بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم.
أما بعد..
فقد ظهر لنا في السنوات السابقة جليًا وبوضوحٍ تامٍّ فضيحة الحُكَّام!
نعم فضيحة، بل هي فضائح جمَّة؛ تتعارض مع الدين، وتمام التسليم لرب العالمين؛
فصارت فضائح أعمُّ وأشمل بكل المقاييس، خالفت كل الأعراف والقيم والأخلاق والمبادئ والشرف والمرؤة!
لأنهم عبدوا كراسي الحكم من دون الله رب العالمين، وإنِّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعون!
لكنَّ العيب لا يُعوَّلُ على الحكام فقط، بل هو عيبنا نحن في الصدارة؛ لأننا بعدنا عن طريق الإستقامة والتمسك بثوابت كل مسلم مؤمن، يؤمن بالله ورسوله!
فالقضية أساسها؛
أننا ابتعدنا كثيرًا عن صراط الله المستقيم، الذي ارتضاه لعباده المؤمنين؛ وإلَّا فلِم نحن في هذ التخبط والتشرذم والتناحر والتشاجر و علو الأصوات،
علو الأصوات الذي لا يُرجَى به خيرٌ ولا يُبتَغَى به رضا الله -عياذا بالله-، وإِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!
والآن؛ حتَّى الأصوات التي تعلوا فوق المنابر! كم منها في سبيل الله، وكم منها في سبيل الطاغوت؟! و إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!
قال الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
ونحن لا نبرئ ولاة الأمور من الخطأ، ولاة الأمور من العلماء والأمراء عندهم خطأ كثير، لكن جاء في الأثر: (كما تكونوا يولِّ عليكم).
يعني: أن الله يولي على الناس على حسب حالهم، وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنه صحيح المعنى،
اقرأ قول الله تعالى:
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} الأنعام:129
أي: نجعل الظالم فوق الظالم، بماذا؟
{بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
فإذا ظلمت الرعية سلطت عليها الرعاة، وإذا صلحت الرعية صلح الرعاة، وكذلك بالعكس: إذا صلح الراعي صلحت الرعية
انظروا إلى أحوال الناس، فمن حكمة الله أن الولي والمولى عليه يكونون متساويين كما قال تعالى:
{وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأنعام: 129
كذلك يولي الله على الصالحين الصلحاء،
وإذا نظرنا إلى أحوال الرعية وجدنا أنفسنا نحن الرعية عندنا تفريط في الواجبات وإخلال وتهاون، وتهافت على المحرمات، نجد الغش في المعاملات،
والكذب والتزوير وشهادة الزور وأشياء كثيرة، فلو أن الإنسان تعمق وسلط الأضواء على حال المجتمع الإسلامي اليوم لعرف القصور والتقصير،
فالمجتمع الإسلامي مجتمع صدق ووفاء وأمانة، وكل هذه مفقودة الآن إلا ممن شاء الله.
فإذا أضعنا نحن الأمانة فيما نحن أمناء فيه -وليس عندنا ولاية كبيرة- فكيف من له ولاية أمرنا؟
قد يكون أشد منا إضاعة للأمانة، لكن استقيموا يولِّ الله عليكم من يستقيم.
ثم إن الأولى أيضاً، بل إن لم أقل الواجب أن ندعو لولاة الأمور سراً وعلناً، أن ندعو لهم بالتوفيق والصلاح والإصلاح؛ لأنهم ولاة أمورنا،
أعطيناهم البيعة، فلابد أن نسأل الله لهم الصلاح حتى يُصلح الله بهم، ويُذكر أن الإمام أحمد رحمه الله قال:
(لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان) لأنه إذا صلح السلطان صلحت الأمة، وهذا صحيح. [1]
وقال أيضًا رحمه الله:
كثير من الناس يريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون -ولا شك أننا نريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون- لكننا لا نعطيهم في المعاملة أكمل ما يكون. بمعنى أن بعض الرعية يقول: يجب أن يكون الراعي على أكمل ما يكون، ومع ذلك تجد الرعية على أنقص ما يكون.. أهذا عدل؟
لا والله ما هو بعدل، إذا كنت تريد أن تعطى الحق كاملاً فأعط الحق الذي عليك كاملاً وإلا فلا تطلب.
ومن حكمة الله عز وجل أن المولَّى على حسب المولَّى عليه..
وهذه من الحكمة أن يكون المولى -ولي الأمر- على حسب من ولي عليه، إن صلح هذا صلح هذا وإن فسد هذا فسد هذا. [2]
تدبروا معي ما استدل به شيخنا العلامة رحمه الله، في قوله تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأنعام: 129
أي: وكما ولَّيْنَا الجن المردة وسلطَّناهم على إضلال أوليائهم من الإنس وعقدنا بينهم عقد الموالاة والموافقة، بسبب كسبهم وسعيهم بذلك.
كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه، ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ومن ذلك، أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظَلَمَة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين. كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف.
فالآية الكريمة تصور لنا مشهدا واقعا في حياة الأمم، وهو أن الظالمين من الناس يوالى بعضهم بعضا، ويناصر بعضهم بعضا، بسبب ما بينهم من صلات في المشارب والأهداف والطباع وأن الأمة التي لا تتمسك بمبدأ العدالة بل تسودها روح الظلم والاعتداء يكون حكامها عادة على شاكلتها لأن الحاكم الظالم لا يستطيع البقاء عادة في مجتمع أفراده تسودهم العدالة والشجاعة في الحق.
وَعَنْ مَنْصُورِ بْنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ الأَعْمَشَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مَا سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ فِيهِ؟
قَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: إِذَا فَسَدَ النَّاسُ أُمِّرَ عَلَيْهِمْ شِرَارُهُمْ. [3]
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب صيد الخاطر:
- ثم تأملت المسلمين، فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه.
فالسطان مشغول بالأمر والنهي، والذات المعارضة له، ومياه أغراضه جارية لا سكر لها [4]، ولا يتلقاه أحد بموعظة، بل بالمدحة التي تقوي هوى النفس!!
- خَطَرَتْ لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة والبلايا العظيمة، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة، فقلت: سبحان الله!
إن الله أكرم الأكرمين، والكرم يوجب المسامحة، فما وجه هذه المعاقبة؟!
فتفكَّرْتُ فرأيت كثيرًا من الناس في وجودهم كالعدم، لا يتصفحون أدلة الوحدانية، ولا ينظرون في أوامر الله تعالى ونواهيه؛ بل يجرون على عاداتهم كالبهائم، فإن وافق الشرع مرادهم فبها، وإلا؛ فمعولهم على أغراضهم! وبعد حصول الدينار لا يبالون، أمن حلال كان أم من حرام؟ وإن سهلت عليهم الصلاة، فعلوها، وإن لم تسهل، تركوها! وفيهم من يبارز بالذنوب العظيمة، مع نوع معرفة المناهي.
وربما قويت معرفة عالم منهم، وتفاقمت ذنوبه!!
فعلمت أن العقوبات -وإن عظمت- دون إجرامهم؛ فإذا وقعت عقوبة لتمحص ذنبًا، صاح مستغيثهم: ترى هذا بأيٍّ ذنبٍ؟!
وينسى ما قد كان مما تتزلزل الأرض لبعضه!
هذه صفة المسلمين اليوم؛
فهم مع كثرتهم ليس لهم من الأيمان الصحيح ما يؤهلهم للسيادة، فقد وقع فينا ما وقع ببني إسرائيل كما قال تعالى:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} الأعرف: 169
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} مريم: 59
ولا تنتصر الأمة والغلبة للخبث كما قالت عائشة: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثُرَ الخبث). [5]
فما لم يتم تغليب نسبة الطيب في الأمة لن يتحقق النصر.
فمن ظنَّ أن ضعف الأمة وقوة عدوها اليوم وهوانها على الأمم الأخرى إنما حصل بدون سبب ارتكبه؛
فكأنه ادَّعى أن الله أخلف وعده دون سبب. [6]
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً, اللهم ردنا إليك رداً جميلاً, اللهم اهد ضال المسلمين,
اللهم وفق قادتهم للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك يا رب العالمين, اللهم اهد شبابنا ونسائنا وشيوخنا يا رب العالمين, اللهم اهدنا جميعاً.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف,
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم أنت قلت في كتابك وقولك الحق: {وَاللَّـهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}, وقلت في كتابك وقولك الحق: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}
اللهم عليك بالمفسدين في الأرض, اللهم لا تبرم لهم أمراً,
اللهم أفشل خطط المفسدين في الأرض الذين يصدون عن سبيلك ليضلوا عبادك ويبعدوهم عن دينك يا أرحم الراحمين, ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين .
اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والشر والفساد وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين
اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين,
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
[1] لقاء الباب المفتوح (50)
[2] اللقاء الشهري (50)
[3] سلسلة من أعلام السلف الإمام الأعمش - للشيخ : ( أحمد فريد )
[4] السكر: آلة تتحكم بجريان الماء، فيسد بها ويفتح، وهو حرف ما زال مستعملًا في الشام.
[5] الرد على حزب التحرير للشيخ: عبد الرحمن دمشقية
[6] عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"يَكونُ في آخِرِ هذِهِ الأمَّةِ خَسفٌ ومَسخٌ وقَذفٌ" ، قالَت:
قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ، أنَهْلِكُ وفينا الصَّالحونَ ؟
قالَ: "نعَم إذا ظَهَرَ الخبَثُ" صححه الإمام الألباني في صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2185
مراجع التفسير:
السعدي
الوسيط
تعليق