المجلس السادس
منهج السلف في تلقي القرآن وتدبّره
الحمد لله , والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومصطفاه , أما بعد :
فإن الرفعة والعزة التي نالها السلف الصالح , وذلت لهم رقاب العرب والعجم , إنما كانت بسبب تمسّكهم الحقيقي بكتاب الله تعالى .
وحقيقٌ بمن يريد سلوك طريقهم , أن يتعرف على منهجهم في تلقي هذا القرآن وتدبره , وهذا ما سنحاول الإشارة إليه بإيجاز في هذا المجلس .
إن من تأمل حياة السلف مع القرآن , وجد أن لهم منهجا في العناية بهذه العبادة العظيمة , يمكن تحديد معالمها فيما يلي , لعلنا نفيد منها , ومن أبرز تلك المعالم :
أولاً : معرفتهم لمنزلة هذا القرآن , وإدراكهم لمقصده الأعظم .
ذلك أن تلقي الأمر بالمحبة والتعظيم والإيمان ؛ يؤدي إلى حُسن التعامل معه , ومن عرف قيمة الشيء اعتنى به واهتم به , وقد ظهر ذلك في الجيل الأول من خلال أقوالهم وأفعالهم , ومن أقوالهم المأثورة في بيان عظمة القرآن وأثره , التي ترجموها إلى الاستجابة العملية :
قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : " إن هذا القرآن مأدبة الله , فتعلموا من مأدبته مااستطعتم , إن هذا القرآن هو حبل الله الذي أمر به , وهو النور المبين , والشفاء النافع عصمةٌ لمن اعتصم به " .
وعنه رضي الله عنه قال : " من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر : فإن كان يحب القرآن , فهو يحب الله ورسوله " .
ويقول ابن عباس – رضي الله عنهما - : " ضَمِنَ اللهُ لمن قرأ القرآن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة , ثم قرأ : { فمن اتّبع هُداى فلا يضل ولا يشقى } . والمراد بالقراءة الاتباع بدليل نص الآية .
وقال الإمام البخاري – رحمه الله - : " لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن , ولا يحمله بحقّه إلا الموقن " .
ونحن بحاجة ماسّة لتربية قلوبنا على هذا المعنى ’ فلقد ضَعُفَ تعظيم القرآن ومحبته الصادقة والإيمان به في قلوب كثيرين , مما أدى إلى ضعف الاتصال به , والتأثر فيه , وهنا مكمن المشكلة , والحل : غرسُ تعظيم القرآن في نفوس الناشئة , ومحبتهم له محبة صادقة ينبعث معها الأثر والقبول , واستمرار التذكير بقيمة القرآن , وبالهدف الأسمى لنزوله .
ثانيا : تعلُّمهم وتعليمهم الإيمان قبل القرآن :
والمقصود : أنهم غُرسَ في قلوبهم تعظيم الله , وتعظيم أمره ونهيه , فسهُلَ عليهم بعد ذلك تلقّي الأحكام الشرعية , وهذا جانبٌ رئيسٌ في إحياء التربية القرآنية في النفوس .
وهذا المنهج قد اتخذه القرآن في تربيته للصحابة أول الإسلام , حيث كان أول نزول القرآن تربيةً على الإيمان في السور المكية - وخاصة المفصّل منها – فكلُّهُ في ترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر , فأورثَ في نفوسهم الإيمان الصحيح والتعظيم للقرآن , وهيّأ نفوسهم لتلقّي توجيهاته .
يوضح هذا المنهج – الذي ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أحدُ التلاميذ النجباء في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم , وهو جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال ك " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاير فتعلمنا الإيمان قبل القرآن , ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا " .
فتأمل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأُ في بناء الإيمان في نفوسهم ؛ حتى إذا ما رسخ الإيمان في قلوبهم , وكانوا مؤهلين لتلقّي القرآن , وجههم إليه , فازدادوا به إيمانا .
ثالثا : حُسنُ تلقيهم القرآن بأنه رسائل من ربهم للعمل والامتثال , فكانوا يتدبرونها بالليل ويتمثلونها بالنهار .
وقد توارت الأدلة من القرآن والسنة وآثار السلف على الأمر بالعمل بالقرآن وأنه المقصود الأعظم .
1- يقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : ( كان الرجلُ منّا إذا تعلّم عشرَ آيات لم يجاوزهن حتى يعرفَ معانيهن والعمل بهن ) .
2- ويقول ابن عمر – رضي الله عنهما - : ( كان الفاضل ُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صدرِ هذه الأمّة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها , ورُزِقوا العمل بالقرآن , وإن آخر هذه الأمة يُرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به ) .
