إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صائمون ولكن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صائمون ولكن

    صائمون ولكن

    إن الإخلاص في كل العبادات أساس لابد منه، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً أريد به وجهه، وعمل على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[البينة:5] وقال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3] وقال سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[الكهف:110] فالإخلاص واجب في كل العبادات، وإذا زال الإخلاص عنها تحولت العبادة إلى عمل لا يؤجر عليه صاحبه، بل يذم ويعاب ويعذب في الدار الآخرة، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ[الماعون:4-7] وقال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[هود:15-16].

    الصوم عبادة السر

    والصوم من بين هذه العبادات كلها: هو عبادة السر، فهو عمل بين العبد وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه أحد من الخلق، أتم صيامه أم نقصه أم نقضه.

    ولهذا قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزي به} وإنما قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي؛ لأنه لا يطلع على حقيقة العبد إن كان صام صياماً شرعياً حقيقياً أم أفطر بينه وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا الله، حتى إن العبد لو نوى الفطر نية جازمة صادقة ثابتة فإنه يفطر بذلك، ولو لم يتناول شيئاً، كما ذهب إليه جمع كثير من الفقهاء، أنه إذا قطع نية الصيام ونوى الفطر أفطر ولو لم يأكل شيئاً، فدل ذلك على أن سر الصيام: هو في الإمساك عن المفطرات بنية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

    إذاً: فلابد من التعبد، وإرادة وجه الله تعالى في الصيام، وألا يكون الإنسان صام مجاراةً للمجتمع، أو سيراً على تقليد الناس، أو خوفاً من البشر، وإنما صام رجاءً فيما عند الله، وخوفاً من عقابه، وأنت تجد من الناس اليوم من لا يستشعر نية الصيام، ولا يصوم إلا مجاملة لمن حوله، فهو يخشى الناس ولا يخشى الله، يخشى الناس أن لو أفطر لانكسر جاهه عندهم، وسقطت منزلته، أو يخشى أن يتحدث الناس عنه: أن فلاناً أفطر ولم يصم، أو يخشى أن يعاقب من بعض الناس على فطره، فيصوم لهذا.

    وربما لو أتيح له أن يفطر سراً لفعل، ومنهم من لا يخشى إلا هذا، ولا يراقب الله تعالى في عمله، وحينئذ فإن هؤلاء ممن لو اقتضاهم الأمر أن يفعلوا ضد ذلك لفعلوا، فأنت تجد هذا في صوم الفريضة.




    الفرق في الإخلاص بين صوم الفرض والنفل


    أما بالنسبة لصوم النفل: فإن الأمر يختلف، ففي صوم الفريضة أغلب الناس إنما يصومون ابتغاء وجه الله، ومراقبة لله تعالى، وخوفاً منه، ويقل المراءون في صوم الفريضة؛ لأن كل المسلمين صائمون.

    فالإنسان لا يشعر أنه بصيامه فعل شيئاً عظيماً فاق فيه الناس كلهم أو خالفهم، أو أتى فيه من العبادة بما لم يأت به غيره، فغالب الناس يصومون الفرض لله تعالى، وقليل منهم من يصوم لغير الله.

    أما بالنسبة لصوم النافلة: فإن الأمر يزيد عن ذلك، فمن الناس من يصوم النفل ويشيع عند الناس أنه كثير الصيام، فإذا كان بينهم في مناسبة أو أكل أو شرب فإنه يمسك عن الأكل والشرب ولو كان مفطراً؛ خشية أن يخيب ظن الناس فيه؛ لأنهم ظنوه صائماً، فلو قالوا له: تفضل يا فلان، أم أنك صائم؟ لاستحى؛ وقال: نعم، أنا صائم، أو ربما تكلف أن يتظاهر بالصوم، ويتظاهر -أيضاً- بأنه يريد أن يكتم الصيام، فإذا قالوا له: تفضل يا فلان! أم أنت صائم؟ قال لهم: لا أريد أن آكل، ورفض الأكل، ولم يبح بالصيام؛ لأنه يريد أن يظنوا أنه صائم، وهو في الواقع لم يكن صائماً!!

    ومنهم من يخبر بأنه صام فيقول: منذ عشرين سنة وأنا أصوم، أو منذ كذا وأنا أصوم الإثنين والخميس، ومنهم من عادته أن يصوم الاثنين والخميس، فإذا دعي إلى غداء في الاثنين أو الخميس قال: اليوم خميس، وهو لو قال: أنا صائم بنية الرياء لربما كانت هذه بلية، فكيف إذا كان قال: اليوم خميس، وهو يريد أن يقول لهم: أنا أصوم كل أثنين، وأصوم كل خميس، ومنهم من ينظر إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار؛ لأنه صائم وهم مفطرون.

    إذاً على العبد أن يحرر نيته لله تعالى، فإنه كبير -أَيّ كبير- أن يجهد الإنسان ويتعب، ويحرم لذات ما أحل الله تعالى في هذه الدنيا من طعام وشراب ونكاح بصيام نفل أو غيره، ثم لا يكتب له من ذلك شيء، بل ربما كانت عليه آثاماً؛ بسبب أنه ما أراد بها وجه الله، وإنما عمل ما عمل رياءً وسمعة، قال الله تعالى:الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ[الملك:2] قال الفضيل بن عياض : أي أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.

    فحرر نيتك، وراقب قلبك، واعلم أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، ويقول سبحانه: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك} كما في الصحيح.

    إن الناس ينظرون إلى الظاهر، أما القلوب فشأنها عند علام الغيوب، فكما تجهد في إصلاح ظاهرك وتحسينه وجعله على الكتاب والسنة، فعليك أن تجهد -أيضاً- في إصلاح باطنك، ألا يعلم الله من نيات قلبك ومقاصده أنك لا تريد غيره، ولا تقصد سواه.

    ثانياً: من مكارم الأخلاق

    تربية الصيام الإنسان على الإنفاق

    إن من حكم الصيام: تربية العبد على الجود والإنفاق.

    فمثلاً الجوع -وهو جزء من الصيام- يذكر الإنسان بحال الفقير والمسكين والجائع؛ ولهذا كان الشاعر يقول بعد أن جاع زماناً طويلاً ثم أغناه الله تعالى، فكان ينفق ويتصدق فقالت له زوجته: ارفق بالمال، قال:

    لعمري لقد عضني الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً

    فحين يجد الإنسان مس الجوع؛ فإن ذلك يدعوه إلى السخاء والكرم والإنفاق، ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فالرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} رواه البخاري من حدين ابن عباس .

    إن جوده محمد صلى الله عليه وسلم كان دائماً، فقد أعطى غنماً بين جبلين، وأعطى مائة من الإبل، حتى أنه سئل الثوب الذي يلبسه فأعطاه محمد صلى الله عليه وسلم ولبس غيره، وإنما كان جوده محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان لأسباب:

    أولها: أنه شهر الصيام، والصيام يدعو إلى الإنفاق والبذل والكرم والسخاء.

    وثانيها: أنه شهر تضاعف فيه الحسنات.

    وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر فيه من قراءة القرآن، والقرآن يدعو إلى الإنفاق وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ[الحديد:7] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[البقرة:245] وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ[النور:33] إلى غير ذلك. حتى أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا قط فقال: لا.

    كأنك في الكتاب وجدت أن (لا) محرمة عليك فلا تحل

    فما تدرى إذا أعطيت مالاً أيكثر في سماحك أم يقل

    إذا حضر الشتاء فأنت شمس وإن حضر المصيف فأنت ظل

    إن المسلم الحق يستعلي على وعد الشيطان الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ[البقرة:268] فلا يمنعه ذلك أن ينفق من فضل الله تعالى، وأن يتصدق على العباد خشية الفقر، ومن منع ما في يده خشية فقر؛ فالذي فعل هو الفقر، فإن كل يوم له رزق جديد يأتي به الله تعالى، وإن منعت ما عندك منعك الله تعالى ما عنده.

    ورزق اليوم يكفيني وإني بيومي جد مغتبط سعيد

    فلا تخطر هموم غد ببالي فإن غداً له رزق جديد

    1- الاندهاش من شيخ كبير السن:

    إنني أندهش من ابن السبعين، وابن الستين، وابن الثمانين، الذي يملك الملايين، ويملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ثم تشح يده بقليل المال ينفقه في سبيل الله، حتى على نفسه، أو على ولده، أو على زوجه، يدخر هذا المال لماذا؟! إنه أمر لا تفسير له قط إلا الانسياق لألاعيب الشيطان، وإلا فإن نفسك التي تبخل عليها لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ولم يبق من عمرك إلا كالشمس على رءوس الذوائب، فأنت لا تدري أيصبحك الموت أم يمسيك.

    أما أولادك الذين تبخل عليهم وزوجك؛ فهم الذين سيرثون هذا المال من بعدك، وها أنت الآن تبخل عليهم وتمنعهم، وربما قصرت في النفقة الواجبة، وليس معقولاً أبداً أن تجمع المال لهم، وتقول أريد أن يكونوا من بعدي أغنياء ولا يكونوا عالة يتكففون الناس، وها أنت تمنعهم في حياتك بعض الواجب عليك لتلقى الله تعالى بآثام تلك الرعية، التي تقول لمن تتركنا؟

    وللنفس تارات تحل بها العري ويسخو عن المال النفوس الشحائح

    إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه أقل إذا ضمت عليك الصفائح

    بأية حال يمنع المرء ماله غداً فغداً والموت غادٍ ورائح

    يا أخي! ويا أختي! لقد دعاكما الداعي إلى الإنفاق، دعاكما إلى الإنفاق في أبواب الخير وهي كثيرة، دعاكما إلى الإنفاق للصومال الذين يموتون من الجوع والعطش ولا يجدوا ما يفطرون عليه في شهر رمضان وغيره في حلقة تحفيظ القرآن، أو إلى الإنفاق في حلقة تحفيظ سنة، أو دعاكما إلى الإنفاق على إطعام جائع، أو كسوة عار، أو إغاثة ملهوف، أو كفالة يتيم مات أبواه، أو إلى الإنفاق في مشروع دعوة توزيع كتاب، أو توزيع شريط، أو تجهيز غاز في سبيل الله، وأراك أخي! وأراكِ أختي! لا زلتما مترددين!!.

    2- علل واهية في عدم الإنفاق:

    أراك يوماً تتعلل بخوف الفقر، وأنت الذي تملك الملايين التي لو أنفقت بيديك طيلة عمرك ما نقص ذلك منك إلا القليل، وأراك يوماً آخر تحتج بأنه ليس لديك سيولة نقدية؛ وأقول لك: الحاجة أم الاختراع، وليس ضرورياً أن تكون الصدقة التي ندعوك إليها مالاً ودراهم وورقاً نقدية؛ بل قد تكون الصدقة أرضاً، أو مزرعةً، أو سيارةً، أو عمارةً توقفها في سبيل الله للمحتاجين وأبناء السبيل! وأراك يوماً تحتج بخوف ألا تصل الصدقة إلى مستحقيها، وقد وجدت طرقاً موثوقة! ولكنني مع ذلك أقول لك: لماذا تصم أذنيك عن حديث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو في الصحيح: {تصدق على زانية، ثم على غني، ثم على سارق، وقد كتبت كلها في الصدقة المتقبلة؛ أما الغني: فلعله أن يعتبر فينفق، وأما السارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زناها}.

    وأحياناً نناديك لإغاثة المسلمين الفقراء في إفريقيا فتقول: فقراء الداخل أحوج! وفي الإسلام لا يوجد داخل وخارج، فالمسلمون سواسية، تجمعهم كلمة التوحيد والإخلاص، وتجمعهم الصلاة، يتجهون بها لرب العالمين، ويستقبلون البيت العتيق، ويجمعهم الصوم الذي يمسكون فيه لرب العالمين، وتجمعهم بطاح مكة التي يضحون فيها لله تعالى، فلا يوجد داخل ولا خارج.

    ما بيننا عرب ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا

    خلوا خيوط العنكبوت لمن هم مثل الذباب تطايروا عميا

    وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا

    تقول: فقراء الداخل أحوج! فإذا قلنا لك: تصدق على فقراء الداخل -كما تسميهم- قلت: أريد بناء مسجد؛ لأن أجره دائم، فإذا قيل لك: هذا مسجد فأنفق على بنائه، قلت: أريد شراء أرض لبناء مسجد، فإذا قيل لك هذه أرض يبنى عليها مسجد. قلت: هذه الأرض غالية، والمساجد حولها كثيرة.. لقد تحير فيك الأطباء!!.

    إن المال -أيها الأخ الكريم- هو العنصر المفقود في معظم الأعمال الخيرية الإسلامية، فقد وجدنا المسلمين قادرين -بإذن الله تعالى- على أن يقوموا بالدعوة، ونشر الخير، والأمر بالمعروف، وإحياء الجهاد، ولا ينقصهم لذلك كله إلا المال، والمال قد جعلك الله تعالى خازناً وأميناً عليه، أفيسرك أن يكوى به جنبك وجبينك وظهرك يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!!

    إذاً: الخلق الأول الذي يعوده الصيام للصائمين: هو خلق الجود والكرم والإنفاق.

    تربية الصيام الإنسان على الصبر

    الخلق الثاني: الصبر.

    والصوم نصف الصبر، ومعنى الصبر في الصوم ظاهر، فإن الإنسان يكلف نفسه عناء الإمساك عن الشهوات والملذات المستطابة التي يتوق إليها القلب، وتشرئب إليها النفس، ويحبها الإنسان بطبعه، فيمسك عنها طيلة نهار رمضان؛ لوجه الله رب العالمين، وهو من الصبر على طاعة الله، وهو أيضاً من الصبر عن معصية الله، ولهذا أمر الله تعالى بالصبر في كتابه فقال:وَاصْبِرْ نَفْسَكَ[الكهف:28] وقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153] وقال: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[البلد:17] وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10] ومدح الله تعالى أيوب عليه السلام فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً[ص:44] والله تعالى يحب الصابرين كما أخبر، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر}.

