الفضائيات الإسلامية ومنزلق التدجين والتهجين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زالت الفضائيات الإسلامية في طور التجربة سواءً بالنسبة لمالكيها، أو بالنسبة للشيوخ الذين يظهرون فيها، أو بالنسبة للمراقبين؛ سواءً منهم من يحب انتشار الدعوة إسلامية ومن يحب وأدها، ومن يحب تحجيمها أو ترويضها.
size=6]
[/size] والكل يتابع التجربة، ويحاول أن يوجهها في المسار الذي يتمناه، ونناقش في هذه المقالة بعض الصور التي انتشرت في الفضائيات الإسلامية في الآونة الأخيرة، والتي تصب في اتجاه ترويض الصحوة الإسلامية وتهجينها بصور غير شرعية.
وبين يدي هذه المناقشة ننبه على أمور:
الأول: أن الوسط والقصد في باب وسائل الدعوة هل هي توقيفية أم لا؟
إنَّ "الوسائل المباحة لها أحكام مقاصدها"، وهذا القول وسط بين من يرى أنها توقيفية مخالفًا هدي السلف الذين استحدثوا أمورًا في باب وسائل العلم والدعوة والجهاد، منها: التأليف والتصنيف، ومنها: كتابة أسماء الجند، وغير ذلك من الأمثلة، وبين من يتغاضى نظريًا أو على الأقل عمليًا عن قيد الإباحة؛ فيدخل في المحظورات من باب أنها وسيلة للدعوة.
ومن هذا المنطلق كان الموقف من وسائل الاتصال وبالأخص "العائلة التليفزيونية" أنها مباحة الأصل؛ فإن استعملت في الطاعة دخلت فيها، وإن استعملت في المعصية دخلت فيها وإلا بقيت على الإباحة.
وكان تطبيق هذا الحكم على الواقع قبل ظهور الفضائيات الإسلامية يقضي بالفتوى بحرمة اقتناء جهاز التليفزيون؛ لأن نسبة المواد المباحة فيه لا تكاد تذكر؛ ولأن العادة أثبتت أن وجوده في المنزل ينتج عنه في معظم الحالات بنسبة تقارب المائة بالمائة استعماله في المحرم.
وتغيرت هذه الفتوى مع وجود القنوات الفضائية الإسلامية، وإمكانية ضبط جهاز الاستقبال على هذه القنوات دون غيرها؛ فأفتى كثير من العلماء والدعاة بجواز اقتناء هذه الأجهزة لهذا الغرض؛ فضلاً عن مشاركة الكثيرون منهم في هذه البرامج(1).
الثاني: أن البعض قد غلا في فوائد هذه الفضائيات الإسلامية.. ! منهم من فعل ذلك من فرط حبه للخير ورغبته في التبشير به، ومنهم من فعل ذلك من فرط حبه في منع الخير ورغبته في التحريض ضده، وفي الواقع أن الفضائيات تبقى في إطارها فرصة لقول كلمة حق عامة يعم بها إقامة الحجة على العباد؛ شأنها شأن كل وسائل الدعوة العامة، والتي لا تكفي في معظم الأحوال لإعادة صياغة الشخصية الإسلامية الصياغة المطلوبة، خاصة إذا أضفتَ إلى ذلك أن كثيرًا من المتلقين في الفضائيات يتلقون وهم متلبسون بأحوال تمنع من تمام الفهم أو الاستجابة، وأنه بضغطة زر واحدة يتحول من القناة الإسلامية إلى قنوات الغناء والعري والخلاعة.
ومن هنا تعلم أن من أفتى بجواز دفع زكاة المال للقنوات الفضائية قد غلبت عليه عاطفته في تقدير فوائد هذه القنوات فضلاً عن مخالفته لمذهب جماهير العلماء سلفًا وخلفًا؛ الذين يُقـْصِرون مصرف: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة:60)، على الجهاد، ولا يعدونه إلى غيره من صور الخير، وهو القول الأرجح دليلاً؛ وإلا فلو اتسع معنى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ
} هنا لما كان لكون المصارف ثمانية معنى!
