إنّ من فضل الله تعالى على أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم: أن جعل لها مواسِمَ للخيرات، تتهيّأ فيها النّفوس إلى عمل الصّالحات، وتُقبِل فيها القلوب على الله راجية أن تنال عفوه ورضاه.
ومن أعظم هذه المواسم: شهر رمضان المبارك، الّذي شرع الله لنا فيه الصّيام، وجعله لنا فرصةً لتغيير أخلاقنا، وسلوكنا، وتجديد علاقتنا بربّنا سبحانه.
ولا شكّ أن التّغيير نحوَ الأفضل مطلبُ كلّ مسلم، لكنّه لا يُنالُ بالتمنّي، بل بالسّعي إليه، ومجاهدة النّفس، ولزوم سنّة الله تعالى في التّغيير، وقد قال عزّ وجلّ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد:11].
فيا أيّها المسلم، إنّ شهرَ رمضان فرصةٌ مواتيةٌ للتّغيير، وإصلاح النفوس والقلوب، وتطهيرها من الآفات والعيوب، وكيف لا يكون فرصةً مواتية للإصلاح والتّغيير وكلُّ شيء في هذا الكون العظيم يتغيّر ؟! إذ تفتح فيه أبوابُ الجنّة، وتغلّق أبواب النّار، وتصفِّد الشياطين، وتنزل البركات والرّحمات والخيرات في كلّ ليلة من لياليه، وخاصّة ليلة القدر الّتي تتنزّل فيها ملائكة الرّحمن حتّى تملأ الدّنيا !؟
وهذا التّغيير قد أراده منّا ربّنا عزّ وجلّ؛ إذ قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فهو تغيير نحو تقوى الله عزّ وجلّ .. تغييرٌ لحال العبد الإيمانيّة نحوَ الأفضل، وفي أحواله العباديّة نحو المعالي.
و التّقوى: اسمٌ جامعٌ لمعانِيَ كثيرةٍ، جِماعُها: طاعة الرّحمن سبحانه، وخشيتُه في السرّ والعلن، وتفصيلُ معاني هذا التّغيير والتّجديد فيما يأتي:
1 - إنّ شهر رمضان شهرُ إصلاح القلوب:
إصلاحُها من أمراض الحسد، والحقد، والغشّ، والخيانة، والشّحناء والبغضاء، ومن التّهاجر، والتّقاطع، وعودتها إلى فطرتها الحقيقة؛ وقد جاء في الحديث: (( صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍيُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ )) [أخرجه البزار وصححه الألباني].
و( وَحَرُ الصَّدر ): غِشُّه، ووساوسُه، وقيل: الحقد والغيظ، وقيل: العداوة.
وإن لم يظهر منّا ذلك في أثناء الشّهر، فليظهرْ على الأقلّ في آخره، عندما يُهنِّئُ بعضُنا بعضاً بالعيد، ويعفو كلّ أحد عن أخيه، قال عزّ وجلّ:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّور:22].
2 - إن شهر رمضان شهر إصلاح الألسنة وتطهيرها:
لأنّه بالصّيام يَسْلَمُ اللّسانُ من قول الزّور، ويسلمُ من العمل به، ويسلمُ من اللّغو واللّعن والغِيبة والنّميمة، وكلِّ أنواع الباطل، قال صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِوَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) [رواه البخاري].
فالعبدُ المؤمن يتعوّد في هذا الشّهر الكريم - بفضل رقابته لله عزّ وجلّ - على أن لا يتكلّم إلا بخير، وإلاّ بما فيه صلاح، كما قال عزّوجلّ:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النّساء:114].
3 - إنّ شهر رمضان فرصةٌ للتخلّص من خلق الشحّ والبخل والأنانية:
وذلك أنّ الصّائم يُكثِر فيه من الصّدقات إقتداءً بالمصطفى صلّى الله عليه وسلّم، الّذي كان أجودَ النّاس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان، والمسلم الّذي لا يغرق في الملذّات في هذا الشّهر يجدُ نفسَه يشعر بجوع الجائعين وبؤس البائسين وحاجة المحتاجين، ويتجسّد فيه قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِإِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى )) [رواه مسلم].
4 - إنّ رمضان فرصةٌ لمن كان مفرطاً في صلاته: أو متهاونا في أدائها، وأن يواظب عليها في أوقاتها مع الجماعة في المسجد.