    والغريب أن الناس يتكلمون عن الصبر ويفيضون في الحديث عنه، بل ويسمعون كلاماً كثيراً، ويقرءون ما جاء فيه في الكتاب والسنة، ولكن إذا نزلت بهم الملمات والمهمات، واحتاجوا إلى الصبر حتى يطبقوه في سلوكهم وخلقهم وأقوالهم وأعمالهم؛ بدوا كما لو كانوا لم يسمعوا يوماً من الأيام آمراً بالصبر، ولا ناهياً عن ضده، ولا محرضاً عليه، ولا مبيناً لفضل أهله، فإذا احتاجوا إلى الصبر في مواقعه نسوا هذا كله كأنهم لم يسمعوه؛ وهذا يدل على أن الإنسان يحتاج في تعليمه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة، ويحتاج إلى التربية الواقعية؛ ومواجهة الأمر حقيقة، وقد يظن الإنسان نفسه صابراً وهو جزوع، وقد يظن نفسه حليماً وهو غضوب، قال عمر -رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]].

    إن الحياة بالصبر تبدو وتغدو جميلة بكل ما فيها من المحن والمصائب والمشاكل، بل إن الصبر هو الإكسير الذي تتحول به الآلام -بإذن الله تعالى- إلى نعم، وتتحول به المحن إلى منح، وكم من إنسان نزلت به ملمة جليلة عظيمة فلما واجهها بالصبر وجد برد اليقين في قلبه، ولذة السكينة في فؤاده، ورضي بالله تعالى؛ فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.

    خليلي لا والله ما من ملمة تدوم على حي وإن هي جلت

    فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت

    فكم من كريم قد بلي بنوائب فصابرها حتى مضت واضمحلت

    وكم غمرة هاجت بأمواج غمرة تلقيتها بالصبر حتى تجلت

    وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت

    فقلت لها يا نفس موتي كريمة فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت

    إن المرء قد يسمع عن السجن والسجناء فيخيل إليه أن الأمر عادي، وأنه لو حبس لصبر، ووجد في ذلك فرجاً من مجاملة الناس ومجالستهم ومحادثتهم، والصبر على أذاهم، لكنه لو حبس ساعة فربما فقد الصبر وتململ، وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[يوسف:42] ولما أتاه الداعي ما تلقاه عند الباب ولا أسرع إليه، وإنما قال له: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ[يوسف:50].

    لقد سمعت أمس عن خروج داعية من دعاة الإسلام من سجون بلاد الشام ، وقد مكث فيها ما يزيد على عشر سنوات؛ الله أكبر! عشر سنوات ولد فيها مواليد، وشبوا وكبروا ودخلوا المدرسة، ومات فيها أموات، حيا فيها أناس، ومات فيها آخرون، وقامت فيها دول، وزالت فيها دول أخرى، وتغيرت فيها أشياء كثيرة، وهؤلاء قد حيل بينهم وبين الدنيا.

    خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

    إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

    ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا

    يحكى أن أبا أيوب الكاتب حبس خمس عشرة سنة حتى كاد ييأس، فكتب إليه صديق يعزيه ويقول له:

    صبراً أبا أيوب صبر ممدح فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها

    صبراً فإن الصبر يعقب راحة ولعلها أن تنجلي ولعلها

    صبرتني ووعظتي وأنالها وستنجلي بل لا أقول لعلها

    ويحلها من كان صاحب عقدها كرماً به إذ كان يملك حلها

    فكتب إليه أبو أيوب يقول له:

    فلم يمكث إلا أياماً حتى جاء الكتاب بإخراجه من السجن، فخرج معززاً مكرماً.

    مشاكل ليس لها إلا الصبر:

    إنك لا تحصي النساء اللاتي يشكين أزواجهن لسوء المعاملة، أو قسوة الخلق، أو غلظ الطبع، أو كثرة التهديد والوعيد، أو عدم الاستقامة في الدين، أو منعها عن أهلها، أو التقتير عليها في النفقة، أو تعييرها، أو عدم العدل معها إن كان لها ضرة، أو ارتكاب المعصية في بيتها، أو ما أشبه ذلك من ألوان المآسي التي توجد في البيوت، وربما ترامى إلى مسمعك صوت ضعيف، صوت أنثى تشتكي ما تعاني، وهي لا تجد لها مخرجاً، وقد ارتبطت مع هذا الرجل بعقد، وأنجبت منه أولاداً وأصبحت أسيرة قعيدة في بيته، لا تملك حلاً ولا عقداً، فأي دواء لهذه الأنثى إلا الصبر.

    وأنت -أيضاً- لا تحصي من يتبرمون من أحوالهم، فهذا موظف يتبرم من عمله، وهذا تاجر يتبرم من تجارته، وهذا رجل تحت مسئول ظلوم أو حاكم غشوم، أو تحت ضغط اجتماعي لا يراعيه، أو يعاني مشكلة تلاحقه وتؤرقه، أليس في الدنيا مشكلات قد لا يملك الناس لها حلاً؟ ولكن حلها عند من عقدها وهو رب العالمين.

    إن هناك أموراً إنما يكون حلها بالموت، بالدار الآخرة؛ ولهذا كان ذكر الموت أحياناً سبباً في التفريج عن الإنسان، فإن الموت ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا ذكر عند سعة إلا ضيقها، فهو من أسباب التنفيس، فهب أن هذه المشكلة ظلت معك حتى الموت، أليس في الموت فرج؟

    قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف

    منها أمان لقائه بلقائه وفراق كل معاشر لا ينصف

    هذا مع أن فرج الله تعالى للصابرين قريب، قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[البقرة:155-157] وقال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة:214]

    اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج

    وقال تعالى:فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً[الشرح:5-6] وفي الحديث الصحيح يقول محمد صلى الله عليه وسلم : {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.

    وإذا كنا اليوم وكل يوم نأسى لمصاب امرأة في عقر بيتها وعقر دارها، أو لموظف صغير تحت مسئول قاس، أو لرجل يعاني من مشكلة اجتماعية، فإن الأولى بمزيد الأسى هي تلك الشعوب المسلمة، والأمم الموحدة التي تسام الهوان في دينها، ولا تملك الانتصاف من ظالمها، ولكن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال الله عز وجل:وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[هود:102].

    تربية الصوم الإنسان على الحلم

    الخلق الثالث: الحلم.

    وهو: مقابلة الإساءة بالإحسان، والعفو عن الجاهل، والإعراض عنه، وقد مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا بقوله كما في الصحيح: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً قال: يا رسول الله أوصني ولا تكثر عليَّ أو قال: -كما في رواية أخرى-: يا رسول الله! مرني بأمر وأقلله علي؛ لكي لا أنساه. فقال له النبي محمد صلى الله عليه وسلم : لا تغضب} والصوم سبب لتربية الإنسان على الحلم، والصفح عن الجاهل، والعفو عن المسيء؛ لأنه عبادة يتلبس بها الإنسان، والعابد قريب من الله تعالى بعيد عن نزغات الشيطان، بعيد عن إغراءات النفس الأمارة بالسوء، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصوم باب "من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم" ورواه أبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} والله تعالى غني عن العالمين، فليس لله حاجة أن يدع هذا طعامه وشرابه، كما أنه ليس لله تعالى حاجة أن يدع غيره أيضاً ممن ترك قول الزور والعمل به؛ فالله تعالى غني عن هؤلاء وغني عن أولئك، وليس بحاجة إلى هؤلاء ولا إلى غيرهم، وكل البشر ليس تعالى في حاجة إلى أحد منهم.

    ولكن المعنى -والله تعالى أعلم- أن الصوم إنما هو للعبد، لتربية العبد وتهذيبه، وحمله على كريم الطباع، وجميل الأخلاق، والنأي والبعد به عن قول الزور، وعن العمل بالزور، وعن شهادة الزور، وعن الظلم، وعن الفحش، وعن السب، وعن الشتم، وعن الجهل، فإذا لم يترك ذلك فإن الصوم يكون حينئذ لم يفعل فعله فيه.

    ولماذا يصوم مثل هذا؟ علام يصوم إذا لم يصم لنفسه؟ إن لله تعالى غني عنه، ولهذا قال تعالى إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ[الزمر:7] فهو سبحانه غني عن هؤلاء الذين كفروا وأعرضوا عنه، وهم لا يضرونه شيئاً، كما أنه سبحانه غني أيضاً عن المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6] وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[يونس:23].

    فكفر العبد هو على نفسه، وفسقه على نفسه، وارتكابه للزور هو على نفسه قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[البقرة:286] ولهذا أيضاً قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن الله تعالى قال: {يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً}.

    فالله تعالى لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، إنه سبحانه غني عن العالمين، وإنما الصائم يعمل لنفسه فيمسك عن الطعام والشراب من أجل أن يربيه ذلك على أن يدع قول الزور وأن يترك العمل به، فإذا لم يدع قول الزور ولم يدع العمل به فلماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى ومن أجل الله؟ الله تعالى ليس له حاجة إلى أن يترك هذا الإنسان طعامه وشرابه.

    مقابلة الإساءة بالإحسان:

    وقد أرشد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصائم إلى هذا الخلق الكريم فقال في الحديث المتفق عليه:{إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم} يقابل الإساءة بالإحسان، فإذا عصى الله تعالى فيك فعليك أن تطيع الله تعالى فيه.

    إنه لا يليق بالمسلم عامة ولا بالصائم خاصة أن يوزع ألفاظ السباب والشتائم على من حوله، فإن قصرت الزوجة في طهي الطعام أو كنس البيت أو كي الثياب أو العناية بالأطفال أو صناعة الشاي سبها، وسب أباها وأمها، وعيرها وهددها، وملأ البيت صراخاً وضجيجاً! إنه ليس من المروءة والكمال أن يكون الرجل في بيته امبراطوراً، إذا تكلم سكت الجميع، وإذا ظهر تجمد الكل، فلا ينطقون ولا يتكلمون، بل قد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً صبوراً رقيقاً حتى مع أهله، وربما رفعت عليه زوجه صوتها، وربما هجرته إحداهن إلى الليل.

    فليس مناسباً إن قصر زوجك أن تغلظ له في القول، أو أفسد بعض الأطفال أثاث المنزل، أو مزقوا أوراقاً، أو نثروا طعاماً فربما شتمهم، وربما شتم نفسه معهم أيضاً، وفي صحيح مسلم : {سمع النبي محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً يلعن بعيره أو ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تصحبنا ناقة ملعونة} فتركها صاحبها، فكانت تمشى بمفردها بعيداً عن الناس؛ استجابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.

    وإن أطال مراجع على هذا الموظف في النقاش، أو تحدث معه، أو ألح عليه أغلظ له في القول، وربما افتعل هذا الإنسان مشكلة مع إمام المسجد أو مع الجار أو مع صديق أو مع زميل في العمل، وعذره في كل ذلك أنه صائم، ونفسه -كما يعبرون- واصلة.

    والواقع أن الصوم يجب أن يكون جنة تمنع العبد مما يسخط الله، وحاجزاً يحول بينه وبين الغلط في القول أو في الفعل، لا،بل أقول لك: حتى أولئك الذين يبدأونك بالسب والشتم، أو يعيرونك، أو يسبونك، أو يغلظون لك في القول، أو لا يراعون شعورك، أو لا يحترمون مقامك، عليك أن تقابل ذلك كله بالإعراض، عليك أن تقابل ذلك كله بالصفح كما قال الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

    ليس القول كالعمل:

    ما أسهل هذه الكلمات! أن نقولها، وما أصعب أن تمسك نفسك عن الغيظ فلا تنفذه، وأن تحجزها عن الغضب فلا تستجيب له، وأن تردها عن الانتصار للنفس فلا تقبله، قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:34-35] والصوم من الصبر، فتعلم الحلم في الصيام، وقال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً[البقرة:83].

    وقال سبحانه:وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ[الإسراء:53].

    فإن القول البذيء السيئ الجارح من أعظم أسباب فساد القلوب، وتغير النفوس، واختلاف الصفوف، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أنس بن معاذ الجهني رضي الله عنه، أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال:{من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء}.

    قال الأحنف بن قيس : ما عاداني أحد قط إلا أخذت فيه بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان أقل مني حفظت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه. وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى الكبير الذي ذكره سيد من سادات الحلماء وهو الأحنف بن قيس فقال:

    سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الجرائم

    فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم

    فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم

    وأما الذي دوني فأحلم دائماً أصون به عرضي وإلا فلائم

    وأما الذي مثلى فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم

    تربية الصيام الإنسان على الشجاعة

    الخلق الرابع: الشجاعة.

    ولقد كان أشجع الناس هم أهل العفة؛ العفة في طعامهم وشرابهم، والعفة في نكاحهم، فإن الشهوة تضعف القلب، والمنهمكون في الدنيا من غير تمييز بين حلالها وحرامها وحقها وباطلها دائماً هم جبناء! جبناء في المعارك! وجبناء في قول كلمة الحق! وجبناء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن قلوبهم ضعيفة، ونفوسهم رديئة، والشهوات قد نبتت عليها أجسامهم، ومصالحهم أصبحت مرتبطة بهذه الدنيا الدنية؛ فهم يحامون عن مصالحهم والراكضون وراء الوظائف والمناصب من غير تقوى هم -أيضاً- من الجبناء.

    إن الصوم يكشف للإنسان عن جانب من حقيقة الحياة الدنيا، وأنها زخرف ولغو ولهو وباطل وزينة، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنه لا يركن إليها إلا المغفلون.

    إن الصوم ينتزع الإنسان من الإغراق في الملذات ليفطمه عن هذه الدنيا، ويهزه هزاً عنيفاً ليقول له: نعم هذه هي الدنيا، وأنت فيها كالحالم الذي يجب أن يصحو، نعم، هذه هي الدنيا، ولكن هناك الدار الآخرة، أنت الآن تصوم عن الدنيا لا لأنك سوف تكسب من وراء الصوم مالاً، ولا جاهاً، ولا رتبة، ولا وظيفة، ولا سلامة دنيوية، ولا صحة في بدنك، فكل ذلك قد يأتي، ولكنك لا تصوم من أجله، وإنما تصوم؛ لأنك توقن أن هناك آخرة تعمل لها، وأن ثمة موتاً وبعثاً ونشوراً وجزاءً

    إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى

    فكرت في الدنيا وعالمها فإذا جميع أمورها تفنى

    وبلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في شأنه يسعى

    أسنى منازلها وأرفعها في العز أقربها من المهوى

    ولقد مررت على القبور فما ميزت بين العبد والمولى

    أتراك تدرك! كم رأيت من الأحياء ثم رأيتهم موتى

    إن أدنى مراحل الشجاعة إذا لم تقل الحق؛ ألا تقول الباطل، وألا يتلفظ لسانك بما يسخط الله تعالى، وإذا لم تكن مع أهل الإيمان فلا أقل من ألا تكون ضدهم، وإذا لم يكن لسانك في صالحهم، فلا أقل من أن يسلموا منك، وإذا رأيت في نفسك هلعاً وجبناً ورخاوة فتأمل ما السبب؟! ربما تكون آكلاً للربا! أو الحرام فنبت جسدك على سحت! وربما تكون مرتكباً لما لا يحل لك من الفواحش والذنوب؛ فهذه عاقبتها في الدنيا!!