ومن ثمَّ.. فالنصيحة لمن أكرمه الله بالالتزام والبعد عن العائلة التلفزيونية: ألا يغامر بإدخال هذا الجهاز بيته حتى ولو كان من أجل استقبال القنوات الإسلامية.
وأما من ابتلي بمشاهدة البرامج المحرمة في هذه الأجهزة؛ فنصيحته بالقنوات الإسلامية قد يكون هو العلاج الأمثل.
نأتي إلى بيت القصيد وهو: هل لهذه القنوات الإسلامية من مفاسد؟
وهل هناك توظيف ما لها ولو بالتوجيه عن بعد؟
في الواقع توجد بعض المفاسد في بعض هذه القنوات الإسلامية ينبغي على القائمين عليها وعلى الشيوخ الذين يظهرون فيها أن ينتبهوا إليها جيدًا؛ تقديرًا للأمانة التي ألقيت على أعتاقهم بعد ما صاروا واجهة للإسلام، وبعدما صار كثير من العامة يرون أن كل ما يعرض في هذه القنوات لابد أن يكون مشروعًا!
ونحصر كلامنا هنا في أمرين أساسيين:
الأول: "التدجين":
وهو وصف أطلقة العلامة "محمود شاكر" -رحمه الله- على محاولة "نابليون" استمالة مشايخ الأزهر حين أصدر قرارًا بمجرد دخوله القاهرة بإنشاء ديوان من تسعة علماء من الأزهر يتولى شئون القاهرة؛ فقبل منهم من قبل ورفض منهم من رفض، على رأسهم الشيخ "عمر مكرم" -رحمه الله-.
إن "الاحتواء والتدجين" هي سياسة نابليون، وغني عن الذكر أن من يسمون أنفسهم بالمثقفين كلهم قد رضع من الثقافة الفرنسية حتى الثمالة؛ ولذلك فهم يجيدون توظيف سلاح "التدجين"، وأعني به هنا ربط تمرير القنوات الإسلامية والرضا بها بأن تحصر نفسها في القضايا المشتركة بين الإسلام والعلمانية، وإذا أخذنا في الاعتبار أن مُنظري العلمانية وإن كانوا قد اضطروا اضطرارًا إلى القبول بالدين كمكون رئيسي من مكونات الشخصية فإنهم في ذات الوقت حريصون على محاصرته في إطار علاقة الإنسان بربه وفقط، وليس منظمًا لعلاقته بالكون من حوله؛ لا سيما علاقة الفرد بمجتمعه.
وهؤلاء المرضون قد تكون طموحاتهم أن يخرج الدعاة على هذه الفضائيات فيتبنون تلك النظرة العلمانية للدين! ولكنهم يمكن أن يرضوا بإسقاط بعض القضايا من حساب الدعاة فلا يتعرضون لها سلبًا ولا إيجابًا، وهو ما يتم في "معظم" البرامج المقدمة عبر الفضائيات.
فتجد أن كثيرًا من هذه الفضائيات قد أَسقـَطت من حساباتها أهم القضايا التي تمثل خلافـًا جوهريًا بين الإسلاميين والعلمانيين، إلى درجة إهمال "تاريخ الخلافة العثمانية" حتى لا يتهمهم متهم بـ"الحلم بعودة الخلافة"، وأما "وجوب الحكم بما أنزل الله"، و"الولاء والبراء"، وغيرها... فقضايا محظورة تمامًا!
بالطبع لقائل أن يقول إنه يسد بابًا في الوعظ أو التربية أو الأخلاق، وليسد الآخرون باقي الأبواب، وهذا كلام طيب؛ بيد أن "الرائد لا يكذب أهله"، والبعض لا سيما من الشرائح التي ليست لها من نافذة على الدين إلا الفضائيات يعتبر أن ما تقدمه الفضائية الفلانية أو الشيخ الفلاني أحيانًا هو الدين أجمع، لا سيما مع طول فترات إرسال هذه القنوات، ومع ادعائها في إعلاناتها أنها تقدم للمشاهد كل ما يحتاج إليه في شئون دينه.
