روضة الاعتكاف
نبيل بن عبدالمجيد النشمي
قال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَعتكِف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفَّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده"؛ متفق عليه[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعتكِف في كلِّ رمضان عشرة أيام، فلمَّا كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يومًا؛ رواه البخاري.
روضة الاعتكاف استراحة مُحارِب، أو بالأصح نزهة مجاهد ونهاية مجتهد، اجتهد مِن أول الشهر في الحرص على الطاعات والإكثار من النوافل والقربات حتى ارتقى وتعلَّق قلبه بالجنة والحياة الأخرى، وارتفع الشوق عنده إلى ما عند الله - تبارك وتعالى - وفعل فيه الإيمان ما فعل من التأثير والتحفيز، فقرَّر أن يخلو بربه - تبارك وتعالى - ويتخلَّى عن غيره فيما بقي من الشهر.
الاعتكاف قيد وحبْس، قيد للهوى وحبس للشهوة، فالمقيَّد بهما قد لا يستطيع أن يَعتكِف، ففيه ترتفع الرُّوح، ويخفق القلب طيرانًا إلى مناجاة الله - عز وجل - والأنس به، فيَفِر إليه المؤمن، فيتخلَّص من هجوم همومه، وتقلُّب قلبه ومشاكسة مشاكله ليُخلِص لله - تبارك وتعالى - ومع الله فقط.
والاعتكاف: خَلوة بالنفس لغسل أوساخها، والتي صعُب غسلها بغير الاعتكاف، والتزود بوقود إيمان وشحنة إحسان يعيش عليها المؤمن مدار العام، بل تربِطه بالله - تبارك وتعالى - وتقوِّي صِلته به إلى أن يلقاه؛ ا. هـ.
فما ألذ الاعتكاف! هذا إن كان اعتكافًا كاملاً أو قريبًا من الكمال، اعتكافٌ يخلو المعتكِف فيه بنفسه مع ربه، وبربه عن غيره، يخلو بنفسه معترفًا أمام ربه بتقصيره وتفريطه، باكيًا على سوء صنيع قام به متحسِّرًا على خير وبرٍّ فاته، طامعًا في مغفرة ربه والفوز يوم لقائه، تاركًا كلَّ ما خلَّفه خَلْفه، وكأن لم تكن بينه وبينه علاقة أو معرفة، ترك لله - تبارك وتعالى - ومن أجل الله - سبحانه وتعالى.
روضة الاعتكاف الصحيح السليم الموافِق لاعتكاف الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - تسمو فيها الرُّوح حتى تكاد تقول: ما بقي بينها وبين الجنة إلا أن تموت، وتمر على المعتكِف لحظات لو عرفها الملوك وأبناء الملوك وأهل الغنى والدثور لاشتروها بأغلى الأثمان أو أخذوها بالقوة والسلاح.
لحظات المُعتكِف غالية، وأنفاسه نفيسة؛ إذ كلها تُنفَق فيما يحب الله - تبارك وتعالى - من قراءة وذِكْر ودعاء وصلاة وتوبة واستغفار وتفكُّر ومناجاة لله - سبحانه وتعالى - يتقلَّب فيها المعتكِف بقلبه، وهي مادة حياته وحياة رُوحه، فيعيش أيامًا ولياليَ لم تمر مِثلها لذة وحلاوة من قبل.روضة الاعتكاف دخلها خير مَن وطِئ الثرى - صلى الله عليه وسلم - وحرص عليها، ونصَح بها، وأعلن بلسانه وحاله أهميتها - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه في آخر رمضان في حياته اعتكف عشرين، وهو مع ما عنده من الأشغال بحال أمته وتبليغ دعوته، فهل بعده يعتذِر أحد بانشغال أو بقضية؟!
فها هو إمام الدعاة وسيدهم يعتكِف والموفَّق من وفَّقه الله - تبارك وتعالى.فبادر واحذر أن تفوتك فرصة الاعتكاف هذا العام، فقد اعتذرتَ لنفسك مرارًا، وما يُدريك لعلك لا تَمرُّ عليك عشر مرة أخرى، فجاهِد نفسك، وشدَّ عزمك، ولا تستسلم لكلمات المثبِّطين، ولا هواجس النفس الأمارة، ولا أوهام الانشغال، واتَّخذ القرار واستعن بالله ولا تعجِز، وأسرع إلى مسجد جماعة، واعتكف ولو كنت وحدك فالله - تبارك وتعالى - معك، وإن هيأ الله - تبارك وتعالى - لك رُفقة صالحة فنور على نور، وادخل المعتكف بعزيمة المجاهد، وقلب العابد، وحِرْص التاجر، ولا تُفرِّط في لحظاته، فالغبن والخسارة أن تدخل المعتكَف ثم تتشاغل بغير مهام المعتكف، وأن تُعَد معتكفًا، وأنت بقلبك خارج المسجد، فرب معتكِفٍ ببدنه، وقلبه وفكره يُزاحم الناس في أسواقهم ومجالسهم ولعبهم.
