دعوة للحب
فالحب عاطفة كريمة، وشعور راق نبيل يُميز الكائنات العاقلة؛ وهو أنواع كثيرة تشمل كل العلاقات الطيبة -مع كل شيء-: مع الله -تعالى-، ومع رسله، ومع الإنسان على تنوع علاقتك به.
وما أعظم النعم التي أعطاك الله... الحياة نعمة، والمال نعمة، والصحة نعمة، والأسرة نعمة، والأصدقاء نعمة... كل هذه النعم مِنْ الله، ومِنْ الله -تعالى- وحده الذي خلقك ورزقك، لو منعها الله منك ما استطاعت قوة في الأرض أن تعيدها إليك.
تأمل في حال كل محروم مما منحك الله من النعم... كثيرون هم؛ ومع ذلك فأنت ترفل في هذه النعم وتتقلب فيها ليلاً ونهارًا، أعطاك الله هذا كله وأكثر منه مما لا تشعر به والذي ربما عندما تحرم منه تدرك قيمته؛ قال الله -تعالى-: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:34)، فالواجب عليك بعد تذكرك لهذه النعم أن يمتلئ قلبك محبة لله وإجلالاً.
ومع ذلك فالحب الحقيقي لله يشمل أيضًا محبتك لخلق الله -تعالى- من حولك مثل: الوالدين، والأبناء، والأزواج، وذوي الأرحام والأقارب والأصدقاء، والجيران والمجتمع؛ بل ومع كل مسلم فهم من خلق الله -تعالى-، وهم من جعل محبتهم من فطرة الله.
نشتاق إن بعدنا عنهم ونهنأ بالقرب منهم؛ ونحزن لحزنهم ونفرح لفرحهم، ونشاطرهم حياتهم بحلوها ومرها...
وهنا يجب أن نحب في الجميع الخصال الطيبة، ونتغاضى وننصح في الخصال الذميمة؛ فالمحب الحقيقي هو الذي يدرك عيوب محبوبه ولا يعميه الهوى عن تقويمه إن احتاج؛ ومع الأسف فقد اختزل البعض الحب في الغزل والتشبيب وإثارة الشهوات المحرمة!
ولقد خرجوا به عن كل الحدود وتخطوا به كل الحواجز فلا حل ولا حرمة، ولا خشية ولا مروءة، ولا عفاف ولا تأدب؛ بل انفرط العقد عندهم، فهم يحبون بلا قيود ولا تعقل، بل وبلا حقيقة؛ فهم يحبون المرأة في شبابها وجمالها وينسونها في شيبها وضعفها، وكذا المرأة تحب الرجل في غناه وشبابه وقوته، وتنساه في ضعفه وفقره ومرضه!
إنه حب مختزل في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ وحتى مع هذا فهو ناقص بسبب تلك الانتقائية في اختيار أفضل حالات الجنس الآخر -دون غيرها- ليتم بذلك الحب المزعوم! ولو صدقوا لاستمر ذلك الحب ودام.
وكما أُمِرنا أن نحب الناس فإننا أُمِرنا أن نقتصد في حبنا للبشر بحيث لا يخرج عن حد الاعتدال الذي هو صفة العقلاء وعنوان المؤمنين؛ كما ثبت عن علي -رضي الله عنه- ورواه البعض مرفوعًا: "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا"، أي: أحِب باعتدال ودون إسراف لا كما يطلق عليه البعض: الحب بجنون، أو الحب الأعمى، أو العبادة -والعياذ بالله تعالى-!
قَالَ الْمَنَاوِيُّ -رحمه الله- فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: "إِذْ رُبَّمَا اِنْقَلَبَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالأَحْوَالِ بُغْضًا فَلا تَكُونُ قَدْ أَسْرَفْت فِي حُبِّهِ فَتَنْدَمَ عَلَيْهِ إِذَا أَبْغَضْته، أَوْ حُبًّا فَلا تَكُونُ قَدْ أَسْرَفْت فِي بُغْضِهِ فَتَسْتَحْيِيَ مِنْهُ إِذَا أَحْبَبْته".
ولذلك قال الشاعر:
لا والله، بل حبب إليه ما يقربه من ربه، ولقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنساء خيرًا، وأخبر أن إيذائهن ليس من فعل الأخيار؛ فحب النساء ليس عيبًا في ذاته، بل فيما يجر إليه إن لم يضبطه العاقل الحصيف، وكذا بقية ما يحبه الإنسان من الأموال والنفائس والجماليات لا يخرج عن حد الاعتدال، ولا تتعلق به القلوب.
