العناد يمكن تقسيمه موضوعيًّا إلى نوعين:
عناد إيجابيٌّ، وهو تعبير عن التمسُّك بالحق، وقِيَم العدل، ومُقتضيات العِلم والصلابة، في مواجهة الباطل ومُقاوَمة الظلم والانحراف، متى كان هذا المعنى واضحًا جليًّا مصحوبًا بدقة الفهم، وسلامة القصد، وصحَّة وشرعية الوسائل المستخدمة في ذلك.
وربما خير مثال على هذا النوع قادة ودعاة وعلماء رفع الله شأنهم وشأن أعمالهم، وفعالهم الحميدة التي يَجري عليها وصْف العناد، ومِن ذلك إصرار الخليفة الأول "أبو بكر الصديق" - رضي الله عنه - على محاربة المُرتدِّين ومانعي الزكاة رغم معارضة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكثير مِن الصحابة ومُراجعتهم في ذلك، حتى تبيَّن لهم أنه الحق، وحفظ الله به الإسلام ودولة المسلمين الأولى.
ومثال إصرار الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - على الجهر "بعدم خلْق القرآن" في مواجهة المأمون والمعتزلة، وظل قامةً وهامةً وقدوةً لجميع العلماء والقضاة في التمسُّك بالشرع وحقائق العلم.
والأمثلة كثيرة على هذا النوع مِن العناد والصلابة في الحق، ومقاوَمة الباطل والعدوان، مهما كلَّف أصحابَه مِن عنَت وإيذاء، واضطهاد وحصار وتجويع، وتغريب وتشريد، ربما وصل لحدِّ التضحية بالنفس الزكية في سبيل الله ونصرة دينه ونصرة الحق وأهله.
وقد يُطلق على هذا النوع مِن العناد: عناد التصميم والإرادة،.
والنوع الثاني مِن العناد هو العناد السلبي الذي يُقاوم الحق ويجحَد الحقائق، يُصرُّ صاحبه على التمادي في الإثم والغيِّ والعدوان على مقتضيات العقل والحكمة والمنطق والموضوعية، مهما بذل معه مِن محاولات الإقناع أو الحوار، وكثيرًا ما يرفض الحلول والبدائل، حتى التقارُب والحلول الوسَط.
وبالمشاهدة والتجربة تستطيع أن تُميز بين نوعَين يَندرجان تحت العناد السلبي:
عناد عقْلي، وهو ناتج عن غياب المعلومات والأحداث والوقائع والدلائل، بعكْس مَنطِق المعاند ورأيه ورؤيته، وليس لديه المصداقية في جميع ما يُطرح عليه من معلومات وحقائق، بل ويقاوم تصديقها.
والآخر هو العناد النفسي، وهو الأعمُّ الأغلب، والعناد هنا لا يقوم على منطق، ولا يسانده دليل ولا حجَّة، بل هو نزعة عدوانية، وسلوك سلبي، وتمرُّد ضدَّ الآخَرين مهما كانت علاقة المعاند بهم (آباء - أزواجًا - إخوة - أصدقاء - ذوي رحم)، تظهر معه إرادة المخالفة والتصادم وعدم الاستجابة للنصْح والتوجيه.
ومن هؤلاء ما حكاه المولى - عز وجل -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].
والعناد النفسي والإصرار والممانَعة هنا يَنطلِق مِن دوافع نفسية بحتَة، قد تكون الكبر وغمْط الحق، أو الغيرة والمنافسة على المكانة والصدارة، أو محاولة تحصيل مكاسب أعلى في موقف معيَّن (العناد النفعي أو الانتهازي أو الابتزازي)، وقد تكون بدوافع تحقيق الذات والاستقلالية.
وقد سرد القرآن الكريم في آياته نماذج من من يحملون هذه الصفة، في الآيات التالية:
التعصب عند قوم نوح حيث يقول القرآن الكريم:
﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا﴾
وفى عصر النبي الأكرم محمد حيث نرى نفس الأعمال والسلوكيات تصدر من أعدائه حيث يقول عنهم القرآن الكريم:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآأَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآأَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾
المؤمن يتميَّز عن غيره بقبوله الحق، والكافر يتميَّز بالمخالفة والمبالغة بالجحود، ومعاندته للحق مع علمه بأنه حق. فيكون مصيره في الآخرة نار جهنم يعذب فيها عذاباً لا راحة فيه، فيأمر الله تعالى الملكين ـ أو السائق والشهيد ـ بقذفه في نار جهنم بكل احتقار. قال تعالى:
- (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) [سورة ق]
والمؤمن سهل ليِّن حرَّمه الله على النار، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
- "من كان سهلاً هيناً ليناً حرَّمه الله على النار".[أخرجه الحاكم، والبيهقي، وهو في "صحيح الجامع"(6484)]
موقع الالوكة وشبكة الدعوة السلفية
تعليق