نسائم الخيرات، وبشائر البركات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُخرج صاحبها من الظلمات إلى النور، وتُنقذه من عبادة المخلوقات، والتعلِّق بالأموات والقبور، وتزحزحه عن النار، وتدخله الجنة يوم البعث والنشور.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، هدى الله ببركة دعوته، وبما جاء به من البينات والهدى هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارِفين، حتى حصل لأمَّته عمومًا، ولأهل العلم منهم خصوصًا من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسَُِّنن([1]) المستقيمة، ما لم يحصل لأمة من الأمم.
فصلى الله عليه صلاة دائمة باقية عدد ما خلق ربنا وذرى، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
نسائم الخيرات، وبشائر البركات.
فهذي نسائم الخيرات قد انتشرت، وبشائر البركات قد أقبلت، ومواسم العطايا والمنح قد أظلت.
قد دخل الشهر الذي تَشبَعُ فيه الأرواح، وإن جاعت البُطون، وتقوى فيه القلوب وإن ضعُفت الأجسام، وتسمو فيه النفوس وتعلو الهمم، وتهبِط اللذائذ، وتموت الشهوات.
قد جاء شهرُ المنافسةِ في الخيرات، والتسابق إلى الأعمالِ الصالحات، والتقربِ من رب الأرض والسموات، يشتري فيه المؤمنون أنفس ما يجدون، ويختارون لأنفسهم أرفع الأعمال وأزكاها، ويبادرون في مرضاة ربهم، ويبيعون الدنيا وحظوظَها بالفوزِ برحمة ربهم.
أُثامِنُ بالنفـسِ النفيـسةِ ربَّهـا وليس لهـا مِن الخلْقِ كُلِّهم ثمنُ
بها تُدرَكُ الأُخرى؛ فإن أنا بعتُهُا بشيءٍ من الـدُّنيا فذاكَ هو الغبنُ
لئن ذهَبَتْ نفسي بدُنْيا أصبْتُهُـا لقد ذَهبَتْ نفسي، وقدَ ذهَبَ الثمنُ
هذا الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفَّدُ الشياطين([2])، ترغيبًا لفعل الخيرات، وإعانةً للنفس على امتثال الأوامر، والمبادرة إلى فعل الطاعات، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصِر.
هذا شهر الصوم، الذي يُقسم الحبيبُ ‘ على محبةِ ربه لآثاره فيقول: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده لَخُلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))([3]).
هذه الرائحة المنبعثة من الفم، عندما تخلو المعدةُ من الأكل، ينفُرُ الناس منها، ولا يُحِبُّون رائحتها، ولكنها عند الملكِ الكريم، البرِّ الرحيم أطيبُ من أطيب الطيب؛ لأنها ناشئةٌ عن طاعته، واتباع مرضاته.
والله إن الإنسان ليحتقر نفسه، أمام هذا الكرم والعطاء، وفتْحِ أبواب الخير، وغلْقِ أبواب الشر.
أنا العبدُ المسكين، الحقيرُ الضعيف، يحب الله أثر العبادة مني، حتى تكون أطيب من ريح المسك، وهو الذي فرضها علي، ويسَّرها لي، ثم يثيبني عليها أعظم الجزاء وأجزله؟؟!!
نعم يا أخي؛ إن الله يحب من عبده أن يتقرب إليه بما افترض عليه، وقد جاء في حديث الأولياء، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))([4]).
مسكينٌ والله! هذا الذي يظنُّ أنَّ أهلَ الدنيا بما يقيمونَ في الأعوام من مهرجاناتٍ ومسابقاتٍ واحتفالاتٍ، ومتاجرات ومرابحات، يُعطون أكثرَ وأفضلَ مما يمنَحُ اللهُ.
هل يستوي عطاءُ من لا تنفدُ خزائنُهُ ولا تفنى، بمن قال خالقُهُ فيه {قلْ لو أنتُم تملِكُونَ خزائنَ رحمةِ ربي إذاً لأمسكتُم خشيةَ الإنفاقِ وكانَ الإنسانُ قَتُوراً}، ثم هو معَ ذلك تنفدُ خزائنُهُ وتبلى؟!
كأني بذلكَ المحرومِ؛ الذي طوتُه الأيامُ والليالي، وأسلمتْهُ إلى أجلِهِ المحتومِ، وقد رأى المتاجِرِين قد وزِّعتْ بينهم أرباحُهُم، ورُفِعتْ درجاتُهُم، يصيح بأعلى صوته: رب ارجعون؛ لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركت.
فيرتدُّ عليه الجوابُ أشدَّ مِن وقْعِ العذابِ: كلا؛ إنها كلمة هو قائلُهُا، ومن ورائهم برزخٌ إلى يومِ يُبعثون.
ليس للميتِ في قبرِه فِطْرٌ ولا أَضْحى ولا عَشْرُ
ناءٍ عن الأهلِ على قُربِهِ كذاكَ مَن مسْكَنُهُ القبرُ
إليك يا أخي هذه الوقفات في بركات هذا الشهر وخيراته ونفحاته، لتشمر عن ساعد الجد في استثمار أوقاته وساعاته، ولتفوز فيه برضوان الله ومغفرته وجناته.
1- الصوم لي، وأنا أجزي به.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة أن النبي ‘ قال: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)).
أوليست العبادات كلها لله؟ فلماذا اختص الله هذا العمل بالإضافة إليه؟
أوليس الله هو الذي يُجازي على الأعمال الصالحة؟ فلماذا أضاف الله جزاء الصوم له؟
إن الصوم عبادةُ السرِّ بين العبد وربه، لا يعلم أحدٌ من الناس بإمساكِكَ عن الطعام والشراب لأجلِ الله، إلا أن تُخبرهم بذلك، ومن يحولُ بينك وبين الأكل والشرب حين تُغلق الأبواب، وتُرخى الستور، وتخلُو بنفسك، حيث لا يراك أحد من الإنس؟
إنما الخوف من الله، والطمعُ في ثوابه، والرَّجَا بحسن لقائه هو الذي يحول بينك وبين الأكل والشرب.
الإخلاص؛ لُبُّ الأعمالِ وروحها، ومحرِّكُ الجوارحِ ومثيرها، ومقوي العزائمِ وممضيها، وله ثمراتٌ عظيمة في تيسير الأمور، وتذليل الصعاب، وإزاحة العقبات عن كثير من المشروعات التي يفعلها المسلم.
بالإخلاص تطمئن القلوب، وتهدأ النفوس، لأنها تعامل علام الغيوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم السر وأخفى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً (9)} [سورة الإنسان 76/9].
قال أشعب بن جبير: لقيني رجل في بعض سِكَكِ المدينة، فقال لي: كم عيالُك؟ فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أُجْرِيَ عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيًا. فقلت: من أَمَرَك؟ قال: لا أُخبرك. قلت: إن هذا معروفٌ يُشكر. قال: الذي أمرني لم يُرِدْ شُكرك.
قال أشعب: فكنت آخُذُ ذلك المال، إلى أن توفي خالدُ بنُ عبدِ الله بنِ عمر بنِ عُثمان بن عفان، فحفلَ لهُ الناسُ، وشهِدُّت جنازته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا والله صاحبك الذي كان يُجري عليك ما كنت أعطِيك.
