كانت معابد الجاهلية هي التي تقام لعبادة شركية بدعية، يُتقرَّب فيها أهل الجاهلية إلى غير الله تعالى من أوثان وشركاء، أو تقام لعبادة الله لكن بواسطة أرضية يقول عنها أصحابها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[الزمر:3]. والعلة في كونها "معابد جاهلية" ليس أشكال بنائها ولا هندسة جدرانها، وإنما علة ذلك كونها تَمنع فيها عبادة الله تعالى وحده، ونشر دين الله الصحيح على مراد الله تعالى ومراد رُسُله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وتقوم بتعبيد الناس لقيصر باسم الدين..
ولا يقتصر ذلك على بِيَع وصلوات وكنائس مَن قَبلنا أو مَن معنا من الأمم الكتابية أو غيرها، بل حتى مساجدنا أريد لها أن تكون معابد جاهلية!!
فها أنت ترى كيف يُمنع مِن مساجد الله تعالى مَن يَكفر بالجاهلية المتمثلة في أنظمة وضعية أو أشخاص على رأسها، فلا يُسمَح حتى بالدعاء- ولو بالعموم- على الظلمة والقَتلة وناشري الإلحاد والإباحية في الأمة؛ لأن القائمين على المساجد في أهرام الأنظمة جاهليون؛ ويعلمون أنهم جاهليون لذلك هم يخشون من هذه الأدعية، تمامًا كما فعل عتبة بن أبي ربيعة؛ وقد أرسلته قريش إلى محمد صلى الله عليه وسلم يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشًا وعاب آلهتهم، على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج! فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاستمع مني». قال: أفعل. قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} .. ثم مضى حتى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ}[النجم:1- 13] .. عندئذ هبَّ عتبة يمسك بفم النبي صلى الله عليه وسلم في ذُعْرٍ؛ وهو يقول: ناشدتك الرحم أن تكف.. وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر". فحتى هؤلاء يعلمون أنهم أهلٌ لِأَنْ تنزل عليهم عقوباتُ الله، وأن يستجيب الله تعالى لمظلوميهم، لكن الفارق أن عتبه ناشده الرحم، أما هؤلاء فناشدوا طُغيانهم وجبروتهم أن ينصبَّ على المستضعفين، سجنا وقتلا وطردا أو إثباتًا في السجون والمعتقلات والإقامات الجبرية؛ تلك السجون الواسعة!
إذا مُنِع الإمام من تفسير بعض آي القرآن الكريم في دروسه؛ لأنها لا تروق للجاهلية، أو حتى مُنع من قراءتها في الصلاة، وقد حدث عندنا – واقعا ليس فرضًا- أن قرأ الإمام من سورة براءة فاتّهِم بأنه محرض، والذي اتَهمه اصحاب بيعة أولياء الأمور!
وقد حدث في التاريخ وأن بسط الفرعون الأول يده على بيوت الله وعلى المعابد، واضطهد قاصديها، فشرَّع الله لهم صلاتهم في بيوتهم، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87]. فأمرهم ببيوتهم فيتخذوها مساجدَ ويوجهوها إلى القبلة، ليُخلصوا لله العبادة، معتزلين من اتخذ بيوت الله معابد للفرعون الجاهلي؛ يسبحون فيه بحمده ويستقبلون رضاه بقلوبهم وفعالهم وإن استقبلوا القبلة بأجسامهم!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "في قوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين}، قال: "قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نُظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة"، وعن مجاهد يقول: «اجعلوا مساجدكم نحو الكعبة، وذلك حين خاف موسى ومن معه من فرعون وقومه أن يصلوا في الكنائس الجماعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبل الكعبة يصلون فيها"[انظر تفسير الطبري وغيره].
لقد شنَّع بعض (السُّذَّجُ البسطاءُ) على سيد قطب رحمه الله حين تكلم عن معابد الجاهلية لما تكلم عن قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ورمَوْهُ بالتكفير، وكان قصارى فهمهم للجاهلية أنها فترة مضت وانقضت، أو أن أصنام العالم إنما هي فقط من تمر أو حجر أو كاهن يدَّعي علم الغيب!، وفي هذه القصة وتفسير هذه الاية يقول سيد قطب رحمه الله: "وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة- وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها- ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور؟[في ظلال القرآن: 3/ 1816].
إن سيد قطب يتحدث عن شيء وقع في الواقع وصدّقه القرآن الكريم في تاريخ الرسل- عليهم السلام-, والذي حدث يظل يحدث ما كان الحق والباطل, وأعطى حلَّه القرآني إذا وقع كما كان حاله وحلّه لـمّا وقع... وما كان يحكي عن بلدٍ بعينه أو مساجد بعينها, بل ولا قصد التعميم المزعوم.
