قيمة الزمن في حياة المسلم و شهر الإنفاق والآثار التي تعود على المنفق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فإن الوقت هو عمر الإنسان الحقيقي ، وهو مادة حياته . لذا أقسم الله تعالى به في أكثر من آية في كتابه العزيز فقال تعالى : (( والعصر )) وقال تعالى : (( والليل )) وقال تعالى : (( والضحى )) إلى آيات غير قليلة في هذا الشأن . وما هذا القسم إلا دليل على أهمية الزمان في حياة المسلم . وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر الإنسان إلى هذا الشأن كما قال صلى الله عليه وسلم : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )(73) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، ........ الحديث ))(74) . وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول : كل يوم ينشق فجره ينادي مناد ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني قبل أن أفوت . وكان يقول ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك . وهكذا كان عامة السلف رحمهم الله تعالى يدركون تماماً أن الأيام مراحل تقطع عمر الإنسان ، وتفني أيامه ولياليه ، وليت شعري من يدرك أن غروب شمس يوم من حياته إنما هي خطوة أقرب نحو الدار الآخرة ، وخطوة أبعد نحو البقاء في ظل هذه الحياة .وقد قال ابن القيّم رحمه الله تعالى : العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه ، ومدة سفره هو عمره الذي كتب له ، ثم جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره ، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر .....اهـ(75) وقال رحمه الله في موضع آخر : إذا أراد الله بالعبد خيراً : أعانه بالوقت ، وجعل وقته مساعداً له ,وإذا أراد به شراً جعل وقته عليه ، وناكده وقته ....(76) . وقال ابن رجب رحمه الله : السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات وتقرّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات ، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات ، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات . اهـ .
وكان الحسن رحمه الله يردد : ابن آدم ، اليوم ضيفك ، والضيف مرتحل يحمدك أويذمك ، كذلك ليلتك . وعن بكر المزني أنه قال : ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي : ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي ، ولا ليلة إلا تنادي : ابن آدم لعله لاليلة لك بعدي (77) . هكذا كان السلف رحمهم الله تعالى يعظمون زمانهم ، ويجهدون في استغلال يومهم وليلتهم ، ولو تأملت في حال كثير منا اليوم لرأيت عجباً في ضياع الأوقات فلكأنما يحرصون على قطع الزمان بهذه اللقاءات ويرون ذلك سبيلاً إلى تجاوز أيام الزمان ولياليه . وفي مثل هؤلاء يقول ابن القيّم رحمه الله تعالى : فأما ما تؤثره كثرة الخلطة : فامتلاء القلب من دخان أنفاس ابن آدم حتى يسودّ ويوجب له تشتتاً وتفرقاً ، وهماً وغماً وضعفاً ... إلى أن قال : وكم جلبت خُلطة الناس من نقمة ، ودفعت من نعمة ، وأنزلت من محنة ، وعطّلت من منحة ، وأحلّت من رزية ، وأوقعت في بلية ! وهل آفة الناس إلا الناس ؟ ! وهل كان على أبي طالب ـ عند الوفاة ـ أضر من قرناء السوء ؟! لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة تجلب له سعادة الأبد . اهـ
ورمضان أيها الصائمون من أشرف أيام الزمان ، اختصه الله تعالى بمزيد من الخير والطاعات فكان عوده على الإنسان من أعظم النعم ، وأسعد الأوقات ، فأي خسارة أعظم من فواته في لقاءات متكررة ، أو ألعاب فارغه ، أو حتى حال يصل ببعضنا إلى لقاءات في المقاهي ، وأمام شهوات تنتهك بها حرمات الله تعالى . إن بإمكان الواحد منا أن يستغل هذه الأيام في الطاعة ، فإن كان يمكن أن يقود ذاته إلى خير منن مثل : مرد معين من صلاة النافلة ، أو أذكار مقيدة أو مطلقة ، أو زيارات للأهل والأقارب والجيران ، أو تلاوة القرآن في كل ليلة فهذا يمكن أن يحصّل خيراً كثيراً ، وإن لم يمكن له ذلك فبإمكانه كذلك أن يستفيد من اللقاءات المتكررة فيجعل منها مدارسة للقرآن وتفسيره ، ، أو حتى الاستفادة من المسابقات العلمية والثقافية التي تعود على الإنسان بالنفع والفائدة . وليجتهد أن يكون له برنامج عمل خلال هذا الشهر الكريم يلتزمه في يومه فإذا ما قضاه وانتهى منه يمكن أن يكافأ نفسه ، بوقت راحة يزور فيه أحبابه وأصدقاؤه ، أو يتسلّى بشئ مباح حلال .
شهر الإنفاق
إن من أعظم الصور التي يحملها رمضان للأمة صورة من الألم والعطش يجد حرارتها ومس ألمها الصائم حينما يرى الماء والطعام أقرب ما يكون إلى يديه ، ومع كل ذلك يراها أبعد شيء إليه تحقيقاً لعبودية الله تعالى . إن هذه الصورة تنقل كل مسلم إلى صور الفقراء والمعوزين والأرامل والأيتام في أي بلد وأي قطر من أقطار الأمة الإسلامية ، ونحن نراهم يعيشون أنواعاً من الجوع والعطش ، وذلك نتيجة الفقر الذي أصابهم ويجدون حرّه وألمه . ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى تلبية هذه المشاعر ، وإرواء عطشها ، وسد رمق جوعها . فقد كان من دأب النبي صلى الله عليه وسلم في كل حياته أنه لايرد سائلاً ، ولا يمنع طالباً ، وإذا جاء رمضان زاده تحلياً بهذه الأخلاق ، ولذا جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس رضى الله عنهما : فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة .
أيها الصائمون : الصدقة برهان كثير من النفوس الصادقة الباذلة حين تتجاوز شهواتها إلى تعميق أثر الأخوة بمزيد من الإحسان . وخير ما يدفع إلى تمثّل هذه الفضائل تلك الآثار التي تحدثها الصدقة لأصحابها حين يبذلون . ومن هذه الآثار :
أولاً : علو شأنها ، ورفعة منزلة صاحبها :
ففي حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( وإن أحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مؤمن ، تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً ))(78)
1) وقايتها للمتصدق من البلايا والكروب :
فالصدقة لها أثر عجيب على المتصدق فقد تقيه من البلايا والكروب التي تحل بها وتكون بعد أمر الله تعالى سبباً في دفع هذه المصائب . قال صلى الله عليه وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء .(79) . وقال صلى الله عليه وسلم : (( داووا مرضاكم بالصدقة ))(80) . وقد سأل رجل ابن المبارك عن قرحة في ركبته لها سبع سنين وقد أعيت الأطباء فأمره بحفر بئر في محل يحتاج الناس فيه إلى الماء . وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر : أنه تقرّح وجه أبي عبد الله الحاكم قريباً من سنة ، فسأل أهل الخير الدعاء له فأكثروا من ذلك ثم تصدق على المسلمين بوضع سقاية بُنيت على باب داره وصب فيها الماء ، فشرب منها الناس فما مر عليه أسبوع إلا وظهر الشفاء وزالت تلك القروح وعاد وجهه أحسن ما كان . والأمر كما قال المناوي رحمه الله في كتابه فيض القدير : وقد جرّب ذلك الموفقون ـ التداوي بالصدقة فوجدوا الأدوية الروحانية تفعل مالا تفعله الأدوية الحسية ولا ينكر ذلك إلا من كثف حجابه . قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء ، ولو كانت من فاجر أو ظالم ، بل من كافر ، فإن الله تعالى يدفع عنه بها أنواعاً من البلاء ، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه .... وقال في موضع آخر : والسخي قريب من الله ـ تعالى ـ ومن خلقه ، ومن أهله ، وقريب من الجنة ، وبعيد من النار ، والبخيل بعيد من خلقه ، بعيد من الجنة ، قريب من النار ، فجود الرجل يحببه إلى أضداده ، وبخله يبغّضه إلى أولاده . اهـ (81)
ثانياً : اطفاؤها الخطايا وتكفيرها الذنوب
قال صلى الله عليه وسلم : (( تصدقوا ولو بتمرة ، فإنها تسُد من الجائع ، وتُطفيء الخطيئة ، كما يطفى الماء النار )) . قال ابن القيّم رحمه الله تعالى : وإذا كان الله تعالى قد غفر لمن سقى كلباً على شدة ظمئه ، فكيف بمن سقى العطاش وكسا العراة من المسلمين
2) أنه تبارك المال وتزيد في الرزق :
وفي الحديث القدسي : يابن آدم : أنفق أُنفق عليك .(82) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ما فتح رجل باب عطية بصدقة أو صلة إلا زاده الله بها كثرة . . وقوله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم يصبح فيه العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول احدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً .(83) . وقال صلى الله عليه وسلم : بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة : اسق حديقة فلان . فتنحّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرّة فإذا شرجه قد استوعبت ذلك الماء كله ، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوّل الماء بمسحاته فقال له : ياعبد الله ما اسمك ؟ قال : فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة . فقال له : ياعبد الله لم تسألني عن اسمي ؟ فقال : إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه ـ يقول : اسق حديقة فلان ـ لاسمك ـ فماذا تصنع فيها ؟ قال : أما إذا قلت هذا ؛ فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثه ، وأرد فيها ثلثه )) وفي رواية : (( واجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل )) .(84)
ورمضان اليوم فرصة عظيمة أيها الصائمون لبذل المال وإنفاقه في وجوه الخير ، وكم من يتيم يترقرق الدمع في عينيه ألا يجد من يواسيه ، وأرملة أقعدها الزمن ، وأطفال يعيشون ذل الفقر ، وذل المسألة ، وإخوان من المسلمين جاءوا لهذا البلد طلباً للرزق . ما أحرانا برعاية كل هذه الفئات ، والبذل لهم ، ولولم يتحقق للمتصدقين إلا بعض هذه الفضائل فقط لكان كافياً بالمرء أن يجهد لتحصيل ذلك بمزيد من الجود والعطاء . وفقكم الله إلى كل خير وجعلكم غوث إخوانكم المستضعفين في كل مكان وزمان .
(73) رواه البخاري
(74) رواه الترمذي وحسنه الألباني .
(75) طريق الهجرتين
(76) مدارج السالكين
(77) اللطائف
(78) رواه أبو الشيخ وحسنه الألباني.
(79) رواه الطبراني وحسنه الألباني .
(80) رواه أبو داود وصححه الألباني
(81) جامع الفقه
(82) متفق عليه
(83) متفق عليه
(84) رواه مسلم
تعليق