إياك - أخي الكريم - أن تمرَّ عليك الأيام وتمضي من بين يديك السنون، وينتهي بك العمر وأنت بعيد عن هذه الروضة، ولم تفكِّر في الدخول فيها، ولا أن تكون من المعتكفين ولو مرة في العمر، فيفوتك خير عظيم، وكم هي خسارتك، ثم كم سيكون ندمك؟! فكن أذكى من أن تنتظر الندم وتترقَّب الخسارة وبين يديك الفرصة وفيك القدرة ولا عُذْر لك المرة.فاعتكِف العشر هذه ولا تتنازل، وإن كنت صادقًا في عُذرك وأنت أعلم بنفسك فلا يفوتك من العشر بعضها، وإذا كان ولا بد فلا أظنك تقبل بأن تخرج العشر ويخرج الشهر، ولم تعتكِف حتى ليلة من أوَّلها إلى آخرها، فالعجز وإن سيطر إلا أن ما بقي من قوة اليقين، وما حصل من زاد خلال الشهر يكفي لأن يوقِظ فيك العزمَ ويَدلك على الرشد.
روضة الاعتكاف فرصة لتجديد العهد وإصلاح الحال والانطلاق من جديد مع رب العالمين من قاعدة: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، الاعتكاف الكامل قطعة من الآخرة قدمت لأهل الدنيا، أو لحظة من الجنة عُرِضت على المؤمنين تشويقًا وتسويقًا، فأين المتسابقون؟ وأين الحريصون؟
اللهم طهِّر قلوبنا من التعلق بسواك، وارزقنا حبَّك وحب كلِّ عملٍ يُقرِّبنا إلى حبك، وسهِّل علينا طاعتَك، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طَرفةَ عين، يا حي يا قيوم.
[1] البخاري (1886) مسلم (2006).
م/ن
نبيل بن عبدالمجيد النشمي
قال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [البقرة: 125].
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَعتكِف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفَّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده"؛ متفق عليه[1].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَعتكِف في كلِّ رمضان عشرة أيام، فلمَّا كان العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يومًا؛ رواه البخاري.
روضة الاعتكاف استراحة مُحارِب، أو بالأصح نزهة مجاهد ونهاية مجتهد، اجتهد مِن أول الشهر في الحرص على الطاعات والإكثار من النوافل والقربات حتى ارتقى وتعلَّق قلبه بالجنة والحياة الأخرى، وارتفع الشوق عنده إلى ما عند الله - تبارك وتعالى - وفعل فيه الإيمان ما فعل من التأثير والتحفيز، فقرَّر أن يخلو بربه - تبارك وتعالى - ويتخلَّى عن غيره فيما بقي من الشهر.
الاعتكاف قيد وحبْس، قيد للهوى وحبس للشهوة، فالمقيَّد بهما قد لا يستطيع أن يَعتكِف، ففيه ترتفع الرُّوح، ويخفق القلب طيرانًا إلى مناجاة الله - عز وجل - والأنس به، فيَفِر إليه المؤمن، فيتخلَّص من هجوم همومه، وتقلُّب قلبه ومشاكسة مشاكله ليُخلِص لله - تبارك وتعالى - ومع الله فقط.
والاعتكاف: خَلوة بالنفس لغسل أوساخها، والتي صعُب غسلها بغير الاعتكاف، والتزود بوقود إيمان وشحنة إحسان يعيش عليها المؤمن مدار العام، بل تربِطه بالله - تبارك وتعالى - وتقوِّي صِلته به إلى أن يلقاه؛ ا. هـ.
فما ألذ الاعتكاف! هذا إن كان اعتكافًا كاملاً أو قريبًا من الكمال، اعتكافٌ يخلو المعتكِف فيه بنفسه مع ربه، وبربه عن غيره، يخلو بنفسه معترفًا أمام ربه بتقصيره وتفريطه، باكيًا على سوء صنيع قام به متحسِّرًا على خير وبرٍّ فاته، طامعًا في مغفرة ربه والفوز يوم لقائه، تاركًا كلَّ ما خلَّفه خَلْفه، وكأن لم تكن بينه وبينه علاقة أو معرفة، ترك لله - تبارك وتعالى - ومن أجل الله - سبحانه وتعالى.