وإذا أخلص العبد لله اجتباه ربه وهداه، وأحيى قلبه، وبارك في وقته، وصرَفَ عنه السوء والفحشاء، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف 12/24].
أما الذين لم يُخلِصوا ففي قلوبهم وجلٌ واضطراب، وفي نفوسهم حيرةٌ وارتياب؛ لأنهم لا يُأمِّلون إلا عطاءَ مخلوقٍ مثلهم، في دنيا حقيرةٍ فانية، فيهوون كل ما يَسنَحُ لهم، ويتشبثونَ بكلِّ ما يهوون، كالغُصنِ الرَّطيب؛ أيُّ نسيم مرَّ به عطفَهُ وأماله.
هذا سر من أسرار الإضافة.
ومن جزاء الصوم ما رواه البخاري عَنْ سَهْلٍ _ عَنْ النَّبِيِّ ‘ قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)).
هذا جزاءُ حبسِ النفس عن الماء وسائر الملاذِّ في الدنيا، طاعةً لله، بابُ الريان لمن عطِشوا في الدنيا قليلاً، ونهوا النفس عن أهوائها؛ فكان جزاؤهم من جنس عملهم، رِيٌّ يوم القيامة لا يعْطَشون بعده أبدًا.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ عَنْ النَّبِيِّ ‘ قَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))([5]).
كم من الذنوب التي أثقلت الكواهل، وأصدأت القلوب، وحالت بين النفوس وبين الرغبة في الخير، وصومُ رمضان يغفر الذنوب، ويصفي القلوب، ويزكي النفوس.
وليس هذا فحسب؛ بل الخير والبركة، والثواب والجزاء أعظم مما تتصور، وأكبر مما تتخيل، إنه من الله، عطاءٌ لا يعلمه أحد، ولا يستطيع أن يحيط بحقيقته أحد.
2- الصبر العطاء الواسع العظيم.
الصبرُ مِن أعظم الأخلاق وأنفعِها، فبِه تنفتِح وجوهُ الآراء، وتُستدْفَعُ مكائدُ الأعداء؛ فإن من قلَّ صبرُه عزَبَ رأيُه، واشتدَّ جزَعُه، فصارَ صريعَ همومِه، وفريسةَ غُمومه.
وإنما يُطيقه أصحابُ الهممِ العالية، والنُّفوسِ الأبية الكريمة، الذين تربَّوا على سمو النفس، وشَرَف الْخُلُق.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ _ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ‘ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: ((مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ))([6]).
قال عمر بن الخطاب: )أفضلُ عيشٍ أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا(.
وقل من جَدَّ في أمرٍ يحاوله واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
وفي الصوم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على قضاء الله وقدره، من الجوع والتعب والنصب.
فعبادةٌ واحدة تجتمع فيها أنواع الصبر الثلاثة، إنها والله عبادة عظيمة.
وما أحوج المسلم إلى الصبر في زمان تلونت فيه الشبهات، وتزينت فيه المنكرات، وتزخرفت الدنيا، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمنٍ تُسمَّى فيه الفواحش بغير أسمائها، وتُبرَزُ فيه الرذيلة بأبهى الصور وأجملها، ويُجلِبُ شياطينُ الجن والإنس بخيلهم ورجِلِهم في صدِّ الناس عن دين الله، وشَغْلِهم بما يصرفهم عن طاعة الله وعبادته.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمنٍ تتقاذفُ أهلَهُ الشُّبهاتُ المضلة، والعقائدُ المنحرفة، وتُتبع فيه الآراءُ المجردةُ عن الأدلة، بغير سلطان من الله، ولا كتاب منير.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمن يُتخذ فيه الهوى الإلهَ المعبود، والمالَ الهدف المنشود، واللذةَ الفانية الغايةَ المطلوبة، فتنتهك الحرمات، وتغتال الحريات، وتنسف المبادئ الشريفة، وتباع الأخلاق الفاضلة الكريمة، لأجل عرض من الدنيا زائل.
والصائم يصبر على الأذى من إخوانه؛ لأنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكنه يعفو ويصفح.
ويصبر على الأذى في سبيل الله، حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبذل جهده لينقذ أمته مما هي فيه من ظلمات الجهل والمعاصي.
وكم في سبيل الدعوة إلى الله من الأذى، وكم في طريق الخير من الوصب والتعب، وكم يلقى الداعية المصلح من العنت والمشقة، وكل ذلك يهون في سبيل الله، ولطلب مرضاة الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [سورة التوبة 9/120].
3- صوم القلب.
القلب هو محلُّ السعادة والشقاء، والإيمانِ والكُفر، واليقينِ والشك، وإنما فُرضَ الصيامُ لأسرارٍ وحكم لا يُدركها من كان أكبرَ همه أن يمتلأ بطنُه بعد طولِ فراغ، وأن يُطفئ حرارة الجوع، وشدةَ العطش، عند مغيب الشمس، وذلك آخرُ عهده بالصوم.
إنما فُرض الصوم ليسُلَّ من الصدورِ سخائمها، وليرفع عن القلوب أوضارها، وليؤت النفوس زكاتها وتقواها.
بالصوم تنسدُّ مسالِكُ الأكل والشرب، ويفرَغُ القلب للتذكر والتدبر، والنظر والتأمل، فيرى حقيقة الدنيا، وحقارتَها، وقِلة شأنِها وهوانَها، وأنها مهما طالت فهي قصيرة، ومهما اتسعت فهي ضيقة، ومهما أعطت فهي عما قليل آخذة، وأنها تأخذ أكثر مما تعطي، وأن الله قد قسَّم فيها الأرزاق بحكمة وعدل، وبسط فيها من الخيرات ما يعين على الطاعة، ويباعد عن المعصية.
ويرى أن ما قُسِم له لم يكن ليخطئه، وما مُنِع عنه لم يكن ليصيبه.
ويرى أن الحسد إنما يأكل قلبه قبل أن يصيب المحسودين، وأن الغِلَّ يُفرِّق بين الإخوان، ويمزق الجسد الواحد، أشد مما يمزق الذئب الجائع بدن فريسته.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن النبي ‘ أنه قال: ((الصيام جنة)).
والجنة هي الوقاية والستر؛ فالصائم الصادق قد ستر قلبه عن الأحقاد والضغائن، وحال الصومُ بينه وبين ما يُفسده من أمراض القلوب، التي تقتل صاحبها في الدنيا، قبل أن تقتله أمراض البدن؛ فصار يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وينصح لهم.
ألا يكفي ذمًا للملاحاة والتباغُضِ، والتقاطُعِ والتدابُر أنها قاطعةٌ للبر والصلة، ماحقةٌ للخير والبركة، مانعةٌ من وصولِ العمل إلى الله، ورفعه إليه؟! حتى حيل بيننا وبين معرفة ليلة القدر بسبب ملاحاة رجلين([7])!
كيف يصوم من أفطر قلبه على سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وانطوى صدره على الغش لإخوانه، وإلقاء العداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
4- صوم اللسان.