    ثالثاً: العمر يفوت

    نعم، وأنت تطويه كطي الثوب.

    يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا

    وهذا الشهر الكريم هو مضاعفة للعمر، ففيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما بالك بالشهر كله! إنه حري بالمسلم الصائم أن يستدرك أيام هذا العمر ولياليه فيما ينفع.

    الأمر الأول: قراءة القرآن

    أول ذلك: القرآن الكريم، وله بكل حرف عشر حسنات، لقد أنزل هذا القرآن في هذا الشهر قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185] وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان مرة، وعارضه في السنة التي توفي فيها بالقرآن مرتين إيذاناً بدنو أجله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان أصل مشروعية ختم القرآن في شهر رمضان.

    فجدير بك أيها المسلم! وبك أيتها المسلمة! أن تخصص لنفسك ورداً من القرآن الكريم طيلة العام ولو قل، ثم في هذا الشهر -خاصة- أجدر وآكد، وعليك أن تسرح طرفك في القرآن، وأن تعمل فكرك فيه، فلا يكون همك آخر السورة، أو آخر الوجه، أو آخر الجزء، أو آخر القرآن أن تختمه؛ بل أن تقرأ وتتأمل قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص:29].

    فهذا خير تؤمر به، وهذا شر تنهى عنه، وهذا خبر ماضٍ من أخبار السابقين تعتبر به، وهذا خبر مقبل تتهيأ له وتستعد قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ[يوسف:3].

    وهذا حق على الجميع، على جميع الناس، أئمة ومأمومين، فليس جديراً بالإمام أن يهذ القرآن كهذ الشِعر؛ لأنه يقول: أريد أن أختم قبل نهاية الشهر، أو أريد أن أختم، ثم اذهب إلى العمرة في آخر الشهر، بل عليه أن يترسل في قراءة القرآن، ولا بأس أن يردد بعض الآيات، ويرقق بها القلوب، ويتغنى بالقرآن.

    ففي صحيح البخاري مرفوعاً: {من لم يتغن بالقرآن فليس منا} عليه أن يحرك به القلوب، ويدمع به العيون، ويستدر به العواطف والمشاعر، ويطرق به النفوس، كما أن على القارئ مثل ذلك، وعلى المرأة مثل ذلك، بل حتى الصغار يجب أن يربوا على هذا.

    الأمر الثاني : الصلاة

    قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ[البقرة:45] وقال سبحانه:وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي[طه:14] وقال:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132] وقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ[البقرة:43].

    ففي مواضع كثيرة من كتابه الكريم أمر الله عزوجل بالصلاة فرضها ونفلها، وهي الفيصل بين المسلمين والكفار؛ ولهذا قال:وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الروم:31].

    وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة}.

    وفي الحديث الآخر: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وهذا المعنى يعرفه حتى الكفار.

    يقول أحد المؤرخين البريطانيين-وهو توماس أرنولد - في كتاب له اسمه "العقيدة الإسلامية " يقول: هذا الفرض المنظم -أي: الصلاة- من عبادة الله تعالى هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أداء الصلاة من التأثير في النفوس.

    ويقول أحد القسس النصارى -وهو الأسقف لوفرو - يقول: لا يستطيع أحد خالط المسلمين لأول مرة إلا أن يندهش، ويتأثر بمظهر المسلمين في عقيدتهم حينما يكبرون ويصلون، فإنك حيثما كنت في بلاد المسلمين، في شارع مطروق، أو في حقل، أو في محطة سكة حديد، أو في غير ذلك أكثر ما تألف عينك مشاهدةً أن ترى رجلاً ليس عليه أي مسحة من الرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يترك عمله الذي كان بيده كائناً ما كان ذلك العمل، ثم ينطلق في سكينة وتواضع لأداء الصلاة في وقتها المعين.

    نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جاماً أحمرا

    جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا

    محمود مثل إياس قام كلاهما لك في الوجود مصليا مستغفرا

    العبد والمولى على قدم التقى سجدا لوجهك خاشعين على الثرى

    يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ[النور:36-37].

    الناس والصلاة في رمضان:

    الفريضة في رمضان وفي غير رمضان يصليها المسلم، ولكن بعض المسلمين لا يعرف المساجد إلا في رمضان، أما في غيرها فإنهم يصلونها في بيوتهم، أو يؤخرونها عن وقتها؛ بل ومنهم من لا يصليها في غير رمضان، فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد بالمصلين، خاصة أول الشهر، وخاصة صلاة المغرب وصلاة الفجر.

    وبعض الناس قد يكون مصلياً في رمضان فإذا جاء الشهر نام عن صلاة الفريضة؛ لأنه مشغول بالدوام، وفي الليل يسهر، فإذا جاء من الدوام نام ربما عن صلاة العصر فلم يصلها إلا بعد غروب الشمس.

    وآخرون قد يقصرون في النوافل من القيام، والتراويح، وغير ذلك، منشغلون بالجلوس مع بعضهم في أحاديث لا تنفع ولا تضر، بل ربما كانت ضارة، أو في مشاهدة التلفاز -مثلاً- أو في لعب الكرة، أو في التسوق والانتقال من محل إلى محل، ومن معرض إلى معرض، ويذرعون الشوارع جيئة وذهاباً. أين المصلون؟ أين الذين كانت الصلاة قرة أعينهم، وسرور قلوبهم، ونداوة أرواحهم، وبهجة نفوسهم؟!!





    الأمر الثالث : الإحسان

    ينبغي الإحسان إلى الفقير والمسكين وابن السبيل، فإن هذا شهر المواساة، {ومن فطر صائماً فله مثل أجره} كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقرة:195].

    الأمر الرابع : العمرة

    العمرة في رمضان كما قال محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري {تعدل حجة معي} ولا يلزم من العمرة طول البقاء، فإن من ذهب إلى البيت العتيق، وأحرم بالعمرة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة ، ثم حلق أو قصر فقد أدى عمرة، وهي بالنية الصالحة في رمضان تعدل حجة مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأنما وقفت معه بعرفة ، وبت معه بمزدلفة ، ورميت معه الجمار، وطفت معه بالبيت، وسعيت معه بين الصفا والمروة ، وبت معه بمنى ، ووادعت معه عليه الصلاة والسلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم ، ولو لم تستغرق منك هذه العمرة إلا بضع ساعات.

    إن البعض ممن يطيلون البقاء في رمضان في مكة المكرمة ، وربما قضوا الشهر كله هناك، يحصلون أيضاً على خير كثير، فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهي في مسجده عليه السلام بألف صلاة، وهي في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة؛ المهم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، وأجر كبير من الله عز وجل ولكن أيضاً ينبغي للإنسان ألا يهمل أهله، فلا ينبغي أن يذهب إلى هناك ويترك أهله لا يجدون من يطعمهم، أو يتفقد شئونهم، أو يقضي حاجاتهم، أو يراقبهم، بل أن يذهب بهم إلى هناك ويدعهم، وربما جلس في المسجد يصلي، ويجلس حتى تطلع الشمس، وينام في المسجد ولا يخرج للبيت إلا للوضوء أو لقضاء بعض حوائجه، أما أهله أين هم؟ أين يذهبون؟ ماذا يصنعون؟ ماذا يفعل أولاده؟ ماذا تفعل بناته؟ فإن ذلك كله ليس منه في قبيل ولا دبير.

    بل من الناس من يذهب بأطفاله، ويذهب معه بخادمه، وتكون أحياناً كافرة، وقد كتب إلي بعض الإخوة أن أسرة من هذه المنطقة -بالذات- ذهبت معها بخادمه كافرة، فلما أقيمت الصلاة؛ قالت المرأة العجوز للخادمة: اخرجي، اخرجي؛ فقامت الخادمة سريعاً وخرجت من الحرم، فقال ناسٌ لهذه المرأة العجوز: لماذا أمرت الخادمة بالخروج؟ فقالت: لأنها نصرانية ، ولا أريد أن تجلس في المسجد وقت الصلاة! سبحان الله إلى هذا الحد! الله تعالى يقول:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[التوبة:28] والمرأة هذه لم يجعلوا الأمر بالنسبة لها قرباناً للمسجد فقط، بل دخلت إلى المسجد بذاته، ومتى؟ في الشهر المبارك ثم تخرج وقت الصلاة، لم تعلم الدين ولا الإسلام، ولا ربيت على العقيدة، ولا دعيت إلى دين الله عز وجل وهذه من المصائب الكبار.

    رابعاً: الصائمون عن الحرام


    نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام.



    أولاً: الربا

    نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام.

    حري بك أن تصوم عن الربا، وذلك الرصيد الضخم الذي نعرفه لك في البنوك الربوية التي قامت على محاربة الله تعالى ورسوله، وأعلنت ذلك، واحتلت أفضل المواقع وأرفعها وأعظمها، فهي قلاع حصينة، وكأنها معدة لمحاربة الله تعالى ورسوله، رصيدك في تلك البنوك لابد أن نأخذ منك وعداً قاطعاً بأن تخرجه، ولا تسمح لهؤلاء المرابين أن يستفيدوا من مالك، ويستعينوا به على معصية الله، والله تعالى يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة:2].

    ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ[البقرة:279].

    ويقول تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ[البقرة:275-276].

    فتعاملك بالربا، أخذك الفوائد البنكية التي يسمونها فوائد وهي في الواقع لون من الربا المحرم، وتعاملك بالمعاملات المحرمة.

    ومضاعفتك للدين وقلبك للدين على المدين، واستخدامك لمسألة العينة، وغيرها من المسائل التي جاء الأمر أو النص بتحريمها، أو نطق العلماء بذلك؛ ماذا يعني؟ لماذا تصوم عما أحل الله لك من الطعام والشراب، ولا تصوم عما حرم الله عليك من المال الحرام؟



    ثانياً: الغيبة والنميمة

    إن اللسان نعمة من نعم الله تعالى، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ[البلد:9].

    وكان الجدير بالإنسان أن يستخدم لسانه في ذكر الله، أو دعائه، أو استغفاره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلام الطيب، والنصيحة، وما أشبه ذلك، ولا حرج عليك أن تتكلم في المباح، فإن هذا من شأن الإنسان وطبيعته، فعلت وأكلت وشربت وذهبت وأتيت، وما أشبه ذلك من ألوان المباحات.

    لكن أن يتحول الأمر إلى أن تستخدم نعمة الله تعالى في معصيته، في الغيبة، والوقوع في أعراض الناس، والتدخل في شئونهم، فلان فيه! وفلانة قالت! وفلانة فعلت! وما أشبه ذلك! وقول الزور، ونقل الكلام، والنميمة، والتحدث بين الناس ونقله على جهة الإفساد، وإشاعة الباطل والإثم والزور، وما أشبه ذلك.

    فإن هذا من أعظم الذنوب والمعاصي خاصة وأنت صائم، فعليك أن تمسك عن ذلك كله.

    وفي الحديث الصحيح أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال عن الغيبة:{ذكرك أخاك بما يكره قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته}.

    وقد قال الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً[الحجرات:12] وقال: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ[القلم:10-13]

    وقال الشاعر:

    فاحفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

    كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان

    وقد ورد في هذا الباب حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم { جيء بامرأتين غلبهما الصيام إليه، فقال لهما: قيئا، فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم : إن هاتين المرأتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله} أي: الغيبة والنميمة، وهذا الحديث رواه أحمد والطيالسي وغيرهما، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وإن احتج به الإمام أبو محمد بن حزم وغيره رحمه الله تعالى.

    ثالثاً: النظر الحرام

    ومن الأشياء التي يجب على العبد أيضاً أن يصوم عنها من الحرام: الصوم عن النظر إلى الحرام، سواءً أكان هذا النظر إلى امرأة، أم إلى التلفاز، أم إلى تمثيليات، أم أفلام محرمة، أم ما أشبه ذلك، مما يعلم هو في قلبه أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضاه.

    فإن هذا كله من مقدمات الزنا، وأسباب الفاحشة التي تفضي بالعبد إلى ما حرم الله عز وجل، وقد قال الله تعالى:وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً[الإسراء:32] وهذه الآية هي نهي عن الزنا، ولكنها أيضاً نهي عن النظر الحرام، ونهي عن القول الفاحش، ونهي عن الخلوة بالأجنبية، ونهي عن كل قول أو فعل يكون سبباً في القرب والدنو من الزنا، ولهذا قال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا).

    خامساً: المرأة الصائمة

    أولاًً: المرأة شقيقة الرجل

    المرأة جزء من المجتمع، وهي شقيقة الرجل كما قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم :{إنما النساء شقائق الرجال} والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ [الحجرات:13] ويقول سبحانه:أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى[آل عمران:195] فالمرأة شقيقة الرجل، وهي مثله بأصل التكليف، ونظيرته في أصل الخلقة، وهي تنعم إن أطاعت، وتعذب إن عصت، ولذلك ينبغي أن يدرك المسلم أن من واجبه أن يحترم المرأة، سواءً كانت أماً له، أم أختاً، أم بنتاً، أم زوجةً، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم}.