كما كان هذا هو منهجهم في تربية أبنائهم وطلابهم , وتعظيمه في نفوسهم والتوصية به , فتأمل هذه الكلمات العظيمة التي قالها سيّدٌ من سادات التابعين , وهو الحسن البصري – رحمه الله – حيث يقول : ( إن هذا القرآن قرأه عبيدٌ وصبيان لم يأخذوه من أوّله , ولا علم لهم بتأويله , إن أحق الناس بهذا القرآن من رُئي في عمله , قال الله عز وجل في كتابه :{ كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبروا ءاياته وليتذكر أولوا الألباب } ص 29 . ,
وإنما تدبر آياته اتّباعه بعمله , أما والله ماهو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ! حتى إن أحدهم ليقول : قد قرأت القرآن كلّه فما أسقطت منه حرفاً , وقد والله أسقطه كله , ما يُرى له القرآن في خُلقٍ واحدٍ , ولا عمل , حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في نفسٍ واحدٍ , والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا بالعلماء ولا بالحكماء ولا الورعة , متى كانت القراءُ تقول مثل هذا ؟ لا أكثر اللهُ في الناس مثل هؤلاء ) ,
كما يؤكد ذلك أيضا وصاياهم لحملة القرآن والتأكيد على ظهور الأثر فيهم , كما قال ابن مسعود L ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناسُ ينامون , وبنهاره إذا الناس يفطرون , وبحزنه إذا الناس يفرحون , وببكائه إذا الناس يضحكون , وبصمته إذا الناس يخوضون , وبخشوعه إذا الناس يختالون , وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينا لينا , ولا ينبغي له أن يكون جافيا ولا مماريا ولا صياحا ولا صخابا ولا حديدا ) .
وهذا المنهج هو الذي خرّج ذلك الجيل وصنعه , ولو أننا تلقينا القرآن كما تلقّاه الجيل الأول بهذا المنهج , وربينا عليه أجيالنا , لظهر لنا أثره وتأثيره في نفوسنا .
" وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي ؛ سنجد عنده ما نريد . وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي , وسنجد – عند ئذ – في القرآن متاعاً وحياة ؛ وسندرك معنى قوله دعاكم لما يُحييكم } الأنفال 24 . فهي دعوة للحياة , للحياة الدائمة المتجددة .
رابعاً : تلاوة القرآن بترتيل وتمهل وتحزن , والقيام به في الليل
وهذا هو المنهج الذي قرره القرآن وأشاد بأهله في قوله تعالى : { وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّدا } الإسراء 106-107 .
فتأمل كيف أمر الله تعالى نبيه بأن يقرأ القرآن على مكثٍ ؛ وهو التمهل والترتيل وعدم الإسراع فيه , ثم أشاد بأهل هذا الوصف بقوله : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجّدا } .
وقد تجلى ذلك في حال السلف , ومما ورد عنهم في ذلك قول ابن أبي مليكة : " سافرتُ مع ابن عباس – رضي الله عنهما – من مكة إلى المدينة , فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفا حرفا , ثم يبكي حتى تسمع له نشيجا "
وقال ابن مسعود : " لا تهذّوا القرآن هذ الشعر , وتنثره نثر الدقل , وقفوا عند عجائبه , وحركوا به القلوب , ولا يكن هم أحدكم من السورة آخرها " .
فقراءة القرآن بترتيل وتمهل وتدبر هو من أعظم ما يؤثر في النفس , ويصلح القلب , وذلك كان منهج السلف الصالح , فهل نُربّي أنفسنا وأجيالنا عليها ؟
أما قراءة القرآن بالليل فهي أقوى وسيلة للتدبر , وأجدر أن يُفقه بها القرآن , ولهذا قال : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } , قال ابن عباس : هو أجدر أن يفقه القرآن .
يقول الشنقيطي – رحمه الله - : " لا يُثبّتُ القرآن في الصدر , ولا يُسهل حفظه وييسر فهمه , إلا القيام به في جوف الليل " .
وبالجملة – أيها المؤمنون – " فلقد كان القرآن هو محور حياة السلف , ومادة حياة قلوبهم , يحرصون عليه أكثر من حرصهم على تحصيل الطعام والشراب والراحة , ولم لا ! وهم يدركون بأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب " .
فإن أردنا ذوق حلاوة القرآن كما ذاقوها , فلنسرْ على طريقتهم , التي أشرنا إلى بعض معالمها .
