فوجئت بـ "عبد الرحمن" الفتي البالغ من العمر خامسة عشرة عاماً، يتواصل معي الكترونياً، واضعاً صورته شعارا لغرفة "دردشته" ثم أستبدلها سريعاً بصورة لعلم "أزرق يحمل ستة أنجم" قائلا بنبرة فخر واعتزاز: الق نظرة علي علم بلادي .. علم الجمهورية". أنه ثالث ثلاثة أخوة لأب يسمي"شعبان" يحمل في سوق مدينة "بريزرنPrizern " الكوسوفية. الفتي " عبد الرحمن" منتظم في مدرسته، يجيد اللغة العربية، وكما ذكر لي له حظ وافر من حفظ كتاب الله، القرآن الكريم. لكنه ذكرني ـ وأعاد خواطر/ وشجون/ وأعذار كانت قد نشأت بمتابعة مشكلة هذه"الجمهورية الوليدة".. جمهورية "كوسوفا" المستقلة منذ 17 فبراير 2008م.
جمهورية كوسوفا Republika e Kosovës، فلذة كبد الألبان، هي ( كوسوفا ) بالألبانية، أو قوصوة أو قوصوه.. الاسم العربي التاريخي لإقليم كوسوفا سابقًا، أما الاسم الصربي له فكان (كوسوفو ).
كانت محط خلاف محتدم، ليس لغوياً فحسب، بل سياسياً/ وتاريخيا بين صربيا وألبانيا بسبب كثرة سكانها الألبان ومطالبة ألبانيا بها. حتى أعلن البرلمان الكوسوفي بالإجماع استقلالها يوم 17 فبراير لعام 2008 وإعلان برشتينا عاصمة لها.
تحدها جمهورية مقدونيا من الجنوب الشرقي وصربيا من الشمال الشرقي والسنجق والجبل الأسود من الشمال الغربي وألبانيا من الجنوب. تبلغ مساحتها 10,577 كم مربع ، وهي غنية بالمعادن مثل الرصاص والزنك والفضة والكروم والحديد والنيكل والفحم الحجري. وتغلب على أرضها السهول الخضراء المحاطة بالجبال والتلال وتجري فيها أربعة انهار وفيها 17 بحيرة. بيد أن وضعها الاقتصادي كان سيئاً بسبب التمييز العرقي/ الاضطهاد من قبل الصرب ضد غالبية أهلها. لذا فهي فقر دولة في يوغوسلافيا السابقة والاتحاد الأوروبي. كانت وما زالت "كوسوفا" تعرف "بالأرض الحبيسة" لأنها غير مطلة على أية منفذ بحري.
يبلغ عدد سكانها مليونين وثلاثمائة ألف نسمة، يشكل الألبان منهم نحو 92%، بينما الصرب،5.3% ، والعرقيات الأخرى فنسبتها تبلغ2.7% . ويبلغ نسبة المسلمون حوالي 95% من مجموع السكان. ونصف عدد الكوسوفيين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، ولعل نسبة المواليد إلي مجموع السكان (2.8% )هي الأعلى في أوربا قاطبة.
الكوسوفيون (الألبان) يعودون لأصول من (القبائل الإيليرية) ذات (الجنس الآري)، وسموا بأكثر من اسم منها: (الألبان)، و(الأرناؤوط)، و(اشكيبتا)، واتفق المؤرخون على أنهم أول من نزل (شبه جزيرة البلقان) - فى عصر ما قبل التاريخ - على شواطئ (البحر الأدرياتيكى) الشمالية والشرقية قبل قدوم (اليونان)، وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، ثم توسّعت، وانتشرت (القبائل الإيليرية) فى أنحاء (البلقان)، وبعد ذلك اجتمعت القبائل وانتخبت رئيسًا لها وأنشئوا دولة لهم قبل الميلاد بثلاثة قرون.
جمهورية كوسوفا الوليدة تقع حيث سكن أجدادهم (الداردانيون) و(القبائل الإيليرية) الأخرى، وكانت دولتهم تسمى (داردانيا) بالعربية (أرض الكمثري)، وبمر الزمان ضعفت فاحتلها (الرومان) وبقيت تحت احتلالها إلى أن زالت إمبراطوريتهم ، وانقسمت إلى شرقية وغربية فأصبحت (بلاد الألبان) تحت حكم الإمبراطورية الشرقية حتى فتح المسلمون بلادهم ونعمت قرونا تحت حكمهم.
