إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له،
ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فقد كان مِن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يعفو عن الإساءة، ويغفر الزلَّة، ويتحمل جفاء الجفاة؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌّ فجبذ بردائه جبذةً شديدة، قال أنس - رضي الله عنه -: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثَّرتْ بها حاشيةُ الرداء؛ من شدة جبذته، ثم قال: يا محمدُ، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أَمَر له بعطاء"؛ (رواه البخاري: 6088، ومسلم: 1057).
فتأمَّلوا حال هذا الأعرابيِّ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتفِ بتنبيهه بالكلام؛ بل جبذ بردائه جبذة شديدة، أثَّرت في صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ناداه باسمه كما ينادي بعضَ أولاده، وقد أَمَر الله أن يشرَّف ويعظَّم ويُدعَى باسم النبوة والرسالة، وهو مع ذلك كله لم يتلطَّف في طلب مسألته؛ بل قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فلسانُ حاله: الفضل والمنة لله لا لك، ومع ذلك الجفاء في القول والفعل يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه، ويأمر له بالعطاء، فهذه صورة من صور: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حَسَنَ المعاملة مع الخصوم، فيدفع بالتي هي أحسن، ويعفو عن الإساءة؛ فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار على قطيفة فَدَكِيَّةٍ، وأردف أسامةَ بنَ زيد وراءه، يَعُود سعدَ بن عبادة - رضي الله عنه - في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مرَّ بمجلسٍ فيه عبدالله بن أُبيِّ بن سلول، وذلك قبل أن يُسلم عبدالله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيتِ المجلسَ عَجَاجَةُ الدابة خَمَّر عبدالله بنُ أُبيٍّ أنفَه بردائه، ثم قال: لا تُغبِّروا علينا، فسلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبدالله بن أبي بن سلول: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا، فلا تؤذِنَا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك، فمَن جاءك فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغْشَنا به في مجالسنا، فإنَّا نحبُّ ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُمْ حتى سكنوا، ثم ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - دابتَه، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة - رضي الله عنه - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا سعدُ، ألم تسمع ما قال أبو حباب - يريد عبدَالله بنَ أبي - قال كذا وكذا))، قال سعد بن عبادة - رضي الله عنه -: يا رسول الله، اعْفُ عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتابَ، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَةِ على أن يتوِّجوه فَيُعَصِّبُوهُ بالعصابة، فلما أبى اللهُ ذلك بالحق الذي أعطاك الله، شَرِقَ بذلك، فذلك فَعَل به ما رأيت، فعفا عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم"؛ (رواه البخاري: 4566، ومسلم: 1798).
فيُعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ أعداء الإسلام باللِّين، ويكنيه بأحبِّ الكُنَى إليه، بأبي الحباب؛ مداراةًَ له، واستمالة لقلبه، ويعفو عنه ويصفح، أين نحن من هذا الخُلق النبوي في تعاملنا مع إخواننا وأحبابنا، حينما نختلف في أمر من الأمور الدينية، من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، من الأمور الاجتهادية، أو الأمور الدنيوية البحتة، المبنية على النظر المحض، أو التجارِب الشخصية؟
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حليمًا مع خصومه، مع يقظته لما يحيكونه ضده، مما لا يرضي من القول والعمل؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان اليهود يسلِّمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: السام عليك، ففطنت عائشة - رضي الله عنها - إلى قولهم، فقالت: "عليكم السام واللعنة"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله))، فقالت: "يا نبي الله، أولم تسمع ما يقولون؟!"، قال: ((أولم تسمعي أني أرد ذلك عليهم، فأقول: وعليكم؟!))؛ (رواه البخاري: 6395، ومسلم: 2165)، فردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إساءتَهم، ودعا عليهم بالموت، من باب رد الاعتداء بالمثل، من غير خروج عن حد الاعتدال، فملك نفسَه، وصان لسانه عن السب والشتم لهؤلاء المعتدين.
فمَلَك النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك شغافَ قلوب أعدائه؛ بحُسن خلقه، ولطيف معاملته، حتى دعاهم هذا الخُلقُ العظيم إلى قبول الحق، والدخول في الإسلام، أو كف الشر عن المسلمين في كثير من الأحيان، وهذه مقاصدُ عظيمةٌ للشارع؛ فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: قاتَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُحَارِبَ خَصَفَةَ (أي غزوة ذَاتِ الرِّقَاعِ) بنخل، فرأَوْا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرَث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، فقال: مَن يمنعك مني؟ قال: ((الله))، قال: فسقط السيف مِن يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((مَن يمنعك؟))، قال: كن خيرَ آخذٍ، قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟))، قال: أعاهدك على ألاَّ أقاتلَك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلَه، فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس"؛ رواه الحاكم (3/ 29)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، وأصل الحديث في "الصحيحين".
