في وداع رمضان
تكميل الطاعات والإشفاق من القبول
في وداع رمضان
تكميل الطاعات والإشفاق من القبول
الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع
شبكة الالوكة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الأخوة الكرام، ها نحن على مشارف نهاية هذا الشهر الكريم، هذا الشهر الذي توالت فيه أنواع الخيرات والفضائل، فهو من أول ليلة فيه موسم عظيم للتجارة مع الله جل وعلا، وتوالت هذه الفرص للربح، الربح العظيم الذي فيه تكفير السيئات ورفعة الدرجات، والعتق من النار، وحلول أعالي الجنان، إلى غير ذلك من البركات العظيمة التي تسابق إليها المتسابقون، وفاز بها الفائزون، وربما تخلَّف عنها مَن أقعدته نفسه وهواه، وأمام وقوف الإنسان على مشارف هذا الشهر الكريم، يستحضر عددًا من المعاني، وهي على نحو ما كان السلف عليه رحمهم الله تعالى في نظرهم لهذا الشهر الكريم، إذا أشرفت أيامه على تمام التصرم، فقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون ردَّه، وهؤلاء هم الذين جاء فيهم قول الله تعالى: ﴿ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60]، ليس هذا سوء ظن برب العالمين، ولكن هو اتهامهم لأنفسهم، وخوفهم من أن يكون العمل قد داخله شيء مما يتسبب في رده.
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نبينا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى هذه الآية الكريمة، وفهِمت فيها فهمًا معينًا: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو خائف من مرجعه إلى ربه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، ويخشى ألا يقبل منه).
فتأملوا رحمكم الله كيف أن هؤلاء العباد صار عندهم هذا الوجل ألا يقبل منهم، وذلك ألا يقبل منهم عملهم الصالح، وذلك تُهمة لأنفسهم بالتقصير، أو مداخلة العمل ما يسبب رده؛ رُوِي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، ولذا قال فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه: لأن أكون قد علمت أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
فالله جل وعلا وصف عبده الذي يتقبل منه عمله بأنه مُتقٍ، فعمله خالص لوجه الله، لا يُراد به رياء ولا سمعة، ولا لأجل توافقه مع الناس، كما قد يكون في الصيام، بسبب أن المسلمين وأن المجتمع بأسْره صائم لله، فهو يصوم معهم، ولذلك ربما توافق بعض غير المسلمين مع المسلمين، فصام كما يصومون، فليست العبرة بالإمساك عن الطعام والشراب، ولكن العبرة بتحقيق التقوى التي هي مقصد هذا الصيام وحكمته العالية؛ كما قال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
فالمقصد هو تحقيق التقوى، فمن سعى إليها وأرادها، فقد سعى إلى أمر عظيم، وحقق المراد منه، ومن كان على خلاف ذلك، فإنه لم يدرك حكمة الصيام ومراد الله منه.
جاء عن ابن دينار رحمه الله تعالى أنه قال: الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل.
نعم إن المرء لينظر إلى ما جاء عن السلف في هذا الباب نظرة تأمُّلٍ عظيمٍ وتدبُّرٍ، فيما قدَّمه من عمل صالح ألا يكون قد قُبِل منه؛ إذ العبرة ليست بكثرة العمل، ولكن بإتقانه وإتمامه، وكونه خالصًا لله جل وعلا، وعلى سنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال عطاء السليمي رحمه الله تعالى وهو من التابعين: الحذر أن تتقي على العمل ألا يكون لله.
الحذر في شأن العمل أن يكون هذا العمل قد أُريد به غير وجه الله جل وعلا، وهذا أمر عظيم أن يسعى الإنسان لتحقيق الإخلاص، فهو من أشق الأمور وأشدها على الأنفس، وكلام السلف رحمهم الله تعالى من العلماء والعباد، يُبين هذا الأمر، وأن الإنسان يجد مشقة عظيمة في أن يكون عمله خالصًا لوجه الله جل وعلا؛ قال الإمام العابد عبدالعزيز بن أبي رواد رحمه الله تعالى: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيُقبل منهم أم لا؟
وقال بعض السلف: كان يدعون الله ستة أشهر أن يُبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وخرج عمر بن عبدالعزيز أمير المؤمنين رحمه الله ورضِي عنه، خرج في يوم عيد فطر، فقال في خطبته: أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم.