أن تكون محبوبًا:
من نعم الله -تعالى- على الإنسان أن يكون محبوبًا فيشعر بالسعادة والاطمئنان؛ فالإنسان خلق ضعيفًا يحب أن يعضد وجوده بالشعور بحب الآخرين له والتفافهم حوله، فنحن نعلم أن الحياة بين إقبال وإدبار، وبين قوة وضعف؛ والمحب بحق هو الذي يُقبل على حبيبه ويكون معه في جميع أحواله، ويعينه على تقلبات الدنيا وشدائدها ويقف بجواره في محنها، ويكون عضدًا له في فرحها، وهذا أعظم فرق بين نوع محبة الإنسان وبين محبة الله -تعالى- التي لا يعتريها هذا النقص وتلك الحاجة، ومتى رسخت المحبة الحقيقية وعمقت جذورها كان الله هو الغاية، وآثره المرء على كل شيء وضحى من أجله بكل شيء؛ لأنه يجد من حلاوة الإيمان ولذة اليقين، وحسن الصلة بالله ما تصغر، بل تحقر جميع اللذائذ في جانبها.
روى البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ).
وحبَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحب، وكان يتضرع إلى الله -تعالى- ويسأله أن يهبه هذا الحب؛ فمما حفظ من دعائه: (أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
ورابط خفي بين أن يحبك الله -تعالى- ويحبك الناس، فالناس خلق الله -تعالى- وأحب الخلق إلى الله -تعالى- أنفعهم لخلقه؛ فكلما نفعتَ الخلق أحبك الخالق.
وهنا عن هذه المسألة يسأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى أبو العباس سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ) (رواه ابن ماجه والطبراني، وصححه الألباني).
ومن مظاهر حبك لله محبتك للرسول -صلوات الله وسلامه عليه-؛ إذ أنه حامل الوحي ومبلغ الرسالة، وقائد الخلق إلى الحق، والهادي إلى الصراط المستقيم؛ صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (متفق عليه).
وعن عبد الله بن هشام قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري).
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- معلقًا على الحديث: "وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب؛ فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبًا فوق ما يتصور، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانًا أنه طوّع مشاعره وراض نفسه، وخفَّض من غلوائه في حب ذاته، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعًا لا يملك انفعاله معه؛ فإن ملكه كمن في مشاعره وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها، ولكنه يصعب عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرًا لها، أو عيبًا لشيء من خصائصها أو نقدًا لسمة من سماتها، أو تنقصًا لصفة من صفاتها" انتهى.
وقد قُتِل أبو امرأة من الأنصار، وأخوها، وزوجها يوم أحد فأخبروها بذلك. فقالت: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
قالوا: هو كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظره؛ فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك صغيرة!
ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة -وكانوا قد أسروه- ليقتلوه؛ قال له أبو سفيان: أنشدك الله -أي سألتك به- يا زيد... أتحب أن محمدًا الآن مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟!
فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني لجالس في أهلي!
فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من الناس يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا!
دعوة للحب:
دعني أذكر لك بعض الدرر العظيمة التي جاء بها الإسلام للبشرية؛ لتكتشف جوانب السمو فيما يدعو إليه الإسلام، ولتعلم أن ديننا يدعوك لأن تُحِب... ! تحب ربك وتحب غيرك.
ولذلك دعني أيضًا أذكر لك ما ورد في القرآن مما يبين رحمة الله الواسعة:
قال الله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:156).
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ). قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)
( متفق عليــه ) .
وهذه الرحمة نجدها واضحة جلية في كل ما حولنا من أشياء، من: طعام وشراب، وهواء وماء، وأناس وعلاقات، ومن تشريع رحيم فيه العذر: للمريض، والضعيف، والمكره، وفيه مضاعفة للحسنات وغفران للسيئات، وقبول للتوبة، ومواسم لمضاعفة الأجر، ثم في جنة عرضها السموات والأرض ينالها الإنسان -وهي سلعة غالية- بعمل قليل وجهد يسير لا يتناسب مع ما فيها من نعيم وخلود؛ كل ذلك يدعونا لنحب ربنا فهيا نتأمل في بعض نعمه مما في كتابه -سبحانه وتعالى-.
ففي جانب تعامل الله مع خلقه وحبه لهم يبشرنا الله بقوله -تعالى-: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء:147)، وفيها أن الله يحب من الناس أن يؤمنوا به ويشكروه؛ فإن فعلوا أكرمهم وبارك لهم، فالله -تعالى- يريد بنا كل خير، ولتطلع على رحمته بك وحبه لك تأمل مثلاً في الآيات: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء:26)، (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:185).