وكل هذا الذي نقوله ليس تَمَحُّلًا لسيد، وإنما هو ما نطق به كلامه..ألا تراه يقول:(وقد يجد المؤمنون أنفسهم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمَّت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة). وهذا هو سبب ذاك الإرشاد، وهو الذي ذكره المفسرون سببًا للإرشاد الوارد في الآية، وهو خوف المؤمنين على أنفسهم حال تجبر الطاغوت كما جاء عن مجاهد وقتادة والضحاك:(لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتَلوا في الكنائس الجامعة..) كما في تفسير ابن كثير وغيره..
فهو إذَن ما تكلم عن "مساجد الله" كما يزعم الجرّاحون أو المساجد وهي لله تعالى؛ ولكنه تكلم عنها حين لا تكون لله واقعا وإن بُنيت باسمه، وإنما تصبح مؤسسة من مؤسسات الدول والأنظمة، يحميها القانون وتحميه، ويكون طاقمها من إمام وقيِّم وغيرهما جنودًا يكمِّلون الدَّور.. ويُخَدَّرُون الناس ويبعدونهم عن حقيقة دينهم أكثر مما يقربونهم إليه.. ويبعدونه عن عبادة ربهم حتى الصلاة صارت مشوَّهة والقراءة المليئة بالأخطاء إلى درجة التحريف وتغيير المعنى مما قد يبطل تلك الصلاة، ودع عنك صوت المؤذن وأدائه.. وتُغلق المساجد بعد (الصلاة) مباشرة.. وإذا غاب طاقم المسجد فإنَّ أذان غير الرسميين أو صلاته بالمسلمين جريمة يعاقب عليها القانون ستة أشهر نافذة، في مادة قانونية منصوصة، فيُسقِطون سنة الأذان أو فرضه الكفائي بموجب القانون، فأي جاهلية هذه تحكم؟!.. وبعض هذا الطاقم يحصون عدد وأسماء الملتزمين أو الملتحين فقط (سنة أتباع الرسل) ويقدمونهم قرابين، وكم ذهب ذاهبٌ من صلاة الفجر أو العشاء فلم يَعُد!.، ومساجد أئمتها يحرصون على الدعاء لحكامهم وطلب طاعتهم وتجريم مخالفهم والخارج عنهم والخارج عليهم أكثر مما يدعون إلى الله تعالى، وأكثر مما يُجَرِّمون من يخرجون على طاعته والذين يسبونه-سبحانه- ويهينون كتابه الذي فيه كلامه... ومساجد مبنية على سيدهم فلان أو لالاَّهم فلانة.. يُدعَونهم مع الله أو من دونه.. أليست هذه معابد جاهلية؟! أليست الكنائس والبِيَعُ معابد جاهلية؟ وهل أنزلها هذه المنـزلة إلا ما فيها مما لا يرضاه الله تعالى؟. وإنَّ حال كثير من المساجد في كثير من بلاد المسلمين لا تعدوا أن تكون مساجد ضرار- في نوع من أنواع الضرار الكثيرة- ضرارٌ بالعقيدة والتوحيد، وضرارٌ بالمنهج.. وبالعبادة والعباد..وضرار بالسنة... ولم يشفع لمسجد الضرار اسمه مسجدًا أن حرَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ومما يؤكد إرادتهم بالمساجد أنه إذا تكلّم الدعاة في المساجد كلامة سياسة أو تغيير منكرات القصور، قالوا: هذا تسييس للدين ودور العبادة، أما غذا تكلَّم إمامهم عن سياسة طاعة ولي الأمر والسمع له والخضوع والخنوع، وتقديس الرئيس كرمزٍ وطني فهو عندئذ صواب، ويكون دَوْرُ دُورِ العبادة جمع شمل الأمة ولمِّ شتاتها!! {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}[التوبة: 37].
إن المساجد تكون لله تعالى إذا كانت لذكر الله تعالى وتوحيده لا يُدْعى فيها غيره- سبحانه- ولا يدعى إلى غيره ربًّا وإلهاً وولياً وحاكما- سبحانه وتعالى-، وإلا يحدث لها مثل ما حدث للدين حين أردوه أفيونا للشعوب، واردوا شيوخه تُجَّارًا لهذا الأفيون!
وحتى نقطع الطريق على قُطَّاع الطريق، فإن المساجد بيوت الله، وينبغي أن تبقى بيوتًا لله سبحانه، وإن احتلتها العَلمانية زمانًا، وواجبنا أن نظل نحمل أمانة المدافعة حتى لا نسمح لهم بأن يجعلوها معابدَ جاهلية، لكن على سَنَنٍ مِنَ السُّنَن، وبالمراوحة بين الرُّخَص والعزائم حتى يأذن الله تعالى بنصرها وتحريرها. وعسى أن يكون قريبًا بإذن الله تعالى. وقد كنت وضعتُ العنوان: معابد الجاهلية، ولكن خشية سوء الفهم، عدَّلته بما يُفهم أن مرادهم هو الذي يريد أن يجعلها معابد جاهلية لا قدَّرهم الله.
