النسيان:
النسيان-بكسر النون-:ضد الذكر و الحفظ، نسيه نسيا و نسيانا و نسوة و نساوة .
و قوله تعالى:" نسوا الله فنسيهم " التوبة67. قال ثعلب: لا ينسى الله عز و جل، إنما معناه: تركوا الله فتركهم، فلما كان النسيان ضربا من الترك وضعه موضعه و في التهذيب:أي: تركوا أمر الله فتركهم من رحمته.
و قوله تعالى:" فنسيتها و كذلك اليوم تنسى "طه126. معناه-أيضا-ترك، لأن الناسي لا يؤاخذ بنسيانه، و النسيان: الترك.
:قال ابن كثير رحمه الله" عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي (الإنسان) لأنه عهد إليه فنسي، و كذا رواه علي ابن طلحة عنه، و قال مجاهد و الحسن: ترك. لسان العرب4416.
و لما كان الإنسان نسيا بطبعه، فقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بتعهد القرآن حتى لا يتفلت من حامله و قاريه.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:" إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، و إن أطلقها ذهبت ". متفق عليه
و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت و كيت، بل هو نسي، واستذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم " متفق عليه.
و لما كان القرآن معدن العلم و أصله، كان إمام العلوم في ضرورة تعاهده و المحافظة عليه، فكل العلوم يحتاج إلى التعاهد و المواظبة على الإستذكار بعضا مما يحتاجه القرآن.
و كما يعرض النسيان للقرآن و يلح عليه، فكذلك يعرض للعلوم و يلح عليها، و المواظبة هي الدواء الذي لا دواء للنسيان مثله.
و للذنوب و الآثام أثر فعال في الحفظ و النسيان، و قد ينسى العبد العلم بالذنب يصيبه.
قال الضحاك بن مزاحم:" ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه، و ذلك أن الله تعالى يقول:" و ما أصاب من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الشورى3. و نسيان القرآن من أعظم المصائب.
و قال ابن الجوزي رحمه الله:" عن أبي عبد الله بن الجلاء قال: كنت أنظر إلى غلام نصراني حسن الوجه، فمر بي أبو عبد الله البلخي، فقال: إيش وقوفك؟ قلت: يا عم، أما ترى هذه الصورة؟ كيف تعذب بالنار؟ فضرب بيده بين كتفي، و قال: لتجدن غبها و لو بعد حين. قال: فوجدت غبها بعد أربعين سنة، أن أنسيت القرآن.
و بإسناد عن أبي الأديان قال: كنت مع أستاذي و أبي بكر الدقاق، فمر حدث، فنظرت إليه، فرآني أستاذي و أنا أنظر إليه، فقال: يا بني لتجدن غبه و لو بعد حين، فبقيت عشرين سنة و أنا أراعي فما أجد ذلك الغب، فنمت ليلة و أنا أفكر فيه، فأصبحت قد أنسيت القرآن كله ". (تلبيس إبليس) لإبن الجوزي رحمه الله ص310.
و غب الأمر و مغبته: عاقبته و آخره.
و قد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تعريض القرآن للنسيان و إهمال تعاهده حتى يذهب،و رغب صلى الله عليه و سلم في حفظه و إتقان تلاوته.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، و الذي يقرأ القرآن و يتتعتع فيه و هو عليه شاق، له أجران ". متفق عليه
و لقد حذر الأئمة-رحمهم الله-من إهمال المذاكرة حتى ينسى العلم، و نبهوا على أن من أشد غوائل العلم النسيان، تحذيرا منه و تنبيها عليه.
أخرج الدارمي في سننه(1/158) عن حكيم بن جابر، قال: قال عبد الله:" إن لكل شيء آفة، و آفة العلم النسيان ".
و أخرج أبو عمر بن عبد البر رحمه الله بسنده عن الزهري قال: إنما يُذهب العلم النسيان، و ترك المذاكرة.
و عن الزهري قال: إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يُترك العالم حتى يذهب بعلمه و من غوائله النسيان، و من غوائله الكذب فيه، و هو شر غوائله.