لقد أيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الجذوة وأشعلها في قلوب أصحابه -رضي الله عنهم-؛ فأحبوا الله أكثر من: أنفسهم، وآبائهم، وأُمهاتهم، ومن الماء البارد على الظمأ، ورضوا أن يبذلوا نفوسهم ومهجهم وهم فرحون مستبشرون، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
وانعكس ذلك على أفعالهم كلها وعلى بذلهم لدين الله -تعالى- الغالي والنفيس من الأموال والأنفس، وهل ثمة علامة على كمال الحب أكبر من الجود بالنفس من أجل الحبيب؟!
تعالوا بنا نتأمل في بعض مواقفهم...
- لما لم يشهد أنس بن النضر -رضي الله عنه- "يوم بدر" شق ذلك عليه، وقال: لئن أراني الله -تعالى- مشهدًا فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرين الله -عز وجل- ما أصنع، فشهد مع رسول الله "يوم أحد" فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واهًا لريح الجنة إني أجده دون أحد. ثم قاتل حتى قتل، ووجد في جسده بضع وثمانون: ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه!
- وهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- كان بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولما نوَّر الله -تعالى- قلبه بالإيمان، وامتلأ قلبه بحب الرحمن؛ ترك ذلك كله حتى يُروى أنه كان لم يكن يجد من الثياب إلا إهاب كبش يتمنطق به!
إنَّ حب الله -تعالى- قد شغلهم عن أنفسهم؛ فاسترخصوا كل نفيس، واستصغروا كل متاع، وهانت عليهم أنفسهم في الله -تعالى-؛ فأكرمهم الله بمحبته وبالبذل الذي به يستحقون القرب منه.
كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فالحب عاطفة كريمة، وشعور راق نبيل يُميز الكائنات العاقلة؛ وهو أنواع كثيرة تشمل كل العلاقات الطيبة -مع كل شيء-: مع الله -تعالى-، ومع رسله، ومع الإنسان على تنوع علاقتك به.
وما أعظم النعم التي أعطاك الله... الحياة نعمة، والمال نعمة، والصحة نعمة، والأسرة نعمة، والأصدقاء نعمة... كل هذه النعم مِنْ الله، ومِنْ الله -تعالى- وحده الذي خلقك ورزقك، لو منعها الله منك ما استطاعت قوة في الأرض أن تعيدها إليك.
تأمل في حال كل محروم مما منحك الله من النعم... كثيرون هم؛ ومع ذلك فأنت ترفل في هذه النعم وتتقلب فيها ليلاً ونهارًا، أعطاك الله هذا كله وأكثر منه مما لا تشعر به والذي ربما عندما تحرم منه تدرك قيمته؛ قال الله -تعالى-: (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم:34)، فالواجب عليك بعد تذكرك لهذه النعم أن يمتلئ قلبك محبة لله وإجلالاً.
ومع ذلك فالحب الحقيقي لله يشمل أيضًا محبتك لخلق الله -تعالى- من حولك مثل: الوالدين، والأبناء، والأزواج، وذوي الأرحام والأقارب والأصدقاء، والجيران والمجتمع؛ بل ومع كل مسلم فهم من خلق الله -تعالى-، وهم من جعل محبتهم من فطرة الله.
نشتاق إن بعدنا عنهم ونهنأ بالقرب منهم؛ ونحزن لحزنهم ونفرح لفرحهم، ونشاطرهم حياتهم بحلوها ومرها...
وهنا يجب أن نحب في الجميع الخصال الطيبة، ونتغاضى وننصح في الخصال الذميمة؛ فالمحب الحقيقي هو الذي يدرك عيوب محبوبه ولا يعميه الهوى عن تقويمه إن احتاج؛ ومع الأسف فقد اختزل البعض الحب في الغزل والتشبيب وإثارة الشهوات المحرمة!
ولقد خرجوا به عن كل الحدود وتخطوا به كل الحواجز فلا حل ولا حرمة، ولا خشية ولا مروءة، ولا عفاف ولا تأدب؛ بل انفرط العقد عندهم، فهم يحبون بلا قيود ولا تعقل، بل وبلا حقيقة؛ فهم يحبون المرأة في شبابها وجمالها وينسونها في شيبها وضعفها، وكذا المرأة تحب الرجل في غناه وشبابه وقوته، وتنساه في ضعفه وفقره ومرضه!