كان بعض السلف يظهر عليهم الهم العظيم أن يكون عملهم غير متقبل، ولذلك فإن العمل له علامات ودلائل في قبوله، فإذا وجدها الإنسان صار عنده نوع من الطمأنينة أن الله تعالى تقبل منه، وهو تواصل هذا العمل الصالح، وألا ينقطع عنه، وألا يكون كسحابة صيف هطلت ثم انقطعت، وإنما يكون عمله ديمة متتابعًا، يزداد في المواسم، ويكثر ويبقى أصله مستمرًّا باقيًا دائمًا.
رُوِي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري، من هذا المقبول فنُهنيه، ومن هذا المحروم فنُعزيه، وقال مثل ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، فهنيئًا لمن قبل الله منه، وجبَر الله مصيبة من رد.
وإنما العبرة أيها الإخوة الكرام على ما يقوم في القلوب من الإقبال على الله جل وعلا، وإرادة ما عنده، فإذا صح ما في القلب صح توجُّهُه لله جل وعلا، وأدرك المؤمن خيرًا عظيمًا، وفاز بربح عظيم، وأدرك فلاحًا كبيرًا، وإنما يكون ذلك وفق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، وهذا يكون بقصد التوجه إلى الله جل وعلا وحُسن الظن به، والإزراء على النفس، وعدم الطمأنينة للعمل حتى يلقى الإنسان ربه جل وعلا؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
حتى يأتي الإنسان الموت هو مقيم على العمل الصالح، لا يُبدل ولا يُغير، فمن كان كذلك فقد أدرك الخير العظيم.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
جاء عن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ورضِي عنه - أنه كتب إلى الأمصار والمسؤولين الذين هم تحت مسؤوليته، كتب إليهم يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة - صدقة الفطر - فإن صدقة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرَّق من الصيام باللغو والرفث، ولهذا قال بعض العلماء المتقدمين: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة، وقال عمر بن عبدالعزيز في كتابه هذا: قولوا كما قال أبوكم آدم: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 82]، وقولوا كما قال نبي الله موسى عليه السلام: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ [القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
فحري بالمؤمن أن يكون ختامه للشهر على هذا النحو من الاستغفار، وهذا أمر مشاهد، وهذا أمر ملاحظ في التعبد لله جل وعلا الذي شرعه لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أن يبادر المؤمن بذكر الله تعالى وبالتحديد الاستغفار، عقيب انتهائه من العبادة، أليس أول ذكر يدعو به المصلي من أول ما يُسلم أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله؟ وهكذا في تمام الشهر - كما قال الله جل وعلا: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185] - أن يذكر الله جل وعلا، وعلى وجه الخصوص الاستغفار مما قد يكون ند من العبد عن أن يقوم بما أوجب الله سبحانه، وهكذا كانت صدقة الفطر التي هي تمام العمل للمؤمن في شهر الصيام، وقد وصفت بهذا الوصف أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وهذا يوجب على المؤمن أن يعتني بإخراج صدقة الفطر على ما بيَّن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا بالنسبة لنوعها، وأن تكون من قوت البلد، ولا بالنسبة لمن تُؤدَى إليه، فإنه ينبغي أن تكون لمن يستحقها، لا على أن تكون على سبيل العادة، أو على سبيل المعرفة والصحبة، وإرادة البر بأناس من الأصدقاء والأقارب، دون نظرٍ لمدى استحقاقهم لذلك، أو عدم استحقاقهم، فهي شعيرة عظيمة وفريضة، يجب على المؤمن أن يؤديها عن نفسه وعمن يعول، وعمن يقوت، وعمن هو مسؤول عنه، هكذا جاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وحَوبنا، اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجْمَعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّقهم لما تحب وترضى.
اللهم احقن دماء إخواننا في ليبيا وفي سوريا واليمن، وفي غيرها من البلاد.
اللهم ارحم ما نزل بإخواننا في الصومال، اللهم اجبر كسرهم، ويَسِّر أمورهم يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارْحَمهم كما ربونا صغارًا.