إذ لا يُعقَل أن يعتنِيَ العبدُ بالصّوم وهو مضيِّعٌ للصّلاة، وهي الرّكن الأوّل للإسلام، وهي أوّلُ ما يحاسَب عليه العبدُ يوم القيامة، فإذا صلَحت صلَح سائرُ عمله، وإذا فسدت فسد سائرُ عمله بما في ذلك الصّيام !
ولا يُعقَل أن يحرِص العبد على صلاة التّراويح الّتي هي نفلٌ، ثمّ بعد ذلك يُضَيِّع الفرائض الواجبات.
نعم، رمضانُ فرصةٌ لتصحيح العبادات وتجديد العهد مع الله، لكن مع الإخلاص، والعزم على الثّبات، والمداومة حتّى بعد رمضان وإلى الممات، قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
5 - إنّ شهر رمضان شهرُ تنميةِ العزيمة، وتقوية الإرادة:
لذلك هو فرصةٌ لمن يتعاطى الحرام، من خمرٍ أو دخان أو مخدّرات، أو أيّ عادة سيّئة أن يُقلع عنها؛ وذلك أنّه يجاهِدُ نفسَه حالَ صيامه مهما طال نهارُه، وربّما كافحَ نفسه شهرا كاملا، وذلك حجة بيِّنة يشهد بها على نفسه أنّه قادرٌ على ترك تلك المعاصي أو العادات السيئة.
وكم من إنسانٍ كان شهرُ رمضان نقطةَ تحوُّلٍ مهمّة في حياته، فترك هذه السّمومَ والشّرورَ، بل تغيّرت حياتُه كلّها، فصار من أهل الطاعة والاستقامة، ومن رُوّاد بيوت الله تعالى.
6 - وشهر رمضان هو شهر العودة إلى الحجاب بالنسبة لكثير من الفتيات المسلمات الطيبات:
وذلك أنّ الفتاة المسلمة العفيفة في هذا الشّهر المليءِ بالطّاعات والنّفحات الإيمانيّة، تصطحب مراقبة الله تعالى، وتستعظِمُ أنْ تَفْتِنَ الصّائمين، وترجعُ إلى رشدها، وتنيب إلى ربّها، فتستُرُ عورتَها، وتندِم على ما سلف من أيّامها، وإنّ شعورَها بعظيمِ ذنبها يجعلُها تسارع إلى ربّها، وتعزم على الثبات على لباس العفّة والحياء.
7 - إنّ شهر رمضان شهرٌ يرجع فيه النّاس إلى القرآن الكريم:
يرجعون إلى تلاوته، وتدبّر معانيه وقراءة تفسيره، ولا شكّ أنّ ذلك يدعو إلى تغيُّرٍ كبير في قلوب العباد وسلوكهم وإيمانهم، قال الله عزّ وجلّ:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
وهو أيضا شفاء ودواء كما قال سبحانه:{ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. وفي القرآن الدّعوة إلى كل الفضائل، وإصلاح النّفوس، وتجديد الحياة وِفْق منهج الله تعالى، ومن استجاب لدعوة القرآن ونداءات الرّحمن نال من الله الرّضوان، وأورثَه النّعيم في الجنان.
ورمضان كذلك فرصة للغافلين عن ذكر الله تعالى أن يُكثِروا من الذّكر آناءَ اللّيل وأطراف النّهار، لتَحْيا قلوبُهم، وتتجدّد أحوالُهم، وقد قال تعالى:{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41].
8 - شهر رمضان فرصة لمن تعوّد على حياة المترفين، ونشأ على حبّ الدَّعَة واللّين، أن يُغيِّر نَمَط عيشِه وحياتِه؛ فيأخذَ من رمضان درساً في تربية النّفس على المجاهدة والخشونة.
وإنّ رمضان بجوعه وعطشه فرصةٌ للتّدريب على البذاذة والصّبر والشّدة، ونحن مأمورون بهذا التّدريب؛ لأنّ أحوالَ الحياة قد تتبدّل، والنِّعمة قد تُسلَب، والابتلاءات قد تتوالَى.
فمن وجدَتْه ضعيفَ الجأش، قليلَ الحيلة والبأس، بطشَتْ به وزلزلته وكسرت همّته، ومن وجدته على الضدّ من ذلك، صبر وتحمّل وثبت، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( البَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ )) [رواه أحمد وابن ماجة، وصحّحه الألباني].