    وكثيراً ما يتكلم الناس والرجال خاصة عن النيل من النساء والوقيعة فيهن، وكأنهم يبرئون أنفسهم ويتهمون المرأة، حتى إن بعض الشعراء يقول:

    إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين

    وهذا خطأ عظيم فإن في النساء مريم التي اصطفاها الله تعالى، وفي النساء عائشة ، وفي النساء خديجة ، وفي النساء آسيا امرأة فرعون التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وفي النساء أمهات المؤمنين، وفي النساء الصحابيات الجليلات، وفي النساء من المؤمنات الفاضلات التقيات من هي أهل للخير، ولا يجوز لمؤمن أبداً أن يطلق مثل هذه الألفاظ.

    وآخر سمعته يقول:

    إذا رأيت أموراً منها الفؤاد تفتت

    فتش عليها تجدها من النساء تأتت

    وهذا أيضاً غلط، فإن الشر ليس من النساء فقط، بل الشياطين مسلطون على بني آدم ذكورهم وإناثهم، والرجال أيضاً لهم في ذلك نصيب، نعم قد يكون الخطأ في النساء أكثر، وهو عليهن أغلب، ولهذا في الحديث الصحيح أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال للنساء: {تصدقن يا معشر النساء، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة وقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير}.





    أمور مهمة للمرأة الصائمة


    المرأة المسلمة الصائمة عليها أمور:

    أولها: حفظ وقتها؛ فيجب عليها أن تشغل وقتها بما ينفعها من قراءة القرآن، وذكر الله، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وغير ذلك من الصالحات.

    ثم عليها -أيضاً- أن تشغل وقتها بالأعمال النافعة التي تحتاجها في شئونها الدنيوية، وفي منزلها، وفي أولادها، وفي شأن نفسها، أو ما أشبه ذلك.

    ثم عليها أن تحفظ وقتها من الغيبة، والنميمة، والقيل والقال، سواءً أكان ذلك من خلال المجالس مع الأخريات، أم من خلال المجالس التي تكون في مدارس البنات، أم من خلال الهاتف، أم ما أشبه هذا!!

    كذلك عليها أن تحفظ وقتها عن مشاهدة التلفاز والأفلام المحرمة، والتمثيليات الهابطة، فإن هذه تدمر الأخلاق، وتقضي على الحياء، وتربى الإنسان على قيم ومبادئ مخالفة لما جاء به المرسلون عليهم الصلاة والسلام، ومخالفة لما توارثه المسلمون في مجتمعاتهم وبيئاتهم المتدينة.

    ثم عليها أن تحفظ نفسها عن الخروج لغير الحاجة، وعن التبرج، وعن التطيب وإظهار الزينة، وعن الانسياق وراء المغريات التي قد تعرض لها في حياتها، وأن تحفظ زوجها في نفسها، وأن تطيع الله تعالى فيما ائتمنها عليه من أمر نفسها.

    ثم عليها أن تحفظ مالها عن الإسراف؛ فإن كثيراً من الأخوات تملك مالاً كثيراً وقد تكون معلمة، تأخذ راتباً يقدر بعشرة آلاف ريال أو أكثر من ذلك، ثم هي ترى أن هذا الراتب لا قيمة له إلا أن تجدد الأثاث في كل عام، وتشتري ألوان الملابس والأحذية، وغير ذلك لها ولأولادها، وتقول: الأمر هين؛ لأن هذا مال لها ليس لها فيه حاجة. والواقع أن هذا من الإسراف الذي لا يحبه الله والله تعالى يقول: وَلا تُسْرِفُوا[الأنعام:141] ويقول: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ[الإسراء:26-27] عليها أن تحفظ هذا المال ولا تنفقه إلا في حق مما تحتاجه في أمر دنياها من الملابس التي تحتاجها وتريدها هي، فضلاً عما يشتري لها زوجها، وإلا زوجها مطالب بالإنفاق عليها حتى لو كانت غنية أو ما أشبه ذلك.

    ثم عليها أن تحفظ بقية المال، وإن استطاعت أن تنمي هذا المال فهو حسن، وإن استطاعت أن تصرفه حاضراً أو مستقبلاً في أعمال الخير والبر والإنفاق فهذا أعظم ما يدخر له المال، فإنما يفرح بالمال-والله العظيم- لينفق في وجوه الخير وفيما يرضي الله تعالى.

    وعليها كذلك أن تحفظ زوجها بالإحسان إليه، والصبر عليه، وتحمل الأذى منه، وحسن القول له، وحسن التبعل له، وأن تتزين له ما استطاعت، وتحرص على أن تكون سبباً في إعفافه، إعفاف فرجه، وغض بصره عن الحرام، وتستعد له في نفسها ولباسها وتزينها ومنزلها وأطفالها؛ حتى لا تقع عينه منها على قبيح، ولا يشم منها إلا أطيب ريح.

    وعليها أيضاً أن تحفظ أطفالها، تحفظهم عن الشارع فلا يخرجوا إلى قرناء السوء، أو يقعوا ضحية المخدرات، أو يتعلموا التدخين، أو يقعوا أيضاً ضحية حوادث السيارات أو الدراجات، أو ما أشبه ذلك مما يقع كثيراً.

    وعليها ألا تخرج وتدعهم في البيت إذا خافت عليهم، فقد يقعون في حريق أو في مصاب، أو يقع على أحدهم شيء وهي بعيدة عنهم وقلبها معهم؛ بل إذا كان الأمر كذلك فعليها أن تصلي في بيتها، وقد قال الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين : {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} وقال صلى الله عليه وسلم: {وبيوتهن خير لهن} فالرجل لا يجوز له أن يمنع زوجه عن المسجد؛ إذا كان ذلك لا يضر بها ولا يضر بأولادها.

    ولكن المرأة أيضاً عليها أن تعلم أن صلاتها في البيت ما قدر لها مفردةً أو مع أحد إن كان في البيت أحد أنه خير لها من أن تخرج، وخاصةً إذا كان يترتب على خروجها إهمال لزوجها أو بيتها أو أطفالها، أو تبرج بالزينة، أو ما أشبه ذلك.

    سادساً : نصائح متفرقة

    نصيحة حول الإعلام

    التلفاز الذي يحفر في العقول، يغرس المعاني الذميمة في النفوس، ويهدم كثيراً من مكارم الأخلاق من خلال ما يعرض وما يقدم، ومن خلال السياسة العملية التي يتبعها.

    أيها الأحبة.. إن آخر ما واجهنا به التلفاز أنه أصبح يقدم لنا الفتاة السعودية في التمثيليات، فيشترط إعلامياً لأي تمثيلية عربية حتى نقوم نحن هنا بشرائها أن يشارك فيها ممثل سعودي، وهذا أسلوب لإجبار الممثلين السعوديين على المشاركة في الأعمال الأخرى، ولإجبار العاملين في مواقع أخرى أن يشاركوا ببعض الممثلين السعوديين، حتى ولو كانوا عن غير معرفة ولا جدارة، المهم حتى يحوز هذا العمل على موافقة وزارة الإعلام.

    ثم بدءوا يظهرون فتيات سعوديات من الحجاز ، ومن الشرقية ، ومن نجد يظهروهن في تمثيليات سعودية، وتكون الفتاة متزينة، متجملة، متبرجة، بل تخرج بالبنطلون الضيق الذي يصف جسدها وهي مع رجل، وقد يكون هذا الرجل يظهر في المسرحية أو التمثيلية كما لو كان زوجاً لها، فهو يحدثها حديثاً هامساً، حديث الزوج إلى زوجته، ويتحدث معها، ولك أن تتصور أولاً نفسية وعقلية تلك الفتاة وهي تقوم بهذا المشهد وهذا الدور.

    ثم لك أن تتصور - وهذا هو الأخطر؛ لأنه لا يهمنا الجانب الفردي بقدر ما يهمنا الجانب الاجتماعي- لك أن تتصور كم ستؤثر مثل هذه المشاهد في عقول بناتنا، وأخواتنا، ونسائنا وهن يدرسن دائماً وأبداً أن المرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة؛ ثم ترى هذه المرأة التي تدرس أنها عورة، وهي تظهر على التلفاز بأبهي زينة. وتقرأ في القرآن الكريم: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ[النور:31] فتشاهد هذه الفتاة التي تحملق في زميلها في التمثيلية بكل عيونها. وتقرأ قول الله تعالى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ[الأحزاب:33] ثم تشاهد تلك الفتاة وقد تبرجت ليس أمام عشرة رجال ولا مائة ولا ألف، بل أمام ملايين المشاهدين، لا أقول في داخل المملكة ، بل في داخل المملكة وخارجها.

    فواجب علينا جميعاً أن ننكر هذا المنكر ونحاربه، ونعترض عليه، ونتصل بقدر ما نستطيع بوزارة الإعلام وبغيرها، وبالعلماء، سواءً عن طريق الهاتف، أم بالمراسلة، أم بالاتصال، أم بالزيارة.

    وعلينا أيضاً أن نكون دائماً وأبداً حرباً على كل المنكرات التي تغزونا في بيوتنا، وتهددنا في أخلاقنا، وقيمنا، وعقائدنا.

    وعلينا أن نحارب هذا التلفاز، ذلك الجهاز الذي لا يربي في الناس -غالباً- إلا مثل هذه المعاني.

    الخطر الثاني: الدشوش:

    وهي خطر كبير، وقد قرأت في جريدة الحياة أن عدد الدشوش سيصل في منطقة الخليج العربي خلال العام القادم إلى ما يزيد على ثلاثمائة ألف دش، بعضها يستقبل أكثر من مائة قناة، قنوات إيطالية، وقنوات من جنوب شرق آسيا ، وقنوات من فرنسا ، وقنوات من إسرائيل، وبعضها مخصص للدعارة، وبعضها مخصص للتنصير، نعم، لا أنكر أن ثمة قنوات علمية، وقنوات تعليمية، وقنوات اقتصادية، إلى غير ذلك، لكن أي مستوى من الوعي والمتابعة يوجد في المجتمع حتى لا يكون الانهماك في متابعة الدشوش إلى هذا الحد؟

    إن الكثيرين لا يعتنون أصلاً بمتابعة هذه الأشياء -أعني الأخبار- ولا بتتبعها، ولا بمعرفتها، وإنما ذلك لأغراض أخرى في غالب الأحيان، فعلينا أن نكون حرباً على ذلك.

    وأعلم أن في هذا المجتمع بالذات في منطقة القصيم العدد يتزايد، وعندي أسماء ومواقع من يمتلكون هذه الدشوش، وواجب علينا جميعاً أن نناصحهم، جيراناً كانوا لنا أو أقارباً أو معارف، أو حتى لو لم يكن يربطنا بهم إلا رابطة الإسلام، فواجب علينا أن ننصحهم، ونكثر عليهم، ونظل ندندن حول هذا الموضوع حتى يمتثلوا.

    الخطر الثالث الإعلامي: الصحافة:

    والصحافة ذات تأثير بليغ، وهي في كل بيت، وفي كل بقالة، وفي كل مدرسة، وفي كل مؤسسة حكومية.

    وأقول علينا أن نكون واعين في تناولنا للصحافة، فلا نقبل كل ما ينشر فيها، بل أن نميز الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، وأن نكون على حذر مما ينشر فيها، وأن نحرص على حماية عقولنا وأولادنا ونسائنا من آثار تلك الصحف والمجلات، وأن نحرص على مقاطعة أكثرها شراً وإثماً وسوءاً.

    ولقد صحت وناديت مرات ومرات ومرات بمقاطعة خضراء الدمن "الشرق الأوسط "، وأفيدكم أنه وصلت إلي معلومات موثقة تدل على أن هذه الجريدة قد أصابها من جراء المقاطعة ضرر، ولذلك زادت في حجم صفحاتها، وبذلت جهداً لذلك، ومع مازالت الجريدة مصرة على سياستها، فأنا أناديكم وأطالبكم سواءً كنتم مسئولين في دوائر حكومية، أو في فنادق، أو في مؤسسات، أو في مدارس، أو أفراداً، أو غير ذلك أن تبذلوا قصارى جهدكم في مزيد من الضغط على هذه الجريدة.

    وقد يقول بعضهم: لماذا هذه الجريدة بالذات؟ ولماذا لا نقاطع غيرها؟ نعم، وغيرها أيضاً مما نعلم أنه ينشر الشر والفساد، ولكنني أعتقد أن التركيز على هذه الجريدة المتميزة بهذا الجانب أنه سيكون سبباً في نجاح الحملة عليها أولاً، وبالتالي سيكون سبباً في أن يقلع غيرهم، ويدرك أن جمهور الناس متدينون ولله الحمد، وحريصون على الخير، وغيورون على الدين، وأنهم لو قاطعوا مطبوعاته لكسدت ولم تجد من يشتريها.

    النصيحة الثانية: نصيحة للمتهاجرين والمتقاطعين

    فإن كثيراً من الناس يوجد بينهم خصومات في أموال أو مواريث، أو بسبب الأطفال، أو بسبب مشاكل، أو أعمال، أو غير ذلك قد تؤدي إلى القطيعة بينهم، ومع الأسف الشديد أن القطيعة أكثر ما تكون بين الأقارب، وربما وجدت أباً لا يكلم ولده منذ ثلاث سنوات، أو ولداً لا يكلم والده -والعياذ بالله من مثل ذلك-، أو أخاً لا يكلم أخاه، أو يمنع أولاده من تكليم جدهم أو قريبهم أو خالهم أو عمهم أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من الباطل وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم :{لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث} وهجر المسلم سنة هو كسفك دمه، فكيف إذا كان هذا المسلم قريباً أو ذا حق عليه كأب أو عم أو جد أو ما أشبه ذلك.

    إن رمضان فرصة لأن يعود المتهاجرون حتى يحظوا بمغفرة الله تعالى، فإن الأعمال تعرض على الله تعالى في كل اثنين وخميس، فيغفر لكل موحد لا يشرك بالله شيئاً إلا المتهاجرين يقول:{ انظرا هذين المتهاجرين حتى يصطلحا}.

    ثالثاً : البرنامج اليومي للأسرة.

    البرنامج للأسرة يقوم أولاً: على رب الأسرة، على الأب، فإن الأب هو بيت القصيد فيها.

    رأيت صلاح المرء يصلح أهله ويعديهم داء الفساد إذا فسد

    يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد

    فعلى الإنسان أن يكون قدوة صالحة لأهل بيته في خلقه، وفي محافظته على الصلوات، وطيب كلامه، وبعده عن الحرام، ثم عليه في رمضان -خاصة- أن يتجنب السهر الطويل، وأكثر الناس يغيرون برنامجهم، فيسهرون إلى الفجر، ثم ينامون بعد ذلك، ويترتب على ذلك تضييع العمل المنوط بهم دراسة أم عملاً أم وظيفةًً، ويترتب على ذلك ترك الصلاة -أحياناً- ويترتب على ذلك الإغراق في النوم.

