتنام الأوقات قبل الممات، كقوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

    وكقوله تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد: 21].
    وكقوله تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].

    فأمور الآخرة يُستحبُّ فيها المسارعة، والمُسابقة، والمنافسة، كما أخبر ربُّنا - جلَّ وعلا.

    ألا فلنجعلنَّ حياتنا كما أمرنا ربُّنا جلَّ وعلا كلها عبادة لربِّ العالمين؛ تحقيقًا لقوله عزَّ وجلَّ: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

    الختام وأغلى نصيحة
    أحبَّتي في الله: وختامًا، سأجمع لكم نصيحتي في كلمتين فقط، إنْ وعيتموهُما، وعملتم بهما - أسأله تعالى عونَكم عليهما - أغنَتْكما عمَّا سواهما، وكانتا سببًا في سعادتكم في الأولى، والآخرة - إن شاء الله تعالى.

    إنما تتحقق النَّجاة بأمرين: (طلب العلم على يد عالِمٍ ربَّاني ناصح شفيق، وصُحْبَة مؤمنة تُعين على أمر الدُّنيا والآخرة)، وآخر كلمة: أُشهِد الله أنِّي أحبُّكم في الله عز وجل.

    اللهم نعوذ بوجهك الكريم أن تكون أعمالُنا هباء منثورًا، نتوسَّل إليك برحمتك أن تجعل سعيَنا إليك سعيًا مشكورًا.

    اللهم نتضرَّع إليك بوجهك الكريم الذي لا شيء أكرم منه أبدًا، ونتوسل إليك برحمتك الواسعة التي لا شيء أوسع منها أبدًا - أن تَقْبل منَّا من الأعمال الصالحات ما لم يُعِنَّا عليه أحدٌ غيرك، ولم يرزقنا إياه أحدٌ سواك، ونعوذ بوجهك أن تَحُول خطايانا بيننا وبين الفوز بمواسم الغفران، ونفحات الرِّضوان، اللهم ألِّف على الخير قلوبنا، وبلِّغنا رمضان القادم، وأعنا فيه على أضعاف ما أعَنْتَنا عليه من الطاعات في هذا الشهر الفضيل.

    وتُبْ علينا من الذنوب التي أذلَّنا بها اليهود، وتب علينا من الذنوب التي تَمكَّن بها منا الأعداء، تب علينا من الذنوب التي تسلَّط علينا بها السفهاء، تب علينا من الذنوب التي هان بها أمرنا عليك، تب علينا من الذنوب التي أغلقَتْ أبواب السماء أمام دعائنا.

    اللهم استخدِمْنا في طاعتك، ولا تستبدل بنا بذنوبنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أنْ لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    أخي الحبيب، يا من تبغي الخير لأمتك، وتسعى لكلِّ خدمة تؤديها إليها!

    أُشهد الله أنِّي أحبُّك في الله، احرص - رحمني الله وإياك - على نشر الكتيب كصدقة جارية، وعلمٍ يُنتفَع به بعد الموت - إن شاء الله، ولا تنس حقِّي عليك من النصيحة الصادقة، والدعوة الصالحة بظهر الغيب.








  • #2
    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيراً
    تقبل الله طاعاتكم
    وكل عامٍ وأنتم بخير

    قال الحسن البصري - رحمه الله :
    استكثروا في الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعةً يوم القيامة".
    [حصري] زاد المربين فى تربية البنات والبنين


    تعليق

    يعمل...
    X