هبت علينا نسائم رمضان
وفتحت في وجوهنا أبواب الجنان
محمد الأحمدي العلمي الإدريسي
موقع الألوكة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
إخواني، أخواتي، ها هي مواسم الخير ونفحات الهدى تطلُّ علينا من جديد، فلنحمد الباري سبحانه، ونُكثِر من شكره؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، فيا له من شهر كريم، إنه شهر رمضان المبارك، شهر الهدى والفرقان، شهر الرحمات والغفران والعتق من النيران، شهر اصطفاه الله تبارك وتعالى من بين سائر الشهور بشتَّى الخيرات والبركات، وبَشَّر به عبادَه لمن جاهد نفسه فيه بدخول الجنة من باب الريان، فهنيئًا لمن بارك الله في عمره حتى أدرك هذا الفضل، وكان حاضرًا فيه بشتَّى التعبُّدات والقُرُبات، إذن فكيف نستقبل هذا الشهر الكريم؟ وكيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون هذا الشهر بمعية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نستقبله نحن المذنبين المقصِّرين؟ فهل نستقبله بشراء أنواع المأكولات والمشروبات؟ أم براحة وأخذ إجازة من العمل والتفرُّغ للنوم؟ أم بماذا؟ فكُلٌّ منَّا عليه أن يطرح هاته الأسئلة على نفسه، وليجب عليها بكل مصداقية، ولله درُّ القائل:
موقع الألوكة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
إخواني، أخواتي، ها هي مواسم الخير ونفحات الهدى تطلُّ علينا من جديد، فلنحمد الباري سبحانه، ونُكثِر من شكره؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، فيا له من شهر كريم، إنه شهر رمضان المبارك، شهر الهدى والفرقان، شهر الرحمات والغفران والعتق من النيران، شهر اصطفاه الله تبارك وتعالى من بين سائر الشهور بشتَّى الخيرات والبركات، وبَشَّر به عبادَه لمن جاهد نفسه فيه بدخول الجنة من باب الريان، فهنيئًا لمن بارك الله في عمره حتى أدرك هذا الفضل، وكان حاضرًا فيه بشتَّى التعبُّدات والقُرُبات، إذن فكيف نستقبل هذا الشهر الكريم؟ وكيف كان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون هذا الشهر بمعية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نستقبله نحن المذنبين المقصِّرين؟ فهل نستقبله بشراء أنواع المأكولات والمشروبات؟ أم براحة وأخذ إجازة من العمل والتفرُّغ للنوم؟ أم بماذا؟ فكُلٌّ منَّا عليه أن يطرح هاته الأسئلة على نفسه، وليجب عليها بكل مصداقية، ولله درُّ القائل:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربَّه في شهر شعبان لقد أظلَّكَ شهرُ الصومِ بعدهما فلا تُصيِّره أيضًا شهرَ عصيان وَاتْلُ الْكِتابَ، وسبِّح فيه مجتهدًا فإنه شهرُ تسبيحٍ وقرآن واحمل على جسد ترجو النجاة له فسوف تضرم أجساد بنيران كم كنت تعرف ممَّنْ صامَ في سلف من بين أهل وجيران وإخوان أفناهم الموتُ واستبقاك بعدهم حيًّا فما أقرب القاصي من الداني ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غد أثوابَ أكفان حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسان |
بماذا نستقبل هذا الشهر الفضيل أحبابي الكرام، فحريٌّ بالمسلم الكيِّس أن يستقبله بأشياء منها:
1- نستقبله بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل مستوفية لشروطها؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، والرَّحمة هنا كما قال بعض العلماء، هي المغفرة وقبول التوبة والإنابة من العبد المخطئ، وقال جل في علاه: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها - قد أيس من راحلته - فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك - أخطأ من شدة الفرح))؛ رواه البخاري.
2- نستقبل هذا الشهر الفضيل بالدعاء الصالح من حينٍ لآخر بأن يُبلِّغنا رمضان؛ قال سبحانه في كتابه العزيز: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وقال عز من قائل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، فالدعاء أيها الكرام من مستلزمات العبادة؛ بل هو العبادة، والصلة التي تربط الإنسان بخالقه.
3- نستقبل شهر رمضان المبارك بالإكثار من الذكر بشتى أنواعه، وعلى رأس ذلك القرآن الكريم، فرمضان كما قيل: كاد أن يُسمَّى بشهر القرآن، فمِمَّا اشتهر عند السلف الصالح رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتركون مجالس العلم في شهر رمضان، ويتفرَّغون للقرآن؛ قال ابن رجب رحمه الله في كتابه "لطائف المعارف" كان الزهري رحمه الله إذا دخل رمضان يقول: إنما هو شهر قراءة القرآن وإطعام الطعام، وقال عبدالرزاق رحمه الله: كان سفيان الثوري رحمه الله إذا دخل رمضان، ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن.