    وإذا كانوا يسهرون الليل في أمور أحسن الأحوال أنها مباحة، فإنه يترتب على ذلك أن يضيع عليهم أكثر الشهر الكريم في أمور لا تحمد ولا تمدح.

    ثم إن كثيراً من الناس يشتغلون في رمضان بلعب الكرة، ويجلسون في ذلك خارج البلد، أو داخله إلى الفجر؛ بل بعضهم حتى بعد صلاة الفجر يتجمعون لما يسمى بالتفحيط أو التطعيس أو ما أشبه ذلك، وهذه أشياء نأنف بشبابنا أن يشغلوا أوقاتهم في الأيام العادية فيها فضلاً عن هذا الشهر الكريم.

    وواجب علينا -خاصة معشر الدعاة، والمهتدين، وأهل الخير، وطلبة العلم- أن نتجه إلى هؤلاء، ونجالسهم، ونحادثهم، ونتآلف قلوبهم على الهداية، وننشر بينهم الكتاب المفيد، والشريط المفيد، ونلقي كلمة قد لا تستغرق خمس دقائق، ربما ينفع الله تعالى بها ولو واحداً منهم، {ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.

    بل إنه جدير بنا أن نحول تلك التجمعات إلى ظاهرة إيجابية، فبدلاً من أن يجتمعوا على محرم -على طبل مثلاً أو على غناء، أو موسيقى، أو يجتمعوا على أمور مباحة- بدلاً من ذلك نجمعهم على ذكر الله، وعلى المناقشة في الأمور المفيدة، ونربطهم بقضايا الإسلام، وقضايا الدعوة، وقضايا العقيدة.

    كما أن من الأمور التي يجب التفطن لها في موضوع البرنامج: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكثر من الاشتغال والانشغال بالأمور المفضولة، ويترك الأمور الفاضلة فضلاً عن أن يشتغل بالأمور المحرمة -كما أسلفت-.

    إن بعض الناس قد يجد تجارته فيما حرم الله عز وجل عليه في هذا الشهر الكريم، فمن يبيعون الدخان -مثلاً- أو ما فوقه، ومن يبيعون الأغاني والأشرطة، ومن يبيعون أشرطة الفيديو، ومن يبيعون الأجهزة المحرمة عليهم أن يتقوا الله تعالى ويتوبوا من ذلك كله.





  • #2
    رد: صائمون ولكن

    كيفية وصفة وضوء وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم
    صفة الوضوء والغسل
    فرائض الوضوء :
    1ـ النية : وهي عزم القلب على فعل الوضوء امتثالاً لأمر الله تعالى وطلباً لمرضاته .
    2ـ غسل الوجه مرة واحدة .
    3ـ غسل اليدين إلى المرفقين .
    4ـ مسح الرأس .
    5ـ غسل الرجلين إلى الكعبين .
    6ـ الترتيب بين الأعضاء المغسولة .
    7ـ الموالاة وهو عمل الوضوء في وقت و احد بلا فاصل زمني لأن قطع العبادة بعد الشروع فيها منهي عنه .
    سنن الوضوء :
    1ـ بأن يقول عند الشروع: بسم الله .
    2ـ السواك .
    3ـ غسل الكفين ثلاثاً في أول الوضوء .
    4ـ تخليل اللحية .
    5ـ تخليل الأصابع في اليدين والرجلين .
    6ـ الغسل ثلاثاً ثلاثاً .
    7ـ التيمن وهو البداية باليمين .
    8ـ أن يقول بعد الوضوء : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين .
    كيفية الوضوء :
    يسمي الله تعالى فيغسل يديه ثلاثاً بنية الوضوء ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً ثم يغسل وجهه من منبت شعر رأسه إلى منتهى لحيته طولاً ثم يغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ثم اليسرى ثم يمسح رأسه واحدة ثم يمسح أذنيه ظاهراً وباطناً ثم يغسل رجله اليمنى إلى الكعب ثلاثاً ثم اليسرى ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين .
    نواقض الوضوء :
    1ـ الخارج من السبيلين (القبل والدبر) .
    2ـ النوم الثقيل المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك .
    3ـ مس الذكر بباطن الكف والأصابع .
    4ـ زوال العقل واستتاره وفقد الشعور سواء كان بالجنون أو الإغماء أو السكر أو الدواء.
    5ـ مس المرأة بشهوة .
    6ـ الردة عن الإسلام .
    7ـ أكل لحم الإبل .
    ما يجب له الوضوء:
    يجب الوضوء لأمور ثلاثة :
    1ـ الصلاة فرضاً أو نفلاً .
    2ـ الطواف بالبيت .
    3ـ مس المصحف .
    الغسل :
    موجبات الغسل :
    1ـ الجنابة : وتشمل الإنزال وهو خروج المني بشهوة في النوم أو اليقظة من ذكر أو أنثى وتشمل أيضاً الجماع وهو التقاء الختانين ولو بدون إنزال .
    2ـ انقطاع دم الحيض والنفاس .
    3ـ الموت .
    4ـ إسلام الكافر .
    فروض الغسل :
    1ـ النية .
    2ـ تعميم سائر الجسد بالماء .
    3ـ تخليل الشعر .

    سنن الغسل :
    1ـ التسمية .
    2ـ غسل الكفين ابتداء ثلاث مرات .
    3ـ البدء بغسل الفرج وإزالة الأذى .
    4ـ الوضوء قبل الغسل .
    كيفية الغسل :
    أن يقول بسم الله ناوياً رفع الحدث ثم يغسل كفيه ثلاثاً ثم يستنجي فيغسل ما بفرجه من أذى ثم يتوضأ وضوءاً كاملاً ثم يغسل رأسه مع أذنيه ثلاثاً ثم يفيض الماء على شقه الأيمن ثم الأيسر .
    ما يحرم على الجنب:
    1ـ الصلاة مطلقاً فرضاً أو نفلاً .
    2ـ مس المصحف .
    3ـ الطواف بالكعبة .
    4ـ قراءة القرآن .

    صفة الصلاة([1])
    كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم :
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه، أما بعد:
    فهذه كلمات موجزة في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أردت تقديمها إلى كل مسلم ومسلمة؛ ليجتهد كل من يطلع عليها في التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "صلوا كما رأيتموني أُصلي" [رواه البخاري] . وإلى القارئ بيان ذلك :
    1ـ يسبغ الوضوء، وهو أن يتوضأ كما أمره الله، عملاً بقوله سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة:6] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تُقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" [رواه مسلم في صحيحه] . وقوله صلى الله عليه وسلم للذي أساء صلاته : "إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء" .
    2ـ يتوجه المصلي إلى القبلة ـ وهي الكعبة ـ أينما كان بجميع بدنه، قاصداً بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة، ولا ينطق بلسانه بالنية؛ لأن النطق باللسان غير مشروع، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية ولا أصحابه صلى الله عليه وسلم .
    ويسن أن يجعل له سترة يصلي إليها إن كان إماماً أو منفرداً؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

    واستقبال القبلة شرط في الصلاة إلا في مسائل مستثناة معلومة موضحة في كتب أهل العلم .
    3ـ يكبر تكبيرة الإحرام فيقول : (الله أكبر) ناظراً ببصره إلى محل سجوده.
    4ـ يرفع يديه عند التكبير إلى حذو منكبيه، أو إلى حيال أُذنيه.
    5ـ يضع يديه على صدره، اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد؛ لثبوت ذلك من حديث وائل بن حجر و قبيصة بن هلب الطائي عن أبيه رضي الله عنهما .
    6ـ يسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح وهو : "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيض من الدنس. اللهم اغسِلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَدَ" متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    ـ وإن شاء قال بدلاً من ذلك: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدُّكَ، ولا إله غيرك" لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن أتى بغيرهما من الاستفتاحات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا بأس ، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة؛ لأن ذلك أكمل في الاتباع.
    ثم يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم" . ويقرأ سورة الفاتحة، لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" .
    ويقول بعدها : "آمين" جهراً في الصلاة الجهرية وسراً في الصلاة السرية، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن، والأفضل أن تكون القراءة في الظهر والعصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي الفجر من طواله، وفي المغرب من قصاره، وفي بعض الأحيان من طواله أو أوساطه ـ أعني في المغرب ـ كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويشرع أن تكون العصر أخف من الظهر .
    7ـ يركع مكبراً رافعاً يديه إلى حذو منكبيه أو أُذنيه، جاعلاً رأسه حيال ظهره،، واضعاً يديه على ركبتيه، مفرقاً أصابعه، ويطمئن في ركوعه ويقول : "سبحان ربي العظيم" . والأفضل أن يكررها ثلاثاً أو أكثر، ويستحب أن يقول مع ذلك : "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي".
    8ـ يرفع رأسه من الركوع ، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه أو أُذنيه قائلاً: "سمع الله لمن حمده" . إن كان إماماً أو منفرداً، ويقول حال قيامه : "ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد" .
    وإن زاد بعد ذلك : "أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذ الجد منك الجد" . فهو حسن؛ لأن ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الصحيحة .
    أما إن كان مأموماً فإنه يقول عند الرفع : "ربنا ولك الحمد" إلى آخر ما تقدم. ويستحب أن يضع كل منهم يديه على صدره، كما فعل في قيامه قبل الركوع؛ لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر، وسهل بن سعد رضي الله عنهما.
    9ـ يسجد مُكبِّراً واضعاً ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك، فإن شقَّ عليه قدَّم يديه قبل ركبتيه، مستقبلاً بأصابع رجليه ويديه القبلة، ضاماً أصابع يديه. ويكون على أعضائه السبعة، الجبهة مع الأنف، واليدين والركبتين، وبطون أصابع الرجلين، ويقول : "سبحان ربي الأعلى" ويكرر ذلك ثلاثاً أو أكثر .
    ويستحب أن يقول مع ذلك : "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك.. اللهم اغفر لي" . ويكثر من الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "فأما الركوع فعظِّموا فيه الرّبّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم" .
    وقوله صلى الله عليه وسلم : "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء" . [رواهما مسلم في صحيحه] . ويسأل ربه له ولغيره من المسلمين من خيري الدنيا والآخرة، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً، ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب" [متفق عليه] .
    10ـ يرفع رأسه مكبراً، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى، ويضع يديه على فخذيه وركبتيه، ويقول : "رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي، اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، وعافني، واجبرني" . ويطمئن في هذا الجلوس حتى يرجع كل فقار إلى مكانه كاعتداله بعد الركوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل اعتداله بعد الركوع وبين السجدتين.
    11ـ يسجد السجدة الثانية مكبراً، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى .
    12ـ يرفع رأسه مكبراً، ويجلس جلسة خفيفة مثل جلوسه بين السجدتين، وتسمى جلسة الاستراحة، وهي مستحبة في أصح قولي العلماء، وإن تركها فلا حرج، وليس فيها ذكر ولا دعاء، ثم ينهض قائماً إلى الركعة الثانية معتمداً على ركبتيه إن تيسر ذلك، وإن شقَّ عليه اعتمد على الأرض بيديه، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر له من القرآن بعد الفاتحة. كما سبق في الركعة الأولى .
    ولا يجوز للمأموم مسابقة إمامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر أمته من ذلك، وتكره موافقته للإمام، والسنة له أن تكون أفعاله بعد إمامه من دون تراخٍ، وبعد انقطاع صوته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا" الحديث متفق عليه .
    13ـ إذا كانت الصلاة ثنائية ـ أي ركعتين ـ كصلاة الفجر والجمعة والعيد، جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصباً رجله اليمنى، مفترشاً رجله اليسرى، واضعاً يده اليمنى على فخذه اليمنى، قابضاً أصابعه كلّها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد عند ذكر الله سبحانه وعند الدعاء، وإن قبض الخنصر والبنصر من يده، وحلق إبهامها مع الوسطى، وأشار بالسبابة فحسن؛ لثبوت الصفتين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والأفضل أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وركبته، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس وهو : "ألتحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده رسوله" ثم يقول : "اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد" .
    ويستعيذ بالله من أربع فيقول : "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" .
    ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة لعموم قول النبي r في حديث ابن مسعود لما علَّمه التشهد : "ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه فيدعو" وفي لفظ آخر : "ثم ليتخيَّر من المسألة ما شاء"، وهذا يعمُّ جميع ما ينفع العبد في الدنيا والآخرة، ثم يسلم على يمينه وشماله قائلاً : "السلام عليكم ورحمة الله... السلام عليكم ورحمة الله".
    14ـ إن كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب ، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء، فإنه يقرأ التشهد المذكور آنفاً، مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينهض قائماً معتمداً على ركبتيه، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه، قائلاً : "الله أكبر" ويضعهما ـ أي يديه ـ على صدره كما تقدم، ويقرأ الفاتحة فقط.
    وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة على الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس؛ لثبوت ما يدلّ على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وإن ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأول فلا بأس؛ لأنه مستحب وليس بواجب في التشهد الأول، ثم يتشهد بعد الثالثة من المغرب، وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال . ويكثر من الدعاء، ومن الدعاء المشروع في هذا الموضع وغيره: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" لما ثبت عن أنس رضي الله عنه قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" كما تقدم ذلك في الصلاة الثنائية .
    لكن يكون في هذا الجلوس متوركاً واضعاً رجله اليسرى تحت رجله اليمنى، ومقعدته على الأرض، ناصباً رجله اليمنى، لحديث أبي حميد في ذلك. ثم يسلم عن يمينه وشماله، قائلاً : "السلام عليكم ورحمة الله ... السلام عليكم ورحمة الله" .
    ويستغفر الله ثلاثاً ويقول : "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إيّاه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" .
    ويسبح الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" . ويقرأ آية الكرسي، و"قل هو الله أحد"، و"قل أعوذ برب الفلق"، و"قل أعوذ برب الناس" ، بعد كل صلاة. ويستحب تكرار هذه السور الثلاث ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب؛ لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قول : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويميت وهو على كل شيء قدير" عشر مرات؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
    وإن كان إماماً انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفاره ثلاثاً وبعد قوله: "اللهم أنت السلام ومنك السلام،تبارك يا ذا الجلال والإكرام" . ثم يأتي بالأذكار المذكورة، كما دلّت على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ،منها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم. وكل هذه الأذكار سنة وليست بفريضة .
    ويستحب لكل مسلم ومسلمة أن يصلي قبل صلاة الظهر أربع ركعات، وبعدها ركعتين، وبعد صلاة المغرب ركعتين، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وقبل صلاة الفجر ركعتين، الجميع اثنتا عشرة ركعة، وهذه الركعات تسمى الرواتب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها في الحضر .
    أما في السفر فكان يتركها إلا سنة الفجر والوتر، فإنه كان عليه الصلاة والسلام يحافظ عليهما حضراً وسفراً، ولنا فيه أُسْوةٌ حسنَةٌ، لقول الله سبحانه : {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب، 21] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي"
    رواه البخاري .
    والأفضل : أن تُصلى هذه الرواتب والوتر في البيت، فإن صلاها في المسجد فلا بأس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة" متفق على صحته.
    والمحافظة على هذه الركعات من أسباب دخول الجنة؛ لما ثبت في صحيح مسلم، عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من عبدٍ مسلمٍ يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنّة" ، وقد فسّرها الإمام الترمذي في روايته لهذا الحديث بما ذكرنا .
    وإن صلى أربع ركعات قبل صلاة العصر، واثنتين قبل صلاة المغرب،واثنتين قبل صلاة العشاء فحسن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن خزيمه وصححه، وإسناده صحيح، ولقوله عليه الصلاة والسلام : "بين كل آذنين صلاة بين كل آذانين صلاة" ثم قال في الثالثة : "لمن شاء"
    رواه البخاري .
    وإن صلى أربعاً بعد الظهر وأربعاً قبلها فحسن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله تعالى على النار" رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، عن أُمّ حبيبة رضي الله عنها .
    والمعنى : أنه يزيد على السنة الراتبة ركعتين بعد الظهر ؛ لأن السنة الراتبة أربع قبلها واثنتان بعدها، فإذا زاد ثنتين بعدها حصل ما ذكر من حديث أم حبيبة رضي الله عنها .
    والله ولي التوفيق .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله و أصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
    قاله ممليه الفقير إلى ربه
    عبد العزيز بن عبد الله بن باز
    سامحه الله وغفر له ولوالديه وللمسلمين