ربَّنا اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، واغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
آمين
شبكة الالوكة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
أيها الأخوة الكرام، ها نحن على مشارف نهاية هذا الشهر الكريم، هذا الشهر الذي توالت فيه أنواع الخيرات والفضائل، فهو من أول ليلة فيه موسم عظيم للتجارة مع الله جل وعلا، وتوالت هذه الفرص للربح، الربح العظيم الذي فيه تكفير السيئات ورفعة الدرجات، والعتق من النار، وحلول أعالي الجنان، إلى غير ذلك من البركات العظيمة التي تسابق إليها المتسابقون، وفاز بها الفائزون، وربما تخلَّف عنها مَن أقعدته نفسه وهواه، وأمام وقوف الإنسان على مشارف هذا الشهر الكريم، يستحضر عددًا من المعاني، وهي على نحو ما كان السلف عليه رحمهم الله تعالى في نظرهم لهذا الشهر الكريم، إذا أشرفت أيامه على تمام التصرم، فقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون ردَّه، وهؤلاء هم الذين جاء فيهم قول الله تعالى: ﴿ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60]، ليس هذا سوء ظن برب العالمين، ولكن هو اتهامهم لأنفسهم، وخوفهم من أن يكون العمل قد داخله شيء مما يتسبب في رده.
وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نبينا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى هذه الآية الكريمة، وفهِمت فيها فهمًا معينًا: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، أهو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو خائف من مرجعه إلى ربه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، ويخشى ألا يقبل منه).
فتأملوا رحمكم الله كيف أن هؤلاء العباد صار عندهم هذا الوجل ألا يقبل منهم، وذلك ألا يقبل منهم عملهم الصالح، وذلك تُهمة لأنفسهم بالتقصير، أو مداخلة العمل ما يسبب رده؛ رُوِي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، ولذا قال فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه: لأن أكون قد علمت أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل، أحب إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
فالله جل وعلا وصف عبده الذي يتقبل منه عمله بأنه مُتقٍ، فعمله خالص لوجه الله، لا يُراد به رياء ولا سمعة، ولا لأجل توافقه مع الناس، كما قد يكون في الصيام، بسبب أن المسلمين وأن المجتمع بأسْره صائم لله، فهو يصوم معهم، ولذلك ربما توافق بعض غير المسلمين مع المسلمين، فصام كما يصومون، فليست العبرة بالإمساك عن الطعام والشراب، ولكن العبرة بتحقيق التقوى التي هي مقصد هذا الصيام وحكمته العالية؛ كما قال عز من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
فالمقصد هو تحقيق التقوى، فمن سعى إليها وأرادها، فقد سعى إلى أمر عظيم، وحقق المراد منه، ومن كان على خلاف ذلك، فإنه لم يدرك حكمة الصيام ومراد الله منه.
جاء عن ابن دينار رحمه الله تعالى أنه قال: الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل.
نعم إن المرء لينظر إلى ما جاء عن السلف في هذا الباب نظرة تأمُّلٍ عظيمٍ وتدبُّرٍ، فيما قدَّمه من عمل صالح ألا يكون قد قُبِل منه؛ إذ العبرة ليست بكثرة العمل، ولكن بإتقانه وإتمامه، وكونه خالصًا لله جل وعلا، وعلى سنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال عطاء السليمي رحمه الله تعالى وهو من التابعين: الحذر أن تتقي على العمل ألا يكون لله.
الحذر في شأن العمل أن يكون هذا العمل قد أُريد به غير وجه الله جل وعلا، وهذا أمر عظيم أن يسعى الإنسان لتحقيق الإخلاص، فهو من أشق الأمور وأشدها على الأنفس، وكلام السلف رحمهم الله تعالى من العلماء والعباد، يُبين هذا الأمر، وأن الإنسان يجد مشقة عظيمة في أن يكون عمله خالصًا لوجه الله جل وعلا؛ قال الإمام العابد عبدالعزيز بن أبي رواد رحمه الله تعالى: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيُقبل منهم أم لا؟
وقال بعض السلف: كان يدعون الله ستة أشهر أن يُبلغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وخرج عمر بن عبدالعزيز أمير المؤمنين رحمه الله ورضِي عنه، خرج في يوم عيد فطر، فقال في خطبته: أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم.
