إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صفحات مشرقة من تاريخ العلماء الربانيين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صفحات مشرقة من تاريخ العلماء الربانيين

    يمتلك بعض المسلمين - و منهم الملتزمين - تصورات خاطئة عن أسلافنا من العلماء و الدعاة و المصلحين , و لا يذكرهم إلا بآرائهم الفقهية و تراثهم العلمي , مغفلين أهم ما في جوانب هذه المثل العليا من جوانب دعوية و مواقف تربوية و حركة إصلاحية شاملة .

    كانت حياتهم دعوة و جهاد , و إيمان و تضحية , و علم و عمل , و إصلاح و نصح , و تقوى و زهد .
    كانوا نماذج و تطبيقات عملية للدين الذي جاء ليحكم حياة الفرد من مهده إلى لحده , و يحكم شئون دينه و دنياه .

    كانوا بحق نجوما هاديات على دربنا , و لأمة امتلكت أمثال هؤلاء أن تباهي بهم الدنيا , و أن تستلهم خطاهم , لأنه لن يصلح حال آخر هذه الامة إلا بما صلح بها أولها .

    نحاول في هذه السلسلة إن شاء الله تسليط الضوء على جوانب مشرقة و صفحات مضيئة من تاريخ هؤلاء الأفذاذ , محاولين قدر الإمكان الإفادة من هديهم قبل علمهم , و من سمتهم قبل أقوالهم , و الله الموفق .
    الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
    نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
    روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
    ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

  • #2
    نبدأ إن شاء الله تعالى بسلطان العلماء , شيخ الإسلام الإمام العز بن عبد السلام

