رمضان شهر التغيير.. نعم لأنه يختلف عن بقية الشهور، وأعماله ليست كأعمال غيره، فهو شهر مختلف ولذلك ينبغي أن يكون المسلم فيه مختلفا أيضا.
لقد صام الأولون رمضان وعرفوا قدره وعلموا مراد الله منهم فيه؛ ولذلك رفعهم الصيام، وغير حياتهم، ورفع ذكرهم، وأعلى على العالمين قدرهم، ففتح الله بهم البلاد، وشرح بهم قلوب العباد، فسادوا وقادوا، وعلموا وعملوا، وأنفقوا وجاهدوا في الله حق الجهاد.
ورغم أن الصيام هو الصيام، وشهر رمضان هو هو شهر رمضان، غير أن الأحوال تبدلت، والمواقف تغيرت فقادوا وانقدنا، وسادوا وقهرنا، وعزوا وذللنا، وارتفعوا ووضعنا، وانتصروا وانهزمنا، وتقدموا وتأخرنا.. وإذا كان السؤال هو لماذا؟ فإن الإجابة: لأن صيامنا ليس كصيامهم، ورمضاننا غير رمضانهم، فكان لابد أن يكون حالنا غير حالهم.
إننا إذا أردنا أن نعود لما كانوا عليه، وأن نكون كما كانوا .. وأن ننتفع برمضان حقيقة كما انتفعوا فإنما هي كلمة واحدة تجمع لنا الخير كله ألا وهي.. أن نصوم صومهم.. صيام الصادقين.
فإن الصائم الصادق يعلم أن: الصوم عبادة: وأن روح العبادات الإخلاص، فلا يشرك فيها مع الله أحدا.. قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ}، وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء }.. وفي الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه برئ وهو للذي أشرك (أو قال: تركته وشركه).
وجاء في الحديث الشهير: (والصيام لي وأنا أجزي به).. وإنما يكون الجزاء والأجر إذا كان الصوم خالصا لوجهه سبحانه.
الصائم الصادق يعلم أن الصوم لا يتم أجره إلا بأن يكون على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه، فيصوم كما كان يصوم، ويقوم كما كان يقوم، ويفطر كما أمرنا، ويتسحر كما ندبنا.. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}، وفي الحديث : [من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد].
الصائم الصادق يعلم أن الصوم ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ثم يأتي بعد ذلك من المعاصي ما شاء، ومن المخالفات ما أراد.. وإنما الصوم صوم القلب عما سوى الله، وصوم الجوارح عن كل ما يغضب الله، فإذا صامت المعدة والفرج وأفطرت الجوارح والقلب فلعل صاحب هذا الصيام هو من عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : [كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه إلى السهر]
إذا لم يكـن في الســمع مني تصــاون .. .. وفي نظري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما .. .. وإن قلت إني صـمت يـوما فـما صمت
الصائم الصادق يستحي من الله حق الحياء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: [استحيوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحياءِ، قَالَ: فقلنا: يَا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نَسْتَحِي وَالحَمْدُ للَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، ولكن الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وعى، وَتَحْفَظَ البَطْنَ وَمَا حوى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ والبلى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَركَ زِينَةَ الدّنْيَا، فَمَنْ فَعَل ذَلكَ فَقَدْ استحيا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاء] (رواه الترمذي عن ابن مسعود وحسنه الألباني).
الصائم الصادق: يصون بصره عن رؤية الخنا والفجور والعهر، ويصون سمعه عن سماع الغناء والفحش، وكذلك يحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة وقول الباطل والزور.. فهو يحفظ وصية جابر بن عبدالله المنسوبة إليه يقول: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم (والجار)، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
الصائم الصادق يعلم أن الصوم جنة: يعني وقاية وحماية.. جنة من النار وغضب الجبار، وجنة ووقاية من الأخلاط الوبيلة، وجنة وحماية من الأخلاق الرذيلة، فأحسن ما يكون المرء خلقا وهو صائم، فالصوم يهذب النفس ويصونها عن كل سوء وقبح في الأقوال أو الأفعال أو الأخلاق؛ كما قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الصوم جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم].
ومن لم يمنعه صومه عن قالة السوء وفعل القبيح فليسمع تحذير رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: [من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه].
الصائم الصادق يعلم أن الصلاة عماد الدين وأن من صام بغير صلاة كان كمن بنى قصرا وهدم مصرا، ويعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر] وقال: [بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة]، فهو لا يفرط فيها ولا يضيعها وإنما يلتزم بها في مواقيتها لخوفه من وعيد القرآن الكريم: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}..
ويعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]، وعندما جاءه الرجل الأعمى يريد رخصة للصلاة في بيته لأنه بعيد عن المسجد والطريق مسبعة "يعني فيها سباع وهوام"، وليس له من يقوده للمسجد.. فبعد أن كاد يرخص له ناداه وقال: [هل تسمع حي على الصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب]... فالصائم الصادق يحافظ على الصلاة في المسجد مع الجماعة لينال ثواب الجماعة وأجر السير للمساجد، وليحصل النور التام يوم القيامة، وليحمي نفسه من النفاق كما قال ابن مسعود: "وقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق".
الصائم الصادق يعلم أنه لم يكن له أن يمتنع عن ما أحل الله بأمر الله ثم يقع فيما حرمه الله عليه في رمضان وغير رمضان.. فهو يمتنع عن الطعام والشراب طيلة النهار ثم إذا أفطر سارع إلى الدخان والسجائر أو غيرها.. ولا يمتنع عن الشهوة في نهار رمضان ثم هو يقضي نهاره وليله ليشاهد ما حرم الله عليه في الليل والنهار وفي رمضان وغير رمضان إذ إن ذلك ليس فعل الصادقين.
الصائم الصادق دائم الخوف من أن يخرج من رمضان دون توبة ومغفرة لأنه سمع في الحديث أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: [من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين. فقال: آمين]..
فهو دائم التذلل إلى الله والتودد إليه ، والتضرع له والبكاء بين يديه ألا يخرجه من رمضان إلا وقد غفر كل ذنوبه السالفات، وتجاوز له عن كل السيئات الماضيات، والخطيئات السباقات، وقضى له بالعفو والمغفرة لكل ما مضى من الذنوب، فكأنه في رمضان قد ولد ولادة جديدة ليستأنف العمل من جديد.
الصائم الصادق يعيش الصيام عبادة لا عادة، وقربة لله لا حملا ثقيلا، وطاعة لله تعالى ورغبة فيما عنده، فهو يريد أن يقدمه بين يديه عملا يستحق به بعد فضل الله رضاه، وينال به ثوابه.. ومثل هذا هو الصيام الذي يغير الحياة.. ومثل هذا الصيام هو صيام الصادقين.
أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.. آمين.
تعليق