إذا صام القلب عن الهموم والإرادات الفاسدة، صامت الجوارح عن الآثام والأعمال الباطلة، وأعظمُ الجوارح اللسان، فقلَّ أن تجد أحدًا من الناس يطيق أن يمسك لسانه، بل ما أكثر المتهاونين به، الخائضين به في كل حديث، والوالغين به في كل عِرض، المجادلين به في كل باطل.
في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَله، فليقُل: إني امرؤ صائم)).
وفي تعويد اللسان على الإمساك عن اللغو والرفث، والصخب والجهل، والجدال([8])، خيرٌ عظيم، فإن مقْتَلَ الرجلِ بين فكيه، وكم جر اللسانُ صاحبَه إلى عورته وهو لا يشعر، وكم أكب من الناس على مناخرهم في نار جهنم.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ‘ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ؟
قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)) قَالَ: ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يَعْمَلُونَ}
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟))
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))
قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).
فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!
فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))([9]).
قال بعض السلف: الغيبةُ تَخْرِقُ الصيام، والاستغفارُ يرقَعُه، فمن استطاع منكم أن لا يأتِيَ بصومٍ مُخَرَّقٍ فليفعل.
بل إنه ليُخشى على الصائم الذي أمسك عن الطعام والشراب، ولم يُمسك لسانه عما حرم الله أن يَمْقُته الله؛ فيُحبِطَ عمله، فيذهبُ جهده هباءً، ولا يكونُ حظُّه من الصوم إلا الجوعَ والعطش.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))([10]).
والزور في هذا الحديث هو الكذب، وفيه بيان لأولي النهى، وأصحاب العقول أن الله لم يشرع الصيام لنُحرم من الأكل والشرب ساعاتَ النهار، ولكنَّ المقصودَ أن نكسِر شهوات النفس، ونمسك عِنان اللسان عن تتبع العورات، والخوضِ بالباطل، ونحفظَ الجوارح عن ارتكاب ما حرم الله، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [سورة الحـج 22/37].
5- السحور بركة!
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ‘: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً))([11]).
البركة هي نزول الخير الإلهي في الشيء، وثبوته فيه، والزيادةُ في الخير والأجر، وفي كل ما يحتاجه العبد من منافع الدنيا والآخرة.
والسَّحور إنما يكون وقت السحر، قبيل أذان الفجر.
وإن من أعظم بركات السَّحور الاستجابةَ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)} [سورة الأحزاب 33/71].
ومن بركاته أنه شعارُ المسلمين؛ فإن أهل الكتاب لا يتسحرون، وقد صح عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((فصْلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب أَكْلةُ السَّحَرِ)).
ومن بركاته حصولُ الخيريةِ، والمحافظةُ عليها، فعن سهلِ بنِ سعْدٍ الساعديِّ _ أن النبي ‘ قال: ((لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر، وأخَّروا السَّحُورَ))([12]).
ومن بركاته التقويةُ على طاعة الله، والإعانةُ على العبادةِ، والزيادةُ في النشاط، والرغبةُ في فعل الطاعة مرةً أخرى.
ومن بركاته أن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحرين([13]).
ومن بركاته أنه في وقتٍ تتنزلُ فيه الرحمات، وينزِلُ الربُّ جلَّ وعلا فيه، مناديًا عباده هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له؟
فما أسعدكَ يا عبدَ الله، يا من أطعت الله واستجبت لأمره، تأكل الأكلة، تكون لك فيها كل هذه البركة!!
6- القيام بين يدي الملك.
الصلاة هي قُرَّةُ عُيونِ المتقِينَ، وراحةُ قُلوبِ الموحِّدينَ، بِهَا تُزال الهموم، وتُبعثرُ الغُمومُ، وتُحطُّ الذنوبُ، حينَ يقِفُ العبدُ الحقيرُ بين يدي ربِّه وقْفةِ الذُّلِّ والانكسارِ والخُضوع، ساكنَ الجوارِح، حاضِرَ القلبِ، خاشِعَ البصرِ، يرجو رحمةَ ربِّه، ويحذرُ الآخرة.
قال بكْرُ الْمُزَنِي: مَنْ مِثْلُكَ يا ابنَ آدم؟! خُلِّيَ بينكَ وبين المحرابِ والماءِ، كُلَّما شِئت دخلْتَ على الله عزَّ وجل، ليس بينك وبينه تُرجُمَان([14]).
ما أجملها من لحظات، وما أطيبها من نفحات، وما أبركها من ساعات، تلك الساعة التي يُرفع فيها الحجابُ بينك أيها العبدُ الحقيرُ الفقيرُ، وبين الملك العظيم الغني الحميد.
ما أعظم تلكَ الساعةَ التي تُخاطِبُ فيها ربَّكَ، فيجيبُك، تقول: الحمد لله رب العالمين؛ فيقول الله: حَمِدَني عبدي، ثم تقول: الرحمنِ الرحيم، فيقول الله تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثم تقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فيقول الله تعالى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، أو فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، ثم تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فيقول الله تعالى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، ثم تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فيقول الله تعالى: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ([15]).
لا والله الذي لا إله غيره، ما في الدنيا لحظةٌ أعظمَ من هذه اللحظة، ولا ساعةٌ أطيبَ من هذه الساعة، حين يُناجِي العبدُ ربَّه، فيجيبُه ربه ويُكلِّمه، ويردُّ عليه، ويستجيبُ دعاءه.
أخرج أبو نعيم في الحِلية([16]) عن ثورِ بن يزيدٍ قال: قرأتُ في بعضِ الكتب أنَّ عيسى عليه الصلاةُ والسلامُ قال: يا معْشَرَ الحواريين، كَلِّمُوا الله كثيرًا، وكلِّمُوا الناس قليلاً. قالوا: كيف نُكلِّمُ الله كثيرًا؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه.
وصومُ رمضان قد قُرِن بالقيام، ولهذا شُرع فيه الاجتماع للصلاة النافلة، ما لم يُشرع في غيره؛ لتتقوى النفوسُ الضعيفةُ، ويسمعَ القرآنَ من لا يستطيع قراءتَهُ لوحْدِه.
صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه))([17])، أي تصديقًا بوعْدِ الله بالثوابِ عليه، وطلبًا للأجرِ، لا لقَصْدٍ آخرَ مِنْ رياءٍ ونحوِه.
فأيُّ نِعْمةٍ أجلُّ، وأيُّ عَطاءٍ أعظمُ من غُفرانِ الذُّنوب، وسَتْرِ العيوب؟!
7- ليلةٌ خير من ألف شهر!
عطاءُ ربِّنا لا ينفَدْ، وخزائنُه لا تَفنى، وجودُه لا ينقَطِعْ، ومن جودِه وكرمِه، هذه الليلةُ التي نَزلَ فيها القرآن، وتتنزلُ فيها الملائكة الكرام، وفيها يُفرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيم، سلامٌ هي حتى مَطْلعِ الفجر، من فاز بها فقد حاز الخير كله، العملُ فيها خيرٌ من ألف شهر.