كان بعض السلف يظهر عليهم الهم العظيم أن يكون عملهم غير متقبل، ولذلك فإن العمل له علامات ودلائل في قبوله، فإذا وجدها الإنسان صار عنده نوع من الطمأنينة أن الله تعالى تقبل منه، وهو تواصل هذا العمل الصالح، وألا ينقطع عنه، وألا يكون كسحابة صيف هطلت ثم انقطعت، وإنما يكون عمله ديمة متتابعًا، يزداد في المواسم، ويكثر ويبقى أصله مستمرًّا باقيًا دائمًا.
رُوِي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري، من هذا المقبول فنُهنيه، ومن هذا المحروم فنُعزيه، وقال مثل ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، فهنيئًا لمن قبل الله منه، وجبَر الله مصيبة من رد.
وإنما العبرة أيها الإخوة الكرام على ما يقوم في القلوب من الإقبال على الله جل وعلا، وإرادة ما عنده، فإذا صح ما في القلب صح توجُّهُه لله جل وعلا، وأدرك المؤمن خيرًا عظيمًا، وفاز بربح عظيم، وأدرك فلاحًا كبيرًا، وإنما يكون ذلك وفق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، وهذا يكون بقصد التوجه إلى الله جل وعلا وحُسن الظن به، والإزراء على النفس، وعدم الطمأنينة للعمل حتى يلقى الإنسان ربه جل وعلا؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
حتى يأتي الإنسان الموت هو مقيم على العمل الصالح، لا يُبدل ولا يُغير، فمن كان كذلك فقد أدرك الخير العظيم.
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
جاء عن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ورضِي عنه - أنه كتب إلى الأمصار والمسؤولين الذين هم تحت مسؤوليته، كتب إليهم يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة - صدقة الفطر - فإن صدقة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرقع ما تخرَّق من الصيام باللغو والرفث، ولهذا قال بعض العلماء المتقدمين: إن صدقة الفطر للصائم كسجدتي السهو للصلاة، وقال عمر بن عبدالعزيز في كتابه هذا: قولوا كما قال أبوكم آدم: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ﴿ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 82]، وقولوا كما قال نبي الله موسى عليه السلام: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾ [القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
فحري بالمؤمن أن يكون ختامه للشهر على هذا النحو من الاستغفار، وهذا أمر مشاهد، وهذا أمر ملاحظ في التعبد لله جل وعلا الذي شرعه لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أن يبادر المؤمن بذكر الله تعالى وبالتحديد الاستغفار، عقيب انتهائه من العبادة، أليس أول ذكر يدعو به المصلي من أول ما يُسلم أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله؟ وهكذا في تمام الشهر - كما قال الله جل وعلا: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185] - أن يذكر الله جل وعلا، وعلى وجه الخصوص الاستغفار مما قد يكون ند من العبد عن أن يقوم بما أوجب الله سبحانه، وهكذا كانت صدقة الفطر التي هي تمام العمل للمؤمن في شهر الصيام، وقد وصفت بهذا الوصف أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث، وهذا يوجب على المؤمن أن يعتني بإخراج صدقة الفطر على ما بيَّن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا بالنسبة لنوعها، وأن تكون من قوت البلد، ولا بالنسبة لمن تُؤدَى إليه، فإنه ينبغي أن تكون لمن يستحقها، لا على أن تكون على سبيل العادة، أو على سبيل المعرفة والصحبة، وإرادة البر بأناس من الأصدقاء والأقارب، دون نظرٍ لمدى استحقاقهم لذلك، أو عدم استحقاقهم، فهي شعيرة عظيمة وفريضة، يجب على المؤمن أن يؤديها عن نفسه وعمن يعول، وعمن يقوت، وعمن هو مسؤول عنه، هكذا جاء عن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وحَوبنا، اللهم اغفر لنا إنك كنت غفارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجْمَعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّقهم لما تحب وترضى.
اللهم احقن دماء إخواننا في ليبيا وفي سوريا واليمن، وفي غيرها من البلاد.
اللهم ارحم ما نزل بإخواننا في الصومال، اللهم اجبر كسرهم، ويَسِّر أمورهم يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارْحَمهم كما ربونا صغارًا.
ربَّنا اختم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من النار.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، واغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك على كل شيء قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
آمين
تعليق