على أن الإسلام قد دخل، على نطاق ضيق ومحدود، إلى البلاد البلقانية قبل الفتح العثماني، وذلك عن طريق التجار والدبلوماسيين والدعاة. أما الانتشار الفعلي للإسلام في تلك البلاد فقد كان بعد مجيء العثمانيين، حيث دخل الشعب الألباني في الإسلام أفواجًا، وحسن إسلامهم وكان منهم في الدولة العثمانية القادة العظام مثل (بالابان باشا) قائد من قادة فتح القسطنطينية، وكبار الكتاب والشعراء الذين كانوا يؤلفون بلغات خمسالألبانية) و(البوسنية) و(العربية) و(التركية) و(الفارسية) مثل(محمد عاكف أرسوي).(وفق ما يؤكد د. راغب السرجاني عبر موقعه الألكتروني).
وقد تمكن الحكم العثماني في جزيرة البلقان بصورة نهائية بعد المعركة الشهيرة (معركة كوسوف) التي قاد فيها السلطان العثماني (مراد الأول) الجيش الإسلامي بنفسه، وقبيل انتصار الجيش الإسلامي استشهد السلطان (مراد) وتسلم القيادة السلطان (با يزيد) الذي انتصر على الجيوش المتحالفة الأوروبية وقتل الملك (لازار) الصربي وذلك سنة 1389م. - 938 هـ. فبعد هذه المعركة الحاسمة خضعت (كوسوفا) و(صربيا) للحكم العثماني ما عدا مدينة (بلغراد)، فإنها فتحت في عهد السلطان (سليمان القانوني) وذلك في 26 من شهر رمضان المبارك سنة 1521 م. - 938 هـ.
كانت ولاية (كوسوفا) أكبر الولايات العثمانية في رومليا (أوروبا)، وكانت أول عاصمة لها مدينة (بريزرن، والتي تواصل منها الفتي"عبد الرحمن") ثم مدينة (بريشتينا)، وفي الأخير مدينة
(أشكوب) عاصمة (ماكدونيا) اليوم، وما زال فيها إلى يومنا هذا عدد الألبان أكبر من عددهم في (تيرانا) عاصمة (ألبانيا).
منطقة تدافع مستمر
في هذه المنطقة البلقانية يتصادم فيها كل شيء بكل شيء، الدين بالقومية، والتاريخ بالجغرافيا، ورموز النظام الدولي القديم برموز النظام الدولي الجديد. ظل الأتراك هنا خمسة قرون، ومن بوسعه ألا يبقى هنا عمره كله؟! بين جنبات طبيعة ساحرة وبين أناس بسطاء متشبثين بهويتهم القومية والدينية، وهذه وتلك أسباب وجيهة للسلام، لا لحرب ما أن تضع أوزارها حتى تشتعل من جديد(وفق ما يقول أسعد طه).
لكوسوفا أهمية تاريخية وثقافية بالنسبة للصرب، لأنها – برأيهم ـ شطر البلاد الذي أسسوا فيه أولى ولايات القرون الوسطى، وبنينا العديد من الكنائس والأديرة الجميلة، منها دير (ديتشاني) احد عمائرهم الدينية التي بنيت عام 1335م في مدينة (بيتش) كما ينطقها الصرب، أو (بيا) بالألبانية. وتمثل لهم مركز رئاسة الكنيسة الأرثوذكسية، وأهم مزارات الصرب الدينية والقومية. لذا فهم يقولون: إن مهد حضارتهم كان فيها.
كانت جزءا من ألبانيا تحت الحكم العثماني طيلة خمسة قرون منذ فتحها السلطان العثماني مراد الأول عام 1389 حتى هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، ثم أعطيت للصرب عقب هزيمة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ضمن أجزاء كثيرة قطعت من ألبانيا للحيلولة دون قيام دولة إسلامية في أوروبا عام 1912، وبعد سلسلة مؤتمرات دولية أهمها سان ستيفانو، برلين، لندن وباريس آل الإقليم رسميا في نهاية المطاف إلى صربيا وأصبح جزءاً منها. خضعت كوسوفو في الحرب العالمية الثانية لألبانيا التي كانت بدورها خاضعة لإيطاليا.
بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1946 ضم إقليم كوسوفا إلى يوغوسلافيا الاتحادية، وفي عهد الرئيس جوزيف بروز تيتو ووفق دستور 1947 عاشت كوسوفو حكماً ذاتيا ضمن إطار اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية إلى أواخر السبعينات من القرن العشرين. في عام 1989 ألغى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به ألبان كوسوفا وحَكَم الإقليم بالحديد والنار، مستخدماً أساليب بوليسية وقمعية عنيفة.
نظم أهالي كوسوفو أنفسهم لمواجهة الاضطهاد الذي يتعرضون له بعد إلغاء الحكم الذاتي واتخذ تنظيمهم طابعا قوميا أكثر منه دينياً وقادهم ن ذاك حزب الاتحاد الديمقراطي الألباني الذي كان يترأسه الأديب والأستاذ الجامعي إبراهيم روغوفا وكان يتخذ من النضال السياسي السلمي منهجاً له.
