اختتمت أول آية من آيات الصيام بالتقوى"لعلكم تتقون"، وختم سياق الآيات كلها بالتقوى أيضاً"لعلهم يتقون"، لتعطي إشارة أن من أعظم مقاصده تحقيق "التقوى".
فللتقوى تلازم واتصال بالصيام، ذاك أن العبادات منهاما هو جماعي ظاهر كالصلاة والحج، ومنها ما هو خفي بين العبد وربه كالصيام،فجاءت هذه الفريضة لتعمق في النفوس إحياء المراقبة الذاتية، لينصرف العبدعن ملذاته باختياره وطوعه، ويجعل ضميره على نفسه رقيباً.
كم هي عظيمة حاجتنا لنربي أنفسنا على أن يكون حاديهاعند فعل الطاعة «يدع طعامه وشرابه من أجلي» متفق عليه، ورادعها عن فعلالمعصية «إنما تركها من جرَّاي» أخرجه مسلم، فلب العبودية استشعار هذاالمعنى، وهو خلوص القصد في طلب رضا الله سبحانه في الفعل والترك، وانقطاعالطمع عن الخلق.
وعند تحقق التقوى يتحول اللص الفاتك إلى حمل ودِيع،وينقلب المجرم الفَظ إلى سهل لين، وتهَدأ البيوت التي امتلأت بالصخَبوالضجيج، وتمتلئ طمأنينة وسكينة، وهذا واقع ملموس، رأيناه ورآه غيرناوأخبار التأريخ تؤكده وتثبته.
وهذا يفسر لنا ختم سياق كثير من الآيات بهذه العبادةالعظيمة، لأن تحققها يصلح جميع شؤون الحياة، وتكون سائساً للنفس أكثر منتنظيم القانون وصرامته، حتى ورد ذكر التقوى بتصاريفها في القرآن فيما ينيفعلى المائتين وخمسين موضعاً.
ومما يعين على تحقيق التقوى في القلب أن يحوط الإنسانقلبه كما يحوط ماله، ويغذيه بما ينفعه كما ينمي تجارته، ويحرسه عن لصوصالوقت والخير فهم أخطر من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون صلتك بالمنعم الكريمسبحانه ويفسدون صلتك به.
والتقي دائم التذكر لقول الباري سبحانه[إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36}
ومن كانت عنايته بعدم دخول مفطر إلى جوفه وتحرزه من ذلك أكثر من عنايته باستشعار غاية الصوم ومعناه فما فقه حقيقة الصيام.
ولا أرى حاجة لذكر الأقوال في ماهية التقوى، فرَوعَةلفظها، وجمَال نغَمها يعطي حساً في القلب عن المراد بها، ومن جميل ما وردفي التشبيه بحال المتقي ما أثر عن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قاللكَعب الأحبَار: حدثني عن التقوى؟ فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قال فما عملت فيه؟ قال: حذرت وشمرت: قال كعب: ذلك التقوى. [تفسير البغوي (1 / 60)]
"فالتقوى .. حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور،وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق .. طريق الحياة .. الذيتتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوفوالهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن
لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذبممن لا يملك نفعاً ولا ضراً". [في ظلال القرآن (1 / 39).
فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى تَضَاؤُلُ نِسْبَـةٍ
وَمَا زَالَ ذُو التَّقْـوَى أَعَزُّ وَأَكْرَمَا
وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تَزِيدُ عَلَى الْغِنَى
إِذَا مَحَّضَ التَّقْوَى مِنَ الْعِزِّ مَبْسَمَا
جعلنا الله من عباده المتقين، وأدخلنا برحمته في عباده الصالحين.
المصدر: موقع مجلة البيان