وكتب عمرُ بنُ الخطّاب إلى أمراء الأجناد أن:« اخْشَوْشِنُواوتَمَعْدَدُوا - أي العيش الخشن الذي تعرفه العرب -، وإيّاكُمْوالتَّنَعُّمَوَزَيَّالعَجَمِ !».
9 - إنّ شهر رمضان فرصة لتهذيب الشّهوة الحيوانية من أكل وشراب ووقاع:
وقد دلّنا على ذلك الحديث القدسيّ: (( يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي ))، وقولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )) [رواه البخاري].
10 -وهو فرصة لتعلّم ضبط النّفس وتربيتِها على الحِلْم والأناة، لمن كان قليل الصبر، سريع الغضب.
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ؛ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّيصَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ )) [متفق عليه].
وهذا عينُ التّدريب على الحِلم وكظْمِ الغيظ الّذي مدح المولى عزّ وجلّ أهلَه، وجعله من خصال المتّقين الّذين وعدهم جنّة عرضُها السّماوات والأرض فقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)} [آلعمران].
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحثّ على ضبط النّفس: (( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَالْغَضَبِ )) [متفق عليه].
أيّها المؤمنون، إنْ لم نتغيّر في رمضان فمتى نتغيّر؟ وإن لم نُجدِّد إيمانَنا فيه فمتى يتجدّد ؟ وإن لم نجتهد في إصلاح أحوالنا فيه فمتى يكون ذلك ؟
أيّها المؤمنون، إنّ شهر رمضان فرصةٌ ذهبيّة لمن أراد التّوبة النّصوح، وأراد تجديد العهد مع ربّه عزّ وجلّ، وكلّنا ذوو عيوب، وقد أحاطت بنا الذّنوب، وتغلغل حبّ الدّنيا في قلوبنا، فأصابها بالوهن، وأقْعدَها عن طلب المعالي، وخطفت المتع والشّهوات الأبصار، وجذبت الأنظار نحو المتاع الفاني، فيا مقلّب اللّيل والنّهار، الآخذ بالنّواصي والأبصار، اهدِنا وخُذْ بأيدينا، وارحم حالَنا، يا حليم يا غفّار.
ومن أعظم هذه المواسم: شهر رمضان المبارك، الّذي شرع الله لنا فيه الصّيام، وجعله لنا فرصةً لتغيير أخلاقنا، وسلوكنا، وتجديد علاقتنا بربّنا سبحانه.
ولا شكّ أن التّغيير نحوَ الأفضل مطلبُ كلّ مسلم، لكنّه لا يُنالُ بالتمنّي، بل بالسّعي إليه، ومجاهدة النّفس، ولزوم سنّة الله تعالى في التّغيير، وقد قال عزّ وجلّ:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد:11].
فيا أيّها المسلم، إنّ شهرَ رمضان فرصةٌ مواتيةٌ للتّغيير، وإصلاح النفوس والقلوب، وتطهيرها من الآفات والعيوب، وكيف لا يكون فرصةً مواتية للإصلاح والتّغيير وكلُّ شيء في هذا الكون العظيم يتغيّر ؟! إذ تفتح فيه أبوابُ الجنّة، وتغلّق أبواب النّار، وتصفِّد الشياطين، وتنزل البركات والرّحمات والخيرات في كلّ ليلة من لياليه، وخاصّة ليلة القدر الّتي تتنزّل فيها ملائكة الرّحمن حتّى تملأ الدّنيا !؟
وهذا التّغيير قد أراده منّا ربّنا عزّ وجلّ؛ إذ قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فهو تغيير نحو تقوى الله عزّ وجلّ .. تغييرٌ لحال العبد الإيمانيّة نحوَ الأفضل، وفي أحواله العباديّة نحو المعالي.
و التّقوى: اسمٌ جامعٌ لمعانِيَ كثيرةٍ، جِماعُها: طاعة الرّحمن سبحانه، وخشيتُه في السرّ والعلن، وتفصيلُ معاني هذا التّغيير والتّجديد فيما يأتي:
1 - إنّ شهر رمضان شهرُ إصلاح القلوب:
إصلاحُها من أمراض الحسد، والحقد، والغشّ، والخيانة، والشّحناء والبغضاء، ومن التّهاجر، والتّقاطع، وعودتها إلى فطرتها الحقيقة؛ وقد جاء في الحديث: (( صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍيُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ )) [أخرجه البزار وصححه الألباني].
