إن رمضان أيها الصائمون من أعظم الفرص لتحقيق هذه التقوى لعلكم تتقون (1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) سورة البقرة (183) ، فهذه الغاية التي أشار إليها القرآن الكريم من فرضية الصيام غاية عظيمة ، ومقصد نبيل إذا لا يمكن تتصل القلوب بخالقها الاتصال الأمثل إلا من خلال هذا الطريق ، طريق التقوى . والمتأمل في القرآن الكريم يجد حشداً كبيراً من النصوص لتأصيل هذا الجانب في النفس الإنسانية . فقد جاءت الوصية بالتقوى لعموم الناس كما في قول الله تعالى : ((يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيباً )) سورة النساء (1) ، وجاءت الوصية بها للمؤمنين خاصة قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) سورة آل عمران (102) ، وجاءت الوصية بها لرسوله وخليله ومصطفاه حين قال الله تعالى : (( يا أيها النبي اتق الله .. الآية )) سورة الأحزاب (1)
وقد جاء تفسير التقوى عن جمع من السلف رحمهم الله تعالى فهذا علي رضي الله عنه قال : التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل . وقال طلق بن حبيب رحمه الله : هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخاف عذاب الله . وجمعها آخرون فقالو: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه . ومن أجمل ما دونته سيرة عمر بن عبد العزيز تلك الوصية التي كتب بها إلى أحد رجال ذلك الزمان فقال : أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لايقبل غيرها ، ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها ؛ فإن الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل ، جعلنا الله وإياك من المتقين . وصدق رحمه الله تعالى في كون الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل . فإن هذا أوضح ما يكون في مثل هذا الزمان . وإلا فهي أعظم عاصم عن الفتنة ، وأقوى حجاباً عن المعصية ، وهي ستار واق بين العبد وبين الرذائل من الأقوال والأفعال ، وما سكنت قلب إلا ازدادت طمأنينته ، وعظم خوفه ، وقرب من ربه ، وراج ذكره بين الناس . قال بن رجب رحمه الله تعالى : ومن صار له هذا المقام حالاً دائماً أو غالباً ـ يعني التقوى ـ فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم . وفي الجملة فتقوى الله في السر هي علامة كمال الإيمان ، ولها تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين . قال أبو الدرداء : ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر ، يخلو بمعاصي الله ، فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين . وقال سليمان التيمي : إن الرجل ليصيب الذنب في السر ، فيصبح وعليه مذلته . وقال غيره : إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله تعالى ، ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه ، وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق المجازي بذرّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة ، ولا يضيع عنده عمل عامل ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار ، فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله تعالى ، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله تعالى أصلح الله ما بينه وبين الخلق ، ومن التمس محامد الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاماً له . ومن أعجب ما روي في هذا ما روي عن أبي جعفر السائح ؛ قال : كان حبيب أبو محمد تاجراً يكري الدراهم ، فمر ذات يوم بصبيان ، فإذا هم يلعبون ، فقال بعضهم لبعض : قد جاء آكل الربا . فنكّس رأسه وقال : يارب ! أفشيت سري إلى الصبيان . فرجع ، فجمع ماله كله ، وقال : يارب إني أسير ، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا المال فأعتقني ، فلما أصبح تصدق بالمال كله ، وأخذ في العبادة ، ثم مر بأولئك الصبيان ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض : اسكتوا ، فقد جاء حبيب العابد . فبكى وقال : يارب أنت تذم مرة وتحمد مرّه وكله من عندك .(10)
أطلق الأرواح من أصفادها *** في بهيج من رياض الأتقياء
غادياتٍ رائحاتٍ كالسّنا *** سابحات بسن آفاق الضياء
إنها ياشر ظمأى فاسقها *** مشتهاها من ينابيع الصفا
شهوة الأجساد قد ألقت *** بها في قفار ، ليس فيها من رَوَاء
ماغذاء الجسم في ألوانه *** فيه للأرواح شيء من حِباء
إنما الأرواح تحيا بالذي *** في صيام الجسم تُزجيه السماء
إن رمضان أيها الصائمون من أعظم الفرص لتحقيق هذه التقوى ، وعلينا أن ندرك أن الذنب مهما صغُر في عين مرتكبه إنما يخرم سياج هذه التقوى ، فيحرم الإنسان كمالها ، وحين تستمر الخطيئة يتسع الخرق فتضيع هذه التقوى بالكلية من القلب ، وحين يكون ذلك عافانا الله وإياكم يعيش الإنسان أشبه شيء بالأنعام . وفقنا الله وإياكم لتحقيق هذه التقوى ، وجعلنا ممن يخشاه في السر والعلن . وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(3)