وقد صح عن النبي ‘ من حديث أبي هريرة أنه قال ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)).
ألا يكون محرومًا من حُرِم هذا الخير؟!
أيُّ غَبْنٍ أعظمُ من أن يُدرك أحدَنَا رمضانُ ثم يخرج ولا يُغفرُ له؟!
أيُّ خيبةٍ أعظمُ من تلك الخيبة؟!
الصوم يَغفِرُ ما تَقدَّمَ من الذُّنوبِ، والقيامُ يغفِرُ ما تقدَّم من الذنوبِ، وقيامُ ليلةٍ واحدةٍ يغفِر ما تقدَّم من الذُّنوب، فهل بعد هذا الخير من خير؟!
وهل بعدَ فتح هذا البابِ العظيمِ من أبوابِ الغُفْران وتكفيرِ السيئات من عُذْرٍ لمعتذر؟!
8- للصائم فرحتان؟!
بالصومِ يفرحُ المؤمنون حين تحينُ ساعةُ الإفطار، فيضعُ المؤمنُ التمرةَ في فيه لتُسكِتَ تلك الجوعةَ الثائرةَ في البطن، إنها لحظةٌ من لحظات التلذذ بالأكلِ، بعد مدةٍ من الامتناع عنه، والله يثيبُنا على ذلك، بل يعدُّه نبينا ‘ من الفرحِ المحمود، الذي يفرحُ به المؤمن، فما أعظم مِنَّة الله وفضلَه، حتى الأكلةُ التي ينتهي بها الصوم، وتختم بها العبادة، هي محبوبةٌ عند الله!!
نعم؛ لأن الصائم قد ترك شهواتِه في النهار تقربًا إلى الله، وطاعة له، وبادرَ إليها بالليل تقرُّبًا إلى الله، وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر به، فهو مطيعٌ في الحالين، مطيعٌ حين يُمسك، ومطيعٌ حين يأكل، ولهذا جاء في الأثر ((إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد))([18])، حيث تلتقي الطاعتان طاعةُ الإمساك وطاعةُ الأكل.
ثم الفرحةُ الثانيةُ العظيمة، حين يلقَى العبدُ ربَّه، في ذلك اليومِ العصيبِ، الذي تشيبُ لهوله الولدان؛ فيرى آثارَ الصيامِ ظاهرةً، وبركاتِه منتشرةً، فيُدخلُه الصيام من باب الريان، ويشفعُ له عند المليك الديان، فيفرح المؤمن بلقاءِ الله حين يرى عظيمَ الثواب، ووافر الجزاء، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [سورة يونس 10/58].
9- لعلكم تتقون.
التقوى خيرُ الزادِ، وخيرُ اللباس، وصيةُ الله للأولين والآخرين، وهي العُدَّةُ في الشدائد، والعون في الملمات، ومهبطُ الروح والطمأنينة، ومتنزل الصبرِ والسكينة.
ورمضانُ شهرُ التقوى، وقد صرَّح الله بالحكمة من فرض الصيامِ بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [سورة البقرة 2/183].
والتقوى هي: أن تعملَ بطاعةِ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله، وإنما تكون بالعلم النافع، والعمل والصالح.
فإذا خرجت من رمضان، وقد فزت بالتقوى، فبالله عليك ماذا بقي من الخير ما حُزته؟! ومن البركات ما حصلتها؟! ولن يهلك من كانت التقوى زادَه، والله جل وعلا يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)} [سورة مريم 19/72]، ويقول {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17)} [سورة الليل 92/14-17].
أيها الإخوة، أما والله لو جلست أتحدث عن فضائل هذا الشهر وخيراته، وأسراره وبركاته، إلى بزوغ الفجر، ثم إلى مغيب شمسِ يومٍ آخر، ما وفيت فضائلَ الصومِ وشهرِه حقَّه، وكيف أوفي فضائلَ عملٍ أضافه الكريم إلى نفسه؟! وبركاتِ شهر نزل فيه أعظم حجج الله على خلقه؟ وفيه ليلة لا يماثلها ألف شهر؟!
والمحروم من حرم خيره، والسعيد من كفته الإشارة إلى فضله، ورضي بإضافة الجزاء إلى ربه، وشمر عن ساعد الجد لينجو بنفسه، ويزرع في يومه ما يلقاه غدًا في قبره، وبين يدي ربه.
اللهم إن في قلوبنا تفرقًا وشعثًا لا يَلمُّه إلا الإقبال عليك، وفي قلوبنا وحشةً لا يزيلها إلا الأنسُ بك في الخلوات، وفي قلوبنا حزَنًا لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفتك، وصدقُ معاملتك، وفي قلوبنا قلقًا لا يُسكِنُه إلا الاجتماعُ عليك، والفرارُ منك إليك، وفي قلوبنا نيرانَ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمرك ونهيك وقضائك، ومعانقةُ الصبر على ذلك إلى وقت لقائك، وفي قلوبنا فاقةً لا يسدُّها إلا محبتُك والإنابةُ إليك، ودوامُ ذكرك، وصدقُ الإخلاصِ لك، فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، حتى نلقاك بقلوب سليمة منيبة.
اللهم يا من عم جوده البر والفاجر، وفاض عطاؤه على المؤمن والكافر، ووسعت رحمته كل شيء، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، وقيوم السموات والأرض ومن فيهن، نسألك رحمة ترفع بها درجتنا، ومغفرة تمحو بها ذنوبنا، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من عتقائك من النيران، فقد أسرتنا الذنوب، واستوحشت منا القلوب، واستولت علينا زخارف الدنيا، فشغلتنا عن الدار الآخرة.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد أن تنصر المستضعفين، وأن تدفع الكرب والضيق عن إخواننا المظلومين، وأن تشدد وطأتك على المعتدين الباغين، إنك أنت القوي العزيز.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم...
([1]) قال في القاموس: سنن الطريق: مثلثة، وبضمتين: نهجه وجهته.
([2]) كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
([3]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([4]) رواه البخاري.
([5]) رواه البخاري.
([6]) متفق عليه.
([7]) كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت.
([8]) ورد عند سعيد بن منصور من طريق سهيل ابن أبي صالح عن أبيه ((فلا يرفث، ولا يجادل)).
([9]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وابن ماجه،
([10]) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور في الصوم.
([11]) متفق عليه.
([12]) متفق عليه.
([13]) رواه ابن حبان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني.
([14]) جامع العلوم والحكم (83).
([15]) ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة.
([16]) (2/229).
([17]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([18]) رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والطبراني في الدعاء، قال في الزوائد: إسناده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر: هذا حديث حسن، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير، وأخرجه الحاكم في المستدرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تُخرج صاحبها من الظلمات إلى النور، وتُنقذه من عبادة المخلوقات، والتعلِّق بالأموات والقبور، وتزحزحه عن النار، وتدخله الجنة يوم البعث والنشور.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، هدى الله ببركة دعوته، وبما جاء به من البينات والهدى هدايةً جلَّت عن وصف الواصفين، وفاقت معرفة العارِفين، حتى حصل لأمَّته عمومًا، ولأهل العلم منهم خصوصًا من العلم النافع، والعمل الصالح، والأخلاق العظيمة، والسَُِّنن([1]) المستقيمة، ما لم يحصل لأمة من الأمم.
