بسم الله الرحمن الرحيم
عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: « يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: " قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» ، وفي سؤال عائشة كما في إِجابة النبي لها بهذه الإجابة عدة وقفات تربوية أوجز أظهرها فيما يلي:
الوقفة الاولى :حرص عائشة رضي الله عنها على تعلم ما ينفعها: عائشة هي بنت أبي بكر الصِّدِّيق ، أم المؤمنين، زوجة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفقه نساء الأمَّة على الإطلاق، تزوجها النبي وهي صغيرة فبقيت أطولَ فترة ممكنة في مدرسة النبوَّة، تتفقَّه في أحكامها وتعاليمها؛ تُعدُّ - رضي الله عنها - من المكثرين في الفتيا والرواية باتفاق العلماء ، ومع ذلك حرصت على أَنْ تتعلم من النبي أفضل ما يقال في ليلة القدر ، وفي هذا تعليم لنا أَنَّ العبد مهما بلغ فهو محتاج - بل مضطر - إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. و أَخَصُّ هذه الأمور العلم النافع المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين.
وقد أثنى الله على هذا الصنف من الناس في قوله : « فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ »[سورة الزمر :جزء من الآيتين 17 ، 18] ، أي إيثارا للأفضل واهتماما بالأكمل. أراد أن يكونوا نقادا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:ولا تكن مثل عير قيد فانقادا.يقصد بذلك المقلد., ويدخل تحته أيضا إيثار الأفضل من كل نوعين عند التعارض([1]).
الوقفة الثانية :الحكمة في تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو :
سؤال الله عز وجل العفو في كل وقت وحين أمر مرغوب وردت به نصوص كثيرة ، حتى إِنَّ العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله أكثر مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يرشده الى شيء يدعو الله به فأجابه الرسول في كل مَرَّةٍ بقوله: « سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ » ، فما الحكمة إِذًا مِنْ تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو ؟ أبان الحافظ ابن رجب عن هذه الحكمة في قوله : وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر -بعد الإجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر -لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا ولا حالا ولا مقالا ، فيرجعون إلى سؤال العفو ، كحال المذنب المقصر ([2]).
وقد صدق رحمه الله وذلك لأَنَّ (العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه ، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته ، فهو يعلم أَنَّ ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه ، وأَنَّ أقضيته كلها عدل فيه، وأَنَّ ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا) ([3]).
الوقفة الثالثة :الدعاء بهذا اللفظ يتضمن أدبا من آداب الدعاء المهمة ،
وهو الثناء على الله تعالى بما هو أهله وبما يناسب مطلوب الداعي .وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الأسلوب والأدب في نصوص كثيرة أشهرها سورة الفاتحة ، فالسورة نصفان ، الأول تمجيد وثناء من العبد على ربه ، والثاني سؤال من العبد لربه ،وقد ورد ذلك مفصلا في الحديث القدسي وفيه (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي)
ولما سَمِعَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - رجلاً يَدْعُو في صلاته لم يُمجِّدِ الله ولم يُصَل على النبيَّ ، فقال صلَّى الله عليه وسلم: "عَجِلَ هذا" ثم دعاه، فقال له أو لغيره: "إذا صَلَّى أحَدُكُم فليَبْدأ بتَمْجيدِ رَبَّه والثَّناءِ عليه، ثم يُصَلَّي على النبيِّ ، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ.
ومن الجدير بالذكر أَنَّ " ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل: إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء([4]).
الوقفة الرابعة : في هذا الدعاء استشعار لحسن الظن بالله تعالى ، فيعمر قلب المؤمن بالرجاء ، وفي ذلك رد على من قال: لا أحبك لثوابك؛ لأنه عين حظي. وإنما أحبك لعقابك؛ لأنه لا حظ لي فيه.!! نافيا بذلك عبادة الله بالرجاء مقتصرا على عبادته بالخوف ، والعجيب أن صاحب هذا القول بالغ فنسب مخالفه الى الرعونة ، وقد رد عليه ابن القيم ردا بليغا جاء فيه :فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج. وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة....فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين، وسؤالهم ربهم، على أحوال هؤلاء الغالطين، الذين مرجت بهم نفوسهم. ثم قايس بينهما. وانظر التفاوت. ...فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله. كالسكران ونحوه. ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده... ([5]).
يُـتبع ...
عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: « يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَبِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: " قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» ، وفي سؤال عائشة كما في إِجابة النبي لها بهذه الإجابة عدة وقفات تربوية أوجز أظهرها فيما يلي:
الوقفة الاولى :حرص عائشة رضي الله عنها على تعلم ما ينفعها: عائشة هي بنت أبي بكر الصِّدِّيق ، أم المؤمنين، زوجة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفقه نساء الأمَّة على الإطلاق، تزوجها النبي وهي صغيرة فبقيت أطولَ فترة ممكنة في مدرسة النبوَّة، تتفقَّه في أحكامها وتعاليمها؛ تُعدُّ - رضي الله عنها - من المكثرين في الفتيا والرواية باتفاق العلماء ، ومع ذلك حرصت على أَنْ تتعلم من النبي أفضل ما يقال في ليلة القدر ، وفي هذا تعليم لنا أَنَّ العبد مهما بلغ فهو محتاج - بل مضطر - إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها. و أَخَصُّ هذه الأمور العلم النافع المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين.
وقد أثنى الله على هذا الصنف من الناس في قوله : « فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ »[سورة الزمر :جزء من الآيتين 17 ، 18] ، أي إيثارا للأفضل واهتماما بالأكمل. أراد أن يكونوا نقادا في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك، وأقواها عند السبر، وأبينها دليلا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل:ولا تكن مثل عير قيد فانقادا.يقصد بذلك المقلد., ويدخل تحته أيضا إيثار الأفضل من كل نوعين عند التعارض([1]).
الوقفة الثانية :الحكمة في تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو :
سؤال الله عز وجل العفو في كل وقت وحين أمر مرغوب وردت به نصوص كثيرة ، حتى إِنَّ العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله أكثر مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يرشده الى شيء يدعو الله به فأجابه الرسول في كل مَرَّةٍ بقوله: « سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ » ، فما الحكمة إِذًا مِنْ تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو ؟ أبان الحافظ ابن رجب عن هذه الحكمة في قوله : وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر -بعد الإجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر -لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا ولا حالا ولا مقالا ، فيرجعون إلى سؤال العفو ، كحال المذنب المقصر ([2]).
وقد صدق رحمه الله وذلك لأَنَّ (العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه ، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته ، فهو يعلم أَنَّ ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه ، وأَنَّ أقضيته كلها عدل فيه، وأَنَّ ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي" فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا) ([3]).
الوقفة الثالثة :الدعاء بهذا اللفظ يتضمن أدبا من آداب الدعاء المهمة ،
وهو الثناء على الله تعالى بما هو أهله وبما يناسب مطلوب الداعي .وقد أرشدنا الله تعالى إلى هذا الأسلوب والأدب في نصوص كثيرة أشهرها سورة الفاتحة ، فالسورة نصفان ، الأول تمجيد وثناء من العبد على ربه ، والثاني سؤال من العبد لربه ،وقد ورد ذلك مفصلا في الحديث القدسي وفيه (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي)
ولما سَمِعَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - رجلاً يَدْعُو في صلاته لم يُمجِّدِ الله ولم يُصَل على النبيَّ ، فقال صلَّى الله عليه وسلم: "عَجِلَ هذا" ثم دعاه، فقال له أو لغيره: "إذا صَلَّى أحَدُكُم فليَبْدأ بتَمْجيدِ رَبَّه والثَّناءِ عليه، ثم يُصَلَّي على النبيِّ ، ثم يدعو بعدُ بما شاءَ.
ومن الجدير بالذكر أَنَّ " ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل: إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء([4]).
الوقفة الرابعة : في هذا الدعاء استشعار لحسن الظن بالله تعالى ، فيعمر قلب المؤمن بالرجاء ، وفي ذلك رد على من قال: لا أحبك لثوابك؛ لأنه عين حظي. وإنما أحبك لعقابك؛ لأنه لا حظ لي فيه.!! نافيا بذلك عبادة الله بالرجاء مقتصرا على عبادته بالخوف ، والعجيب أن صاحب هذا القول بالغ فنسب مخالفه الى الرعونة ، وقد رد عليه ابن القيم ردا بليغا جاء فيه :فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج. وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة....فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين، وسؤالهم ربهم، على أحوال هؤلاء الغالطين، الذين مرجت بهم نفوسهم. ثم قايس بينهما. وانظر التفاوت. ...فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله. كالسكران ونحوه. ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده... ([5]).
يُـتبع ...
تعليق