الحوار من أفضل الأساليب المعبرة عن الأفكار، لأنه سماع وتفاعل تشتركُ فيه كثير من الحواس الظاهرية والوجدانية والفكرية، مما يجعله عالقاً في النفس، مؤثراً فيها .. ولقد اهتم الإسلام بفنون وآداب الحوار اهتماماً بالغا، وذلك لأن الطبيعة الإنسانية ميالة بفطرتها إلى الحوار وربما الجدال، قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:٥٤] بل إن صفة الحوار أو الجدال لدى الإنسان تمتد حتى إلى ما بعد الموت، إلى يوم الحساب كما يخبرنا القرآن الكريم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل:١١١]، لكن لو بحثنا في تراثنا الإسلامي الأخلاقي عن استعمال للفظة «نقد» فلن نجدها، ولوجدنا مفردات بديلة مثل «التسديد» «إهداء العيوب» «إقالة العثرات» «الوعظ» «المحاسبة» «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» «النصيحة».
إن الغاية من الحوار إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من الرأي، فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال المنطقي للوصول إلى الحق المبين .. يقول الحافظ الذهبي: «إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ».
وكلما كانت هناك مرجعية قوية ومشتركة كلما كان الحوار أكثر إيجابية وتكاملاً وتناغماً، وعلى العكس كلما ضعفت المرجعية أو تشتتت أو تعارضت كلما تعطلت مسارات الحوار أو ضاقت وأصبح النقاش أقرب إلى الضجيج. ولذلك ففي فترات التحول الاجتماعي - خاصة المفاجئة أو السريعة - نجد أن الحوار يصبح أكثر صخباً وتشابكاً وتشتتاً نظراً لاختلاف المرجعيات المعرفية للفئات المختلفة اختلافاً شديداً يجعلها لا تملك الحد الأدنى للاتفاق على أي شيء، وتضيع منها كل الثوابت، بل يصبح كل شيء قابلاً للطعن والتشكيك والتسفيه.
كما أن إتباع الحق، والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام به؛ هو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا اعوج فيه ولا التواء، أو خضوع لهوى الجمهور، أو الأتْباع .. والعاقل -فضلاً عن المسلم- الصادق، طالبٌ حقٍّ، باحثٌ عن الحقيقة، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ.
يقول الغزالي أبو حامد: «التعاون على طلب الحق من الدّين، ولكن له شروط وعلامات؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له».
ومن مقولات الإمام الشافعي المأثورة: «ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه. وما ناظرني فبالَيْتُ أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني».
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق، يقول الغزالي –رحمه الله-: «إن التعصّب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه. ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير لنجحوا فيه، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم».
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب، خالصاً لطلب الحق، خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس، ويُولد النَّفرة، ويُوغر الصدور، وينتهي إلى القطيعة.
أيضا أفكارنا التي نحملها أشبه بلوحات فنية جميلة رسمت بريشة فنان معروف بسحر يديه، ومشهور برحابة خياله، ومشهود له ببراعته في اختيار ألوان زاهية براقة، يبدع لنا في كل مرة مناظر طبيعية خلابة وجميلة.
وتلك اللوحة الجميلة بحاجة إلى إطار «برواز» جميل يتناسب مع جمالها ويتناسق مع ألوانها ويكمل روعتها ويضفي البهاء على سحرها الزاهي .. إن الكلمات التي نختارها والألفاظ التي نستعملها والجمل التي نسطرها هي بمثابة ذلك الإطار لتلك اللوحة الجميلة .. فاحرص كل الحرص على اختيار إطاراً جميلاً للوحتك الخلابة لتزداد روعة إلى روعتها، فيزداد محاورك بها إعجاباً، وتسهل عليك مهمة إقناعه فيما تحمل من أفكار ومعتقدات، أو على الأقل يقترب منك خطوة بدل أن يبتعد عنك ميلاً، مهدداً ومزمجراً بسبب فشلك في اختيار حروفك وجملك وألفاظك.
وحين نؤمن بفضيلة الخلق الحسن، ومنزلة الأخلاق الفاضلة، ووجوب الإحسان إلى الناس جميعا بل وحتى الحيوان، وأن نقول للناس حسنى، وأن نختار لإخواننا ليس حسن الكلام فحسب، بل وأحسنه وأطيبه .. حين تتأكد قناعتنا بكل ذلك، نكون قد احترفنا فن الحوار، ولا يخيم على مناقشاتنا «السوداوية الحوارية» التي يسودها طابور من الأخلاق المشينة، والألفاظ البذيئة وغير المهذبة، وأمهر الأساليب والفنون في تنقص المخالفين وتحقيرهم!.