فصلى الله عليه صلاة دائمة باقية عدد ما خلق ربنا وذرى، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
نسائم الخيرات، وبشائر البركات.
فهذي نسائم الخيرات قد انتشرت، وبشائر البركات قد أقبلت، ومواسم العطايا والمنح قد أظلت.
قد دخل الشهر الذي تَشبَعُ فيه الأرواح، وإن جاعت البُطون، وتقوى فيه القلوب وإن ضعُفت الأجسام، وتسمو فيه النفوس وتعلو الهمم، وتهبِط اللذائذ، وتموت الشهوات.
قد جاء شهرُ المنافسةِ في الخيرات، والتسابق إلى الأعمالِ الصالحات، والتقربِ من رب الأرض والسموات، يشتري فيه المؤمنون أنفس ما يجدون، ويختارون لأنفسهم أرفع الأعمال وأزكاها، ويبادرون في مرضاة ربهم، ويبيعون الدنيا وحظوظَها بالفوزِ برحمة ربهم.
أُثامِنُ بالنفـسِ النفيـسةِ ربَّهـا وليس لهـا مِن الخلْقِ كُلِّهم ثمنُ
بها تُدرَكُ الأُخرى؛ فإن أنا بعتُهُا بشيءٍ من الـدُّنيا فذاكَ هو الغبنُ
لئن ذهَبَتْ نفسي بدُنْيا أصبْتُهُـا لقد ذَهبَتْ نفسي، وقدَ ذهَبَ الثمنُ
هذا الشهر الذي تُفتح فيه أبواب الجنان، وتُغلق أبواب النيران، وتُصفَّدُ الشياطين([2])، ترغيبًا لفعل الخيرات، وإعانةً للنفس على امتثال الأوامر، والمبادرة إلى فعل الطاعات، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصِر.
هذا شهر الصوم، الذي يُقسم الحبيبُ ‘ على محبةِ ربه لآثاره فيقول: ((والذي نفسُ محمدٍ بيده لَخُلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))([3]).
هذه الرائحة المنبعثة من الفم، عندما تخلو المعدةُ من الأكل، ينفُرُ الناس منها، ولا يُحِبُّون رائحتها، ولكنها عند الملكِ الكريم، البرِّ الرحيم أطيبُ من أطيب الطيب؛ لأنها ناشئةٌ عن طاعته، واتباع مرضاته.
والله إن الإنسان ليحتقر نفسه، أمام هذا الكرم والعطاء، وفتْحِ أبواب الخير، وغلْقِ أبواب الشر.
أنا العبدُ المسكين، الحقيرُ الضعيف، يحب الله أثر العبادة مني، حتى تكون أطيب من ريح المسك، وهو الذي فرضها علي، ويسَّرها لي، ثم يثيبني عليها أعظم الجزاء وأجزله؟؟!!
نعم يا أخي؛ إن الله يحب من عبده أن يتقرب إليه بما افترض عليه، وقد جاء في حديث الأولياء، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ ((إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ))([4]).
مسكينٌ والله! هذا الذي يظنُّ أنَّ أهلَ الدنيا بما يقيمونَ في الأعوام من مهرجاناتٍ ومسابقاتٍ واحتفالاتٍ، ومتاجرات ومرابحات، يُعطون أكثرَ وأفضلَ مما يمنَحُ اللهُ.
هل يستوي عطاءُ من لا تنفدُ خزائنُهُ ولا تفنى، بمن قال خالقُهُ فيه {قلْ لو أنتُم تملِكُونَ خزائنَ رحمةِ ربي إذاً لأمسكتُم خشيةَ الإنفاقِ وكانَ الإنسانُ قَتُوراً}، ثم هو معَ ذلك تنفدُ خزائنُهُ وتبلى؟!
كأني بذلكَ المحرومِ؛ الذي طوتُه الأيامُ والليالي، وأسلمتْهُ إلى أجلِهِ المحتومِ، وقد رأى المتاجِرِين قد وزِّعتْ بينهم أرباحُهُم، ورُفِعتْ درجاتُهُم، يصيح بأعلى صوته: رب ارجعون؛ لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركت.
فيرتدُّ عليه الجوابُ أشدَّ مِن وقْعِ العذابِ: كلا؛ إنها كلمة هو قائلُهُا، ومن ورائهم برزخٌ إلى يومِ يُبعثون.
ليس للميتِ في قبرِه فِطْرٌ ولا أَضْحى ولا عَشْرُ
ناءٍ عن الأهلِ على قُربِهِ كذاكَ مَن مسْكَنُهُ القبرُ
إليك يا أخي هذه الوقفات في بركات هذا الشهر وخيراته ونفحاته، لتشمر عن ساعد الجد في استثمار أوقاته وساعاته، ولتفوز فيه برضوان الله ومغفرته وجناته.
1- الصوم لي، وأنا أجزي به.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة أن النبي ‘ قال: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)).
أوليست العبادات كلها لله؟ فلماذا اختص الله هذا العمل بالإضافة إليه؟
أوليس الله هو الذي يُجازي على الأعمال الصالحة؟ فلماذا أضاف الله جزاء الصوم له؟
إن الصوم عبادةُ السرِّ بين العبد وربه، لا يعلم أحدٌ من الناس بإمساكِكَ عن الطعام والشراب لأجلِ الله، إلا أن تُخبرهم بذلك، ومن يحولُ بينك وبين الأكل والشرب حين تُغلق الأبواب، وتُرخى الستور، وتخلُو بنفسك، حيث لا يراك أحد من الإنس؟
إنما الخوف من الله، والطمعُ في ثوابه، والرَّجَا بحسن لقائه هو الذي يحول بينك وبين الأكل والشرب.
الإخلاص؛ لُبُّ الأعمالِ وروحها، ومحرِّكُ الجوارحِ ومثيرها، ومقوي العزائمِ وممضيها، وله ثمراتٌ عظيمة في تيسير الأمور، وتذليل الصعاب، وإزاحة العقبات عن كثير من المشروعات التي يفعلها المسلم.
بالإخلاص تطمئن القلوب، وتهدأ النفوس، لأنها تعامل علام الغيوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والذي يعلم السر وأخفى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً (9)} [سورة الإنسان 76/9].
قال أشعب بن جبير: لقيني رجل في بعض سِكَكِ المدينة، فقال لي: كم عيالُك؟ فأخبرته، فقال لي: قد أُمِرتُ أن أُجْرِيَ عليك وعلى عيالك ما كنتَ حيًا. فقلت: من أَمَرَك؟ قال: لا أُخبرك. قلت: إن هذا معروفٌ يُشكر. قال: الذي أمرني لم يُرِدْ شُكرك.
قال أشعب: فكنت آخُذُ ذلك المال، إلى أن توفي خالدُ بنُ عبدِ الله بنِ عمر بنِ عُثمان بن عفان، فحفلَ لهُ الناسُ، وشهِدُّت جنازته، فلقيني ذلك الرجل، فقال: يا أشعب! هذا والله صاحبك الذي كان يُجري عليك ما كنت أعطِيك.
