الباب المفتوح
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فإن التوبة كما يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى : هي أول المنازل وأوسطها ، وآخرها ... وهي بداية العبد ونهايته ، حاجته إليها في النهاية ضرورية ، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك (155) ولهذا قال الله تعالى : (( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ))سورة النور (31) .
وهذا أمر الله من الله تعالى في كتابه المبين لكل مؤمن ومؤمنة على وجه الأرض أن يتوبوا مما اقترفوه وأن يتوجهوا إليه بالتوبة طلباً للفلاح والصلاح . والآيات الواردة في القرآن الكريم بشأن التوبة آيات كثيرة مستفيضة ، غير أن من أعجبها وأوسعها قول الله تعالى وهو يدعوا من أسرف في الذنب ، وبلغ الذروة في الغواية إلى هذه التوبة حين قال : (( قل يعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم )) الزمر (53) .
فهل بعد هذه الدعوة دعوة أوسع منها ؟ وهذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عرض التوبة في ثوب فسيح جداً لا يضيق إلا على محروم حين قال صلى الله عليه وسلم : ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة . فانفلتت منه . وعليها طعامه وشرابه . فأيس منها . فأتى شجرة . فاضطجع في ظلها . قد أيس من راحلته . فبينا هو كذلك إذ هو بها ، قائمة عنده . فأخذ بخطامها . ثم قال من شدة الفرح : اللهم ! أنت عبدي وأنا ربك . أخطأ من شدة الفرح )(156) . وفي حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب . فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً . فهل له من توبة ؟ فقال : لا . فقتله . فكمّل به مئة . ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على رجل عالم . فقال : إنه قتل مئة نفس . فهل له من توبة ؟ فقال : نعم . ومن يحول بينه وبين التوبة ؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ز فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم . ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء . فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت . فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله . وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط . فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم . فقال : قيسوا ما بين الأرضيين ز فإلى أيتهما كلن أدنى فهو له . فقاوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد . فقبضته ملائكة الرحمة )(157) . فلاإله إلا الله ما أعظم رحمة الله تعالى ! وما أشد عطفه على التائبين ! وما أوسع مغفرته ! اشتدت فرحته تعالى في الحديث الأول إلى أن وصل إلى مثل صورة الأعرابي الذي وجد راحلته فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك . ووصلت مغفرته في الحديث الثاني إلى أن تجاوز لرجل قتل بيده مئة نفس ، وأدخله الجنة رغم مخاصمة أهل النار فيه . فهل ياترى بقي لأي فرد على وجه الأرض من عذر في عدم تحقيق التوبة المرجوة ؟ إن الصائمين بالذات هم أحوج ما يكونون إلى فهم هذه المعالم في التوبة ، ولئن طاشت عين خائنة ، أو تلوّك لسان في عورات الآدميين ، أو تصنّنت أذن إلى محارم الله ، أو خطت قدم إلى أماكن مشبوهة ، أو امتدت يد إلى حفنة من الربا ، فإن هذه الفئات وإن تلوثت بهذه الجرائم إلاّ أن التوبة يمكن أن تغسلها ، وتطهّر أدرانها ، وتذهب بأذاها . فقط متى ما صدقت النية ، وصح الإقبال على الله تعالى. وحينئذ سيكون الفلاح عاقبته ، والفوز نجاته من ظلمات التيه والظلام . إن التوبة يمكن أن تستوعب أي ذنب مهما كانت سوأته ، شريطة أن يقر العبد بالخطيئة في جنب الله تعالى ، وأن يعترف بالتقصير ، وأن يجد في قلبه مس الذنب ، وحرارة المعصية ، ثم يعزم على مجاوزة هذه الخطيئة مهما كانت طلباً في رضى ربه ومولاه ، وحين يتحقق له ذلك فعليه أن يلوذ بجناب الله ، وأن يقبل على ربه ، ولن يجد حياة أسعد من حياة التائبين . اللهم وفقنا للتوبة قبل الموت . وفك آصارنا من أدران المعصية التي أحاطت بنا إنك أنت الغفور الرحيم . وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(155) جامع الآداب
(156) متفق عليه
(157) متفق عليه
تعليق