بسم الله الرحمن الرحيم
ربانيون لا رمضانيون
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام.. وجعله مطهراً لنفوسهم من الذنوب والآثام..
الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام ..والساعات والأيام .. وفاوت بينها في الفضل والإكرام .. وربك يخلق ما يشاء ويختار ..
أحمده سبحانه .. فهو العليم الخبير ..الذي يعلم أعمال العباد ويجري عليهم المقادير ..
لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كل شيء قدير ..
في السماء ملكه .. وفي الأرض عظمته .. وفي البحر قدرته ..
خلق الخلق بعلمه .. فقدر لهم أقداراً .. وضرب لهم آجالاً ..
خلقهم .. فأحصاهم عدداً .. وكتب جميع أعمالهم فلم يغادر منهم أحداً .. وأصلي وأسلم على أفضل من صلى وصام ..
ووقف بالمشاعر وطاف بالبيت الحرام ..
صلى الله وسلم وبارك عليه ..ما ذكره الذاكرون الأبرار .. وصلى الله وسلم وبارك عليه ..ما تعاقب الليل والنهار ..
ونسأل الله أن يجعلنا من خيار أمته .. وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته ..
* * * * * * * *
أما بعد .. أيها الصائمون والصائمات ..
ما أشبه الليلة بالبارحة .. هذه الأيام تمر سريعة وكأنها لحظات ..
لقد استقبلنا رمضان الماضي .. ثم ودعناه .. وما هي إلا أشهر مرت كساعات .. فإذا بنا نستقبل شهراً آخر ..
وكم عرفنا أقواماً .. أدركوا معنا رمضان أعواماً ..
وهم اليوم من سكان القبور .. ينتظرون البعث والنشور ..
وربما يكون رمضان هذا لبعضنا آخر رمضان يصومه ..
إن إدراكنا لرمضان .. نعمة ربانية .. ومنحة إلهية ..
فهو بشرى .. تساقطت لها الدمعات .. وانسكبت العبرات ..
{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } ..
وروى النسائي والبيهقي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ \" ..
وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة ) ..
* * * * * * * *
نعم..كم من قلوب تمنت..ونفوس حنت..أن تبلغ هذه الساعات ..
شهرٌ .. تضاعف فيه الحسنات .. وتكفر السيئات ..
وتُقال فيه العثرات .. وترفع الدرجات ..
تفتح فيه الجنان .. وتغلق النيران .. وتصفد فيه الشياطين ..
شهرٌ جعل فيه من الأعمال جليلُها .. ومن الأجور عظيمُها ..
روى الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : \" إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ \" ..
* * * * * * * *
نعم .. شهر رمضان ..
هو شهر الخير والبركات .. والفتوح والانتصارات .. فما عرف التاريخ غزوةَ بدر وحطين .. ولا فتحَ مكة والأندلس .. إلا في رمضان ..
لذا كان الصالحون يعدون إدراك رمضان من أكبر النعم ..
قال المعلى بن الفضل : كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان !!
وقال يحيى بن أبي كثير : كان من دعائهم : اللم سلمني إلى رمضان .. وسلِّم لي رمضان .. وتسلَّمه مني متقبلاً ..
نعم .. كان رمضان يدخل عليهم .. وهم ينتظرونه .. ويترقبونه ..
يتهيئون له بالصلاة والصيام .. والصدقة والقيام ..
أسهروا له ليلهم .. وأظمئوا نهارهم .. فهو أيام مَّعْدُوداتٍ .. فاغتنموها ..
لو تأملت حالهم .. لوجدتهم .. بين باك غُلب بعبرته .. وقائم غص بزفرته .. وساجدٍ يتباكى بدعوته ..
كان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله :
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ..
كانوا .. ربانيين .. لا رمضانيين .. هم في صيام وقيام .. في رمضان وغير رمضان ..
باع رجل من الصالحين جارية لأحد الناس .. فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان الطعام ..
فقالت الجارية : لماذا تصنعون ذلك ؟
قالوا : لاستقبال الصيام في شهر رمضان .. فقالت : وأنتم لا تصومون إلا في رمضان ؟!
والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان .. لا حاجة لي فيكم .. ردوني إليهم .. ورجعت إلى سيدها الأول ..