وإذا أخلص العبد لله اجتباه ربه وهداه، وأحيى قلبه، وبارك في وقته، وصرَفَ عنه السوء والفحشاء، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} [سورة يوسف 12/24].
أما الذين لم يُخلِصوا ففي قلوبهم وجلٌ واضطراب، وفي نفوسهم حيرةٌ وارتياب؛ لأنهم لا يُأمِّلون إلا عطاءَ مخلوقٍ مثلهم، في دنيا حقيرةٍ فانية، فيهوون كل ما يَسنَحُ لهم، ويتشبثونَ بكلِّ ما يهوون، كالغُصنِ الرَّطيب؛ أيُّ نسيم مرَّ به عطفَهُ وأماله.
هذا سر من أسرار الإضافة.
ومن جزاء الصوم ما رواه البخاري عَنْ سَهْلٍ _ عَنْ النَّبِيِّ ‘ قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ)).
هذا جزاءُ حبسِ النفس عن الماء وسائر الملاذِّ في الدنيا، طاعةً لله، بابُ الريان لمن عطِشوا في الدنيا قليلاً، ونهوا النفس عن أهوائها؛ فكان جزاؤهم من جنس عملهم، رِيٌّ يوم القيامة لا يعْطَشون بعده أبدًا.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ عَنْ النَّبِيِّ ‘ قَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))([5]).
كم من الذنوب التي أثقلت الكواهل، وأصدأت القلوب، وحالت بين النفوس وبين الرغبة في الخير، وصومُ رمضان يغفر الذنوب، ويصفي القلوب، ويزكي النفوس.
وليس هذا فحسب؛ بل الخير والبركة، والثواب والجزاء أعظم مما تتصور، وأكبر مما تتخيل، إنه من الله، عطاءٌ لا يعلمه أحد، ولا يستطيع أن يحيط بحقيقته أحد.
2- الصبر العطاء الواسع العظيم.
الصبرُ مِن أعظم الأخلاق وأنفعِها، فبِه تنفتِح وجوهُ الآراء، وتُستدْفَعُ مكائدُ الأعداء؛ فإن من قلَّ صبرُه عزَبَ رأيُه، واشتدَّ جزَعُه، فصارَ صريعَ همومِه، وفريسةَ غُمومه.
وإنما يُطيقه أصحابُ الهممِ العالية، والنُّفوسِ الأبية الكريمة، الذين تربَّوا على سمو النفس، وشَرَف الْخُلُق.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ _ إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ‘ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: ((مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ))([6]).
قال عمر بن الخطاب: )أفضلُ عيشٍ أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريمًا(.
وقل من جَدَّ في أمرٍ يحاوله واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
وفي الصوم صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على قضاء الله وقدره، من الجوع والتعب والنصب.
فعبادةٌ واحدة تجتمع فيها أنواع الصبر الثلاثة، إنها والله عبادة عظيمة.
وما أحوج المسلم إلى الصبر في زمان تلونت فيه الشبهات، وتزينت فيه المنكرات، وتزخرفت الدنيا، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمنٍ تُسمَّى فيه الفواحش بغير أسمائها، وتُبرَزُ فيه الرذيلة بأبهى الصور وأجملها، ويُجلِبُ شياطينُ الجن والإنس بخيلهم ورجِلِهم في صدِّ الناس عن دين الله، وشَغْلِهم بما يصرفهم عن طاعة الله وعبادته.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمنٍ تتقاذفُ أهلَهُ الشُّبهاتُ المضلة، والعقائدُ المنحرفة، وتُتبع فيه الآراءُ المجردةُ عن الأدلة، بغير سلطان من الله، ولا كتاب منير.
ما أحوج المسلم إلى الصبر في زمن يُتخذ فيه الهوى الإلهَ المعبود، والمالَ الهدف المنشود، واللذةَ الفانية الغايةَ المطلوبة، فتنتهك الحرمات، وتغتال الحريات، وتنسف المبادئ الشريفة، وتباع الأخلاق الفاضلة الكريمة، لأجل عرض من الدنيا زائل.
والصائم يصبر على الأذى من إخوانه؛ لأنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكنه يعفو ويصفح.
ويصبر على الأذى في سبيل الله، حين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبذل جهده لينقذ أمته مما هي فيه من ظلمات الجهل والمعاصي.
وكم في سبيل الدعوة إلى الله من الأذى، وكم في طريق الخير من الوصب والتعب، وكم يلقى الداعية المصلح من العنت والمشقة، وكل ذلك يهون في سبيل الله، ولطلب مرضاة الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [سورة التوبة 9/120].
3- صوم القلب.
القلب هو محلُّ السعادة والشقاء، والإيمانِ والكُفر، واليقينِ والشك، وإنما فُرضَ الصيامُ لأسرارٍ وحكم لا يُدركها من كان أكبرَ همه أن يمتلأ بطنُه بعد طولِ فراغ، وأن يُطفئ حرارة الجوع، وشدةَ العطش، عند مغيب الشمس، وذلك آخرُ عهده بالصوم.
إنما فُرض الصوم ليسُلَّ من الصدورِ سخائمها، وليرفع عن القلوب أوضارها، وليؤت النفوس زكاتها وتقواها.
بالصوم تنسدُّ مسالِكُ الأكل والشرب، ويفرَغُ القلب للتذكر والتدبر، والنظر والتأمل، فيرى حقيقة الدنيا، وحقارتَها، وقِلة شأنِها وهوانَها، وأنها مهما طالت فهي قصيرة، ومهما اتسعت فهي ضيقة، ومهما أعطت فهي عما قليل آخذة، وأنها تأخذ أكثر مما تعطي، وأن الله قد قسَّم فيها الأرزاق بحكمة وعدل، وبسط فيها من الخيرات ما يعين على الطاعة، ويباعد عن المعصية.
ويرى أن ما قُسِم له لم يكن ليخطئه، وما مُنِع عنه لم يكن ليصيبه.
ويرى أن الحسد إنما يأكل قلبه قبل أن يصيب المحسودين، وأن الغِلَّ يُفرِّق بين الإخوان، ويمزق الجسد الواحد، أشد مما يمزق الذئب الجائع بدن فريسته.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن النبي ‘ أنه قال: ((الصيام جنة)).
والجنة هي الوقاية والستر؛ فالصائم الصادق قد ستر قلبه عن الأحقاد والضغائن، وحال الصومُ بينه وبين ما يُفسده من أمراض القلوب، التي تقتل صاحبها في الدنيا، قبل أن تقتله أمراض البدن؛ فصار يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وينصح لهم.
ألا يكفي ذمًا للملاحاة والتباغُضِ، والتقاطُعِ والتدابُر أنها قاطعةٌ للبر والصلة، ماحقةٌ للخير والبركة، مانعةٌ من وصولِ العمل إلى الله، ورفعه إليه؟! حتى حيل بيننا وبين معرفة ليلة القدر بسبب ملاحاة رجلين([7])!