فلم يكن يثأر لنفسه أو يغضب لها؛ بل كان يعفو ويصفح في حقوقه، أما في حقوق الخالق، فكان يغضب ويثأر إذا انتُهكت محارم الله، فعفوه وغضبه - صلى الله عليه وسلم - لله، فهذا أعلى مراتب الكمال في العبودية.
فهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعامله مع الناس، المداراةُ لا المداهنة، فالمداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم؛ فالمداري يتلطف بالشخص، حتى يستخرج منه الحقَّ، أو يردَّه عن الباطل، والمداهن يتلطف بالشخص ولا يريد أن يكدره، حتى لو أدى ذلك إلى إقراره على باطله، وتركه على هواه.
إن الواحد منا لا يخلو ممن يخالفه الرأيَ، ويختلف معه في بعض الأمور، وهذه من المواطن التي يَفرح الشيطان بها؛ ليؤجج فيها العداوةَ بين المؤمنين، فَهَمُّه التحريشُ بينهم، وبث العداوة والبغضاء بينهم، حينما أَيِسَ من إغوائهم؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الشيطان قد أيس أن يَعبدَه المصلُّون في جزيرة العرب، ولكنْ في التحريش بينهم))؛ رواه مسلم (2812)، ولنا في كتاب ربنا - عز وجل - وسنة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - الدواءُ الناجع لعلاج هذا التحريش.
فمِن ذلك قولُ ربنا - عز وجل -: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، فحين تحصل إساءةٌ ممن نتعامل معهم، ندفع بالتي هي أحسن، فنقابل الإساءةَ بالإحسان، والعبوسَ بالابتسامة، والإعراضَ بالسلام والتحية.
أخي: حين يأتي الشيطان ليوغر صدرك على أخيك المسلم، ويوسوس لك، ويذكِّرك بقوله فيك، وإساءته في حقك، وربما تجاوز الأمر إلى تفسير أقواله وتصرفاته، وحَمْلها على أسوأ المحامل، فإذا استجبتَ له زادت العداوة، وتمكَّن منك عدوُّك، فكُن منه على حذر، وعامِلْه بنقيض قصده، فأعلِنْ لعدوِّك مسامحتَك لأخيك، وعفوَك عنه؛ بل راغم عدوَّك، وادعُ لأخيك في سجودك، واعلم أن الأمر ثقيل على النفس في البداية، لكن عاقبته جنة معجلة في الدنيا قبل الآخرة، من راحة بال، وسرور، وصفاء نفس، وطهارة قلب، ولذة طاعة، وحلاوة إيمان.
اعلم - أخي: أن المسألة تحتاج إلى صبر في المدافعة بالتي هي أحسن؛ تَعَبُّدًا لله، فقد تطول المدة، ويوسوس لك الشيطان بأنه سيزداد في غيِّه وعداوته، أو ربما ظن أنك ضعيف، أو خائف منه، أو محتاج إليه، أو غير ذلك من الشُّبه التي يلقيها إليك الشيطانُ، لكن تذكَّرْ قولَ اللطيف الخبير: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، فلا يفعل ذلك الضعيفُ؛ بل شخصٌ قوي الإرادة، ملَك نفسَه، وقهر شيطانَه، شخص حكم الله - عز وجل - له بأنه محظوظ وافر السعادة في الدنيا والآخرة.
أخي: إذا اتَّقَيْتَ الله في مَن لم يَتَّقِِ الله فيك، وصبرتَ على أذاه، ولم تتعدَّ حدودَ الله في مَن عاداك وأساء إليك - كانت لك العاقبة في الدنيا والآخرة، تذكَّر قصةَ يوسف الصدِّيق - صلى الله عليه وسلم - وما مرَّ به من ابتلاءاتٍ في الشدة والرخاء، وصبرَ واتَّقى ولم يتجاوز حدودَ ربه، فآثره الله على مَن كاد له، وكانت العاقبة له: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، والأمر ليس خاصًّا بالصدِّيق: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}، فهذا عام في كل مَن يتقي ويصبر.
م/ن