في يوليو 1990 أجرى أهالي كوسوفو استفتاء عاماً كانت نتيجته معبرة عن رغبة الغالبية العظمى في الانفصال عن صربيا وإقامة جمهورية مستقلة، وفي سبتمبر من العام نفسه نظم الألبان إضرابا واسعاً يشبه العصيان المدني لصربيا. في الرابع والعشرين من مايو عام 1992 انتخب الألبان إبراهيم روغوفا رئيساً لجمهوريتهم التي أطلقوا عليها اسم جمهورية كوسوفو ولم تعترف بها صربيا. حاول الرئيس المعروف بنهجه السلمي كسب تعاطف المجتمع الدولي ونيل اعترافه بجمهورية كوسوفو لكنه لم ينجح فكون الشباب الألباني خلايا عسكرية سموها جيش تحرير كوسوفو.
كان عام 1998 هو العام الذي لفت أنظار العالم بقوة إلى خطورة الأوضاع في كوسوفو حيث دخل جيش تحرير كوسوفو في صراع مع الجيش الصربي فأرتكب الأخير مجازر وحشية ضد المدنيين الألبان مما أجبر المجتمع الدولي على التحرك.
بحسب إحصائيات فإن مائة وثمانية وعشرين ألف بيت للألبان دُمرت أو أحرقت، كما قُتل وذُبح ما يزيد عن اثني عشر ألف مواطن ألباني، وهو عدد غير نهائي لأننا مازلنا نكتشف المقابر الجماعية، التي وصل عدد المكتشف منها حتى الآن خمسمائة وخمسين مقبرة، تضم ما بين اثنين إلى مائة وخمسين قتيلاً، وتحتفظ سجلات بأسماء مائة وثمان وسبعين عائلة قتل كل أفرادها، كما قدر عدد المفقودين بثلاثة آلاف ومائتي مواطن، غير أساليب شرسة من التعذيب كانت تماس ضد المعتقلين، كما تعرضت ثلاث آلاف فتاة وسيدة للاغتصاب من قبل القوات الصربية.
في مارس 1999، شن حلف شمال الأطلسي غارات جوية على صربيا ما أرغم "ميلوشيفيتش" على الانسحاب من كوسوفا. وفقدت بلغراد السيطرة الفعلية على الإقليم الذي وضع تحت حماية الأمم المتحدة والحلف الأطلسي الذي ينشر نحو 17 ألف عسكري فيه.وجرت مفاوضات حول الوضع النهائي لكوسوفو بين الصرب والكوسوفيين الألبان, قدم في ختامها "مارتي اهتيساري" الذي كلفته الأمم المتحدة إعداد وضع نهائي للإقليم خطة تقضي باستقلاله تحت إشراف دولي, دعمها الأميركيون ومعظم الأوروبيين.
كوسوفا .. تاريخ وادع.. لكن مجازر تُرتكب بحق أهلها.
فأينما ذهبت، على قارعة الطريق، أو بين الحقول، أو في الميادين العامة تجد نصباً تذكارية، ومقابر جماعية مزينة بالأعلام والزهور، لتشعر كما لو أن الناس هنا يريدون للأجيال المقبلة ألا تنس أبداً ما حدث لها.
اركب سيارتك واذهب إلى أي مكان في كوسوفا، وامش في أي شارع، في أي مدينة، أو قرية، واسأل أي مواطن ألباني أياً كان عمره تسمع حكايات يشيب لها المرء.
ينتظر الشعب الكوسوفي من الحكومات والشعوب العربية والإسلامية: الاعتراف بجمهورية كوسوفا، ، وفهماً ووعيا بقضيتها، وتأييدا سياسياً، ودعماً وتعاوناُ في كافة المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية الخ. فباستثناء بعض التحركات الرسمية فإن علاقة كوسوفا مع العالم الإسلامي مازالت محدودة، ومازال العالم الإسلامي يعتقد أن احتياجاتها محصورة في أكياس الطحين، والمساعدات الإنسانية.
بإعلان إقليم "كوسوفا" استقلاله عن حكومة بلغراد وقيام "جمهورية كوسوفا" في يوم 17 فبراير/شباط 2008. أمر رفضته الحكومة الصربية المركزية وروسيا، بينما أيدته الولايات المتحدة وعدد من دول الإتحاد الأوروبي والسعودية والبحرين. اثنتين وخمسين دولة تعترف بكوسوفا دولة مستقلة، لكن لكي تصبح عضوا في الأمم المتحدة يجب أن تحصل على اعتراف 97 دولة.
لذا فابُني" عبد الرحمن"، ويا جمهورية "كوسوفا": أنا اعترف بك .. وعذرا إن جاء الاعتراف متأخراً .. فأن يأتي متأخراً خير من أن لا يأتي علي الإطلاق.
عن رابطة أدباء الشام