الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ شهرَ رمضانَ سيِّدَ الشُّهورِ، وأفاضَ فيه من الخيرِ والبركاتِ والنُّورِ، نحمدُه سبحانَه يغفرُ الذُّنوبَ، ويَسترُ العُيوبَ، ويُغيثُ المكروبَ، وهو علَّامُ الغيوبِ.. عمَّ فضلُه الأكوانَ، ويقبلُ تَوبةَ النَّدمانِ، ويُنزِّلُ رحمتَه على المؤمنينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.. ونشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، فرضَ علينا الصَّومَ تهذيبًا للنُّفوسِ وتحقيقًا لتقوى القُلوبِ بقولِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
ونَشهدُ أنَّ سيِّدَنا وقائدَنا وشفيعَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه الصَّادقُ الأمينُ، غفرَ اللهُ له ذنبَه، وشَرحَ له صدرَه، ووضعَ عنه وِزرَه، ورفعَ له ذِكرَه، فكان طائعاً لربِّه وأكثرُ ما يكونُ ذلكَ في رمضانَ، وكان مجتهدًا في العبادةِ وأكثرُ ما يكونُ ذلك في رمضانَ، وكانَ ذاكراً وأكثرُ ما يكونُ ذلك في رمضانَ، وكان جَوادًا وأكثرُ ما يكونُ ذلك في رمضانَ.. صلى اللهُ عليه وعلى آلِه الطَّاهرينَ وصحابتِه الغُرِّ الميامينِ، ومن تبعَهم وسارَ على دربِهم إلى يومِ الدِّينِ..
أما بعد:
اغتسلَ عبدُ اللهِ وتطيَّبَ ولبسَ الجديدَ من الثِّيابِ مُستَعدَّاً ليومِ العيدِ، وأَكَلَ تَمراتٍ وِتراً كَمَا رَوَى أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا"، ثُمَّ خرجَ مُكبِّراً إلى مصلَّى العيدِ ليحضرَ صلاةَ عيدِ الفِطرِ مع المسلمينَ كما قالَ تعالى: (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
جلسَ عبدُ اللهِ في المصلى ينظرُ في وجوهِ النَّاسِ.. ورأى الفَرحةَ باديَةً على أهلِ الطَّاعةِ والعملِ.. وكأنهم قد أتوا لاستلامِ جوائزِهم.. وتحصيلِ أُجورِهم.. ورأى أثرَ النَّدمِ ظاهراً على أهلِ التَّفريطِ والكَسلِ.. وكأنَه يقولُ ما قالَ اِبْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في يَومِ العِيدِ: "مَنْ هَذَا المَقْبُولُ مِنَّا فَنُهَنِيهُ، وَمِنْ هَذَا المَحْرُومُ مِنَّا فَنُعَزِيهُ.. أَيُّهَا المَقْبُولُ هَنِيئًا لَكَ، أَيُّهَا المَرْدُودُ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتَكَ".
ثُمَّ رجعَ عبدُ اللهِ إلى نفسِه يسألُها سؤالَ مُصارحةٍ: من أيِّ الفريقينِ أنتِ؟!
تذكَّرَ عبدُ اللهِ ذلك النَّشاطَ الذي بدأَ فيه رمضانَ.. والمسابقةَ إلى عالي الجِنانِ.. ثُمَّ ما أصابَه بعدَ أيامٍ قليلةٍ من الفُتورِ.. ونقصِ العزيمةِ حتى أصبحتْ قُواهُ تخورُ.
لقد كانَ يقرأُ القُرآنَ في كلِّ الأوقاتِ.. حتى أنه عزمَ في رمضانَ على خَتَماتٍ وختَماتٍ.. مُستشعراً بتلاوتِه ذلك الفضلُ العظيمُ.. والأجرُ الكريمُ.. كما في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا، لاَ أقول: (ألم) حَرفٌ، وَلكِنْ: ألِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ"..
ويطمعُ أن يكونَ من خاصَّةِ اللهِ تعالى وأوليائِه كما في الحديثِ: "إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟، قَالَ: "هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصّتُهُ".. ويرجو شفاعتَه في ذلكَ اليومُ الذي تخشعُ (الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) [طه: 108 - 109].. والقرآنُ ممَّن أذنَ له اللهُ -عزَّ وجلَّ- بالشَّفاعةِ.. قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإنَّهُ يَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ".
ولكنَّه وقبلَ أن يتجاوزَ العَشرَ الأوائلَ.. أصبحَ وِردَه من القرآنِ آياتٍ.. لا يكادُ يُتِّمُ في ليلِه ونهارِه ثَلاثَ صَفحاتٍ.