و عن الحسن قال:" غائلة العلم النسيان و ترك المذاكرة "
الغوائل: الدواهي:و الغيلة في كلام العرب: إيصال الشر إليه و القتل من حيث لا يعلم و لا يشعر.
و تكرير المحفوظ على القلب أدعى لتثبيته و مأمنة من ذهابه، و هذا دأب العلماء من قبل لا يتوانون فيه و لا يستحسرون عنه.
أخرج الخطيب رحمه الله بسنده:" عن أحمد بن يحي قال: قيل للأصمعي: كيف حفظت و نسي أصحابك؟ قال: درست و تركوا.
و عن سفيان قال: إجعلوا الحديث حديث أنفسكم، و فكر قلوبكم، تحفظوه.
و عن الليث بن سعد قال: وضع طست بين يدي ابن شهاب، فتذكر حديثا فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر، حتى صححه.
و عن ابن شهاب: أنه كان يسمع العلم من عروة و غيره، فيأتي إلى جارية له-و هي نائمة-فيوقظها، فيقول:اسمعي، حدثني فلان كذا، و فلان كذا، فتقول: مالي و لهذا الحديث؟ فيقول: قد علمت أنك لا تنتفعين به، و لكن سمعته الآن فأردت أن أستذكره ".الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع (ص2/266).
و الأئمة رحمهم الله تعالى كانوا أهل حفظ و معرفة، و إنما امتازوا على الناس بما أودع الله في قلوبهم من يقين و توكل و صدق، و بما جعل في عقولهم من ذكاء و نفاذ و حفظ، فمن أراد القص على آثارهم فعليه أن يجتهد في نفي النسيان عنه بالضراعة إلى الله، و أكل الحلال، و تقليل المطاعم و الهموم، و مجانبة الآثام و الذنوب و الله من وراء القصد و هو يهدي السبيل.
و هذا مثل يضرب في نعمة الحفظ و منة الفهم، و هو الإمام المقدم الحافظ العلم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، فقد أنعم الله تعالى عليه بذاكرة لاقطة، و قلب حافظ، و أذن واعية.
روى الحافظ ابن حجر رحمه الله بإسناده عن أحمد بن عدي الحافظ قال:" سمعت عدة من مشايخ بغداد يقولون: إن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا و أرادوا امتحان حفظه، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها و أسانيدها، و جعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، و إسناد هذا المتن لمتن آخر، و دفعوها إلى عشرة أنفس، لكل رجل عشرة أحاديث، و أمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، و أخذوا عليه الموعد للمجلس، فحضروا و حضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان و غيرهم من البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ، و البخاري يقول: لا أعرفه.
ثم انتدب الثاني و الثالث و الرابع إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة، و البخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه. فلما عرف أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول، فقلت: كذا، و صوابه: كذا ، و حديثك الثاني: كذا، و صوابه: كذا، و الثالث و الرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه، و فعل بالآخرين مثل ذلك، فأقرالناس له بالحفظ و أذعنوا له بالفضل.
قال الحافظ ابن حجر: قلت: هنا يخضع للبخاري، فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظا، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة.
لقد خص الله تعالى أمتنا بحفظ القرآن و العلم، و قد كان من قبلنا يقرءون كتبهم من الصحف، و لا يقدرون على الحفظ، فلما جاء عزير و تلا التوراة من حفظه، قالوا: هذا ابن الله.
و هذه المنحة العظيمة نفتقر إلى حفظها، و حفظها بدوام الدراسة، ليبقى المحفوظ و قد كان خلق كثير من سلفنا يحفظون الكثير من الأمر، فآل الأمر إلى أقوام يفرون من الإعادة ميلا إلى الكسل، فإذا احتاج أحدهم إلى محفوظ لم يقدر عليه. (الحث على حفظ العلم ص23).
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن سمعوا القول فاتبعوا أحسنه
تعليق