4- كما نستقبل شهر رمضان الكريم بالعلم والفقه بأحكام الصيام، فيما يتعلَّق بفرائض الصيام وسُنَنه ومستحبَّاته ومكروهاته قبل حلوله؛ لكي يكون صومنا إن شاء الله عن علم؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7].
5- رمضان كباقي الشهور غلاف زمني يذهب بسرعة؛ لذا على المسلم أن يغتنم وقته، فهو فرصة العمر، فعليه ألَّا يُضيِّعه فيما لا يفيد من الهواتف الذكية والمسلسلات الملهية، فالمسلم حريصٌ على وقته، وله شعور وعلم بأن الباري سيُحاسبه عليه، ففي الأثر قال عليه الصلاة والسلام: ((نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحَّة والفراغ))؛ أخرجه البخاري، وروى الإمام ابنُ حِبَّان والترمذيُّ في جامِعِه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ((لاتزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عَن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ، وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ، وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ))؛ رواه الترمذي.
ونظرًا لأهمية الوقت وقيمته، فإن الله تبارك وتعالى أقسم به في كثير من آياته لبيان أهميته، وعظيم منفعته، ولقد أقسم الله سبحانه بأزمان وأوقات معينة؛ وذلك لبيان شرف الزمان، وشرف الوقت؛ فقال الله تعالى: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2]، وقال جل في علاه: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 1، 2]، وغير ذلك من الآيات البيِّنات في القرآن الكريم التي تتعلق بهذا الجانب، وفي هذا السياق نجد الشاعر أبا العتاهية يقول:
أَنَلهو وَأَيّامُنا تَذهَبُ *** وَنَلعَبُ وَالمَوتُ لا يَلعَبُ
6- يتطلب من المسلم أن يستقبل هذا الشهر الكريم بحُسْن الإرادة والعزيمة والقصد والإخلاص، بحيث إن هذا الأخير يقتضي من كل مسلم؛ بل وفي كل عمل يتقرَّب به إلى الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، وقال جل في علاه: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، إذن فالإخلاص كما هو معلوم، هو روح الطاعات، ومِفْتاح القبول؛ بل وسبب لمعونة وتوفيق رب الكائنات، وعلى قدر النيَّة والإخلاص والصدق مع الله تكون معونة الله لعبده المؤمن، قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: وعلى قدر نية العبد وهِمَّته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه وإعانته من الله تعالى.
7- يقتضي من كل مسلم أن يستقبل شهر رمضان بسلامة الصدر مع كافة المسلمين والمسلمات، بحيث لا تكون بينك وبين أي مسلم شحناء إلا وعفوت عنه، إذا كان الباري يعفو ويصفح، فأولى بنا نحن المذنبين بالعفو والمغفرة بعضنا عن بعض، حتى يعفو سبحانه عنا، كما جاء في الأثر؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((يطَّلِع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو لمشاحن))؛ صحيح الترغيب والترهيب 1016.
فبسلامة الصدر بلغ ما بلغ الصحابي الجليل المشهور الذي بشَّرَه النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة، جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: "كنا يومًا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((يطلع عليكم الآن من هذا الفجِّ رجلٌ من أهل الجنة))، قال: فطلع رجلٌ من أهل الأنصار تَنْطُفُ لحيتُه من وضوئه، قد علَّق نعلَيْه في يده الشمال، فسلَّم، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تَبِعَه عبدُالله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحَيْتُ أبي، فأقسمت ألَّا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضيَ الثلاث، فعلت، قال: نعم، قال أنس: كان عبدالله يُحدِّث أنه بات معه ثلاثَ ليالٍ، فلم يره يقومُ من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارَّ، انقلب على فراشِه، وذكر الله، وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلَّا خيرًا، فلما مضَتِ الثلاث، وكِدْتُ أحتقر عمله، قلت: يا عبدَالله، لم يكن بيني وبين والدي هجرة ولا غضب؛ ولكني سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: ((يَطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنة))، فطلَعتَ ثلاث مرات، فأردتُ أن آوي إليك؛ لأنظرَ ما عملُك، فأقتديَ بك، فلم أرَكَ تعملُ كبيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيتَ، قال: فانصرفتُ عنه، فلما ولَّيْتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيْتَ، غير أني لا أَجِدُ في نفسي على أحدٍ من المسلمين غشًّا، ولا أحسدُه على ما أعطاه الله إيَّاه، فقال عبدالله: هذه التي بلغَتْ بك هي التي لا نطيق"؛ رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم.