ولا يقتصر ذلك على بِيَع وصلوات وكنائس مَن قَبلنا أو مَن معنا من الأمم الكتابية أو غيرها، بل حتى مساجدنا أريد لها أن تكون معابد جاهلية!!
فها أنت ترى كيف يُمنع مِن مساجد الله تعالى مَن يَكفر بالجاهلية المتمثلة في أنظمة وضعية أو أشخاص على رأسها، فلا يُسمَح حتى بالدعاء- ولو بالعموم- على الظلمة والقَتلة وناشري الإلحاد والإباحية في الأمة؛ لأن القائمين على المساجد في أهرام الأنظمة جاهليون؛ ويعلمون أنهم جاهليون لذلك هم يخشون من هذه الأدعية، تمامًا كما فعل عتبة بن أبي ربيعة؛ وقد أرسلته قريش إلى محمد صلى الله عليه وسلم يفاوضه في الكف عن هذا الذي فرق قريشًا وعاب آلهتهم، على أن يكون له منهم ما يريد من مال أو رياسة أو زواج! فلما انتهى من عرضه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «فاستمع مني». قال: أفعل. قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} .. ثم مضى حتى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ}[النجم:1- 13] .. عندئذ هبَّ عتبة يمسك بفم النبي صلى الله عليه وسلم في ذُعْرٍ؛ وهو يقول: ناشدتك الرحم أن تكف.. وعاد إلى قريش يقص عليهم الأمر". فحتى هؤلاء يعلمون أنهم أهلٌ لِأَنْ تنزل عليهم عقوباتُ الله، وأن يستجيب الله تعالى لمظلوميهم، لكن الفارق أن عتبه ناشده الرحم، أما هؤلاء فناشدوا طُغيانهم وجبروتهم أن ينصبَّ على المستضعفين، سجنا وقتلا وطردا أو إثباتًا في السجون والمعتقلات والإقامات الجبرية؛ تلك السجون الواسعة!
إذا مُنِع الإمام من تفسير بعض آي القرآن الكريم في دروسه؛ لأنها لا تروق للجاهلية، أو حتى مُنع من قراءتها في الصلاة، وقد حدث عندنا – واقعا ليس فرضًا- أن قرأ الإمام من سورة براءة فاتّهِم بأنه محرض، والذي اتَهمه اصحاب بيعة أولياء الأمور!
وقد حدث في التاريخ وأن بسط الفرعون الأول يده على بيوت الله وعلى المعابد، واضطهد قاصديها، فشرَّع الله لهم صلاتهم في بيوتهم، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:87]. فأمرهم ببيوتهم فيتخذوها مساجدَ ويوجهوها إلى القبلة، ليُخلصوا لله العبادة، معتزلين من اتخذ بيوت الله معابد للفرعون الجاهلي؛ يسبحون فيه بحمده ويستقبلون رضاه بقلوبهم وفعالهم وإن استقبلوا القبلة بأجسامهم!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "في قوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين}، قال: "قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نُظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة"، وعن مجاهد يقول: «اجعلوا مساجدكم نحو الكعبة، وذلك حين خاف موسى ومن معه من فرعون وقومه أن يصلوا في الكنائس الجماعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبل الكعبة يصلون فيها"[انظر تفسير الطبري وغيره].
لقد شنَّع بعض (السُّذَّجُ البسطاءُ) على سيد قطب رحمه الله حين تكلم عن معابد الجاهلية لما تكلم عن قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ورمَوْهُ بالتكفير، وكان قصارى فهمهم للجاهلية أنها فترة مضت وانقضت، أو أن أصنام العالم إنما هي فقط من تمر أو حجر أو كاهن يدَّعي علم الغيب!، وفي هذه القصة وتفسير هذه الاية يقول سيد قطب رحمه الله: "وهذه التجربة التي يعرضها الله على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة- وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم الله إلى أمور:
اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها- ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد الله لها.
اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي، وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور؟[في ظلال القرآن: 3/ 1816].
إن سيد قطب يتحدث عن شيء وقع في الواقع وصدّقه القرآن الكريم في تاريخ الرسل- عليهم السلام-, والذي حدث يظل يحدث ما كان الحق والباطل, وأعطى حلَّه القرآني إذا وقع كما كان حاله وحلّه لـمّا وقع... وما كان يحكي عن بلدٍ بعينه أو مساجد بعينها, بل ولا قصد التعميم المزعوم.