اللهم كما مننت على من شئت من عبادك بلذة مناجاتك بتلاوة كتابك , فامنن علينا بمنك وكرمك , واجعلنا من أهل القرآن , الذين هم أهلك وخاصتك , واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فإن الرفعة والعزة التي نالها السلف الصالح , وذلت لهم رقاب العرب والعجم , إنما كانت بسبب تمسّكهم الحقيقي بكتاب الله تعالى .
وحقيقٌ بمن يريد سلوك طريقهم , أن يتعرف على منهجهم في تلقي هذا القرآن وتدبره , وهذا ما سنحاول الإشارة إليه بإيجاز في هذا المجلس .
إن من تأمل حياة السلف مع القرآن , وجد أن لهم منهجا في العناية بهذه العبادة العظيمة , يمكن تحديد معالمها فيما يلي , لعلنا نفيد منها , ومن أبرز تلك المعالم :
أولاً : معرفتهم لمنزلة هذا القرآن , وإدراكهم لمقصده الأعظم .
ذلك أن تلقي الأمر بالمحبة والتعظيم والإيمان ؛ يؤدي إلى حُسن التعامل معه , ومن عرف قيمة الشيء اعتنى به واهتم به , وقد ظهر ذلك في الجيل الأول من خلال أقوالهم وأفعالهم , ومن أقوالهم المأثورة في بيان عظمة القرآن وأثره , التي ترجموها إلى الاستجابة العملية :
قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : " إن هذا القرآن مأدبة الله , فتعلموا من مأدبته مااستطعتم , إن هذا القرآن هو حبل الله الذي أمر به , وهو النور المبين , والشفاء النافع عصمةٌ لمن اعتصم به " .
وعنه رضي الله عنه قال : " من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر : فإن كان يحب القرآن , فهو يحب الله ورسوله " .
ويقول ابن عباس – رضي الله عنهما - : " ضَمِنَ اللهُ لمن قرأ القرآن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة , ثم قرأ : { فمن اتّبع هُداى فلا يضل ولا يشقى } . والمراد بالقراءة الاتباع بدليل نص الآية .
وقال الإمام البخاري – رحمه الله - : " لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن , ولا يحمله بحقّه إلا الموقن " .
ونحن بحاجة ماسّة لتربية قلوبنا على هذا المعنى ’ فلقد ضَعُفَ تعظيم القرآن ومحبته الصادقة والإيمان به في قلوب كثيرين , مما أدى إلى ضعف الاتصال به , والتأثر فيه , وهنا مكمن المشكلة , والحل : غرسُ تعظيم القرآن في نفوس الناشئة , ومحبتهم له محبة صادقة ينبعث معها الأثر والقبول , واستمرار التذكير بقيمة القرآن , وبالهدف الأسمى لنزوله .
ثانيا : تعلُّمهم وتعليمهم الإيمان قبل القرآن :
والمقصود : أنهم غُرسَ في قلوبهم تعظيم الله , وتعظيم أمره ونهيه , فسهُلَ عليهم بعد ذلك تلقّي الأحكام الشرعية , وهذا جانبٌ رئيسٌ في إحياء التربية القرآنية في النفوس .
وهذا المنهج قد اتخذه القرآن في تربيته للصحابة أول الإسلام , حيث كان أول نزول القرآن تربيةً على الإيمان في السور المكية - وخاصة المفصّل منها – فكلُّهُ في ترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر , فأورثَ في نفوسهم الإيمان الصحيح والتعظيم للقرآن , وهيّأ نفوسهم لتلقّي توجيهاته .
يوضح هذا المنهج – الذي ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أحدُ التلاميذ النجباء في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم , وهو جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال ك " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاير فتعلمنا الإيمان قبل القرآن , ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا " .
فتأمل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأُ في بناء الإيمان في نفوسهم ؛ حتى إذا ما رسخ الإيمان في قلوبهم , وكانوا مؤهلين لتلقّي القرآن , وجههم إليه , فازدادوا به إيمانا .
ثالثا : حُسنُ تلقيهم القرآن بأنه رسائل من ربهم للعمل والامتثال , فكانوا يتدبرونها بالليل ويتمثلونها بالنهار .
وقد توارت الأدلة من القرآن والسنة وآثار السلف على الأمر بالعمل بالقرآن وأنه المقصود الأعظم .
1- يقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : ( كان الرجلُ منّا إذا تعلّم عشرَ آيات لم يجاوزهن حتى يعرفَ معانيهن والعمل بهن ) .
2- ويقول ابن عمر – رضي الله عنهما - : ( كان الفاضل ُ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صدرِ هذه الأمّة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها , ورُزِقوا العمل بالقرآن , وإن آخر هذه الأمة يُرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به ) .