    سبه وقبيلته:
    هو عبد العزيز بن عبيد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، شيخ الإسلام وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي.
    مولده:
    577 هـ، 1181 م
    البلد التي ولد فيها:
    ولد ونشأ في دمشق.
    طفولته وتربيته ومواقف من حياته:
    نشأ العزّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا، وقد أتاح له ذلك مع - اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه - أن يتفقه كثيرًا وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره.
    زار العزّ بن عبد السلام بغداد عام 599 هـ حيث كان عمره اثنين وعشرين سنة، ولم يمكث فيها إلا شهرًا واحدًا عاد بعده إلى دمشق....
    عاش رحمه الله حياته في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..
    وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..
    فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:
    "والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..
    الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!
    وكان ردّ الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..
    يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..
    وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولّاه القضاء..
    ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..
    وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟
    لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..
    ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"...
    أهم ملامح شخصيته:
    فقهه وعلمه:
    من أهم ملامح شخصية الشيخ - رحمه الله - علمه وفقهه، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّه تلمذه الأول ابنُ دقيق العيد بسلطان العلماء، ومما يشهد بسعة علم الشيخ ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة عميقة الدقة في مادتها والتي ما زال الكثير منها مخطوطًا ولم يطبع بعد...
    هيبته وجرأته في الحق
    هذا الجانب أيضًا مما تميّز به الشيخ وبلغ فيه مبلغًا عظيمًا حتى اشتهر به فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر الهيبة التي يهبها الله للعاملين المخلصين من عباده، لا يُذكر العز - رحمه الله إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله مهما علا مكانه وارتفعت بين الناس مكانته، ونظرة في أي مرحلة من حياة الشيخ نجد هذا الأمر ملازمًا له لا ينفك عنه بحالٍ من الأحوال، وكما ذكرنا أنه قد اصدر فتواه الجريئة العجيبة ببيع الأمراء المماليك مع ما كان لهذه الفتوى من ردّ فعلٍ قاس وعنيف من قبل هؤلاء الأمراء، ولكنهم لم يكونوا ليخالفوا أمر سلطان العلماء الذي تعلوا كلمته على كل كلمة في القطر كله فتم بيعهم وعتقهم ورجه ثمنهم إلى بيت مال المسلمين الذي تم شراؤهم منه...
    ويُذكر عن بيبرس أنه كان يهاب سلطان العلماء العزّ - رحمه الله -.
    وتمتليء حياة الشيخ بمثل هذه المواقف العظيمة التي تبناها الشيخ ودافع عنها إلى آخر لحظة من لحظات حياته المباركة - رحمه الله -.
    وقد وُصف الشيخ - رحمه الله - أيضًا، بالزهد والورع الشديدين، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء، والعطف على المحتاجين مما يجعل من شخصيته رحمه الله نموذجًا رائعًا يُقتدي به في ميادين الحياة المختلفة.
    شيوخه:
    حضر أبا الحسين أحمد بن الموازيني والخشوعي، وسمع عبد اللطيف بن إسماعيل الصوفي، والقاسم بن عساكر وابن طبرزد، وحنبل المكبر، وابن الحرستاني وغيرهم. وخرج له الدمياطي أربعين حديثاً عوالي.
    وتفقه على الإمام فخر الدين ابن عساكر...
    تلاميذه:
    روى عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والدمياطي، وأبو الحسين اليونيني وغيرهم...
    مؤلفاته:
    للعز بن عبد السلام رحمه الله مؤلفات كثيرة منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط فله كتاب الإلمام في أدلة الأحكام، وترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام، وله كتاب في التفسير، وكتاب شجرة المعارف، وله كتاب في العقيدة سمّاه عقائد الشيخ عز الدين وشرحه الإمام ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي، وله كتاب الفتاوى الموصلية، وله كتاب القواعد الكبرى في فروع الشافعية قال عنه صاحب كشف الظنون: وليس لأحد مثله، وكتاب كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار، وله كتاب الغاية في اختصار النهاية.
    وقد وشملت مؤلفات الشيخ التفسير وعلوم القرآن والحديث والسيرة النبوية، وعلم التوحيد، والفقه وأصوله والفتوى.
    منهجه في البحث:
    اهتم الشيخ عز الدين بوضع أصول للفقه، فألف كتابه قواعد "الأحكام في مصالح الأنام" وقد ضمنه كثيرا من القواعد الفقهية. وقال في أوله: "الشريعة كلها إما درء مفاسد أو جلب مصالح. فإذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فلا تجد إلا خيرا يحثك عليه أو شرا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر. وقد أبان الله تعالى ما في بعض الأحكام من المفاسد فحث على اجتناب المفاسد وما في بعض الأحكام من المصالح فحث على إتيان المصالح."