وكل هذا الذي نقوله ليس تَمَحُّلًا لسيد، وإنما هو ما نطق به كلامه..ألا تراه يقول:(وقد يجد المؤمنون أنفسهم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمَّت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة). وهذا هو سبب ذاك الإرشاد، وهو الذي ذكره المفسرون سببًا للإرشاد الوارد في الآية، وهو خوف المؤمنين على أنفسهم حال تجبر الطاغوت كما جاء عن مجاهد وقتادة والضحاك:(لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتَلوا في الكنائس الجامعة..) كما في تفسير ابن كثير وغيره..
فهو إذَن ما تكلم عن "مساجد الله" كما يزعم الجرّاحون أو المساجد وهي لله تعالى؛ ولكنه تكلم عنها حين لا تكون لله واقعا وإن بُنيت باسمه، وإنما تصبح مؤسسة من مؤسسات الدول والأنظمة، يحميها القانون وتحميه، ويكون طاقمها من إمام وقيِّم وغيرهما جنودًا يكمِّلون الدَّور.. ويُخَدَّرُون الناس ويبعدونهم عن حقيقة دينهم أكثر مما يقربونهم إليه.. ويبعدونه عن عبادة ربهم حتى الصلاة صارت مشوَّهة والقراءة المليئة بالأخطاء إلى درجة التحريف وتغيير المعنى مما قد يبطل تلك الصلاة، ودع عنك صوت المؤذن وأدائه.. وتُغلق المساجد بعد (الصلاة) مباشرة.. وإذا غاب طاقم المسجد فإنَّ أذان غير الرسميين أو صلاته بالمسلمين جريمة يعاقب عليها القانون ستة أشهر نافذة، في مادة قانونية منصوصة، فيُسقِطون سنة الأذان أو فرضه الكفائي بموجب القانون، فأي جاهلية هذه تحكم؟!.. وبعض هذا الطاقم يحصون عدد وأسماء الملتزمين أو الملتحين فقط (سنة أتباع الرسل) ويقدمونهم قرابين، وكم ذهب ذاهبٌ من صلاة الفجر أو العشاء فلم يَعُد!.، ومساجد أئمتها يحرصون على الدعاء لحكامهم وطلب طاعتهم وتجريم مخالفهم والخارج عنهم والخارج عليهم أكثر مما يدعون إلى الله تعالى، وأكثر مما يُجَرِّمون من يخرجون على طاعته والذين يسبونه-سبحانه- ويهينون كتابه الذي فيه كلامه... ومساجد مبنية على سيدهم فلان أو لالاَّهم فلانة.. يُدعَونهم مع الله أو من دونه.. أليست هذه معابد جاهلية؟! أليست الكنائس والبِيَعُ معابد جاهلية؟ وهل أنزلها هذه المنـزلة إلا ما فيها مما لا يرضاه الله تعالى؟. وإنَّ حال كثير من المساجد في كثير من بلاد المسلمين لا تعدوا أن تكون مساجد ضرار- في نوع من أنواع الضرار الكثيرة- ضرارٌ بالعقيدة والتوحيد، وضرارٌ بالمنهج.. وبالعبادة والعباد..وضرار بالسنة... ولم يشفع لمسجد الضرار اسمه مسجدًا أن حرَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ومما يؤكد إرادتهم بالمساجد أنه إذا تكلّم الدعاة في المساجد كلامة سياسة أو تغيير منكرات القصور، قالوا: هذا تسييس للدين ودور العبادة، أما غذا تكلَّم إمامهم عن سياسة طاعة ولي الأمر والسمع له والخضوع والخنوع، وتقديس الرئيس كرمزٍ وطني فهو عندئذ صواب، ويكون دَوْرُ دُورِ العبادة جمع شمل الأمة ولمِّ شتاتها!! {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}[التوبة: 37].
إن المساجد تكون لله تعالى إذا كانت لذكر الله تعالى وتوحيده لا يُدْعى فيها غيره- سبحانه- ولا يدعى إلى غيره ربًّا وإلهاً وولياً وحاكما- سبحانه وتعالى-، وإلا يحدث لها مثل ما حدث للدين حين أردوه أفيونا للشعوب، واردوا شيوخه تُجَّارًا لهذا الأفيون!
وحتى نقطع الطريق على قُطَّاع الطريق، فإن المساجد بيوت الله، وينبغي أن تبقى بيوتًا لله سبحانه، وإن احتلتها العَلمانية زمانًا، وواجبنا أن نظل نحمل أمانة المدافعة حتى لا نسمح لهم بأن يجعلوها معابدَ جاهلية، لكن على سَنَنٍ مِنَ السُّنَن، وبالمراوحة بين الرُّخَص والعزائم حتى يأذن الله تعالى بنصرها وتحريرها. وعسى أن يكون قريبًا بإذن الله تعالى. وقد كنت وضعتُ العنوان: معابد الجاهلية، ولكن خشية سوء الفهم، عدَّلته بما يُفهم أن مرادهم هو الذي يريد أن يجعلها معابد جاهلية لا قدَّرهم الله.