نعلم أنَّ "الحقل ملغم بالأشواك"، ولكن منذ متى كان طريق الدعوة مفروشًا بالورود، والذكي الحاذق المقدِّر لمسئولية الكلمة لا يعدم ولو توضيحًا يشير به إلى تكامل المنهج الإسلامي، وعدم حصره فيما يقدمه هو أو تقدمه القناة؛ هذا إن عجز عن تقديم المنهج متكاملاً أصلاً.
وأي تصرف غير ذلك هو قبول بـ"التدجين" الذي نعاه الأستاذ "محمود شاكر" على من قَـبِلَ من شيوخ الأزهر دخول الديوان، ولكن يبدو أن من أبرز أمراضنا الراهنة سرعة النسيان!
كان التحفظ السابق هو التحفظ الأبرز على القنوات الفضائية الإسلامية بيد أننا لم "نبرزه" مراعاة أن الغالب عليها كان المصلحة والخير حتى انضم إليه صنوه.
وهو: "التهجين":
وهو أمر لا يقل خطره عن "التدجين" -إن لم يزد-، وأخص بالكلام هنا القنوات الإسلامية التي تقدم نفسها للناس عن طريق نوعية البرامج وأسماء المحاضرين على أنها قنوات "سلفية"، وذلك أن السلفية كاتجاه دعوي من أهم سماته هو رفضه لكل صور الحلول الوسط بين الإسلام النقي إسلام الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، وبين البدع: كالصوفية والشيعة والأشاعرة، ومن باب أولى البدع المعاصرة وعلى رأسها: العلمانية؛ وهو ما دفع أمريكا قائدة العالم الغربي إلى التحالف مع كل أعداء السلفية من: الشيعة -كما في العراق- والصوفية -كما في مصر-؛ لمحاولة فرض "حالة من العزلة على السلفية" تقبل معها بالحلول الوسط، وعندها سيكون على رأس الموضوعات المطروحة للمهادنة "المهادنة مع العلمانية".
ونسوق على ذلك شواهد سريعة من محاولات تقديم سلفية مهجنة عبر القنوات الفضائية ذات السمت السلفي العام في السنوات الأخيرة:
1- إفساح إحدى القنوات الإسلامية المجال لرجل ذي ميول شيعية لتقديم برامج في قناة نالت شهرتها من برامج مشايخ معروفون بانتمائهم للتيار السلفي، وحسنًا فعل هؤلاء المشايخ وقتها بمقاطعة القناة حتى رضخت واستبعدت ذلك الرجل.
2- بيد أن الموضوع تكرر مرة ثانية مع الأستاذ "عمرو خالد"، والذي يقدم نموذجًا من الانفتاح على الغرب دفع أحد رموز الإخوان، وهو الأستاذ "وجدي غنيم" إلى الرد العلني العنيف عليه؛ فكيف يمكن أن يكون موقف السلفيين منه؟! وانتهت هذه الأزمة أيضًا باستبعاد برامج الأستاذ "عمرو خالد" من هذه القناة.
3- بعدها ظهرت الإعلانات التجارية على هذه القنوات، بصورة مبتذلة لا تراعي هيبة القناة كقناة دينية، ولا تحترم عقل المشاهد، ولا تراعي حقه كمستهلك في أن يكون الإعلان معبرًا عن قيمة السلعة تعبيرًا أمينًا.
6- ومن الظواهر فتح باب الاتصال على الهواء، والذي غالبًا ما يفتتحها المتصل بوصلة مدح مخالفة للسنة التي تنهى المادح عن مدح الرجل في وجهه، والتي تأمر الممدوح أن يحثو في وجه المادح التراب، أو على الأقل مطالبته بالدخول في السؤال مباشرة، ويزيد الطين بلة أن يكون المتصل امرأة، وأن تعيد وتزيد في المدح والثناء، أو يتطرق الحوار إلى نوع من المزاح!
