إن من نِعَمِ الله العظيمة على عباده أن جعل لهم مواسم متعددة للعبادات ؛ تكثُر فيها الطاعات ، وتُقال فيها العثرات ، وتُغفر فيها الذنوب والسيئات ، وتُضاعف فيها الحسنات ، وتَـتَنزَّل فيها الرّحمات ، وتعظم فيها الهبات ، وإن من أجلِّ هذه المواسم وأكرمها على الله شهر رمضان المبارك ، قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة:185] ، فيا له من شهر كريم وموسم عظيم !! شهر البركات والخيرات ، شهر الصيام والقيام ، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار ، شهر الجود والكرم والبذل والعطاء والمعروف والإحسان .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشـِّر أصحابه بمقدم هذا الشهر العظيم ويستحثهم فيه على الاجتهاد بالأعمال الصالحة من فرائض ونوافل من صلواتٍ وصدقات ، وبذل معروفٍ وإحسان ، وصبرٍ على طاعة الله ، وعمارة نهاره بالصيام وليله بالقيام ، وشَغْلِ أوقاته المباركة بالذكر والشكر والتسبيح والتهليل وتلاوة القرآن .
روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((هَذَا رَمَضَانُ قَدْ جَاءَ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ النَّارِ وَتُسَلْسَلُ فِيهِ الشَّيَاطِينُ))(1).
وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شهررَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ ))(2).
وروى أحمد عن أبي هريرة قال : ((لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا قَدْ حُرِمَ))(3). ؛ لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بأنه شهر مبارك ، فهو شهر مبارك حقاً ، كل لحظة من لحظات هذا الشهر تتصف بالبركة ؛ بركةٍ في الوقت ، وبركة في العمل ، وبركة في الجزاء والثواب ، وفيه ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر ، وإن من بركة هذا الشهر كما تقدم أن الحسنات فيه تضاعف ، وأبواب الجنان تفتح ، وأبواب النيران تغلق ، والشياطينَ ومردةَ الجنّ تصفد، ويكثر فيه عتقاء الله من النار.
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))(4) ، وقال صلى الله عليه وسلم (( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))(5).
هذا ؛ وإن من أعظم الخسران وأكبر الحرمان أن يدرك المرء هذا الشهر الكريم المبارك شهر المغفرة فلا تُغفر له فيه ذنوبه ولا تحطّ عنه خطاياه لكثرة إسرافه وعدم توبته وتركه في هذه الأوقات العطرة والأيام الفاضلة الإقبال على الله بالإنابة والرجوع والخضوع والخشوع والتوبة والاستغفار ، بل يدخل عليه هذا الشهر الكريم ويخرج وهو باقٍ على ذنوبه مصرٌ على خطاياه سادر في غيِّه .
روى الطبراني في معجمه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فَمَاتَ ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ؛ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأُدْخِلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ؛ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، قَالَ : وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ؛ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ))(6).
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ ))(7) .
إن شهر رمضان شهر ربح وغنيمة ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيه أكثر مما يجتهد في غيره ، وكان السلف - رضوانُ الله عليهم ورحمتهُ - يهتمون بهذا الشهر غاية الاهتمام ويتفرغون فيه للتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وكانوا يجتهدون في قيام ليله وعمارة أوقاته بالطاعة ، قال الزهري - رحمه الله - : (( إذا دخل رمضان إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام))
هذا هو شأن رمضان عند السلف - رحمهم الله - : جدٌّ واجتهاد ، صيامٌ وقيام ، عبادةٌ وتلاوة قرآن ، تهليلٌ وتسبيحٌ وبرٌّ وإحسان ، عطفٌ ومواساةٌ وإطعام .
إن شهر رمضان ضيف عزيز على المسلمين ووافد كريم عليهم ؛ فحريٌّ بهم أن يحسِنوا استقباله بما يستحقه من حفاوة وإكرام ، فإنه إذا نزل بالإنسان ضيفٌ كريم فإنه يفرح بمقدمه ويُسَرُّ بمجيئه ويبذل له كل غالٍ ونفيس، وشهر رمضان هو أكرم ضيف وأنبله وأزكاه وأطهره فلنفرح بإدراكه وبأن بلَّغنا الله إياه ، فكم من قريبٍ وصديقٍ وجارٍ شهد معنا رمضان الماضي ثم اخترمته المنية فلم يدرك هذا الشهر ، فلنشكر الله على ما أنعم به علينا من إدراك هذا الشهر وليكن ذلك باستغلال أوقاته المباركة فيما يُقرِّب إلى الله من طاعات نافعة وأعمال مبرورة وتوبة نصوح وإحسان . قال تعالى:
{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس:58] .
وصيام رمضان من دعائم الإسلام ومن مبانيه وأركانه العظام ، وفي هذا الشهر نزلت رحمة الله على عباده التي هي القرآن ؛ فحُقَّ لنا أن نفرح بهذا الشهر وأن نشكر الله عليه ونغتنمه فيما شرع الله وأراد من عمارة نهاره بالصيام والمنافسة في جميع أبواب الخيرات ، وليله بالصلاة وتلاوة القرآن والذكر والبر والإحسان .
اللهم وفِّقنا لطاعتك ، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، ويسِّرنا لليسرى ، وأتِمَّ علينا النعمة بالقيام بحق هذا الضيف الكريم ، وأعنّا على صيامه وقيامه وحُسن الأدب فيه يا رب العالمين.
(1) مسند الإمام أحمد (13408) ، قال محققه: إسناده صحيح .
(2) الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، واللفظ للترمذي .
(3) المسند: (9497)
(4) متفق عليه ؛ البخاري(2014) ، مسلم (760)
(5) متفق عليه ؛ البخاري(37) ، مسلم (759)
(6)المعجم الكبير للطبراني (2022)
(7) رواه الترمذي (3545) .
عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
تعليق