    ثم يقول: إما مصالح الدنيا "الدنيا والآخرة" وأسبابها ومفاسدها وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع. فإن خفي طلب بأدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال الصحيح. أما مصالح الدنيا وأسبابها ومقاصدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات. فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته. ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد فليعرضها على العقل.
    فهو يدعو إلى إعمال العقل في استنباط الأحكام، وفي التعرف على المصالح. وهو يرى أن الأحكام إن لم يمكن استنباطها من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، فيجب استنباطها بما يحقق مصلحة ويدرأ مفسدة. والعقل هو أداة هذا الاستنباط.
    ويقول: "إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء معاطب الأسقام. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب فإن كل واحد منهما لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم."
    وتأسيسا على هذا النظر، استنبط كثيرا من الأحكام:
    ـ فنهى عن تعمد المشقة في العبادات والمعاملات. فلا مصلحة في المشقة: "قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب باستعمال الدواء المر البشع. فإنه ليس غرضه إلا الشفاء، ولو قال قائل كان غرض الطبيب أن يوجد مشقة ألم مرارة الدواء لما حسن ذلك فيمن يقصد الإصلاح.
    وقيل في بعض كتب الله: "بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي".. فلا يصح التقرب بالمشاق. ومن آرائه أنه من الممكن تأخير بعض المصالح لما لتأخيرها من مفاسد فقد أخر الله إيجاب الصلاة والصيام، "ولو عجل بهما لنفروا من الدخول في الإسلام".
    ـ في تحصيل المصالح يراعى الأفضل فالأفضل لقوله تعالى: "فبشر عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه". وقوله "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم".
    وعلى ذلك:
    ـ فإنقاذ الغرقى مقدم على أداء الصلوات لأنه افضل عند الله من أداء الصلاة والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك.
    ـ لو رأى الصائم في رمضان غريقا لا يتمكن من تخليصه إلا بالتقوى بالفطر فإنه يفطر وينقذه. لأنه في النفوس حقا لله تعالى وحقا لصاحب النفس، فقد ذلك على أداة الصوم.
    ـ لا يتقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحرب والقتال، وقد جاء في الحديث الشريف: "من ولى من أمر المسلمين شيئا ثم لم يجهد له ولم ينصح فالجنة عليه حرام."
    ـ الأئمة "الحكام" البغاة لا ولاية لهم. وإنما نفذت تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة مصلحة الرعايا، وأنه مع غلبة الفجور عليهم لا انفكاك للناس منهم. وأما أخذهم الزكاة فإن صرفوها في مصارفها أجزأت، وإن صرفوها في غير مصارفها لم يبرأ الأغنياء منها. ومصالح الفقراء أولى من مصالح الأغنياء لأنهم يتضررون بعدم أخذ نصيبهم من الزكاة، ولا يتضرر به الأغنياء من تثنية الزكاة.
    ثناء العلماء عليه:
    قال عنه الذهبي: بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر والصلابة في الدين، وقصده الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة.
    وقال عنه ابن دقيق العيد: كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء.
    وقال عنه ابن الحاجب: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي.
    وقال عنه السيوطي: شيخ الإسلام، سلطان العلماء،.... وبرع في الفقه والأصول والعربية...، مع الزهد والورع، وبلغَ رتبةَ الاجتهادِ.
    وقال عنه ابن السبكي: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها.
    وقال عنه الصفدي: قرأ الأصول والعربية ودرس وأفتى وصنف، وبرع في المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد،وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة... وكان ناسكاً ورعاً أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
    نالَ العزّ بن عبد السلام شهرة كبيرة وذاع صيته وعلا نجمه وصار من الأمثال المصرية: ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام...!
    وفاته:
    توفي العز بن عبد السلام رحمه الله سنة 660 هـ، 1262 م عن ثلاث وثمانين سنة.
    من مراجع البحث:
    العز بن عبد السلام............................. د. محمد الزحيلي
    كشف الظنون................................. حاجي خليفة
    قصة التتار من البداية إلى عين جالوت............ د. راغب السرجاني
    أئمة الفقه التسعة.............................. عبد الرحمن الشرقاوي
    الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
    نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
    روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
    ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

