فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ
" عندما يرحل الطغاة "
" عندما يرحل الطغاة "
أغبياء هم هؤلاء الطغاة ، مساكين هم عبيد الشهوات يظنون أن الدنيا دار مقام و أنهم فيها خالدون و أن مصيبة الموت لن تصيبهم لكن (( هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ )) فالموت أقرب لهم من حبل الوريد و الأنفاس التي تتلاحق في صدورهم بأمر الملك الجبار سوف تتوقف ذات يوم و سوف تنتزع أرواحهم من أجسادهم بأمر بارئها و أنه لمشهد عظيم يأخذ بمجامع القلوب و تخر أمام هوله أشجع النفوس (( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَاكُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ )) .
و ويل لكم من يومكم الذي توعدون أيها الجببارة أيها القياصرة لقد أهلك الجبار من هو أشد منكم قوة فأين العروش و الجيوش و أين الحشم و الخدم و ها أنتم عراة على خشبة الغسل و قد انتهى زمن السطوة و القوة فصرتم إلى ما صار إليه من كان قبلكم و سوف يصير إليه الخلق جميعا ، يا لهف قلبي لدعاة على أبواب جهنم كانوا في مقدمة الصف فما لبثوا أن تأخروا فأخرهم الله في النار فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار) ، و لقد اغتر كثير من الدعاة و العلماء بالمال و الجاه و السلطان ففتنهم بريق الذهب و خطفت أبصارهم أضواء الشهرة و المناصب فتنكبوا الطريق و خالفوا القرآن الذي في صدورهم ثم ارتكسوا من عز الطاعة فركنوا لذل عبادة الطغاة .
لقد آتاهم الله من كل شيء و فتح لهم من أبواب العلم ما لم يفتحه لأمثالهم فجعلهم الله مثلا يتلو إلى يوم القيامة ( وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) ثم أنه لم يصون هذه النعمة و غلبة عليه شقوته و طفح على سطح قلبه خبيث طويته ( فَانْسَلَخَ مِنْهَا ) و هو مشهد بشع مقزز يثير الإشمئزاز في النفس لقد فقد جلده فظهر ما دونه فصار مرتعا للهوام و القذورات و تقاطر من جسده قيح فكره و عفونة رأيه فتسلط عليه شيطانه ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ ) فانتهى به الحال إلى أخزى الصور البهائمية يقول ابن القيم رحمه الله ( فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه فترك العمل به واتَّبع هواه وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً. ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو مِن أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا. والجيفُ القذرة المروحة أحبُّ إليه مِن اللحم الطري. والعذرة أحبُّ إليه مِن الحلوى وإذا ظفر بميتةٍ تكفي مائةَ كلـبٍ لم يَدَع كلباً واحداً يتناول منها شيئاً إلاّ هرَّ عليه وقهره لحرصه وبخله وشَرَهِه أ.ه ) .
و في رحيلكم عن دنيانا راحة للبلاد و العباد و عظة لمن اغتر بهذه الفانية و شفاء لما في صدور الموحدين فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال : مُرَّ على النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة قال: «مُستريح ومُستراح منه». قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ قال: «المؤمن استراح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمه الله تعالى ، والفاجر استراح منه العباد والبلاد والشجر والدواب» .
إن الأباة قد نقشوا أسمائهم بحروف ذهبية على جدران التاريخ فباكهم أهل الأرض و حزنت لهم مواطن السجود و اشتاقت لأنفاسهم الأرض مواطن الجهاد ، أما أنتم يا عبيد الشهوات فذكركم مصحوب باللعنات و الدعوات فأبشروا بالسوء و الخزي ، و لا تظنوا أن معركتنا قد انتهت برحيلكم عن الدنيا بل لنا يوم عظيم تجتمع فيه الخصوم عند ملك عدل و يومئذ ستعرفون مقام أهل التوحيد و خزي أهل النفاق ، فإنه لما رجعت مهاجرة الحبشة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة قال فتية منهم يا رسول الله بينا نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت اليه ثم قالت ستعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانا يكسبون فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت ثم صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم .
( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ )
يقول صاحب الظلال رحمه الله :ثم ماذا ? ثم ذهب هؤلاء الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الأرض ، ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد , ولم تشعر بهم سماء ولا أرض ; ولم ينظروا أويؤجلوا عند ما حل الميعاد: " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ " ...
وهوتعبير يلقي ظلال الهوان , كما يلقي ظلال الجفاء . . فهؤلاء الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء . ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء . وذهبوا ذهاب النمال , وهم كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال ! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه , وهو مؤمن بربه , وهم به كافرون ! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه !
ولوأحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله . ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه , مقطوعين عنه ,لاتربطهم به آصرة , وقد قطعت آصرة الإيمان .
تعليق