* * * * * * * *
كانوا يدركون الحكمة من شرعية الصيام ..
فالصوم لم يشرعْ عبثاً ..
نعم .. ليستْ القضية ..قضية ترك طعام !! أو شراب ..كلا ..
القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير .. شرع لكي يعلمَ الإنسان ..أن له رباً ..يشرعُ الصومَ متى شاء ..ويبيحُ الفطرَ متى شاء !! يحكم ما يشاء ويختار .. فيخشاه ويتقيه ..
{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } نعم { لعلكم تتقون } ..
والتقوى خشيةٌ مستمرة ..
خـل الـذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك الـتقى
واصنع كماش فوق أرض … الشوك يحذر ما يرى
لا تـحـقـرن صـغيرةً .. إن الجبالَ من الحصى
التقوى هي الخوفُ من الجليل ..والعملُ بالتنزيلُ ..والقناعةُ بالقليل ..والاستعدادُ ليوم الرحيل ..
ومن حقق التقوى شعر بأن حياته كلَّها .. ملك لله تعالى .. يفعل بها ما يشاء .. فهو يصلي وقت الصلاة .. ويصوم وقت الصوم ..
ويجاهد في الجهاد .. ويتصدق مع المتصدقين ..
فليس لنفسه منه حظ ولا نصيب .. بل حياته كلها وقف لله تعالى ..
* * * * * * * *
جعفر بن أبي طالب .. ابن عم رسـول الله صلى الله عليه وسلم أخو علي بن أبي طالب .. أسلم هو وزوجته أسماء مبكرين .. لم يتجاوز عمره الواحد والعشرين سنة .. وأصابه من الأذى والاضطهاد في مكة .. مالا يحتمل ..
فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشـة ..
خرج جعفر وزوجـه إلى الحبشة .. إلى أرض الغرباء البعداء ..
خرج وهو الشريف في قومه .. إلى أرض الغرباء البعداء ..
إلى أرض لا يعرفها .. وقبائل لا يألفها .. ولغة لا يفهمها ..
لبث في الحبشة ثلاث سنين .. ثم أشيع عندهم أن قريشاً قد أسلموا .. فعاد بزوجته وولده .. فإذا قريش على كفرها .. فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة .. عاد إلى الحبشة .. وأكمل فيها سبع سنوات ..
فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إلى المسلمين في الحبشة ليقدموا إلى المدينة .. فلما دخلوا المدينة .. فرح النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر فرحاً شديداً ..
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه قبله بين عينيه والتزمه وقال :( ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر ، أم بقدوم جعفر !) ..
وكان جعفر شديد الشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم .. حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ..
ما كاد جعفر يستقر في المدينة .. حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم يجمعون الجيوش لغزو المسلمين ..
فجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً لقتال الروم في مؤتة ..
وأمَّر عليهم زيد بن حارثة .. وقال لهم :
إن أصيب زيد فجعفر .. على الناس فإن أصيب جعفر ..
فعبدالله بن رواحة .. فتجهز الناس وهم ثلاثة آلاف مقاتل ..
ثم ودعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وصل المسلمون إلى مؤتة .. فإذا الروم مائة ألف مقاتل ..
فابتدأ القتال ..فأخذ الراية زيد فأصيب فقتل ..
ثم أخذها جعفر بيمينه .. وقاتل بها حتى إذا اشتد القتال ..
رمى بنفسه عن فرسه .. وهو يقول :
يا حبذا الجنة واقترابها 00طيبة وبــارداً شرابها
والروم روم قد دنا عذابها 00 كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
ولا زال يضربهم بسيفه .. والراية في بيمينه .. فضربه رومي على يمينه .. فقطعت .. فأخذ الراية بشماله فقطعت .. فاحتضنها بعضديه حتى قتل .. وهو ابن ثلاثين سنة ..
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : رأيت جعفر صريعاً .. وفي جسده أكثر من تسعين ضربة ما بين طعنة وضربة ورمية .. والله ما فيها واحدة في قفاه ..
ثم أخذ الراية عبد الله بنُ رواحة .. فأصيب فقتل ..
ثم أخذها خالد بن الوليد .. فانسحب بالجيش ..