و( وَحَرُ الصَّدر ): غِشُّه، ووساوسُه، وقيل: الحقد والغيظ، وقيل: العداوة.
وإن لم يظهر منّا ذلك في أثناء الشّهر، فليظهرْ على الأقلّ في آخره، عندما يُهنِّئُ بعضُنا بعضاً بالعيد، ويعفو كلّ أحد عن أخيه، قال عزّ وجلّ:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّور:22].
2 - إن شهر رمضان شهر إصلاح الألسنة وتطهيرها:
لأنّه بالصّيام يَسْلَمُ اللّسانُ من قول الزّور، ويسلمُ من العمل به، ويسلمُ من اللّغو واللّعن والغِيبة والنّميمة، وكلِّ أنواع الباطل، قال صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِوَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) [رواه البخاري].
فالعبدُ المؤمن يتعوّد في هذا الشّهر الكريم - بفضل رقابته لله عزّ وجلّ - على أن لا يتكلّم إلا بخير، وإلاّ بما فيه صلاح، كما قال عزّوجلّ:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النّساء:114].
3 - إنّ شهر رمضان فرصةٌ للتخلّص من خلق الشحّ والبخل والأنانية:
وذلك أنّ الصّائم يُكثِر فيه من الصّدقات إقتداءً بالمصطفى صلّى الله عليه وسلّم، الّذي كان أجودَ النّاس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان، والمسلم الّذي لا يغرق في الملذّات في هذا الشّهر يجدُ نفسَه يشعر بجوع الجائعين وبؤس البائسين وحاجة المحتاجين، ويتجسّد فيه قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِإِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى )) [رواه مسلم].
4 - إنّ رمضان فرصةٌ لمن كان مفرطاً في صلاته: أو متهاونا في أدائها، وأن يواظب عليها في أوقاتها مع الجماعة في المسجد.
إذ لا يُعقَل أن يعتنِيَ العبدُ بالصّوم وهو مضيِّعٌ للصّلاة، وهي الرّكن الأوّل للإسلام، وهي أوّلُ ما يحاسَب عليه العبدُ يوم القيامة، فإذا صلَحت صلَح سائرُ عمله، وإذا فسدت فسد سائرُ عمله بما في ذلك الصّيام !
ولا يُعقَل أن يحرِص العبد على صلاة التّراويح الّتي هي نفلٌ، ثمّ بعد ذلك يُضَيِّع الفرائض الواجبات.
نعم، رمضانُ فرصةٌ لتصحيح العبادات وتجديد العهد مع الله، لكن مع الإخلاص، والعزم على الثّبات، والمداومة حتّى بعد رمضان وإلى الممات، قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
5 - إنّ شهر رمضان شهرُ تنميةِ العزيمة، وتقوية الإرادة:
لذلك هو فرصةٌ لمن يتعاطى الحرام، من خمرٍ أو دخان أو مخدّرات، أو أيّ عادة سيّئة أن يُقلع عنها؛ وذلك أنّه يجاهِدُ نفسَه حالَ صيامه مهما طال نهارُه، وربّما كافحَ نفسه شهرا كاملا، وذلك حجة بيِّنة يشهد بها على نفسه أنّه قادرٌ على ترك تلك المعاصي أو العادات السيئة.
وكم من إنسانٍ كان شهرُ رمضان نقطةَ تحوُّلٍ مهمّة في حياته، فترك هذه السّمومَ والشّرورَ، بل تغيّرت حياتُه كلّها، فصار من أهل الطاعة والاستقامة، ومن رُوّاد بيوت الله تعالى.
6 - وشهر رمضان هو شهر العودة إلى الحجاب بالنسبة لكثير من الفتيات المسلمات الطيبات:
وذلك أنّ الفتاة المسلمة العفيفة في هذا الشّهر المليءِ بالطّاعات والنّفحات الإيمانيّة، تصطحب مراقبة الله تعالى، وتستعظِمُ أنْ تَفْتِنَ الصّائمين، وترجعُ إلى رشدها، وتنيب إلى ربّها، فتستُرُ عورتَها، وتندِم على ما سلف من أيّامها، وإنّ شعورَها بعظيمِ ذنبها يجعلُها تسارع إلى ربّها، وتعزم على الثبات على لباس العفّة والحياء.