كيف يصوم من أفطر قلبه على سيء الأعمال، وكريه الأخلاق، وانطوى صدره على الغش لإخوانه، وإلقاء العداوة بينهم، وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم؟
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
4- صوم اللسان.
إذا صام القلب عن الهموم والإرادات الفاسدة، صامت الجوارح عن الآثام والأعمال الباطلة، وأعظمُ الجوارح اللسان، فقلَّ أن تجد أحدًا من الناس يطيق أن يمسك لسانه، بل ما أكثر المتهاونين به، الخائضين به في كل حديث، والوالغين به في كل عِرض، المجادلين به في كل باطل.
في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَله، فليقُل: إني امرؤ صائم)).
وفي تعويد اللسان على الإمساك عن اللغو والرفث، والصخب والجهل، والجدال([8])، خيرٌ عظيم، فإن مقْتَلَ الرجلِ بين فكيه، وكم جر اللسانُ صاحبَه إلى عورته وهو لا يشعر، وكم أكب من الناس على مناخرهم في نار جهنم.
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ‘ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ؟
قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ)) قَالَ: ثُمَّ تَلَا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يَعْمَلُونَ}
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟))
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ((رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ)).
ثُمَّ قَالَ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟))
قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)).
فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!
فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))([9]).
قال بعض السلف: الغيبةُ تَخْرِقُ الصيام، والاستغفارُ يرقَعُه، فمن استطاع منكم أن لا يأتِيَ بصومٍ مُخَرَّقٍ فليفعل.
بل إنه ليُخشى على الصائم الذي أمسك عن الطعام والشراب، ولم يُمسك لسانه عما حرم الله أن يَمْقُته الله؛ فيُحبِطَ عمله، فيذهبُ جهده هباءً، ولا يكونُ حظُّه من الصوم إلا الجوعَ والعطش.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))([10]).
والزور في هذا الحديث هو الكذب، وفيه بيان لأولي النهى، وأصحاب العقول أن الله لم يشرع الصيام لنُحرم من الأكل والشرب ساعاتَ النهار، ولكنَّ المقصودَ أن نكسِر شهوات النفس، ونمسك عِنان اللسان عن تتبع العورات، والخوضِ بالباطل، ونحفظَ الجوارح عن ارتكاب ما حرم الله، {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [سورة الحـج 22/37].
5- السحور بركة!
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ‘: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً))([11]).
البركة هي نزول الخير الإلهي في الشيء، وثبوته فيه، والزيادةُ في الخير والأجر، وفي كل ما يحتاجه العبد من منافع الدنيا والآخرة.
والسَّحور إنما يكون وقت السحر، قبيل أذان الفجر.
وإن من أعظم بركات السَّحور الاستجابةَ لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)} [سورة الأحزاب 33/71].
ومن بركاته أنه شعارُ المسلمين؛ فإن أهل الكتاب لا يتسحرون، وقد صح عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((فصْلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب أَكْلةُ السَّحَرِ)).
ومن بركاته حصولُ الخيريةِ، والمحافظةُ عليها، فعن سهلِ بنِ سعْدٍ الساعديِّ _ أن النبي ‘ قال: ((لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْر، وأخَّروا السَّحُورَ))([12]).
ومن بركاته التقويةُ على طاعة الله، والإعانةُ على العبادةِ، والزيادةُ في النشاط، والرغبةُ في فعل الطاعة مرةً أخرى.
ومن بركاته أن الله وملائكته يُصلُّون على المتسحرين([13]).
ومن بركاته أنه في وقتٍ تتنزلُ فيه الرحمات، وينزِلُ الربُّ جلَّ وعلا فيه، مناديًا عباده هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له؟
فما أسعدكَ يا عبدَ الله، يا من أطعت الله واستجبت لأمره، تأكل الأكلة، تكون لك فيها كل هذه البركة!!
6- القيام بين يدي الملك.
الصلاة هي قُرَّةُ عُيونِ المتقِينَ، وراحةُ قُلوبِ الموحِّدينَ، بِهَا تُزال الهموم، وتُبعثرُ الغُمومُ، وتُحطُّ الذنوبُ، حينَ يقِفُ العبدُ الحقيرُ بين يدي ربِّه وقْفةِ الذُّلِّ والانكسارِ والخُضوع، ساكنَ الجوارِح، حاضِرَ القلبِ، خاشِعَ البصرِ، يرجو رحمةَ ربِّه، ويحذرُ الآخرة.
قال بكْرُ الْمُزَنِي: مَنْ مِثْلُكَ يا ابنَ آدم؟! خُلِّيَ بينكَ وبين المحرابِ والماءِ، كُلَّما شِئت دخلْتَ على الله عزَّ وجل، ليس بينك وبينه تُرجُمَان([14]).
ما أجملها من لحظات، وما أطيبها من نفحات، وما أبركها من ساعات، تلك الساعة التي يُرفع فيها الحجابُ بينك أيها العبدُ الحقيرُ الفقيرُ، وبين الملك العظيم الغني الحميد.
ما أعظم تلكَ الساعةَ التي تُخاطِبُ فيها ربَّكَ، فيجيبُك، تقول: الحمد لله رب العالمين؛ فيقول الله: حَمِدَني عبدي، ثم تقول: الرحمنِ الرحيم، فيقول الله تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثم تقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فيقول الله تعالى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، أو فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، ثم تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فيقول الله تعالى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، ثم تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فيقول الله تعالى: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ([15]).
لا والله الذي لا إله غيره، ما في الدنيا لحظةٌ أعظمَ من هذه اللحظة، ولا ساعةٌ أطيبَ من هذه الساعة، حين يُناجِي العبدُ ربَّه، فيجيبُه ربه ويُكلِّمه، ويردُّ عليه، ويستجيبُ دعاءه.
أخرج أبو نعيم في الحِلية([16]) عن ثورِ بن يزيدٍ قال: قرأتُ في بعضِ الكتب أنَّ عيسى عليه الصلاةُ والسلامُ قال: يا معْشَرَ الحواريين، كَلِّمُوا الله كثيرًا، وكلِّمُوا الناس قليلاً. قالوا: كيف نُكلِّمُ الله كثيرًا؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه.
وصومُ رمضان قد قُرِن بالقيام، ولهذا شُرع فيه الاجتماع للصلاة النافلة، ما لم يُشرع في غيره؛ لتتقوى النفوسُ الضعيفةُ، ويسمعَ القرآنَ من لا يستطيع قراءتَهُ لوحْدِه.
صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه))([17])، أي تصديقًا بوعْدِ الله بالثوابِ عليه، وطلبًا للأجرِ، لا لقَصْدٍ آخرَ مِنْ رياءٍ ونحوِه.
فأيُّ نِعْمةٍ أجلُّ، وأيُّ عَطاءٍ أعظمُ من غُفرانِ الذُّنوب، وسَتْرِ العيوب؟!
7- ليلةٌ خير من ألف شهر!
عطاءُ ربِّنا لا ينفَدْ، وخزائنُه لا تَفنى، وجودُه لا ينقَطِعْ، ومن جودِه وكرمِه، هذه الليلةُ التي نَزلَ فيها القرآن، وتتنزلُ فيها الملائكة الكرام، وفيها يُفرَقُ كُلُّ أمرٍ حكيم، سلامٌ هي حتى مَطْلعِ الفجر، من فاز بها فقد حاز الخير كله، العملُ فيها خيرٌ من ألف شهر.