    ([1]) للشيخ/ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ .


    تعليق


    • #3
      رد: صائمون ولكن

      رمضانيات السيرة
      إليك أخي هذه الوقفات والنظرات في بعض الأحداث الرمضانية في سيرة خير البرية .. ألستَ معي أن شهر رمضان فرصةٌ سانحة لإحياء معانٍ جليلة، وقيمٍ كريمة، وفضائل عزيزة، كتلك التي نراه في إيمانيات نزول الوحي، وأخلاقيات خديجة، وتربويات بدر، وانتصارات الفتح، وغيرها، وغيرها ...
      وفي الشهر الفضيل؛ إن لم نجعل السيرة العطرة واقعًا حيًا في حياتنا؛ فمتى ؟
      إن لم نتدارس أيام الله كيوم الفرقان ويوم الفتح، فمتى؟
      لقد كانت السيرة النبوية والمغازي أيام السلف الصالح؛ علم السلاطين والملوك، فكانوا يجدون في دراستها دروةً تدريبية مخدومة في أصول الحُكم وسياسة الناس، فلما طال الأمد وقست القلوب؛ انفض جل الناس عن مدارسة السيرة، وباتت السيرة هي ملاذ الدعاة الربانيين وسلاح الخطباء المخلصين، وقليل ما هم. فعسى أن تكون هذه الوجبة الخفيفة فاتحة خير لمن أراد الأقبال على سيرة المصطفى بعد رمضان، لاسيما في هذا الزمان الذي يُسب في الرسول ويُهان، فأحرى بنا أن نتعلم سيرته، وقد تعلمها المستشرقون وفهموها بل وحفظوها، لا للعمل بها إنما لمحاربة صاحبها – صلوات الله وسلامه عليه .
      نسأل الله العلي القدير أن ينفعنا بسيرته .
      تَفَكْر وتعبّدْ وتَعلَّمْ
      [ البداية كانت في رمضان ]

      عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت :
      "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ؛ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا ، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ! قَالَ : "مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ : " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ ! قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ! فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ : اقْرَأْ ! فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ )..." [ البخاري : 3]..

      هكذا كانت البداية :" تفكر "، وهكذا كان العمل الأول : " التحنث وهو التعبد"، وهكذا كانت الكلمة الأولى : " اقرأ " ..
      وفي " مطبخ " التفكر والتعبد والقراءة، يصنع الله المصلحين على عين، ويعدهم لمهمة الدعوة والإرشاد، وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، فيأدبهم في صوامع العبادة بأدبه، ويزكيهم في خلوة التفكر، ويعلمهم في حِلق القراءة ..
      فما أحوج المسلم إلى ثلاث ساعات في يومه وليلته، ساعة يتفكر مختليًا بربه، وساعة يتعبد فيها بقيام، وساعة يتثقف فيها بكتاب ..
      ففي التفكر تصفية للذهن، وفي العبادة تربية للنفس، وفي القراءة تثقيف للعقل. وكلها من معينات الإنسان على حياته، ومن موقيات المسلم على دينه، ومن محفزات الداعي في دعوته .
      وفي كل مرة، يذهبُ فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى غار حراء، ليتزود بهذا الزاد، كان عليه أن يصعد جبلاً شاهقًا، ويسلك طريقًا وعرًا، ليلاً، مشيًا، وحيدًا، في حمَّارة القيظ، وفي صبارة البَرْد ..
      من أجل ماذا ؟
      من أجل أن يتفكر . من أجل أن يتحنث . من أجل أن يتعلم .
      فهذه الثلاثة لم تُنل إلا بشق الأنفس، " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا".
      أما التفكر :
      فيقول الله تعالى فيه :
      " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ{190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{191}.. [ آل عمران ]
      قال النبي – صلى الله عليه وسلم - :
      " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " [ ابن حبان 622، وصححه الألباني ]
      وفي الأثر :
      " لا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ "
      وقيل : " فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ".
      والتفكًر نور، والغَفلة ظُلْمة، والتأمل باب من أبواب السعادة، وهو مفتاح العلم، ومن ثم فهو مفتاح العمل.
      والتفكر صحة للعقل، والغفلة مفسدة للفهم؛ فإن الإنسان المتفكر المتأمل أصفى الناس ذهنًا، وأرحب الناس علمًا .

      وأما التعبد :
      فيقول الله تعالى فيه :
      " وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً " [الفرقان :64]
      "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" [السجدة :16]
      " كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ " [الذاريات : 17 ]
      " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً . نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا . إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا . إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا " [ المزمل : 1-6].
      ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه :
      " نعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ " [ البخاري 1054]
      وتقول عائشة في صفة تعبده – صلى الله عليه وسلم - :
      "كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ " [ البخاري 1055].
      وقال رسول الله ناصحًا :
      "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم" [ الحاكم وحسنه الألباني في الإرواء 452].
      وقال جعفر الخلدي: رأيت الحسن في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك العبارات، وطارت تلك الإشارات، وفنيت تلك العلوم، ودرست الرسوم، فما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في السحر.
      وقال يوسف بن أسباط: إذا أخلص الرجل التعبد لله أربعين صباحاً أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة .
      وقال أبو ذر – رضي الله عنه -: صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور وصوموا في شدة الحر لحر النشور.

      فالتعبد، وبالأحرى قيام الليل، صحة للبدن، وقوة للروح، ووَجاء للنفس، وجُنّة للقلب، وزاد للدعاة، وملاذ للعصاة، وروضة يرتع فيها المؤمنون، فيها رَوح للمكروبين، وشفاء للمكلومين، وجلاء للمهمومين، وعطاء للمحرومين . إن قيام الليل جنة الله في الأرض !

      وأما التعلم :
      فيقول الله تعالى فيه:
      " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ"[الزمر: 9].
      ويقول النبي – صلى الله عليه وسلم - فيه:
      "طلب العلم فريضة على كل مسلم"[ ابن ماجه 1/81 وصححه الألباني ]
      " .. و إن طالب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" [ البيهقي، وصححه الألأباني ].
      "إن الله أوحى إلي : أنه من سلك مسلكاً في طلب العلم سهلت له طريق الجنة، و من سلبت كريمتيه أثبته عليهما الجنة، و فضل في علم خير من فضل في عبادة، و ملاك الدين الورع" [ البيهقي، وصححه الألأباني ]
      "ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع حتى يرجع" [ البيهقي، وصححه الألباني ]
      "من علم علماً، فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل شيء" [ ابن ماجه، وحسنه الألباني]
      "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه..." " [ ابن ماجه، وحسنه الألباني]
      وعن صفوان بن عسال المرادي – رضي الله عنه - قال:
      أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر فقلت له: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم .
      فقال: " مرحبًا بطالب العلم .. إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضًا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب" [ ابن ماجه، وحسنه الألباني]
      وعن أبي أمامة قال: ذُكر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلان : أحدهما عابد والآخر عالم.. فقال - عليه أفضل الصلاة والسلام - : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ".. ثم قال - رسول الله صلى الله عليه وسلم -:
      "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" [ الترمذي، وحسنه الألباني]

      وكان أبو حنيفة رحمه الله إذا أخذته لذة المسائل ( في طلب العلم ) يقول: أين الملوك من لذة ما نحن فيه؟ لو فطنوا لقاتلونا عليها.
      وقيل: من خلا بالعلم لم توحشه الخلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته السلوة.
      وقيل لابن المبارك: من تجالس؟ فقال: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم-، إني أنظر في كتب آثارهم وأخبارهم.
      ولذلك قال الصولي:
      إن الكتابة والآداب قد جمعت ... بيني وبينك يا زين الورى نسبًا
      وقال المتنبي :
      أعزُّ مكانٍ في الدُنى سرْجُ سابحٍ ... وخيرُ جليسٍ في الزّمانِ كتابُ
      وقال سقراط :
      من لم يصبر على تعلم العلم وتعبه، صبر على شقاء الجهل.

      والحمد لله الذي جعل تعلم العلم حسنة من الحسنات، وطلبه عبادة من العبادات، وبذله قربة من القربات، وجعل العلم نبراسًا لبناء الأمم والحضارات، ومنارة لتقدم الصناعات والمشروعات، وجعل العلم أفضل أنيس في الوحشة، وأحسن رفيق في الغربة، ووسيلة لاستنزال البركة، ودفع الكربة، وجلب الأحبة، وإفادة الصحبة، والعلم في الإسلام دين، ومن لا علم له لا دين له !

      وأخيرًا أوصيك بهذه الثلاثية :
      الأولى : رحلة قمرية دورية : تمارس فيها عبادة التفكر، التفكر في خلق الكون والنفس، التفكر في أحوال التاريخ وسننه، والموت وعظمته، والقبر وظلمته، واليوم الآخر وشدته.
      والثانية : صلاة بليل: عليك بقيام الليل والتزود من النوافل، عليك أن تنقذ نفسك بكثرة السجود.
      والثالثة: كتاب تقرأه : اقرأ . اقرأ . اقرأ ! في القرآن وعلومه، في الزهد والرقائق، في السير والمغازي، في التاريخ والتراجم، في الحديث والعقائد، في الفقه وأصوله، في الأدب واللغة، في علم النفس والصحة، في السياسة والاقتصاد، في التخطيط والتنمية ....كون مكتبتك، ورتب قرائتك، واستعن بشيخ يعلمك ويوجه، فلا تترك نفسك للكتب دون مرشد، فالكتب تصنع الحفّاظ، ولا تصنع الفقهاء .
      فإذا فقهت هذه الثلاثية المحمدية، فلتجعل شعارك دومًا – مع نفسك محاسبًا – في ليلك ويومك: هل تفكرتُ ؟ هل تعبدتُ ؟ هل تعلمتُ ؟
      وإليك هذا البرنامج الثقافي المقترح لمدة ثلاثة أشهر
      فتقوم بمطالعة كتابين في اليوم تقرأ فيهما ما شاء الله لك أن تقرأ مع المحافظة على قيام الليل والتفكر .
      والعلة من الكتابين، مخافة الملل، فإذا مللت أحدهما فعليك بالآخر، أو إذا توفر أحدهما فعليك بالثاني .

      اليوم
      المادة الأولى
      المادة الثانية
      السبت
      تفسير ابن كثير
      تفسير " الظلال "
      الأحد
      الإيمان لمحمد نعيم ياسين – العقائد الإسلامية للسيد سابق
      أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان
      الإثنين
      رياض الصالحين – صحيح البخاري
      رسائل الدكتور عبد الله ناصح علون
      الثلاثاء
      الرحيق المختوم للمباركفوري – السيرة للصلابي
      تعريف عام بدين الإسلام لعلي طنطاوي
      الأربعاء
      فقه السنة للسيد سابق – كتب الشيخ حسن أيوب
      النحو التعليمي لمحمود سليمان ياقوت
      الخميس
      الإحياء أو مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة
      رسائل الدكتور فتحي يكن
      الجمعة
      رحلة، أو ممارسة رياضة، أو زيارة آثار، أو سير
      مختارات أدبية حرة في الشعر والنثر

      والله لا يخزيك الله أبدًا
      [ الدرس الأول في الثبات، كان في رمضان]

      "كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
      بهذه الكلمات العظيمة تثَّبت أم المؤمنين خديجة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثها بشأن المَلك الذي نزل عليه بغار حراء، حيث قال لها معبرًا عن خشيته: "لقد خشيتُ على نفسي".
      وكان دور المرأة والزوجة الصالحة هو تخفيف حدة الضنك التي لحقت بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم جراء هذه المقابلة الشديدة الصعبة مع "جبريل"، وتؤكد له عناية الله به، مدللة على خصال كريمة يتصف بها المصطفى، وسلوكيات طيبة يمارسها في مجتمعه.
      فهي توضح له بكل صراحة أن الله لن يخزيه لعلة واحدة، هي أنه مواظب على جملة من العبادات الاجتماعية.. فلن يخزي الله من وصل الرحم، وصدق الحديث، وحمل الكَل، وأكرم الضيف، وأعان على نوائب الدهر!
      إنها تتحدث إلى زوجها كطبيبة نفوس، وكفيلسوفة فكر، وكعالمة في سنن الله ونواميسه في الخليقة..إنها بكلماتها تلك تسبق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والآفات والهلكات..." [صحيح، الحاكم، عن أنس].
      هذا القلب الكبير الذي يحمل كُل هذا الخير للناس لا يخزيه الله، لن يصل الحُزن إلى قلبه، ولن يصل الخوف من الناس إلى وجدانه، بل ستنعم حياته، وينعم قلبه، ويزهو ويفرح، وينجلي غبار الضنك عن رأسه.
      • "كلا"..