لعلكم تتقون (2)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فإن العبد الصالح متى ماالتزم العبادة ، وتمسّك بها قرُب من ربه تبارك وتعالى ، ولا زال سائراً في طريق العبودية حتى يصل لدرجة الولاية التي أخبر الله تعالى عنها في الحديث القدسي بقوله : (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) . (11) والعبادة جزء من ركن التقوى العظيم الذي هو : امتثال أمر الله تعالى ، والصائم أحق من بحث عن سر الولاية بينه وبين الله تعالى ، ومتى ما وجده فرح به وسُر ، وجدّ في الإقبال عليه والتمسك به ، والصلاة صلة بين العبد وربه ، وحبل متين في تحصيل هذه الولاية ، وما رأيت مسلماً محافظاً على هذه الصلاة إلا رجوت له الخير في عاجل أمره وآجله ، والأمثلة الحية التي نراها اليوم لمثل هؤلاء هي أصدق شاهد على ما نقول . وحين يحافظ المسلم الصائم على هذه الفريضة ، بتحصيل أركانها ، وواجباتها ، وشروطها ، ويقيمها القيام الأمثل وفق ما جاءت بالسنة حينها إنما يتعرّض لنفحات ربه ، وكرم مولاه ، وفضل خالقه الذي جاء في أحاديث متكاثرة في الفرض والنافلة ففي الفريضة يقول صلى الله عليه وسلم فيما يريه عن ربه تبارك وتعالى : (( وما تقرّب إلى عبدي بأحب مما افترضته عليه )) .(12)
وفي حديث أنس ابن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من صلى لله أربعين يوماً بدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق . )) (13) وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه ، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته .(14) وقال صلى الله عليه وسلم : (( من صلى الصبح فهو في ذمة الله ... الحديث ) .(15) وقال صلى الله عليه وسلم : (( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ))(16)
وفي باب النافلة يقول صلى الله عليه وسلم :: (( ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة ، أو بُني له بيت في الجنة ))(17) . وعنها رضى الله عنها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر ، وأربع بعدها ، حرّمه الله على النار )) (18) وعن ابن عمر رضى الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً )) (19) . وعن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب )) ثم قال في الثالثة : لمن شاء .(20) . وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة : فبكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ))(21) . ومن أعظم النوافل في هذا الشهر الكريم : قيام الليل ، قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يتنزل في ثلث الليل الآخر من كل ليلة فيقول : هل من سائل فأعطيه ، هل من داع فأستجيب له ....... وذلك في كل ليلة . )) .(22) وحين تغيب عنا هذه الفضائل التي تحققها الصلاة في حياة الواحد منا ، يمكن أن نستشهد على فضلها بما قاله ابن القيّم رحمه الله تعالى حين قال : الصلاة مجلبة للرزق ، حافظة للصحة ، دافعة للأذى ، مطردة للأدواء ، مقوّية للقلب ، مبيّضة للوجه ، مفرحة للنفس ، مذهبة للكسل ، منشّطة للجوارح ، ممدة للقوى ، شارحة للصدر ، منورة للقلب ، حافظة للنعمة ، دافعة للنقمة ، جالبة للبركة ، مبعدة من الشيطان ، مقرّبة من الرحمن ... وبالجملة فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ، ودفع المواد الرديئة عنها ، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء ، أو محنة أو بلية ، إلا كان حظ المصلي منهما أقل ، وعاقبته أسلم ، وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا ، ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً ، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ، ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة ؛ وسر ذلك أن الصلاة صلة بالله ـ عز وجل ـ وعلى قدر صلة العبد بربه تُفتح عليه من الخيرات أبوابها ، وتقطع عنه من الشرور اسبابها ، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه ـ عز وجل ـ والعافية والصحة والغنيمة والغنى والراحة والنعيم والأفراح والمسرات كلها محضرة لديه ومسارعة إليه .(23)
جعلنا الله وإياكم من أهل الصلاة المحافظين عليها .
(10) جامع العلوم والحكم .
(11) رواه البخاري
(12) رواه البخاري
(13) رواه الترمذي وحسنه الألباني
(14) رواه ابن خزيمة وصححه الألباني .
(15) رواه الترمذي وصححه الألباني .
(16) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني
(17) رواه مسلم
(18) رواه الخمسة
(19) رواه أبو داود
(20) رواه البخاري
(21) متفق عليه
(22) متفق عليه
(23) جامع الفقه (3)
تعليق