وقد صح عن النبي ‘ من حديث أبي هريرة أنه قال ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)).
ألا يكون محرومًا من حُرِم هذا الخير؟!
أيُّ غَبْنٍ أعظمُ من أن يُدرك أحدَنَا رمضانُ ثم يخرج ولا يُغفرُ له؟!
أيُّ خيبةٍ أعظمُ من تلك الخيبة؟!
الصوم يَغفِرُ ما تَقدَّمَ من الذُّنوبِ، والقيامُ يغفِرُ ما تقدَّم من الذنوبِ، وقيامُ ليلةٍ واحدةٍ يغفِر ما تقدَّم من الذُّنوب، فهل بعد هذا الخير من خير؟!
وهل بعدَ فتح هذا البابِ العظيمِ من أبوابِ الغُفْران وتكفيرِ السيئات من عُذْرٍ لمعتذر؟!
8- للصائم فرحتان؟!
بالصومِ يفرحُ المؤمنون حين تحينُ ساعةُ الإفطار، فيضعُ المؤمنُ التمرةَ في فيه لتُسكِتَ تلك الجوعةَ الثائرةَ في البطن، إنها لحظةٌ من لحظات التلذذ بالأكلِ، بعد مدةٍ من الامتناع عنه، والله يثيبُنا على ذلك، بل يعدُّه نبينا ‘ من الفرحِ المحمود، الذي يفرحُ به المؤمن، فما أعظم مِنَّة الله وفضلَه، حتى الأكلةُ التي ينتهي بها الصوم، وتختم بها العبادة، هي محبوبةٌ عند الله!!
نعم؛ لأن الصائم قد ترك شهواتِه في النهار تقربًا إلى الله، وطاعة له، وبادرَ إليها بالليل تقرُّبًا إلى الله، وطاعة له، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر به، فهو مطيعٌ في الحالين، مطيعٌ حين يُمسك، ومطيعٌ حين يأكل، ولهذا جاء في الأثر ((إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد))([18])، حيث تلتقي الطاعتان طاعةُ الإمساك وطاعةُ الأكل.
ثم الفرحةُ الثانيةُ العظيمة، حين يلقَى العبدُ ربَّه، في ذلك اليومِ العصيبِ، الذي تشيبُ لهوله الولدان؛ فيرى آثارَ الصيامِ ظاهرةً، وبركاتِه منتشرةً، فيُدخلُه الصيام من باب الريان، ويشفعُ له عند المليك الديان، فيفرح المؤمن بلقاءِ الله حين يرى عظيمَ الثواب، ووافر الجزاء، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} [سورة يونس 10/58].
9- لعلكم تتقون.
التقوى خيرُ الزادِ، وخيرُ اللباس، وصيةُ الله للأولين والآخرين، وهي العُدَّةُ في الشدائد، والعون في الملمات، ومهبطُ الروح والطمأنينة، ومتنزل الصبرِ والسكينة.
ورمضانُ شهرُ التقوى، وقد صرَّح الله بالحكمة من فرض الصيامِ بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} [سورة البقرة 2/183].
والتقوى هي: أن تعملَ بطاعةِ الله على نورٍ من الله ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله، وإنما تكون بالعلم النافع، والعمل والصالح.
فإذا خرجت من رمضان، وقد فزت بالتقوى، فبالله عليك ماذا بقي من الخير ما حُزته؟! ومن البركات ما حصلتها؟! ولن يهلك من كانت التقوى زادَه، والله جل وعلا يقول {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (72)} [سورة مريم 19/72]، ويقول {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17)} [سورة الليل 92/14-17].
أيها الإخوة، أما والله لو جلست أتحدث عن فضائل هذا الشهر وخيراته، وأسراره وبركاته، إلى بزوغ الفجر، ثم إلى مغيب شمسِ يومٍ آخر، ما وفيت فضائلَ الصومِ وشهرِه حقَّه، وكيف أوفي فضائلَ عملٍ أضافه الكريم إلى نفسه؟! وبركاتِ شهر نزل فيه أعظم حجج الله على خلقه؟ وفيه ليلة لا يماثلها ألف شهر؟!
والمحروم من حرم خيره، والسعيد من كفته الإشارة إلى فضله، ورضي بإضافة الجزاء إلى ربه، وشمر عن ساعد الجد لينجو بنفسه، ويزرع في يومه ما يلقاه غدًا في قبره، وبين يدي ربه.
اللهم إن في قلوبنا تفرقًا وشعثًا لا يَلمُّه إلا الإقبال عليك، وفي قلوبنا وحشةً لا يزيلها إلا الأنسُ بك في الخلوات، وفي قلوبنا حزَنًا لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفتك، وصدقُ معاملتك، وفي قلوبنا قلقًا لا يُسكِنُه إلا الاجتماعُ عليك، والفرارُ منك إليك، وفي قلوبنا نيرانَ حسراتٍ لا يطفئها إلا الرضا بأمرك ونهيك وقضائك، ومعانقةُ الصبر على ذلك إلى وقت لقائك، وفي قلوبنا فاقةً لا يسدُّها إلا محبتُك والإنابةُ إليك، ودوامُ ذكرك، وصدقُ الإخلاصِ لك، فاللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، حتى نلقاك بقلوب سليمة منيبة.
اللهم يا من عم جوده البر والفاجر، وفاض عطاؤه على المؤمن والكافر، ووسعت رحمته كل شيء، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، وقيوم السموات والأرض ومن فيهن، نسألك رحمة ترفع بها درجتنا، ومغفرة تمحو بها ذنوبنا، اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من عتقائك من النيران، فقد أسرتنا الذنوب، واستوحشت منا القلوب، واستولت علينا زخارف الدنيا، فشغلتنا عن الدار الآخرة.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد أن تنصر المستضعفين، وأن تدفع الكرب والضيق عن إخواننا المظلومين، وأن تشدد وطأتك على المعتدين الباغين، إنك أنت القوي العزيز.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم...
([1]) قال في القاموس: سنن الطريق: مثلثة، وبضمتين: نهجه وجهته.
([2]) كما ثبت في الحديث المتفق عليه.
([3]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([4]) رواه البخاري.
([5]) رواه البخاري.
([6]) متفق عليه.
([7]) كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت.
([8]) ورد عند سعيد بن منصور من طريق سهيل ابن أبي صالح عن أبيه ((فلا يرفث، ولا يجادل)).
([9]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وابن ماجه،
([10]) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور في الصوم.
([11]) متفق عليه.
([12]) متفق عليه.
([13]) رواه ابن حبان، والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني.
([14]) جامع العلوم والحكم (83).
([15]) ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة.
([16]) (2/229).
([17]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([18]) رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، والطبراني في الدعاء، قال في الزوائد: إسناده صحيح، وقال الحافظ ابن حجر: هذا حديث حسن، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير، وأخرجه الحاكم في المستدرك.
تعليق