إنه حب مختزل في العلاقة بين الرجل والمرأة؛ وحتى مع هذا فهو ناقص بسبب تلك الانتقائية في اختيار أفضل حالات الجنس الآخر -دون غيرها- ليتم بذلك الحب المزعوم! ولو صدقوا لاستمر ذلك الحب ودام.
وكما أُمِرنا أن نحب الناس فإننا أُمِرنا أن نقتصد في حبنا للبشر بحيث لا يخرج عن حد الاعتدال الذي هو صفة العقلاء وعنوان المؤمنين؛ كما ثبت عن علي -رضي الله عنه- ورواه البعض مرفوعًا: "أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا"، أي: أحِب باعتدال ودون إسراف لا كما يطلق عليه البعض: الحب بجنون، أو الحب الأعمى، أو العبادة -والعياذ بالله تعالى-!
قَالَ الْمَنَاوِيُّ -رحمه الله- فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: "إِذْ رُبَّمَا اِنْقَلَبَ ذَلِكَ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالأَحْوَالِ بُغْضًا فَلا تَكُونُ قَدْ أَسْرَفْت فِي حُبِّهِ فَتَنْدَمَ عَلَيْهِ إِذَا أَبْغَضْته، أَوْ حُبًّا فَلا تَكُونُ قَدْ أَسْرَفْت فِي بُغْضِهِ فَتَسْتَحْيِيَ مِنْهُ إِذَا أَحْبَبْته".
ولذلك قال الشاعر:
فَهَوْنُك في حب وبغض فربما بدا صاحبٌ من جانبٍ بعد جانبِ
ومع هذا فالإسلام لا يقف حائلاً دون محبة المحبوبات، وإنما يهذب تلك المشاعر ويضبط تلك الشهوات؛ فلا تخرج من إطارها الشرعي فتنفلت إلى الوقوع في المحرمات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حُبِّبَ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، فذكر النساء.. أترى حُبب إليه ما يبعده عن ربه؟!لا والله، بل حبب إليه ما يقربه من ربه، ولقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنساء خيرًا، وأخبر أن إيذائهن ليس من فعل الأخيار؛ فحب النساء ليس عيبًا في ذاته، بل فيما يجر إليه إن لم يضبطه العاقل الحصيف، وكذا بقية ما يحبه الإنسان من الأموال والنفائس والجماليات لا يخرج عن حد الاعتدال، ولا تتعلق به القلوب.
أن تكون محبوبًا:
من نعم الله -تعالى- على الإنسان أن يكون محبوبًا فيشعر بالسعادة والاطمئنان؛ فالإنسان خلق ضعيفًا يحب أن يعضد وجوده بالشعور بحب الآخرين له والتفافهم حوله، فنحن نعلم أن الحياة بين إقبال وإدبار، وبين قوة وضعف؛ والمحب بحق هو الذي يُقبل على حبيبه ويكون معه في جميع أحواله، ويعينه على تقلبات الدنيا وشدائدها ويقف بجواره في محنها، ويكون عضدًا له في فرحها، وهذا أعظم فرق بين نوع محبة الإنسان وبين محبة الله -تعالى- التي لا يعتريها هذا النقص وتلك الحاجة، ومتى رسخت المحبة الحقيقية وعمقت جذورها كان الله هو الغاية، وآثره المرء على كل شيء وضحى من أجله بكل شيء؛ لأنه يجد من حلاوة الإيمان ولذة اليقين، وحسن الصلة بالله ما تصغر، بل تحقر جميع اللذائذ في جانبها.
روى البخاري ومسلم عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: (ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ).
وحبَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحب، وكان يتضرع إلى الله -تعالى- ويسأله أن يهبه هذا الحب؛ فمما حفظ من دعائه: (أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
ورابط خفي بين أن يحبك الله -تعالى- ويحبك الناس، فالناس خلق الله -تعالى- وأحب الخلق إلى الله -تعالى- أنفعهم لخلقه؛ فكلما نفعتَ الخلق أحبك الخالق.
وهنا عن هذه المسألة يسأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روى أبو العباس سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ) (رواه ابن ماجه والطبراني، وصححه الألباني).
ومن مظاهر حبك لله محبتك للرسول -صلوات الله وسلامه عليه-؛ إذ أنه حامل الوحي ومبلغ الرسالة، وقائد الخلق إلى الحق، والهادي إلى الصراط المستقيم؛ صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.
عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (متفق عليه).
وعن عبد الله بن هشام قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ). فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (الآنَ يَا عُمَرُ) (رواه البخاري).
