عجيبٌ هو شأن الكاتب وأعجب منه شأن قلمه ، لحظاتٌ يفيض رقةً وعذوبة فى الألفاظ والتعابير والتراكيب والمعانى ، وأحايين أخرى تستجدى القلم فلا يجيب ، تئن فلا يستجيب ، غير أنى لا أعبأ كثيرا بتلك الحال وأتحايل عليها بالاستغراق فى الذكريات التى تحرك أشواقى وتستثير حنينى ؛ فيسرى نبض الحياة فى أعصابى ويتألق وميضه بين جوانحى ، وترتعد أطرافى ، وتتحرك قوة قلمى المدخرة ، ويتمايس القلم بين السطور تتقاطر شجونه كحبات الماء المتفجرة من عيون الجلاميد ……
أين وصل حديث الذكريات بينى وبين نفسى ؟
أه تذكرت ! .......
إنها أول ليلة فى رمضان المنصرم ، أسير قبيل أذان العشاء ، أتنسم نسيم البحر وأنا أسترق النظر إلى كتاب " هُتاف المجد" للشيخ "على الطنطاوى " أديب الشام _رحمه الله_ كم أحبُّ هذا الرجل …أشعر بآصرة بينى وبينه ووشيجة رحم كلما رأيت صورته أو استمعت حديثا له…. ازداد النسيم هبوباً ، وتراقصت أمواج البحر، جلست أنظر إلى الأمواج الهادرة تارة وإلى الكتاب تارة فوجدت الشيخ على الطنطاوى يقول :_
( لمَّا كانوا يبنون مسجد نافذ فى المهاجرين ، جاءت إمرأة لا يعرفها أحد بصرّة فيها خمسون ليرة ذهبية ، وولت مسرعة قالوا :_
أخبرينا باسمك لنكتب لكِ الوصل؟
قالت: هو يعرف اسمى ، ولا أحتاج منه إلى وصل )
لم أحتمل هذه الخلائق وتلكم السلائق ….رقّت نفسى وسالت عبرتى وارتفع صوت البحر اللجب ، تُرى هل يوافقنى الشعور ؟!
صدع مؤذن مسجد القائد إبراهيم بالإقامة ؛ انتبهت وتخطيت الطريق مسرعا ، وفرشت مصليتى ، فكبر الإمام ثم قرأ الفاتحة بصوت عذب رخيم ينفذ إلى القلب فيحملك من جمال الألفاظ وبهاءها إلى عذوبة المعانى وأفياءها
….( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) استمعتها وصدى المرأة الشامية يرنُّ فى أعماق خلجات نفسى :_
( هو يعرف اسمى ولا أحتاج منه إلى وصل !)
أذوب شوقا لتلك الساعات وريَّا أيامها
سقى الله تلك الأيام !
تعليق