فضل الشهادة في سبيل الله
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
لمّا كثُر المدّعون للمحبة طُولِبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يُعط الناس بدعواهم لأدعى الخلي حرقة الشجي؛ فتنوع المدعون في الشهود، فقيل؛ "لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة"، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران:31]...
فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية؛ {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة:54]...
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم؛ "إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة"، {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة:111]...
فلما عرفوا عظمة المشترى وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأناً، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا؛ "والله لا نقيلك ولا نستقيلك"، فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم؛ "مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها"، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169-170].
قال ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العوض عما يملك بما تفضل به على عباده المطيعين له، ولهذا قال الحسن البصري وقتادة؛ "بايعهم الله فأغلى ثمنهم").
وقال تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران:140].
قال السهيلي رحمه الله: (وفيه فضل عظيم للشهداء وتنبيه على حب الله إياهم).
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وماله على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة).
ولما قُتل عبدالله بن عمر بن حرام يوم أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك، ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا، فقال؛ "يا عبد الله تمنّ علي أعطك؟"، قال؛ "يا رب! تُحييني فأقتل فيك ثانية"، قال؛ "إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون" قال: يارب أبلغ من ورائي)، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169].
وعن ابن عباس قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتؤوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا؛ "من يبلغ إخواننا عنا انا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب؟"، فقال الله؛ "أنا أُبلّغهم عنكم"، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169]).
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ (أول ثلة تدخل الجنة الفقراء المهاجرون الذين تتقى بهم المكاره، إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإذا كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره، وأن الله عز وجل ليدعوا يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول الله عز وجل أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا: ادخلوا الجنة فيدخلونها بغير حساب فتأتي الملائكة فيسجدون، فيقولون ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي) [رواه أحمد والبزار].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سُئِلَ عن قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169]؟ فقال: (أما أنا قد سئلنا عن ذلك، فأخبرنا؛ أن أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتؤي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطّلع إليهم ربك اطلاعة فقال؛ "هل تستزيدون شيئا فأزيدكم؟" قالوا؛ "ربنا! وما نستزيد؟ ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا"، ثم اطّلع إليهم ثانية فقال؛ "هل تستزيدون شيئاً فأزيدكم؟"، فلما رأوا أنهم لن يتركوا، قالوا؛ "تعيد أرواحنا حتى نرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيلك مرة أخرى").
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن ادخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر وغنيمة، والذي نفس محمد بيده مامن كلم يُكلم في سبيل الله تعالى إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلم لونه لون الدم وريحه المسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو أبداً، ولكن لا أجد سعة فاحملهم، ولا يجدون سعة فيشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل).
فأي فضل بعد هذا الفضل وأي منة بعد هذه المنة، وأي شرف بعد هذا الشرف؟!
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين
تعليق