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- معلقًا على الحديث: "وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب؛ فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبًا فوق ما يتصور، وفوق ما يدرك! وإنه ليخيل إليه أحيانًا أنه طوّع مشاعره وراض نفسه، وخفَّض من غلوائه في حب ذاته، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى! ويحس لهذه المسة لذعًا لا يملك انفعاله معه؛ فإن ملكه كمن في مشاعره وغار في أعماقه! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها، ولكنه يصعب عليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرًا لها، أو عيبًا لشيء من خصائصها أو نقدًا لسمة من سماتها، أو تنقصًا لصفة من صفاتها" انتهى.
وقد قُتِل أبو امرأة من الأنصار، وأخوها، وزوجها يوم أحد فأخبروها بذلك. فقالت: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
قالوا: هو كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظره؛ فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك صغيرة!
ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة -وكانوا قد أسروه- ليقتلوه؛ قال له أبو سفيان: أنشدك الله -أي سألتك به- يا زيد... أتحب أن محمدًا الآن مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟!
فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني لجالس في أهلي!
فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من الناس يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا!
دعوة للحب:
دعني أذكر لك بعض الدرر العظيمة التي جاء بها الإسلام للبشرية؛ لتكتشف جوانب السمو فيما يدعو إليه الإسلام، ولتعلم أن ديننا يدعوك لأن تُحِب... ! تحب ربك وتحب غيرك.
ولذلك دعني أيضًا أذكر لك ما ورد في القرآن مما يبين رحمة الله الواسعة:
قال الله -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:156).
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْي فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ). قُلْنَا: لاَ وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)
( متفق عليــه ) .
وهذه الرحمة نجدها واضحة جلية في كل ما حولنا من أشياء، من: طعام وشراب، وهواء وماء، وأناس وعلاقات، ومن تشريع رحيم فيه العذر: للمريض، والضعيف، والمكره، وفيه مضاعفة للحسنات وغفران للسيئات، وقبول للتوبة، ومواسم لمضاعفة الأجر، ثم في جنة عرضها السموات والأرض ينالها الإنسان -وهي سلعة غالية- بعمل قليل وجهد يسير لا يتناسب مع ما فيها من نعيم وخلود؛ كل ذلك يدعونا لنحب ربنا فهيا نتأمل في بعض نعمه مما في كتابه -سبحانه وتعالى-.
ففي جانب تعامل الله مع خلقه وحبه لهم يبشرنا الله بقوله -تعالى-: (مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء:147)، وفيها أن الله يحب من الناس أن يؤمنوا به ويشكروه؛ فإن فعلوا أكرمهم وبارك لهم، فالله -تعالى- يريد بنا كل خير، ولتطلع على رحمته بك وحبه لك تأمل مثلاً في الآيات: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء:26)، (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة:185).
لقد أيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الجذوة وأشعلها في قلوب أصحابه -رضي الله عنهم-؛ فأحبوا الله أكثر من: أنفسهم، وآبائهم، وأُمهاتهم، ومن الماء البارد على الظمأ، ورضوا أن يبذلوا نفوسهم ومهجهم وهم فرحون مستبشرون، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
وانعكس ذلك على أفعالهم كلها وعلى بذلهم لدين الله -تعالى- الغالي والنفيس من الأموال والأنفس، وهل ثمة علامة على كمال الحب أكبر من الجود بالنفس من أجل الحبيب؟!
تعالوا بنا نتأمل في بعض مواقفهم...
- لما لم يشهد أنس بن النضر -رضي الله عنه- "يوم بدر" شق ذلك عليه، وقال: لئن أراني الله -تعالى- مشهدًا فيما بعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرين الله -عز وجل- ما أصنع، فشهد مع رسول الله "يوم أحد" فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واهًا لريح الجنة إني أجده دون أحد. ثم قاتل حتى قتل، ووجد في جسده بضع وثمانون: ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح، ورمية سهم ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه!
- وهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه- كان بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولما نوَّر الله -تعالى- قلبه بالإيمان، وامتلأ قلبه بحب الرحمن؛ ترك ذلك كله حتى يُروى أنه كان لم يكن يجد من الثياب إلا إهاب كبش يتمنطق به!
إنَّ حب الله -تعالى- قد شغلهم عن أنفسهم؛ فاسترخصوا كل نفيس، واستصغروا كل متاع، وهانت عليهم أنفسهم في الله -تعالى-؛ فأكرمهم الله بمحبته وبالبذل الذي به يستحقون القرب منه.