5- ثم بعد ذلك دخلت ظاهرة المذيعات المنقبات، وبدا الأمر في غاية التناقض "إعلامية" مغطاة! وظهرت أسئلة من نوعية: هل يخلو المُخرِج بها في الأستوديو؟ أم تحضر معها محرم؟ أم.. ؟!
وطبعًا حجة من يفعل ذلك أن هذه برامج نسائية، وكأنه عند عرضها تشفر القناة عن أعين وأذان الرجال! أو قد يقولون: إن المرأة يمكن أن تعلِّم الرجل، وكأن هؤلاء المذيعات اللاتي يأتون بهن عندهن من العلم ما ليس عند الرجال ليُتجشم عناء خروجهن على الشاشة؛ ليعلِّموا الرجال والنساء، ولا شك أنها حالة تطبيع مع "الشو الإعلامي" العام!
6- وقريب منها -إن لم يكن أفحش-: الاستعانة بفتيات ناهزن البلوغ للقيام بدور المغنيات أو المذيعات بكامل لوازمه!
7- ثم جاء دور المخالفات الصريحة بإجراء المسابقات التليفونية، وهي مقامرة صريحة لما فيها من "غرم متحقق" مع "غُنم مظنون"، والغرم هنا هو: سعر المكالمة التي تكون في هذه الحالات مناصفة بين شركة الاتصالات وبين القناة الفضائية؛ سواء كانت المكالمة بسعر خاص كما هو الغالب أو بالسعر العادي؛ فَتَرَبُح القناة من الاتصال يجعل الصورة مقامرة صريحة لا تختلف عن ورق اليانصيب في شيء.
8- ثم جاءت مسابقة قراءة القرآن على "مقامات الموسيقى"(2)! قمة الاستهانة بحق القرآن وتشبيهه بمزمور الشيطان، وإخراج القارئ له عن التدبر والتأمل إلى مشابهة حال المشركين الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال:35)!
والأعجب من ذلك أن صاحب هذا ثناء من أحد الشيوخ على هذه القناة ثناء فـُهم منه الرضا والموافقة على هذا العبث! ثم عندما عوتب اعتذر بأنه أثنى على القناة وعلى صاحبها وإن كان قد نصحه سرًا بعدم إتمام البرنامج! وكأن كارثة النصيحة في السر(3) التي يدعيها البعض هي الطريق الوحيد لنصيحة ولاة الأمور انتقلت إلى أصحاب القنوات الفضائية؛ مما ينذر بتحول مسلك النصيحة في السر مع ما في ذلك من تلبيس على العامة إلى سلوك عام حتى مع أصحاب القنوات الفضائية الذين يحتاجون إلى ظهور الدعاة على قنواتهم أكثر بكثير من حاجة الدعاة إليهم.
فالنصيحة لأصحاب الفضائيات: من دخل منهم هذا المجال طاعة لله؛ فليحرص تمام الحرص على التأكد من شرعية أي عمل قبل تقديمه على قناته، وليوسع دائرة استشارته لا سيما في الأمور المستحدثة: كقراءة القرآن على مقامات الموسيقى.
وأما من دخل منهم كتجارة:
فلن يثنيه عن هذه المخالفات إلا مقاطعة الدعاة والجمهور لقناته حتى يعود إلى جادة الصواب.
والنصيحة لشيوخ الفضائيات:
إما أن تحافظوا على نقاء المنهج وإما أن تعودوا إلى مساجدكم.
والنصيحة إلى جمهور الفضائيات:
أن يقاطِع كل قناة إسلامية تسيء إلى الإسلام بفعل أي مخالفة للشرع.
وفي هذا السياق يجب أن نؤكد على أمرين:
الأول:
أن الإنكار هنا يتوجه على من فعل شيئًا من هذه المحذورات أو غيرها أو ساهم فيه بصورة أو بأخرى، وقد ذكرنا في ثنايا الكلام بعض التصرفات التي صدرت من أصحاب القنوات والتي لاقت إنكارًا من شيوخ هذه الفضائيات -جزاهم الله خيرًا-، وبالتالي فلا وجه لتوجيه اللوم لهم، ولكن أبقينا ذكر الموقف للدلالة على خطورة هذا المسلك، وأنه لا يقتصر على ممارسة بعينها.