وحين نؤمن بأن العدل واجب وفرض لازم، وأن الشريعة الإسلامية توجب على المسلم أن يعدل مع الجميع، ولو كان عدوه وشانئه، فالعدل مبدأ لا مصلحة، وخلق لا تجارة .. حين تتأكد قناعتنا بكل ذلك، لن يكون هناك مبررا إذا خُصمنا أو خاصمنا أن نسف المخالف بكليته، ونرمي حقه وباطله، وتغدو محاسنه مساويا لا يمكن لصاحبها أن يعتذر.
د/ خالد سعد النجار
إن الغاية من الحوار إقامةُ الحجة، ودفعُ الشبهة والفاسد من الرأي، فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال المنطقي للوصول إلى الحق المبين .. يقول الحافظ الذهبي: «إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ».
وكلما كانت هناك مرجعية قوية ومشتركة كلما كان الحوار أكثر إيجابية وتكاملاً وتناغماً، وعلى العكس كلما ضعفت المرجعية أو تشتتت أو تعارضت كلما تعطلت مسارات الحوار أو ضاقت وأصبح النقاش أقرب إلى الضجيج. ولذلك ففي فترات التحول الاجتماعي - خاصة المفاجئة أو السريعة - نجد أن الحوار يصبح أكثر صخباً وتشابكاً وتشتتاً نظراً لاختلاف المرجعيات المعرفية للفئات المختلفة اختلافاً شديداً يجعلها لا تملك الحد الأدنى للاتفاق على أي شيء، وتضيع منها كل الثوابت، بل يصبح كل شيء قابلاً للطعن والتشكيك والتسفيه.
كما أن إتباع الحق، والسعي للوصول إليه، والحرص على الالتزام به؛ هو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا اعوج فيه ولا التواء، أو خضوع لهوى الجمهور، أو الأتْباع .. والعاقل -فضلاً عن المسلم- الصادق، طالبٌ حقٍّ، باحثٌ عن الحقيقة، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ.
يقول الغزالي أبو حامد: «التعاون على طلب الحق من الدّين، ولكن له شروط وعلامات؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له».
ومن مقولات الإمام الشافعي المأثورة: «ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان، وتكون عليه رعاية الله وحفظه. وما ناظرني فبالَيْتُ أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني».
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق، يقول الغزالي –رحمه الله-: «إن التعصّب من آفات علماء السوء، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه. ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة، لا في معرض التعصب والتحقير لنجحوا فيه، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم».
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب، خالصاً لطلب الحق، خالياً من العنف والانفعال، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة مما يفسد القلوب، ويهيج النفوس، ويُولد النَّفرة، ويُوغر الصدور، وينتهي إلى القطيعة.
أيضا أفكارنا التي نحملها أشبه بلوحات فنية جميلة رسمت بريشة فنان معروف بسحر يديه، ومشهور برحابة خياله، ومشهود له ببراعته في اختيار ألوان زاهية براقة، يبدع لنا في كل مرة مناظر طبيعية خلابة وجميلة.
وتلك اللوحة الجميلة بحاجة إلى إطار «برواز» جميل يتناسب مع جمالها ويتناسق مع ألوانها ويكمل روعتها ويضفي البهاء على سحرها الزاهي .. إن الكلمات التي نختارها والألفاظ التي نستعملها والجمل التي نسطرها هي بمثابة ذلك الإطار لتلك اللوحة الجميلة .. فاحرص كل الحرص على اختيار إطاراً جميلاً للوحتك الخلابة لتزداد روعة إلى روعتها، فيزداد محاورك بها إعجاباً، وتسهل عليك مهمة إقناعه فيما تحمل من أفكار ومعتقدات، أو على الأقل يقترب منك خطوة بدل أن يبتعد عنك ميلاً، مهدداً ومزمجراً بسبب فشلك في اختيار حروفك وجملك وألفاظك.
وحين نؤمن بفضيلة الخلق الحسن، ومنزلة الأخلاق الفاضلة، ووجوب الإحسان إلى الناس جميعا بل وحتى الحيوان، وأن نقول للناس حسنى، وأن نختار لإخواننا ليس حسن الكلام فحسب، بل وأحسنه وأطيبه .. حين تتأكد قناعتنا بكل ذلك، نكون قد احترفنا فن الحوار، ولا يخيم على مناقشاتنا «السوداوية الحوارية» التي يسودها طابور من الأخلاق المشينة، والألفاظ البذيئة وغير المهذبة، وأمهر الأساليب والفنون في تنقص المخالفين وتحقيرهم!.
وحين نؤمن بأن العدل واجب وفرض لازم، وأن الشريعة الإسلامية توجب على المسلم أن يعدل مع الجميع، ولو كان عدوه وشانئه، فالعدل مبدأ لا مصلحة، وخلق لا تجارة .. حين تتأكد قناعتنا بكل ذلك، لن يكون هناك مبررا إذا خُصمنا أو خاصمنا أن نسف المخالف بكليته، ونرمي حقه وباطله، وتغدو محاسنه مساويا لا يمكن لصاحبها أن يعتذر.
د/ خالد سعد النجار