      لن يحزن قلبك، ما دام يحمل الخير للناس..
      • "أبشر"..

      سيندمل الجرح، ويزول الوجع، وستمضي في طريق الحياة بهذا القلب الخيّر، يفيض منه النور إلى البشر، وتسرج به قلوبًا غلفًا، وعيونًا عميا، وآذانًا صما.
      • "فوالله لا يخزيك الله أبدا"..

      لست أنت بالوجه الذي يرده الله، ولست ولست أنت بالعبد الذي يتخلى عنه ربه، فأنت عبد أكرمت عباده، أشبعت جوعتهم، وأذهبت ظمأتهم، وكسوت عورتهم، ومسحت على رأس اليتيم، فكنت الأب، وعفوت عمن أساء إليك فكنت الأم:
      وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
      لا يخزيك.. ولم ولن يخزيك الله أبدًا.. فأنعم بحياتك!
      • "إنك لتصل الرحم"

      فمن قطعك وصلته، تغني القريب الفقير، وتقوّي القريب الضعيف، أنت سند أهلك، ووتد أقاربك، لم يسمعوا منك إلا كل خير، ولم يروا منك إلا كل صلاح.. أنت لكبيرهم ابن، ولصغيرهم أب، ولصاحبهم أخ.
      • "تصدق الحديث"

      لا تكذب أبدًا، لا تغش أبدًا، لا تزور شهادة، ولا تدلس مقالة، لم يُعهد عليك كذبة واحدة في حياتك، ولم تتلطخ لحظة واحدة في براثن الكذب.
      • "تحمل الكَل"

      وهو العاجز، لا تُعينه وفقط، بل تحمله! ولا تحمله فقط، بل تحمله وحاجته! لا ينزل عنك إلا وقد قضيت مسألته، ورحمت ذلته، وأسعدت قلبه.
      • "تقري الضيف"

      ما أكرم الناس إذا نزلوا بدارك! وما أعظمهم إذا حلوا بحضرتك! أوقدت القدور، وجهزت النمارق، وقضيت الحاجات، فإن بات الضيف بدارك بات آمنًا عزيزًا، وإن انصرف؛ فمُكرم مسرور.
      • "تعين على نوائب الدهر"

      فمصائب الأيام كثيرة، وجراح الواقع كبيرة، فيأتيك طالب العون فتعينه على نائبته، ويأتيك المكروب فتعينه على كربته.. أنت الظَهر للبائسين، فأنت لجراحهم طبيب، وأنت ليتمهم أب.
      والصدّيق كذلك!
      و"أبو بكر" تلميذه العظيم! يسير على شرعته، ويمارس صنعته، ويُبتلى، فيخرج مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ (برك الغماد) لقيه "ابن الدغنة" وهو سيد (القارة) فقال: "أين تريد يا أبا بكر؟" فقال أبو بكر: "أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي".
      فقال ابن الدغنة: "فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يُخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فأرجع فاعبد ربك ببلدك..
      فأصحاب هذه الصنائع الخيرية، ما كان الله ليخزيهم، وما كان ليكلهم إلى بعيد كافر، أو إلى قريب ظالم، هم أحق بالتمكين، وأولى بسعادة الدنيا والآخرة، وكان حقًّا على الله أن يسخر لهم أمثال "ابن الدغنة".. ينصرهم ويؤازرهم، حتى ينعم صناع الخير في ظلال الله.
      فاصنع خيرًا.. يسعد قلبك، ولا يخزيك الله.


      تعليق


      • #4
        رد: صائمون ولكن

        مكتبة الإمام ابن الجوزي - الإصدار الأول
        الوصف: مكتبة الكترونية تعتني بكتب وتراث الإمام عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، وتضم ترجمة له ومجموعة من أبرز مؤلفاته، ويتيح البرنامج تصفح الكتب إضافة إلى خواص النسخ والبحث والطباعة، والكتب في البرنامج هي:

        - أخبار الحمقى والمغفلين
        - أخبار النساء
        - الأذكياء
        - بحر الدموع [موافق للمطبوع]
        - التحقيق في أحاديث الخلاف [موافق للمطبوع]
        - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية [موافق للمطبوع]
        - اللآلي
        - اللطائف
        - المدهش
        - المصفى بأكف أهل الرسوخ من علم الناسخ والمنسوخ [موافق للمطبوع]
        - المنتظم
        - المنثور
        - الموضوعات
        - بر الوالدين
        - تاريخ بيت المقدس
        - تلبيس إبليس [موافق للمطبوع]
        - تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر
        - زاد المسير في علم التفسير
        - صفة الصفوة [موافق للمطبوع]
        - صيد الخاطر [موافق للمطبوع]
        - غريب الحديث [موافق للمطبوع]
        - فضائل القدس
        - مواعظ ابن الجوزي
        - نواسخ القرآن [موافق للمطبوع]

        وقد تم إعداد البرنامج بثلاث صيغ: صيغة ملف تنفيذي (exe)، وصيغة ملف مساعدة (chm)، وصيغة (bok) الخاصة بالموسوعة الشاملة، مع توثيق الكتب بترقيم الصفحات لتوافق المطبوع.تحميل البرنامج من هناhttp://www.islamspirit.com/click/go.php?id=164أو من هناhttp://www.islamspirit.com/click/go.php?id=165أو من هناhttp://www.islamspirit.com/click/go.php?id=166