الثاني:
أننا قصدنا إلى تعمية الأسماء؛ لأنها مواقف متفرقة لم تصدر كلها من شخص واحد أو قناة واحدة، والمعهود من البشر عمومًا وفي هذا المجال خصوصًا كثرة تغير التوجهات؛ فكان التركيز على التوجه أهم من التركيز على صاحبه.
وليس المقصود من ذلك تعميم الأخطاء بأي حال من الأحوال، ولا إلزام كل القنوات، ولا كل الدعاة بخطأ البعض.
الثالث:
أن التراجع عن الخطأ أمر يُحمد لصاحبه في كل الأحوال، ولكن البعض أثناء تراجعه يحاول تخفيف حدة خطأه السابق؛ فيأتي بخطأ آخر دون أن يشعر؛ مما يستدعي إنكارًا جديدًا!
الرابع:
نعود فنؤكد على أن الفضائيات باب عظيم من أبواب الدعوة العامة التي ينبغي أن يستثمرها دعاة الحق مع الحذر من هذه المزالق التي يريد بها شياطين الجن والإنس إفساد هذه الوسيلة الدعوية.
نسأل الله -تعالى- أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عد كثير من الناس أن رأي الدعاة لا سيما السلفيين منهم قد تغيَّر في هذه المسألة، واعتبروه دليلاً على أن نظرهم السابق في المسألة كان متسرعًا، وفي الواقع أن هذا نتيجة تغير الواقع وإسقاط الحكم المناسب لكل واقع عليه، وهو ينفي -بفضل الله- عن الدعوة تهمة الانغلاق وعدم الدراية بالواقع من حولها، والتي يدندن حولها الكثير من خصومها.
كما أن تغير نظرة الباحث في أمر ما وارد على الجميع، وحدث من كبار الأئمة؛ فضلاً عن غيرهم، ولكن هذه المسألة ليست من هذا الباب كما أسلفنا.
(2) للاطلاع على أقوال أهل العلم قديمًا وحديثًا في إنكار هذه البدعة الشاذة راجع مقال: "المزمار الذهبي" للشيخ "عصام حسنين".
ولكن نريد فقط هنا أن نوضح الفكرة العامة لهذه البدعة ومدى نكارتها؛ فنقول:
إن "المقام الموسيقي" يشبه إلى حد ما بحور الشعر عند الشعراء، فكما قام "الخليل بن أحمد" بتحليل الشعر، ووجد أن هناك "أوزانًا" معينة محصورة قادرة على إيصال إيقاع صوتي متناغم متجانس يعطيك لذة السمع بالتوافق بين إيقاع كل بيت، فقد درس فلاسفة العصر العباسي كالكندي وغيره المقطوعات الموسيقية؛ ليكتشف أن هناك فقرات موسيقية أساسية يمكن تحليل أي نسيج موسيقي إليها.
وأن هذه الفقرات الموسيقية الأساسية هي عبارة عن عدد من الأصوات الموسيقية المتتابعة والمتفاوتة في الشدة صعودًا وهبوطًا؛ بحيث تعطي في النهاية إحساسًا ما: إما بالفرح أو الحزن، أو التأمل، أو غيرها من الأحاسيس.
وعُرِفت هذه الفقرات الأساسية "بالمقامات"، والتي أصبحت بالنسبة للموسيقيين لَبِنات يمكن أن يُكوِّنوا منها مقطوعة موسيقية كبيرة تحكي تجربة شعورية فيها فرح، ثم حزن، ثم نسيان كما هي غالب عادتهم في ذكر الحب والهجر، وما يعقبه من حزن أو نسيان أو معنى آخر.
