حكم الكتاب في المختلفين
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في بعض تقاريره :
اعلم رحمك الله أن الإيمان الشرعي، هو الإيمان بالأصول الستة؛ فمن الإيمان بالله الإيمان بالكتب التي أنزل الله، والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله، ومن الإيمان بهم: معرفة مراد الله في إرسالهم، كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ الآية [ البقرة 213] .
وأما الحكمة الأخرى، فذكرها أيضاً في غير موضع؛ منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ إلى قوله: ﴿لِِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [ النساء 162-165]
فقوله: ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ وقوله: ﴿لِِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ هما حكمة الله في إيجاد الخليقة، وإليهما ترجع كل حقيقة، فالواجب على من نصح نفسه: أن يجعل معرفة هذا نصب عينيه.
ومن تفاصيل هذه الجملة :
أن الناس اختلفوا في التوحيد، فجاءت الكتب والرسل، ففصلوا الخصومة بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[ النحل 36 ] وقوله تعالى : ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [ الجن 18 ] فشملت: أصل الأمر، وأصل النهي، الذي هو معنى شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله.
الثانية : أن الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، اختلفوا: هل توجب هذه العداوة والمقاطعة ؟ أو أنها كالسرقة والزنا ؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله : ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [ المجادلة 22] وقال صلى الله عليه وسلم : «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن وليي الله والمؤمنون».
الثالثة : أن الذين أقروا بأن الشرك أكبر الكبائر، اختلفوا : هل يُقاتل من فعله إذا قال لا إلَه إلاّ الله ؟ فحكم الكتاب بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [ الأنفال 39] وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(*) [ التوبة: 5] .
______________________________
(*) قال الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله :
"هذه الآيات وما في معناها قال بعض أهل العلم ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف عنا وقتال من قاتلنا وليست ناسخة لقوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ولكن الأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها وعملوا بها وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله أو يؤدوا الجزية إما مطلقا كما هو قول مالك - رحمه الله - وجماعة ، وإما من اليهود والنصارى والمجوس على القول الآخر، وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم ويكفوا عمن كف عنهم إذا لم يستطيعوا ذلك فيكون الأمر إلى ولي الأمر إن شاء قاتل وإن شاء كف، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهوته ولكن ينظر للمسلمين وينظر لحالهم وقوتهم، فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف، وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة وفي المدينة أول ما هاجر، وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حربا شعواء للجميع، وأعلنوا الجهاد للجميع كما أعلن الصحابة ذلك في زمن الصديق وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وكما أعلن ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته بعد نزول آية السيف، وتوجه إلى تبوك لقتال الروم وأرسل قبل ذلك جيش مؤتة لقتال الروم عام 8 من الهجرة وجهز جيش أسامة في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - واختاره وقال : إنه ليس هناك نسخ ولكنه اختلاف في الأحوال لأن أمر المسلمين في أول الأمر ليس بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة فأذن لهم بالقتال فقط، ولما كان عندهم من القدرة بعد الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم، فلما قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا أمروا بقتال جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس إذا بذلوها عن يدهم صاغرون. وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم واختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }". [مجموع فتاوى ابن باز (3 / 191 )]
الرابعة : اختلفوا في الجماعة والفرقة ؛ فذهب الصحابة ومن تبعهم: إلى وجوب الجماعة وتحريم الفرقة، ما دام التوحيد والإسلام؛ لأنه لا إسلام إلا بجماعة؛ وذهب الخوارج، والمعتزلة: إلى الفرقة، وإنكار الجماعة؛ فحكم الكتاب بقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [ آل عمران 103 ] .
الخامسة : اختلفوا في البدع، هل يستحسن منها ما كان من جنس العبادة ؟ أم كل بدعة ضلالة ؟ فحكم الكتاب بينهم، بقوله تعالى : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[ الأنعام 135] وقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة» فذكر صلى الله عليه وسلم أن ما حدث بعده فليس من الدين، وأنه ضلالة .
السادسة : أنهم اختلفوا في الكتاب، هل يجب تعلمه، واتباعه على الآخرين؟ لإمكانه، أم لا يجب؟ ولا يجوز العمل به لهم؟ فحكم الكتاب بينهم بالآيات التي لا تحصى؛ منها قوله: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًامَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ [ طه 99] وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾[ طه 124].
السابعة : اختلفوا في العالم رفيع المقام في العلم والعبادة، إذا عمل تابع النص بخلافة، هل يجوز أم لا، فقيل: نعم، من قلد عالماً لقي الله سالماً ؛ فحكم الكتاب بقوله : ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف 3] وقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾[ التوبة 31 ] وقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَالْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [ البقرة 146-147] وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [ البقرة : 89] وقوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [ النمل 14] وقوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[ الأنعام : 116]
فإذا عرفت هذه الآيات المحكمات، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، من أن طاعة الأحبار والرهبان من دون الله، عبادة لهم؛ وعرفت حال كثير من الناس، وما يأمرون به، وما يدعون إليه، وتأملت كلام الله، تبين لك الهدى من الضلال .