روضة الاعتكاف الصحيح السليم الموافِق لاعتكاف الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - تسمو فيها الرُّوح حتى تكاد تقول: ما بقي بينها وبين الجنة إلا أن تموت، وتمر على المعتكِف لحظات لو عرفها الملوك وأبناء الملوك وأهل الغنى والدثور لاشتروها بأغلى الأثمان أو أخذوها بالقوة والسلاح.
لحظات المُعتكِف غالية، وأنفاسه نفيسة؛ إذ كلها تُنفَق فيما يحب الله - تبارك وتعالى - من قراءة وذِكْر ودعاء وصلاة وتوبة واستغفار وتفكُّر ومناجاة لله - سبحانه وتعالى - يتقلَّب فيها المعتكِف بقلبه، وهي مادة حياته وحياة رُوحه، فيعيش أيامًا ولياليَ لم تمر مِثلها لذة وحلاوة من قبل.روضة الاعتكاف دخلها خير مَن وطِئ الثرى - صلى الله عليه وسلم - وحرص عليها، ونصَح بها، وأعلن بلسانه وحاله أهميتها - صلى الله عليه وسلم - حتى إنه في آخر رمضان في حياته اعتكف عشرين، وهو مع ما عنده من الأشغال بحال أمته وتبليغ دعوته، فهل بعده يعتذِر أحد بانشغال أو بقضية؟!
فها هو إمام الدعاة وسيدهم يعتكِف والموفَّق من وفَّقه الله - تبارك وتعالى.فبادر واحذر أن تفوتك فرصة الاعتكاف هذا العام، فقد اعتذرتَ لنفسك مرارًا، وما يُدريك لعلك لا تَمرُّ عليك عشر مرة أخرى، فجاهِد نفسك، وشدَّ عزمك، ولا تستسلم لكلمات المثبِّطين، ولا هواجس النفس الأمارة، ولا أوهام الانشغال، واتَّخذ القرار واستعن بالله ولا تعجِز، وأسرع إلى مسجد جماعة، واعتكف ولو كنت وحدك فالله - تبارك وتعالى - معك، وإن هيأ الله - تبارك وتعالى - لك رُفقة صالحة فنور على نور، وادخل المعتكف بعزيمة المجاهد، وقلب العابد، وحِرْص التاجر، ولا تُفرِّط في لحظاته، فالغبن والخسارة أن تدخل المعتكَف ثم تتشاغل بغير مهام المعتكف، وأن تُعَد معتكفًا، وأنت بقلبك خارج المسجد، فرب معتكِفٍ ببدنه، وقلبه وفكره يُزاحم الناس في أسواقهم ومجالسهم ولعبهم.
إياك - أخي الكريم - أن تمرَّ عليك الأيام وتمضي من بين يديك السنون، وينتهي بك العمر وأنت بعيد عن هذه الروضة، ولم تفكِّر في الدخول فيها، ولا أن تكون من المعتكفين ولو مرة في العمر، فيفوتك خير عظيم، وكم هي خسارتك، ثم كم سيكون ندمك؟! فكن أذكى من أن تنتظر الندم وتترقَّب الخسارة وبين يديك الفرصة وفيك القدرة ولا عُذْر لك المرة.فاعتكِف العشر هذه ولا تتنازل، وإن كنت صادقًا في عُذرك وأنت أعلم بنفسك فلا يفوتك من العشر بعضها، وإذا كان ولا بد فلا أظنك تقبل بأن تخرج العشر ويخرج الشهر، ولم تعتكِف حتى ليلة من أوَّلها إلى آخرها، فالعجز وإن سيطر إلا أن ما بقي من قوة اليقين، وما حصل من زاد خلال الشهر يكفي لأن يوقِظ فيك العزمَ ويَدلك على الرشد.
روضة الاعتكاف فرصة لتجديد العهد وإصلاح الحال والانطلاق من جديد مع رب العالمين من قاعدة: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، الاعتكاف الكامل قطعة من الآخرة قدمت لأهل الدنيا، أو لحظة من الجنة عُرِضت على المؤمنين تشويقًا وتسويقًا، فأين المتسابقون؟ وأين الحريصون؟
اللهم طهِّر قلوبنا من التعلق بسواك، وارزقنا حبَّك وحب كلِّ عملٍ يُقرِّبنا إلى حبك، وسهِّل علينا طاعتَك، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طَرفةَ عين، يا حي يا قيوم.
[1] البخاري (1886) مسلم (2006).
م/ن
تعليق