وهذا المعنى في الموسيقى بغض النظر عن اقترانها بالقرآن هو أحد الحكم التي استنبطها العلماء لتحريم الشرع للموسيقى حتى سماها "ابن القيم" -رحمه الله- وغيره بـ"خمر النفوس"؛ ذلك أن الموسيقى تخاطب الغرائز البهيمية في الإنسان، وتسلب العقل سلطانه على الجوارح والمشاعر، وتتولى هي إعطاءه حزنًا أو فرحًا أو شجاعة، كل هذا بعد عزل سلطان العقل.
ومن أعجب ما ابتلي به أصحاب الغناء أنك تجد أنهم ربما ركَّبوا ألحانًا راقصة على كلمات حزينة، وتكون الغلبة بالطبع لللحن؛ فتجد سامعيها يتراقصون على أنغامها!
ولهذا المعنى أيضًا قيَّد العلماء إباحة الإنشاد الخالي من الآلات الموسيقية بألا يكون على هيئة غناء المغنين؛ أي: خُلوَّه من تنغيم تلك المقامات التي تتوغل في أوصال النفس.
وأما القرآن فإنما نزل للتدبر والتأمل {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (ص:29)، فلابد أن تكون الغلبة فيه للكلمة، ولاسيما وكلمات القرآن فيها تنغيم ذاتي من تتابع الحركات والسكنات في الجملة، جعله مستغنٍ عن أوزان الشعراء؛ فاستغناؤه عن مقامات الموسيقيين أولى.
وإنما يستحب للقارئ أن يتغنى بالقرآن مترنمًا به على وفق ألفاظه ومعانيه، لا أن يركِّب عليه مقامًا يعطي رسالة ذاتية قد تتفق أو تختلف معه لفظًا ومعنى، ووصلاً ووقفًا؛ فهذا مما لا يقول به عاقل يعلم أن القرآن كلام، بل أبلغ كلام يُراد منه أن يعقل منه قارئه معناه، وأن يشعر بالشعور الملائم لهذا المعنى؛ ومن ثمَّ يستقر عنده ما اكتسبه من حب لخير أو بغض لشر، أو تَخَلُّق بخلق: كالصبر، والحلم، ونحوها... بخلاف الموسيقى التي لا تعطي إلا شعورًا وهميًا كاذبًا يشابه تمامًا الشعور الذي تمنحه الخمر لشاربها!
بقيت شبهة:
أن البعض يقول: إن ما من قارئ إلا ويقرأ بمقام شئتم أم أبيتم، وأن ما يفعلونه هو إرشاد القارئ لأنسب مقام تقرأ به كل آية!
نقول: إن الزعم بأن هذه المقامات قد استوعبت كل الاحتمالات زعم باطل، فعند اختيار مقام معين تقرأ به آية فأيهما سيخضع للآخر؟ فإن قلتَ: إنك تخضع المقام للفظ الآية؛ لم يبقَ للمقام فائدة، وبقي الأمر على ما ذكرنا من ترتيل الكلام والتغني به بحسب ألفاظه ومعانيه.
وإن قلتَ: إن الغلبة للمقام كان هذا من التحريف والتبديل لمعاني القرآن إن لم يكن لألفاظه، وقد حدث هذا بالفعل كما ذكر من شاهد تلك التجارب الأولى، وكيف قاد الاستغراق في المقام لكثير من القراء بزيادة مد أو حذفه! وربما أدغم حرف حتى وكأنه لم يقرأ على طريق المغنين حينما يحاولون إخضاع ألفاظ أغانيهم لمقاماتها.
وأما تعلم هذه المقامات مجردة عن قراءة القرآن كنوع من التمرين له على حسن الأداءالمتناغم حتى إذا جاء وقرأ القرآن طاوعه صوته على حُسن الأداء، فيمنع أيضًا سدًاللذريعة؛ لإيقاف باب العبث؛ وللبعد عن الافتتان بأحوال أهل الفسق والفجور.
(3)ما أجمل ما قاله العلامة الألباني -رحمه الله- في هذا الأمر حينما قال: "إن عصواالله سرًا نصحناهم سرًا وإن عصوا الله جهرًا نصحناهم جهرًا".