        تعليق


        • #5
          رد: صائمون ولكن

          نفحات رمضانية هل الأفضل الإكثار من قراءة القرآن أم الأفضل تدبره
          أيها الأحبة .. هذه نفحات القدس قد تنزلت .. هذه نسمات الأنس قد هبت .. هذه بساتين الجنان قد تزينت .. وجدير بالمؤمن أن يشمر ويجتهد .. وحري بالغافل أن يعاجل ، وجدير بالمقصر أن يشمر . وأن يقصر عن التقصير في الشهر القصير .
          ما أسرع ما تمضي الأيام ، ها هو الضيف الكريم الذي استقبلناه بالأمس ، ويكاد يمضي ثلثه ، والثلث كثير .
          أسأل الله أن لا يحرمنا من نفحاته وبركاته .. وأن يجعل مآلنا إلى جناته .
          : نفحات رمضانية .
          معنى النفحات:
          جمع نفحة ، من نفح إذا فاح وهب ، وأعطى وانتشر .
          إذن معنى النفحات: ما ينشر الله لعباده ويفيضه عليهم من آثار رحمته من الخيرات والمواهب والعطايا.
          هل ورد في القرآن؟ ورد في القرآن في الشر على خلاف الأصل من باب الاستعارة ، في قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك) .
          لماذا: نفحات رمضانية؟
          رمضان هو شهر النفحات ، وإذاكانت نفحات الله وبركاته على العباد أكثر ما تكون في مواسم الخيرات والأزمنة الفاضلة ، فإن أعظم هذه المواسم هو شهر رمضان .
          قال ابن رجب: وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات .
          وقد روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده" . والحديث في سنده ضعف لكن حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة لوجود ما يشهد له ه .النفحة الأولى) نفحة التوبة :-
          لماذا التوبة أولاً؟
          يقول العلماء: التخلية قبل التحلية .. لا بد من التوبة لأنها بمثابة تنقية الإناء من الأوساخ قبل وضع الشراب فيه .. قبل أن نتعرض لنفحات الرحمن ، لا بد أن ننقي قلوبنا من الأدران .
          متى يتوب ، من لم يتب في رمضان؟ ورغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له .. لماذا؟
          رمضان فرصة للمذنبين .. فالشياطين مصفدة .. وشهوات النفس مقيدة .. والنفحات ممنوحة .. وأبواب الجنة مفتوحة .
          جرعات منشطة للتوبة :
          1) معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته :
          وهذا الامر هو روح التوحيد والإيمان ، أن تعرف الله بأسمائه وصفاته لا معرفة نظرية فقط ، بل معرفة قلب خاشع محب معظم لربه جل وعلا .. هناك أنواع من المعارف .
          - معرفة إطلاع وحياء: وهو إجلال الله تبارك وتعالى أن تعصيه وهو يراك ويسمعك .
          فتستشعر عظمة الله ورقابته .. وتستحي من الملائكة الذين سخرهم الله لحفظك؛ وتستحيي من الملكين الذين لا يفارقانك ، يسجلان طاعاتك ومعاصيك .
          - معرفة محبة ورجاء : فإذا كنت تحب الله فلا تعصه ، فإن المحب لمن يحب مطيع .
          - معرفة تعظيم وخوف: وهو شهود غضب الله وانتقامه ، فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب واذا غضب سبحانه لم يقم لغضبه شيء 0
          وتأمل ما أعده الله من أنواع العذاب في القبر والقيامة والنار ، كيف أن الله يعذّب الزاني ، وشاربَ الخمر والمخدرات ، وآكلَ الربا ، والنمام ، وغيرَهم .
          روى الترمذي والنسائي بسند حسن قصة أبي اليسر رضي الله عنه وأصلها في الصحيحين .
          كان أبو اليسر يبيع التمر في المدينة ، فجاءته امرأة حسناء جميلة تشتري منه التمر ، وكان زوجها قد خرج غازياً في سبيل الله ، فوسوس له الشيطان وزين له الوقوع بالمرأة ، فقال لها: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ . فدخلت معه في البيت ، فأخذ يقبلها ، ويباشرها دون أن يصل إلى الجماع .نعم لقد وقع هذا الصحابي في هذه المعصية في موطن من مواطن الضعف ،فما الذي حدث؟ضاقت به الدنيا ، وعظم به الأمر ، فذهب أولاً إلى أَبي بَكْرٍ ، وأخبره بما وقع له ، فقال أبو بكر: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا ، لكن أبا اليسر لم يصبر ، فذهب إلى عمر ، فقال له عمر: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا ، لكنه لم يصبر حتى أتى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَر ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ: أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا؟ .في هذه اللحظة ، تقطع قلب أبي اليسر ، حَتَّى إنه تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ ، بل إنه ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . ثم أَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوِيلًا ، وأنزل رأسه إلى صدره ، حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ (وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)، قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على أبي اليسر ، ففرح بها فرحاً شديداً، ثم قَالَ بعض الصحابة: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً .
          2) جاهد نفسك ، واصبر عن المعصية .. ورمضان فرصة للمجاهدة والتغيير .
          فإن قلت كما يقول بعض الشباب: صعب ، لا أستطيع ، أنا تعودت على هذا الشيء .
          فأقول لك: لا بد أن تصبر، وتذكر أن الصبر في الدنيا أهون من العذاب في الآخرة .
          3) استشعار العوض : وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) .
          4) تدبر القرآن والعمل به : فإن القرآن روح القلوب ، وهو شفاؤها من جميع الشهوات والشبهات .
          5) سد جميع الطرق التي توقعك في المنكر ، كالرفقة ، أو الوحدة ، أو المجلات السيئة، أو الأفلام الخليعة ، أو الفضائيات الخبيثة ، أو الدخول إلى الانترنت ، وغيرها من وسائل وطرق المنكر .. رمضان فرصة للتخلص من هذه الأشياء .
          6) استحضار نعم الله تعالى .. وكم لله علينا من نعمة ، (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) أمن في الأوطان ، وصحة في الأبدان ، وأنس بالأهل والولدان ، وأطعمة متعددة ، وأشربة متنوعة . نسأل الله شكر نعمته .
          إخوتي في الله .. من منا زار المستشفيات ، وفكر في أهل البلاء والشقاء .
          كم منا ممن يتمتع بالصحة ، ويرفل في ثياب العافية ، وهو مقيم على معصية الله تعالى .
          عبد الله .. كيف تعصي الله وإحسانه إليك على مدى الأنفاس ، أعطاك السمع والبصر والفؤاد ، وأرسل إليك رسوله ، وأنزل إليك كتابه ، وأعانك بمدد من جنده الكرام ، يثبتوك ويحرسونك ويحاربون عدوك ، وأنت تأبى إلا مظاهرته عليهم ، وموالاته دونهم .
          أمرك الله بشكره ، لا لحاجته إليك ، ولكن لتنال به المزيد من فضله ، فكفرت نعمته واستعنت بها على مساخطه .
          دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته ، ثم فتحه لك فما دخلته !
          أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته ، فعصيت الرسول .
          ومع هذا فلم يؤيسك من رحمته ، بل قال : متى جئتني قبلتك ، إن أتيتني ليلاً ، قبلتك ، وإن أتيتني نهاراً قبلتك, ومن أعظم مني جوداً وكرماً؟ .. عبادي يبارزونني بالعظائم ، وأنا أكلؤكم على فرشهم ، إني والجن والانس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غير ، وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي ، وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي ، وهم أفقر شيء إلي .
          7) تذكر الموت والقبر وما بعده من أهوال الآخرة .. تذكر يا حبيبي أنك قد تؤخر التوبة فتموت وأنت على المعصية ، فتبعث على رؤوس الخلائق، وأنت على تلك المعصية .
          8) الدعاء والانكسار بين يدي الله .. ولو كنت باقٍ على المعصية ، ولو عظمت منك الذنوب .
          فقد ثبت عند الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي ، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) .
          فأبشر يا عبد الله .. واعلم أن لك رباً يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات ويبدلها حسنات .
          إذا تبت ، وفرغت قلبك من الإصرار على الذنوب ، فالباب مفتوح الآن لنتعرض وإياك إلى النفحات .النفحة الثانية) نفحة الصيام :-
          الصوم هو عبادة هذا الشهر ، وهو ركن الإسلام .
          وهو العمل الذي اختصه الله لنفسه ، ورتب عليه الأجور العظيمة .
          ليس المقصود من الصوم مجردَ الإمساك عن الأكل والشرب والاستمتاع ، ولكنه مع ذلك إمساكٌ للجوارح كلها عن ما نهى الله عنه . فالصائم حقيقة من خاف الله في عينيه فلم ينظر بهما للحرام لا في شاشة ولا موقع ولا مجلة ، واتقى ربه في لسانه فكف عن كل قول محرم ، وخشيه في أذنيه فلم يسمع بهما منكر ، وخشيه في ماله فلم يكسبه من حرام من ربا أو سرقة أو غش ، ولم ينفقه في حرام من سلعة محرمة أو مسابقات محرمة كالقمار ومسابقات السبعمائة وغيرها .
          من نفحات الله في الصيام أنه سبحانه اختصه لنفسه ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((قال الله عزّ وجلّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلاَّ الصّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إني امرُؤ صائم. والذي نفس محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه)) .
          إذا كان هذا هو كرم الله للصائمين ومحبته لهم . هل نحن نتلذذ بالصوم كما تلذذ به سلفنا الصالح؟
          الصوم تتحصل اللذة فيه من الصلة بالله والتلذذ بخدمته .
          ولذلك كان يبس الشفاة من العطش، وقرقرة البطون من الجوع: أهنأ ما لاقاه الصائمون .
          فبينما الصائم يتألم من جوع البطن يتوارد على فؤاده خاطرة: أن هذا الألم يصبر عليه تعظيمًا لحق الله ومهابة لنظره وإطلاعه فيرضى عن حاله ويشبع من رضا الله عنه .
          لكنه سرعان ما يطأطئ منكسرًا وجلاً، خائفًا لئلا يقبل الله منه فيتضافر ألم البطون مع ألم القلوب .. ثم تتداركه عناية الله وإمداداته فيفيض عليه من جميل لطفه وإنعامه فيجد في قلبه حلاوة غامرة ولذة عامرة شوقًا للقاء ربه ، وهي الفرحة التي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم "وفرحة عند لقاء ربه".
          وتأمل في أحوال السلف مع الصيام .
          - كان ابن عمر يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم لم يتعشَّ تلك الليلة، - وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً.
          - وكان الحسن يطعم إخوانه وهو صائم تطوعاً، ويجلس يُروحهم وهم يأكلون.
          - وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم.
          - واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً، فوضع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلاً يقول: من يقرض المليَّ الوفيَّ الغنيّ؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات جائعاً .
          - وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدهما لفطره ثم طوى وأصبح صائماً.
          فهنيئاً للصائمين ، بنفحات رب العالمين .
          النفحة الثالثة) نفحة القرآن :-
          ونحن في هذا الشهر العظيم نتذكر أول آية نزلت من القرآن ، عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره أذن الله عز وجل للنور أن يتنزل، فإذا جبريل عليه السلام آخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اقرأ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، فقال في الثالثة:قْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ 0.خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِنْ عَلَقٍ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلاْكْرَمُ [العلق:1-3]. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده)) [البخاري:3].
          هكذا نزلت أول آية من القرآن في هذا الشهر العظيم .. هكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية عنها .
          وقد ذكر العلماء أن القرآن نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وذلك في ليلة القدر . قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة [النسائي والحاكم].
          وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) .
          قال ابن رجب: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له. [لطائف المعارف:354].
          وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان .
          وفي الصحيحين عن فاطمة رضي الله عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين.
          قال ابن رجب: وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: ]إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً[المزمل:6. [لطائف المعارف:355].
          حال السلف مع القرآن :
          أيها الأحبة .. لقد كان للسلف رحمهم الله اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان بل لم يكونوا يشتغلون فيه بغيره.
          وكان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
          وكان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم إلى القرآن .
          وكانوا يكثرون من كثرة الختمات :
          فقد كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان كل ستليال.
          وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
          وكان الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة .
          قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة. [التبيان:48].
          قال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة. [سير أعلام النبلاء].
          وكان الحافظ ابن عساكر يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم. [سير أعلام النبلاء].
          أيهما أفضل؟ أن يكثر الإنسان التلاوة أم يقللها مع التدبر والتفكر؟
          قال النووي رحمه الله: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني ... ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. [الفتح:8/715].
          ومعنى ذلك أن الإكثار مطلوب ، لكن لا ينبغي أن يطغى على الفهم والتدبر، فلايكن هم المرء كثرة الختم دون أن يعقل مما قرأ شيئاً.
          وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال عبدالله: هذاً كهذ الشعر؟! - ينكر عليه يعني الإسراع في القراءة - إن قوماً يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
          وقال ابن مسعود: لا تنثروه نثر الدقل - يعني التمرالرديء- ولا تهذوه كهذّ الشعر، وقفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة .
          قال بعض العلماء في بيان هذه المسألة: إن من رتل وتدبر كمن تصدق بجوهرة واحدة ثمينة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون العكس.
          اقتراح : يمكن أن يجعل له مع القرآن ثلاثة مسارات:
          المسار الأول: مسار الإكثار من التلاوة وتكرار الختمات، فيجعل الإنسان لنفسه جدولاً ينضبط به، بحيث يتمكن من ختم القرآن مرات عديدة ينال خيراتها وينعم ببركاتها.
          المسار الثاني: مسار التأمل والتدبر، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمة طويلة المدى يأخذ منها في اليوم صفحة أو نحوها مع مراجعة تفسيرها وتأمل معانيها، وقد تطول مدة هذه الختمة إلى سنة أو أكثر ، لكنها نافعة مباركة .
          المسار الثالث: مسار الحفظ والمراجعة، فيجعل لنفسه مقدارا يومياً من الحفظ ومثله من المراجعة، وإن كان قد حفظ ونسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ واسترجاع ما ذهب، ولست بحاجة إلى التذكير بجلالة منزلة الحافظ لكتاب الله ورفيع مكانته، وحسبه أنه قد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى له.
          كيف نتدبر القرآن؟ خطوات التدبر :
          ذم الله الذين لا يتدبرون كلامه، ومثلهم بأقبح الأمثلة وأبشعها، فقال تعالى:]مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا
          ونبينا ] جعل من أوصاف الخوارج أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن، وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده .
          1) حسن الاستماع والإصغاء لكتاب الله عز وجل. حسن الاستماع هو الأول والمبدأ والفاتحة والبداية، ]الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[/، وتأمل بلاغة القرآن المعجزة /0]الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ[i] وليس يسمعون .
          والحق جل وعلا يقول: _إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ00] [الأعراف:204].
          2) حسن النية: ونعني بذلك أن نُقبل بصدق، وأن نستمع ونتلو بنية خالصة، نبتغي بها وجه الله تعالى .
          قال ابن القيم رحمه الله: "العامل بلا إخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملاً، يُثقله ولا ينفعه".
          3) حسن التلاوة: وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً[المزمل:4].
          ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري.
          قال العلماء: المطلوب شرعًا إنما هو تحسين الصوت، الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع، والانقياد والطاعة.
          4) الإلمام بتفسير القرآن ولو باختصار شديد، ولو بنسخة من القرآن بهامشها تفسير .
          5) حسن التفكر في معاني الآيات .
          أن يقرأ القرآن بحضور قلب، فكثير من الناس يقرأ القرآن وهو غافل لاه، يقرأ بلسانه، وعقله وفكره وقلبه في واد آخر، وهذا لا ينتفع من القرآن البتة، لكن يثاب على نيته قصد القراءة والتقرب إلى الله جل وعلا .
          6) التفاعل مع دلالات الآيات، كما جاء في حديث حذيفة عند مسلم عندما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه ، قال: (يقر مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأله، وإذا مر بتعوذ تعوَّذ) .
          فعليك بهذه السنة ، فهي تعينك على التدبر ، وتعلق القلب بالقرآن .
          7) استحضار عظمة المتكلم سبحانه وتعالى وعظمة الخطاب .. القرآن رسائل من الله لك.
          قال ابن القيم: اذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه, وألف سمعك, ,احضر حضور من يخاطبه به من تكلّم به سبحانه منه اليه, فانّه خطاب منه لك, على لسان رسوله, قال تعالى:{ انّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} .النفحة الرابعة) نفحة القيام :-
          شهر رمضان شهر القيام .. كما قال صلى الله عليه وسلم ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) .. وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم ليالي رمضان .. فإذا دخلت العشر الأواخر خصها بمزيد من الاجتهاد كما روت عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر .
          ما أجمل هذا المشهد .. قوم لله درهم .. (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا).. هنيئاً للقائمين ، ويا خسارة القاعدين الراقدين .
          يا أيها الراقـد كـم ترقـد *** قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
          وخذ من الليل وساعاته *** حظاً إذا ما هـجع الـرُّقَـُد
          كيف حالنا مع صلاة القيام أو التراويح؟
          يشكو كثير من المواظبين على قيام الليل في رمضان من عدم لمسهم لثمرة هذه الصلاة.
          والحق أن هذه الصلاة المهمة كغيرها تحتاج إلى إعداد وتهيئة، الإعداد للعمل فهو علامة التوفيق وأمارة الصدق في القصد، قال تعالى: { وَلَوْأَرَادُواْالْخُرُوجَ لأَعَدُّواْلَهُعُدَّةً} .
          كيف نستعد؟ باختصار أقول:
          ينبغي أن تقلل من الطعام قبل الصلاة ، فإنه مثمر جدًا في حضور القلب ، وينبغي عليك أن تتطهر جيدًا وتلبس أحسن الثياب ، وتبكر في الحضور إلى الصلاة .
          وإن من القبيح جدًا أن تفوتك صلاة العشاء، فهذا دليل الحرمان وعدم الفقه في الدين، فإن صلاة العشاء فريضة ، وصلاتها في جماعة تعدل قيام نصف ليلة .
          بعض الشباب يريد ان يصلي في مسجد بعيد ، لكنه لا يبكر في الحضور ، وربما أسرع بالسيارة ، وآذى الناس ، وفوت على نفسه صلاة العشاء ، فلننتبه إلى هذا .
          فإذا حضرت إلى المسجد ، استحضر القدوم على الله ، وأنك ستدخل بيته ، وتقف بين يديه ، فإذا وقفت في صلاتك فقف وقوف العبد الذليل المنكسر الذي يتعرض لرحمة سيده ومغفرته ، ويرجو أن يعتقه من النار .. بقلب مشتاق إلى الله ، مستحيي من الله ، خائف من الرد والإعراض .
          - لا تنس يا أخي أن تكمل القيام مع الإمام حتى يكتب لك قيام ليلة، فقد قال صلى الله عليه وسلم : { من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة } .النفحة الخامسة) نفحة الإخلاص :-
          رمضان شهر الإخلاص .. وقد تقدم قول الله عزّ وجلّ في الحديث القدسي : كلُّ عمَلِ ابنِ آدم له إلاَّ الصّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به ... يدع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي)) .
          قوله (فإنه لي) وقوله بعدها (يدع طعامه وشهوته من أجلي) فيه إشارة إلى الإخلاص.. نعم الإخلاص.. فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش؟ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب؟ أعاذنا الله وإياك من ذلك.
          ولذلك نجد النبي يؤكد على هذه القضية.. { من صام رمضان إيماناً واحتساباً }.
          في رمضان ينفتح للعبد أنواع من العبادات (صيام ، قيام ، قراءة قرآن ، عمرة، اعتكاف ..الخ) ... ولهذا لا بد من مراعاة الإخلاص ، وتصحيح النية .
          وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الرياء ، وأخبر أنه الشرك الخفي .
          وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ما تنخلع له القلوب .
          فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجلاستشهد ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها .قال : فما عملت فيها ؟ قال: قاتلت فيك حتىاستشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لان يقال : جريء ، فقد قيل . ثم أمر به فسحبعلى وجهه حتى ألقي فى النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفهفعرفها . قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم ، وقرأت القران ليقال هو قارىء ، فقد قيل ،ثم أمر به ، فسحب على وجهه ، حتى ألقي فى الناء ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه مناصناف المال كله ، فاتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ماتركتمن سبيل تحب أن ينفق فيها الا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقدقيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم القي فى النار .
          ولهذا اشتد حرص السلف على إخفاء أعمالهم خوفاً على أنفسهم.
          - فهذا التابعي الجليل أيوب السختياني يحدث عنه حماد بن زيد فيقول: ( كان أيوب ربما حدث بالحديث فيرق فيلتفت فيتمخط ويقول: ما أشد الزكام؟ يظهر أنه مزكوم لإخفاء البكاء ).
          - وعن محمد بن واسع قال: ( لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة وقد بلّ ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي جنبه ).
          - وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
          - وقال ابن أبي عدي: ( صام داود بن أبي هند أربعين سنة لا يعلم به أهله وكان خرازاً يحمل معه غذاءه من عندهم فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم ).
          - قال سفيان الثوري: ( بلغني أن العبد يعمل العمل سراً، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه فيكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه فينسخ من العلانية فيثبت في الرياء ).
          ما هو الحل؟ لا بد من المجاهدة .
          يقول ابن القيم: لا يجتمع الاخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس الا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت. فاذا حدثتك نفسك بطلب الاخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشّاق الدنيا في الآخرة ...
          فان قلت: وما الذي يسهّل علي ذبح الطمع والزهد في المدح والثناء؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه الا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في المدح والثناء فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين الا الله وحده


          تعليق


          • #6
            رد: صائمون ولكن

            جزاكم الله خيرا
            لا تنسوا ذكر الله
            احمـــــــــد

            تعليق


            • #7
              رد: صائمون ولكن

              المشاركة الأصلية بواسطة احمد هشام كامل مشاهدة المشاركة
              جزاكم الله خيرا
              لا تنسوا ذكر الله
              احمـــــــــد
              جزاكم الله خيراً وبارك فيكم ورفع قدركم وغفر ذنبكم


              تعليق

              يعمل...
              X