حكم الكتاب في المختلفين
لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
اعلم رحمك الله أن الإيمان الشرعي، هو الإيمان بالأصول الستة؛ فمن الإيمان بالله الإيمان بالكتب التي أنزل الله، والإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله، ومن الإيمان بهم: معرفة مراد الله في إرسالهم، كما قال تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ﴾ الآية [ البقرة 213] .
وأما الحكمة الأخرى، فذكرها أيضاً في غير موضع؛ منها قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ إلى قوله: ﴿لِِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [ النساء 162-165]
فقوله: ﴿مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ وقوله: ﴿لِِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ هما حكمة الله في إيجاد الخليقة، وإليهما ترجع كل حقيقة، فالواجب على من نصح نفسه: أن يجعل معرفة هذا نصب عينيه.
ومن تفاصيل هذه الجملة :
أن الناس اختلفوا في التوحيد، فجاءت الكتب والرسل، ففصلوا الخصومة بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[ النحل 36 ] وقوله تعالى : ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [ الجن 18 ] فشملت: أصل الأمر، وأصل النهي، الذي هو معنى شهادة أن لا إلَه إلا ّ الله.
الثانية : أن الذين أقروا بالتوحيد، والبراءة من الشرك، اختلفوا: هل توجب هذه العداوة والمقاطعة ؟ أو أنها كالسرقة والزنا ؟ فحكم الكتاب بينهم بقوله : ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [ المجادلة 22] وقال صلى الله عليه وسلم : «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إن وليي الله والمؤمنون».
الثالثة : أن الذين أقروا بأن الشرك أكبر الكبائر، اختلفوا : هل يُقاتل من فعله إذا قال لا إلَه إلاّ الله ؟ فحكم الكتاب بقوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [ الأنفال 39] وقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾(*) [ التوبة: 5] .
______________________________
(*) قال الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله :
"هذه الآيات وما في معناها قال بعض أهل العلم ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف عنا وقتال من قاتلنا وليست ناسخة لقوله : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ولكن الأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها وعملوا بها وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله أو يؤدوا الجزية إما مطلقا كما هو قول مالك - رحمه الله - وجماعة ، وإما من اليهود والنصارى والمجوس على القول الآخر، وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم ويكفوا عمن كف عنهم إذا لم يستطيعوا ذلك فيكون الأمر إلى ولي الأمر إن شاء قاتل وإن شاء كف، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهوته ولكن ينظر للمسلمين وينظر لحالهم وقوتهم، فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف، وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة وفي المدينة أول ما هاجر، وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حربا شعواء للجميع، وأعلنوا الجهاد للجميع كما أعلن الصحابة ذلك في زمن الصديق وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وكما أعلن ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته بعد نزول آية السيف، وتوجه إلى تبوك لقتال الروم وأرسل قبل ذلك جيش مؤتة لقتال الروم عام 8 من الهجرة وجهز جيش أسامة في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - واختاره وقال : إنه ليس هناك نسخ ولكنه اختلاف في الأحوال لأن أمر المسلمين في أول الأمر ليس بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة فأذن لهم بالقتال فقط، ولما كان عندهم من القدرة بعد الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم، فلما قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا أمروا بقتال جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس إذا بذلوها عن يدهم صاغرون. وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم واختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }". [مجموع فتاوى ابن باز (3 / 191 )]
الرابعة : اختلفوا في الجماعة والفرقة ؛ فذهب الصحابة ومن تبعهم: إلى وجوب الجماعة وتحريم الفرقة، ما دام التوحيد والإسلام؛ لأنه لا إسلام إلا بجماعة؛ وذهب الخوارج، والمعتزلة: إلى الفرقة، وإنكار الجماعة؛ فحكم الكتاب بقوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [ آل عمران 103 ] .
الخامسة : اختلفوا في البدع، هل يستحسن منها ما كان من جنس العبادة ؟ أم كل بدعة ضلالة ؟ فحكم الكتاب بينهم، بقوله تعالى : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[ الأنعام 135] وقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة» فذكر صلى الله عليه وسلم أن ما حدث بعده فليس من الدين، وأنه ضلالة .
السادسة : أنهم اختلفوا في الكتاب، هل يجب تعلمه، واتباعه على الآخرين؟ لإمكانه، أم لا يجب؟ ولا يجوز العمل به لهم؟ فحكم الكتاب بينهم بالآيات التي لا تحصى؛ منها قوله: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًامَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا﴾ [ طه 99] وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾[ طه 124].
السابعة : اختلفوا في العالم رفيع المقام في العلم والعبادة، إذا عمل تابع النص بخلافة، هل يجوز أم لا، فقيل: نعم، من قلد عالماً لقي الله سالماً ؛ فحكم الكتاب بقوله : ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف 3] وقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾[ التوبة 31 ] وقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَالْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [ البقرة 146-147] وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ﴾ [ البقرة : 89] وقوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [ النمل 14] وقوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[ الأنعام : 116]
فإذا عرفت هذه الآيات المحكمات، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، من أن طاعة الأحبار والرهبان من دون الله، عبادة لهم؛ وعرفت حال كثير من الناس، وما يأمرون به، وما يدعون إليه، وتأملت كلام الله، تبين لك الهدى من الضلال .