7 - إنّ شهر رمضان شهرٌ يرجع فيه النّاس إلى القرآن الكريم:
يرجعون إلى تلاوته، وتدبّر معانيه وقراءة تفسيره، ولا شكّ أنّ ذلك يدعو إلى تغيُّرٍ كبير في قلوب العباد وسلوكهم وإيمانهم، قال الله عزّ وجلّ:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].
وهو أيضا شفاء ودواء كما قال سبحانه:{ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. وفي القرآن الدّعوة إلى كل الفضائل، وإصلاح النّفوس، وتجديد الحياة وِفْق منهج الله تعالى، ومن استجاب لدعوة القرآن ونداءات الرّحمن نال من الله الرّضوان، وأورثَه النّعيم في الجنان.
ورمضان كذلك فرصة للغافلين عن ذكر الله تعالى أن يُكثِروا من الذّكر آناءَ اللّيل وأطراف النّهار، لتَحْيا قلوبُهم، وتتجدّد أحوالُهم، وقد قال تعالى:{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41].
8 - شهر رمضان فرصة لمن تعوّد على حياة المترفين، ونشأ على حبّ الدَّعَة واللّين، أن يُغيِّر نَمَط عيشِه وحياتِه؛ فيأخذَ من رمضان درساً في تربية النّفس على المجاهدة والخشونة.
وإنّ رمضان بجوعه وعطشه فرصةٌ للتّدريب على البذاذة والصّبر والشّدة، ونحن مأمورون بهذا التّدريب؛ لأنّ أحوالَ الحياة قد تتبدّل، والنِّعمة قد تُسلَب، والابتلاءات قد تتوالَى.
فمن وجدَتْه ضعيفَ الجأش، قليلَ الحيلة والبأس، بطشَتْ به وزلزلته وكسرت همّته، ومن وجدته على الضدّ من ذلك، صبر وتحمّل وثبت، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( البَذَاذَةُ مِنَ الإِيمَانِ )) [رواه أحمد وابن ماجة، وصحّحه الألباني].
وكتب عمرُ بنُ الخطّاب إلى أمراء الأجناد أن:« اخْشَوْشِنُواوتَمَعْدَدُوا - أي العيش الخشن الذي تعرفه العرب -، وإيّاكُمْوالتَّنَعُّمَوَزَيَّالعَجَمِ !».
9 - إنّ شهر رمضان فرصة لتهذيب الشّهوة الحيوانية من أكل وشراب ووقاع:
وقد دلّنا على ذلك الحديث القدسيّ: (( يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي ))، وقولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ )) [رواه البخاري].
10 -وهو فرصة لتعلّم ضبط النّفس وتربيتِها على الحِلْم والأناة، لمن كان قليل الصبر، سريع الغضب.
قال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ؛ فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّيصَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ )) [متفق عليه].
وهذا عينُ التّدريب على الحِلم وكظْمِ الغيظ الّذي مدح المولى عزّ وجلّ أهلَه، وجعله من خصال المتّقين الّذين وعدهم جنّة عرضُها السّماوات والأرض فقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)} [آلعمران].
وقال صلّى الله عليه وسلّم في الحثّ على ضبط النّفس: (( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَالْغَضَبِ )) [متفق عليه].
أيّها المؤمنون، إنْ لم نتغيّر في رمضان فمتى نتغيّر؟ وإن لم نُجدِّد إيمانَنا فيه فمتى يتجدّد ؟ وإن لم نجتهد في إصلاح أحوالنا فيه فمتى يكون ذلك ؟
أيّها المؤمنون، إنّ شهر رمضان فرصةٌ ذهبيّة لمن أراد التّوبة النّصوح، وأراد تجديد العهد مع ربّه عزّ وجلّ، وكلّنا ذوو عيوب، وقد أحاطت بنا الذّنوب، وتغلغل حبّ الدّنيا في قلوبنا، فأصابها بالوهن، وأقْعدَها عن طلب المعالي، وخطفت المتع والشّهوات الأبصار، وجذبت الأنظار نحو المتاع الفاني، فيا مقلّب اللّيل والنّهار، الآخذ بالنّواصي والأبصار، اهدِنا وخُذْ بأيدينا، وارحم حالَنا، يا حليم يا غفّار.