تذكَّرَ عبدُ اللهِ كيفَ كانَ يُحافظُ على صلاةِ التَّراويحِ مع الإمامِ في المسجدِ.. طمعاً في مغفرةِ الذُّنوبِ والخَطيئاتِ.. وبلوغِ أعلى المنازلِ والدَّرجاتِ.. مُستيقناً قولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".. كانَ يُصلي الصَّلاةَ كاملةً لا ينصرفَ حتى ينتهيَ إمامُه من الصَّلاةِ.. طمعاً في أجرِ قيامِ ليلةٍ كما في الحديثِ: "مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ".
ولكنَّها لياليَ قليلةً.. فأصبحتْ الصَّلاةُ ثقيلةً.. وإذا بعددِ الرَّكعاتِ يَقلُّ.. وإذا بالنَّفسِ النَّشيطةِ تَملُّ.
دارَ في ذِهنِ عبدِ اللهِ.. كيفَ كانَ يُحافظُ على لسانِه وعينِه في أولِ رمضانَ.. فلسانُه بينَ تسبيحٍ وتحميدٍ واستغفارٍ.. وتهليلٍ وتكبيرٍ وأذكارٍ.. وعينُه بينَ تفكُّرٍ ونظرٍ واعتبارٍ.. لسانُه محفوظٌ.. وبصرُه مغضوضٌ.. عملاً بقولِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ اَلزّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
وبعدَ أن بدأَ النَّاسُ يتحدَّثونَ عن برامجِ الشَّرِّ في رمضانَ.. استهواهُ الفُضولُ ليرى ما يتذاكرُه الخُلَّانُ.. فزاغَتْ العينانُ.. وانشغلَ اللِّسانُ.. فتحوَّلَ شهرُه الفضيلُ المُباركُ.. إلى مسلسلاتٍ هابطةٍ.. وفوازيرَ ساقطةٍ.. فاللِّسانُ مشغولٌ بالأحاديثِ التَّافهةِ.. والأصابعُ في الرَّسائلِ السَّفيهةِ تائهةٌ.
استعرضَ عبدُ اللهِ في خيالِه.. تلكَ الرِّيالاتِ التي أنفقَها في الصَّدقاتِ.. كانتْ قليلةً لكنَّها مُباركاتٍ.. كانَ قد عهِدَ على نفسِه أن يتصدَّقَ كلَّ يومٍ ولو بالقليلِ.. ليدخلَ في دعاءِ المَلكِ الجليلِ.. كما في الحديثِ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلا مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تلَفًا".. مُقتدياً في جُودِه برسولِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.. قالَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَجْوَدَ النّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ".
وما هي إلا أيامٌ في الجودِ والإنفاقِ والخيرِ.. ثُمَّ جاءَ الشَّيطانُ بحساباتِ العيدِ وحاجةِ التَّوفيرِ.. فإذا اليدُ المبسوطةُ تُقبضُ.. وإذا الوجهُ المُبتسمُ يُعرِضُ.. وصدقَ اللهُ تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].
كانَ عبدُ اللهِ إذا صلَّى الفجرَ في المسجدِ.. يجلسُ يذكرُ اللهَ –تعالى- حتى ترتفعَ الشَّمسُ.. ثُمَّ يُصلي ركعتينِ قبلَ أن ينصرفَ وهو نشيطٌ.. حِرصاً على الأجرِ العظيمِ المُتَرتِّبِ على هذا العملِ البسيطِ.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ.. تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ".
وما إنْ انتصفَ شهرُ رمضانَ.. حتى أصبحَ يأتي الفجرُ وهو سَهران.. فإذا انتهت الصَّلاةُ.. ثَقُلَ اللِّسانُ.. وأُغلقتْ العينانُ.. فتطلعُ الشَّمسُ فتجدُ صاحبَنا في فِراشِه نَومان.
لقد كانَ حريصاً على العمرةِ في رمضانَ.. يُريدُ أجرَ حجَّةٍ مع خَيرِ إنسانٍ.. كما في حديثِ ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟" قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ –أيْ: بَعِيرَانِ-، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ، وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضِحُ عَلَيْهِ –أيْ: نَسْقِي عَلِيه- الأرضَ، قَالَ: "فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي".
ثُمَّ ذُكرَ له كَثرةُ المُعتمرينَ والزِّحامُ.. وغلاءُ السَّكنِ والمَشَقَّةُ وطولُ القِيامِ.. وإذا بالعزيمةِ تَفترُ.. والأعذارُ تكثرُ.
وأما الاعتكافُ.. فكانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَان.. وكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ اجْتِهَادًا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.. حتى أنه لا ينامُ في لياليها.. كما جاءَ عن الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم- أنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- "كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ الْمِئْزَرَ، وَأَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ".. وشَدُّ المِئْزرِ هُو اعْتِزَالُ النِّسَاءِ.. فكانَ عبدُ اللهِ يُمنِّي نفسَه بسنَّةِ المُختارِ.. والانقطاعِ إلى رحمةِ العزيزِ الغَفَّارِ.
فلمَّا دخلتِ العشرُ وتجلَّتْ، إذا بالرُّوحِ المُشتاقةِ قدْ كلَّتْ، والأماني الجميلةُ قدْ ولَّتْ، وما أسرعَ ما ليالي العيدِ هلَّتْ.