8- نستقبل شهر رمضان الكريم بالاهتمام بالواجبات، وعلى رأس ذلك الصلوات الخمس لوقتها لمن كان يتهاون على أدائها في الوقت أو الجماعة، بالإضافة إلى العزم القوي على حفظ الصيام من اللغو والرفث وكل المكروهات والمحرَّمات، ثم أيضًا المحافظة على الأوراد القرآنية؛ بل وكل أنواع الذكر؛ من تسبيح، وحمد، وحوقلة، وصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصدقة، وصلة الأرحام، وتفقُّد اليتامى والمرضى والمحتاجين والمعوزين، بالإضافة الى إتقان العمل الذي يزاوله المسلم لقوت يومه، فهذا الأخير طاعة يتقرَّب من خلاله إلى الله سبحانه مع اصطحاب النية في ذلك، ثم أيضًا حفظ الجوارح من الآثام، صغيرها وكبيرها؛ حتى يكون صومُنا صومَ الصالحين إن شاء الله تعالى.
9- كما أننا نستقبل شهر رمضان المعظَّم بمحاسبة النفس من حينٍ لآخر، وهذا الأخير دَأْبُ سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر الخليفة الراشدي الثاني، نجده يقول رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر"، فما بالنا نحن المذنبين المقصِّرين المفرِّطين في جنب الله؛ لذا على العبد أن يستحضر مراقبة الله عز وجل له في كل حركاته وسكناته، ويستشعر نفسه دائمًا بالتقصير والتفريط حتى يجتهد في تعبُّداته وقُرباته إلى الباري عز وجل.
10- رمضان كما هو معلوم عند سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، محطة للانتصار على النفس وشهواتاها، وأهوائها، ومن ثمة كان حريٌّ بالمسلم الكيِّس أن ينتصر عليها، فلقد كان السلف الصالح قِمَمًا في الاقتداء، ونبراسًا في التأسِّي والاهتداء بهَدْي ربِّ الأرض والسماء، ففي كل صغيرة وكبيرة من أمور حياتهم، وشؤون عيشهم، يتحرُّون سُنَّة نبيِّهم، ويتلمَّسون منهاج رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم، فنالوا بذلك وسامَ خيرِ القرون، وفازوا بصُحْبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقَّقُوا بهذا الاتِّباع إنجازات عظيمة وانتصارات باهرة، سجَّلَها تاريخُ الإسلام، من سرايا وغزوات متعددة، وفتوحات مباركة، ولنا في كتب سيرته العطرة خيرُ دليلٍ؛ لكنه للأسف الشديد أصبح شهر رمضان لدى الكثير منا، شهر النزوات والشهوات واستجابة للرغبات، فيا ليتنا نعتبر من تاريخنا، ونتحسَّر عند قراءتنا المتأنِّية له! فما انهزمنا إلَّا من هذا الجانب؛ جانب النفس المتعلِّق بأهوائنا وشهواتنا؛ قال عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
11- ينبغي للمسلم الذي فقه عن الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون له برنامج يومي يتفرَّغ فيه للدعوة إلى الله عز وجل بشتَّى السُّبُل والوسائل، في كل مكان، وكل زمان، ولا سيَّما في شهر رمضان، فهي مهمة الأنبياء والرسل صلوات ربي وسلامه عليهم، فما من نبي إلا قام داعية ومعلمًا؛ يقول الباري جَلَّ في علاه: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، ويقول عز من قائل: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، والبصيرة: كما قال السادة العلماء، هي العلم النافع والعمل الصالح؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، وفي هذا السياق نجد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال لِعَليٍّ رضي الله عنه: ((فواللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم))؛ متفقٌ عليهِ.
وعن عبدِاللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنْهُما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بلِّغُوا عَنِّي ولَوْ آيَةً، وحَدِّثُوا عنْ بَنِي إسْرَائيل وَلا حَرجَ، ومنْ كَذَب علَيَّ مُتَعمِّدًا، فَلْيتبَوَّأْ مَقْعَدهُ مِنَ النَّار))؛ رواه البخاري.
وعنْ أَبي هُريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ومَنْ سلَك طرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ))؛ رواهُ مسلمٌ.
12- رمضان شهر الجود والكرم والمسارعة إلى الخيرات والتنافس فيها، ومن هذه الخيرات إفطار الصائم، والتي لها دور رئيس في زيادة روابط المودَّة والمحبَّة بين المسلمين؛ عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من فطَّرَ صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء))؛ رواه الترمذي.
فإفطار الصائم من أنواع الجود، الذي هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل، كان أجود بالخير من الريح المرسلة"؛ رواه البخاري.
قال الإمام النووي رحمه الله: وفي هذا الحديث فوائد منها: بيان عظم جوده صلى الله عليه وسلم، ومنها استحباب إكثار الجود في رمضان، ومنها زيادة الجود والخير عند مُلاقاة الصالحين، وعقب فراقهم؛ للتأثُّر بلقائهم.
وختامًا:
على المسلم الكيِّس أن يكون له هدف من وجوده، يغتنم نفحات الرحمن، كي لا يكون ممن أدركوا رمضان إدراك زمان، بل يسعى جاهدًا ليكون ممن أدرك رمضان كفَضْلٍ وإحسانٍ؛ قال الشاعر:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا فإنما الربح والخسران في العمل |
تعليق