* * * * * * * *
هذا خبر المجاهدين في مؤتة .. أما خبر المدينة فيحكيه أنس رضي الله عنه فيقول : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم رقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر .. فقال :
ألا أنبئكم بخبر جيشكم هذا الغازي .. قلنا : بلى ..
قال : أخذ الراية زيد فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه ..
قال : ثم أخذ الراية جعفر فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه ..
قال : ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة .. فأصيب فقتل فاستغفروا له .. قالوا : اللهم اغفر له وارحمه .. ثم استعبر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ..
وبعدها .. ذهب إلى بيت جعفر ..
قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر :
كنت قد غسّلت أولادي .. ونظفتهم ودهنتهم ..
وعجنت عجيني .. ننتظر قدوم جعفر ..
فاستأذن علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل .. فقال : ادعي لي بني أخي ..
قالت : فأتيته بهم كأنهم أفراخ ..
فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أقبلوا يتسابقون إليه .. يتعلقون به ويقبلونه .. يظنونه أباهم جعفر ..
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رؤوسهم ويبكي .. ويمسح رؤوسهم ويبكي .. فقالت أسماء : يا رسول الله .. أبلغك عن جعفر شيء ؟
فسكت .. قالت : يا رسول الله .. أبلغك عن جعفر شيء ؟
قال : قتل جعفر .. قالت : يا رسول الله .. يتم بنيه .. يتم بنيه ..
قال : آلعيلة تخافين عليهم ..!! أنا وليهم في الدنيا والآخرة ..
ثم خـرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( على مثل جعفر فلتبكِ البواكي ) ..
ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال :( اصنعوا لآلَ جعفر طعاماً فإنهم أتاهم ما يشغلهم .. ) .. نعم .. قتل جعفر .. وفارق أهله وماله ..
لكنه دخل جنة عرضها السماوات والأرض ..
قال صلى الله عليه وسلم : رأيت جعفر في الجنة .. له جناحان مضرجان بالدماء .. يطير بهما مع الملائكة ..
* * * * * * * *
نعم .. هذه حقيقة التقوى !! أن تطيع الله بكل جوارحك ..
فهل يكون متقياً .. من يصوم بطنه عن الطعام .. ولا تصوم عينه عن النظر الحرام ..
ولا سمعه عن السماع الحرام .. ولا يصوم لسانه عن الآثام ..
هل يكون متقياً .. من يجمع الثواب في النهار ..
ثم يحرق ذلك في الليل .. بأغنية ماجنة .. ورقصة فاتنة .. يزينها له شياطين الإنس .. نعم .. يزينها له شياطين الإنس ..
صفدت شياطين الجن فتحركت شياطين الإنس ..
بل إن شياطين الإنس لم يكتفوا بليل الصائمين ..وإنما أشغلوا نهارهم .. أصبحت جموع من الصائمين .. تتسمر أمام الشاشات في النهار والليل .. واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط ..
ولا يستشعرون أنهم وقعوا في الحرام ..
عجباً .. هل ينكر أحد منا حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية ..
أو حرمة الغناء وآلات الطرب ..
أو حرمة النظر إلى ألعاب السحر والشعوذة ..
بل تعرض على الناس برامج .. إذا تأملت فيمن أنتجها وصاغها ..
بل وكتب حواراتها ..
وجدتهم ليسوا من العلماء المتقين .. ولا المصلحين الناصحين ..
وإنما أكثرهم من الفساق .. وشراب الخمور .. وأصحاب الشهوات المسعورة .. يحاربون الله ورسوله .. ويكسبون الأموال ..
* * * * * * * *
لقد تبلدت أحاسيس بعض الناس .. حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا إلى رجل يحتضن بنتاً شابة ..لأنه يمثل دور أبيها .. أو يضطجع بجانبها على فراش واحد لأنه يمثل دور زوجها ..
صرنا نأخذ الأمر بعفوية بريئة ..
صرنا لا ننكر ظهور المرأة حاسرة متكشفة ..
تعودنا .. مناظر احتساء الخمور .. والتدخين .. والسرقات .. والقتل .. والسباب .. تقبلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل ..
أي تقوى تحققها هذه البرامج ..إنها والله تقضي على البقية الباقية من الإيمان .. بل إنها تتبع ما تبقى في القلب من تقوى وتزيلها
تعليق