دخلَ الإمامُ لصلاةِ العيدِ وساوى الصُّفوفَ ثُمَّ كبَّرَ.. وبعدَ خُطبةِ العيدِ.. خرجَ عبد اللهِ نادماً مُتَّحسراً ولسانُ حالِه:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدًا *** نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيطِ فِي زَمَنِ الْبَذْرِ
فَمَا لَكَ يَوْمَ الْحَشْرِ شَيْءٌ سِوَى الَّذِي *** تَزَوَّدْتَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ إِلَى الْحَشْرِ
باركَ اللهُ لي ولكم في الوَحيَينِ، وبسُنَّةِ سَيَّدِ الثَّقلَينِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كانَ للأوابينَ غفوراً.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الواحِدِ الأحَدِ، الفَردِ الصَّمَدِ، الذِي لم يَلِد ولم يُولَد، ولم يكُن لَه كُفوًا أحَدٌ، وأشهَدُ أن لاَ إلهَ إلاَّ اللهَ وَحدَه لا شريكَ له، وأشهَدُ أنَّ محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَحَ الأمُّةَ، وجاهَدَ في اللهِ حقَّ جِهادِه، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وعلى آلهِ الطيِّبينَ الطَّاهرينَ، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامينِ، وعلى التَّابعينَ ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ..
أما بعد: فيا عبادَ اللهِ.. الكثيرُ منَّا له نصيبٌ مما أصابَ عبدُ اللهِ.. فنبدأُ رمضانَ بالجِدِّ والتَّشميرِ.. وبذلِ الجُهدِ والعملِ الكثيرِ.. ثُمَّ ما نلبثُ أن نَفتُرَ ونتكاسلَ حتى نرجعَ إلى ما كُنَّا عليه قبلَ رمضانَ أو أقلَّ.. أتعلمونَ لماذا؟!
لأننا لم نعلِّم أنفسَنا على كثرةِ العباداتِ، ولم تتعوَّدْ أبدانُنا على مُتابعةِ الطَّاعاتِ، ثُمَّ نريدُ أن نكونَ بينَ عشيَّةٍ وضُحاها من أهلِّ الصالحاتِ، الذينَ يُتابعونَ الحَسناتِ تُلوَ الحسناتِ، فيُصيبُنا التَّعبُ ونتركُ العملَ ثُمَّ نندمُ بعدَ الفَواتِ.
اسمعوا معي إلى قولِ اللهِ تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].. إذا الحكمةُ العظيمةُ من الصِّيامِ أنَّه طريقٌ يُوصلُ إلى التَّقوى.. فمن كانَ تقيًّا قبلَ رمضانَ ازدادَ تقوى.. ومن كانَ غيرَ ذلكَ أصبحَ تَقيَّاً.. فُعرِفَ من هذا المعنى.. أن المقصودَ هو أن يَخرجَ رمضانُ.. ونحن من أهلِّ التَّقوى والإيمانِ.
فها هو رمضانُ قد أقبلَ.. فخُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ.. وعوِّدوا أنفسَكم على الخيرِ.. وأقبلوا على اللهِ بالتَّوبةِ والدُّعاءِ.. هو شهرُ الرحمةِ والعفوِ والغُفرانِ.. هو شهرُ العِتقِ من النِّيرانِ.. وأبشروا بربٍّ غفورٍ كريمٍ.. إذا عرفَ من عبدِه الصِّدقَ رزقَه التَّقوى.. وكيفَ لا يَبشرُ المؤمنُ بفتحِ أبوابِ الجِنانِ.. كيفَ لا يَبشرُ المذنبُ بغلقِ أبوابِ النِّيرانِ.. كيفَ لا يبشرُ العاقلُ بوقتٍ يُغلُّ فيه الشَّيطانُ.. فمنْ أينَ يُشبُه هذا الزَّمانِ زَمانٌ.. وإيَّاكَ أن تكونَ يومَ العيدِ ندمان.
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ *** لِتَطْهِيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قَوْلًا وَفِعْلَا *** وَزَادَكَ فَاتِّخِذْهُ لِلْمَعَادِ
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا *** تَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ الحَصَادِ
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا رَمَضَانَ واجْعَلْنَا مِمَنْ يَصُومُهُ ويَقُومُهُ إيمَانَاً واحْتِسَابَاً واجْعَلنَا فِيهِ مِنَ المَقْبُولِينَ ومِنْ عُتَقَائكَ مِنَ النَّارِ.. اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَلا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، ولا تَفْتِنَّا فِي دِينِنَا، وَاجْعَلْ يَوْمَنَا خَيْراً مِنْ أَمْسِنَا، وَاجْعَلْ غَدَنَا خَيْراً مِنْ يَوْمنَا، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا..
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثْمٍ، وَالغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرِّ، وَالفَوْزَ بِالجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.
تعليق