كما كان هذا هو منهجهم في تربية أبنائهم وطلابهم , وتعظيمه في نفوسهم والتوصية به , فتأمل هذه الكلمات العظيمة التي قالها سيّدٌ من سادات التابعين , وهو الحسن البصري – رحمه الله – حيث يقول : ( إن هذا القرآن قرأه عبيدٌ وصبيان لم يأخذوه من أوّله , ولا علم لهم بتأويله , إن أحق الناس بهذا القرآن من رُئي في عمله , قال الله عز وجل في كتابه :{ كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدّبروا ءاياته وليتذكر أولوا الألباب } ص 29 . ,
وإنما تدبر آياته اتّباعه بعمله , أما والله ماهو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ! حتى إن أحدهم ليقول : قد قرأت القرآن كلّه فما أسقطت منه حرفاً , وقد والله أسقطه كله , ما يُرى له القرآن في خُلقٍ واحدٍ , ولا عمل , حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في نفسٍ واحدٍ , والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا بالعلماء ولا بالحكماء ولا الورعة , متى كانت القراءُ تقول مثل هذا ؟ لا أكثر اللهُ في الناس مثل هؤلاء ) ,
كما يؤكد ذلك أيضا وصاياهم لحملة القرآن والتأكيد على ظهور الأثر فيهم , كما قال ابن مسعود L ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناسُ ينامون , وبنهاره إذا الناس يفطرون , وبحزنه إذا الناس يفرحون , وببكائه إذا الناس يضحكون , وبصمته إذا الناس يخوضون , وبخشوعه إذا الناس يختالون , وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينا لينا , ولا ينبغي له أن يكون جافيا ولا مماريا ولا صياحا ولا صخابا ولا حديدا ) .
وهذا المنهج هو الذي خرّج ذلك الجيل وصنعه , ولو أننا تلقينا القرآن كما تلقّاه الجيل الأول بهذا المنهج , وربينا عليه أجيالنا , لظهر لنا أثره وتأثيره في نفوسنا .
" وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي ؛ سنجد عنده ما نريد . وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال الساهي , وسنجد – عند ئذ – في القرآن متاعاً وحياة ؛ وسندرك معنى قوله دعاكم لما يُحييكم } الأنفال 24 . فهي دعوة للحياة , للحياة الدائمة المتجددة .
رابعاً : تلاوة القرآن بترتيل وتمهل وتحزن , والقيام به في الليل
وهذا هو المنهج الذي قرره القرآن وأشاد بأهله في قوله تعالى : { وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزلناه تنزيلا * قل ءامنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّدا } الإسراء 106-107 .
فتأمل كيف أمر الله تعالى نبيه بأن يقرأ القرآن على مكثٍ ؛ وهو التمهل والترتيل وعدم الإسراع فيه , ثم أشاد بأهل هذا الوصف بقوله : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجّدا } .
وقد تجلى ذلك في حال السلف , ومما ورد عنهم في ذلك قول ابن أبي مليكة : " سافرتُ مع ابن عباس – رضي الله عنهما – من مكة إلى المدينة , فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفا حرفا , ثم يبكي حتى تسمع له نشيجا "
وقال ابن مسعود : " لا تهذّوا القرآن هذ الشعر , وتنثره نثر الدقل , وقفوا عند عجائبه , وحركوا به القلوب , ولا يكن هم أحدكم من السورة آخرها " .
فقراءة القرآن بترتيل وتمهل وتدبر هو من أعظم ما يؤثر في النفس , ويصلح القلب , وذلك كان منهج السلف الصالح , فهل نُربّي أنفسنا وأجيالنا عليها ؟
أما قراءة القرآن بالليل فهي أقوى وسيلة للتدبر , وأجدر أن يُفقه بها القرآن , ولهذا قال : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } , قال ابن عباس : هو أجدر أن يفقه القرآن .
يقول الشنقيطي – رحمه الله - : " لا يُثبّتُ القرآن في الصدر , ولا يُسهل حفظه وييسر فهمه , إلا القيام به في جوف الليل " .
وبالجملة – أيها المؤمنون – " فلقد كان القرآن هو محور حياة السلف , ومادة حياة قلوبهم , يحرصون عليه أكثر من حرصهم على تحصيل الطعام والشراب والراحة , ولم لا ! وهم يدركون بأن الحياة الحقيقية هي حياة القلب " .
فإن أردنا ذوق حلاوة القرآن كما ذاقوها , فلنسرْ على طريقتهم , التي أشرنا إلى بعض معالمها .
اللهم كما مننت على من شئت من عبادك بلذة مناجاتك بتلاوة كتابك , فامنن علينا بمنك وكرمك , واجعلنا من أهل القرآن , الذين هم أهلك وخاصتك , واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تعليق