    تعليق


    • #3
      سيد التابعين - سعيد بن جبير

      هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم الكوفي، أبو محمد، ويقال: أبو عبد الله ووالبة هو ابن الحارث بن ثعلبة، عده أصحاب السير من الطبقة الثالثة من التابعين. روى له البخاري - مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي- ابن ماجه.
      بلد المعيشة والرحلات:
      ذكره أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان فقال: دخل أصبهان وأقام بها مدة، ثم ارتحل منها إلى العراق وسكن قرية سنبلان.
      الصحابة الذين تعلم على أيديهم
      واتت الفرصة لسعيد بن جبير فتعلم على يد عدد من الصحابة ويروي عنهم، فأخذ عن حبر الأمة عبد الله بن عباس وروى عنه وأكثر، وكان أحد تلامذته، وسمع من عبد الله بن مغفل وعائشة وعدي بن حاتم وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وأبي مسعود البدري وعن ابن عمر وابن الزبير والضحاك بن قيس وأنس وأبي سعيد الخدري.
      من ملامح شخصيته:
      عبادته:
      مما عرف عن سعيد بن جبير أنه كان عابدًا قوامًا، فعن أصبغ بن زيد قال كان لسعيد بن جبير ديك كان يقوم من الليل بصياحة فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق عليه فقال: ما له قطع الله صوته فما سمع له صوت بعد فقالت له أمه: يا بني لا تدع على شيء بعدها. وقال القاسم بن أبي أيوب سمعت سعيدًا يردد هذه الآية في الصلاة بضعا وعشرين مرة "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله". ويقول هلال بن خباب: خرجت مع سعيد بن جبير في رجب فأحرم من الكوفة بعمرة ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة وكان يحرم في كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة.
      حبه للقرآن
      كان لسعيد شأن وحال مع القرآن فروي أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين. وكان سعيد بن جبير يجيء فيما بين المغرب والعشاء فيقرأ القرآن في رمضان، وعن الصعب بن عثمان قال: قال سعيد بن جبير: ما مضت علي ليلتان منذ قتل الحسين إلا أقرأ فيها القرآن إلا مريضًا أو مسافرًا.
      خوفه وورعه:
      مما أثر عن سعيد بن جبير خوفه وخشيته وكان ذكر الموت لا يفارقه فيقول: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي. وعنه قال: إنما الدنيا جمع من جمع الآخرة.
      تمنيه للشهادة
      ولما علم من فضل الشهادة تمناها وثبت للقتل ولم يكترث ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له رحمه الله تعالى، فعن داود بن أبي هند قال: لما أًخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً وسأخبركم: إني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء ثم سألنا الله الشهادة فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.
      علمه:
      كان سعيد بن جبير وعاء من أوعية العلم فعن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير. ويقول ميمون بن مهران: لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض رجل إلا يحتاج إلى سعيد.
      أثر الصحابة فيه:
      لقد كان للصحابة أثر كبير في تعليم سعيد بن جبير فهم الذين أرشدوه إلى الخير وأمروه بأن يُحدث وهم حاضرون كما فعل معه ابن عباس فعن مجاهد قال: قال ابن عباس لسعيد بن جبير: حدث فقال: أحدث وأنت ها هنا قال: أوليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا شاهد فإن أصبت فذاك وإن أخطأت علمتك. وعن سعيد بن جبير قال: رآني أبو مسعود البدري في يوم عيد ولي ذؤابة فقال: يا غلام أو يا غليم، إنه لا صلاة في مثل هذا اليوم قبل صلاة الإمام فصل بعدها ركعتين وأطل القراءة.
      أثره في الآخرين
      ما كانت تأتي فرصة للدعوة أو للنصح أمام سعيد بن جبير إلا اغتنمها، فكان يراسل إخوانه وفي ذلك يقول عمرو بن ذر: كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتابًا أوصاه بتقوى الله وقال: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة فذكر الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره.
      وعن هلال بن خباب أنه قال: خرجنا مع سعيد بن جبير في جنازة فكان يحدثنا في الطريق ويذكرنا حتى بلغ، فلما جلس لم يزل يحدثنا حتى قمنا فرجعنا وكان كثير الذكر لله. وكان يقول: وددت الناس أخذوا ما عندي فإنه مما يهمني. وكان لا يدع أحدًا يغتاب عنده أحدًا إلا يقول إن أردت ذلك ففي وجهه.
      من كلماته:
      قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.
      وقال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك فلتلك الخشية، والذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.
      وقال: أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه عناء، وإياك وما يعتذر منه فإنه لا يعتذر من خير.
      موقف وفاته:



      كان سعيد قد ساهم في ثورة القائد عبد الرحمن بن الأشعث هو وجمع من العلماء , فسميت ثورة الفقهاء على الحجاج بن يوسف , فطارده الحجاج و هو يفر منه عشر سنوات .

      يروي عون بن أبي شداد ما وقع بين سعيد والحجاج فيقول: بلغني أن الحجاج لما ذكر له سعيد بن جبير أرسل إليه قائدًا يسمى المتلمس بن أحوص في عشرين من أهل الشام، فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعته فسألوه عنه فقال: صفوه لي فوصفوه فدلهم عليه فانطلقوا فوجدوه ساجدًا يناجي بأعلى صوته فدنوا وسلموا، فرفع رأسه فأتم بقية صلاته ثم رد عليهم السلام فقالوا: إنا رسل الحجاج إليك فأجبه، قال: ولا بد من الإجابة، قالوا: لابد فحمد الله وأثنى عليه وقام معهم حتى انتهى إلى دير الراهب فقال الراهب: يا معشر الفرسان، أصبتم صاحبكم قالوا: نعم فقال: اصعدوا فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير ففعلوا، وأبى سعيد أن يدخل فقالوا: ما نراك إلا وأنت تريد الهرب منا قال: لا ولكن لا أدخل منزل مشرك أبدًا قالوا: فإنا لا ندعك فإن السباع تقتلك قال: لا ضير إن معي ربي يصرفها عني ويجعلها حرسًا تحرسني قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكن عبد من عبيد الله مذنب قال الراهب: فليعطني ما أثق به على طمأنينة فعرضوا على سعيد أن يعطي الراهب ما يريد قال: إني أعطي العظيم الذي لا شريك له لا أبرح مكاني حتى أصبح إن شاء الله، فرضي الراهب بذلك فقال لهم: اصعدوا وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح فإنه كره الدخول في الصومعة لمكانكم، فلما صعدوا وأوتروا القسي إذا هم بلبوة قد أقبلت فلما دنت من سعيد تحككت به وتمسحت به، ثم ربضت قريبا منه وأقبل الأسد يصنع كذلك فلما رأى الراهب ذلك وأصبحوا نزل إليه فسأله عن شرائع دينه وسنن رسوله ففسر له سعيد ذلك كله فأسلم، وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه فيقولون: يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت قال: امضوا لأمركم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه فساروا حتى بلغو واسطًا فقال سعيد: قد تحرمت بكم وصحبتكم ولست أشك أن أجلي قد حضر فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت واستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، فإذا أصبحتم فالميعاد بيننا المكان الذي تريدون فقال: بعضهم لا تريدون أثرًا بعد عين وقال بعضهم: قد بلغتم أمنكم واستوجبتم جوائز الأمير فلا تعجزوا عنه وقال بعضهم: يعطيكم ما أعطى الراهب، ويلكم أما لكم عبرة بالأسد ونظروا إلى سعيد قد دمعت عيناه، وشعث رأسه، واغبر لونه، ولم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ يوم لقوه وصحبوه، فقالوا: يا خير أهل الأرض، ليتنا لم نعرفك ولم نسرح إليك، الويل لنا ويلاً طويلاً، كيف ابتلينا بك؟ اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعادل الذي لا يجور، قال: ما أعذرني لكم، وأرضاني لما سبق من علم الله في، فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة قال: كفيله أسألك بالله لما زودتنا من دعائك وكلامك فإنا لن نلقى مثلك أبدًا ففعل ذلك، فخلوا سبيله فغسل رأسه ومدرعته وكساءه وهم محتفون الليل كله، ينادون بالويل واللهف، فلما انشق عمود الصبح جاءهم سعيد فقرع الباب، فنزلوا وبكوا معه وذهبوا به إلى الحجاج وآخر معه فدخلا فقال الحجاج: أتيتموني بسعيد بن جبير قالوا: نعم وعاينا منا العجب، فصرف بوجهه عنهم فقال: أدخلوه علي فخرج المتلمس فقال: لسعيد أستودعك الله وأقرأ عليك السلام فأدخل عليه،
      فقال: ما اسمك؟
      قال: سعيد بن جبير؟
      قال: أنت شقي بن كسير.
      قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
      قال: الغيب يعلمه غيرك.
      قال: لأبدلنك بالدنيا نار تلظى.
      قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهًا.
      قال: فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم.
      قال: نبي الرحمة إمام الهدى.
      قال: فما قولك في علي في الجنة هو أم في النار؟
      قال: لو دخلتها فرأيت أهلها عرفت.
      قال: فما قولك في الخلفاء؟
      قال: لست عليهم بوكيل.
      قال: فأيهم أعجب إليك؟
      قال: أرضاهم لخالقي.
      قال: فأيهم أرضى للخالق.
      قال: علم ذلك عنده.
      قال: أبيت أن تصدقني.
      قال: إني لم أحب أن أكذبك.
      قال: فما بالك لم تضحك.
      قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟
      قال: فما بالنا نضحك؟
      قال: لم تستو القلوب.
      قال: ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وجمعه بن يدي سعيد.
      فقال: إن كنت جمعته لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جُمع للدنيا إلا ما طاب وزكا.
      ثم دعا الحجاج بالعود والناي فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى.
      فقال: الحجاج ما يبكيك هو اللهو؟
      قال: بل هو الحزن أما النفخ فذكرني يوم نفخ الصور، وأما العود فشجرة قطعت من غير حق، وأما الأوتار فأمعاء شاة يبعث بها معك يوم القيامة.
      فقال: الحجاج ويلك يا سعيد.
      قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.
      قال: اختر أي قتلة تريد أن أقتلك؟
      قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله ما تقتلني قتله إلا قتلتك قتلة في الآخرة؟
      قال: فتريد أن أعفوا عنك؟
      قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر؟
      قال: اذهبوا به فاقتلوه.
      فلما خرج من الباب ضحك فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده.
      فقال: ما أضحكك؟
      قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلمه عنك فأمر بالنطع فبسط فقال: اقتلوه.
      فقال: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض".
      قال: شدوا به لغير القبلة.
      قال:" فأينما تولوا فثم وجه الله".
      قال: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم".
      قال: اذبحوه.
      قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا الله سعيد وقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي فذبح على النطع.
      وفاته
      كان قتل سعيد بن جبير سنة أربع وتسعين وكان يومئذ بن تسع وأربعين سنة
      فضله ومناقبه
      كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء يعني سعيد بن جبير.
      وعن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة فقال: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني وهو يفرض منها ما أفرض.
      المصادر:
      رواة التهذيبيين - وفيات الأعيان - سير أعلام النبلاء - الطبقات الكبر
      الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
      نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
      روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
      ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

      تعليق


      • #4
        فكرة جيدة تصلح إذا قامت الإدارة - مشكورة بتثبيت الموضوع .
        الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
        نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
        روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
        ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

        تعليق


        • #5
          شيخ الإسلام ابن تيمية

          يكاد القلم يتوقف عند مجرد ذكر اسم هذا العالم الجليل، شيخ الإسلام ابن تيمية، أي قلم وأي صفحات، بل ومجلدات تستطيع أن توفي هذا العالم العظيم قدره، ذلك الحبر الذي قدم للإسلام والمسلمين ما يعجز المرء عن الإحاطة به، إنه البحر من أي النواحي ولجته فشيمته العلم والدين ساحله.
          نسبه:
          هو شيخ الإسلام الإمام أبو العباس: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي.
          مولده ووفاته:
          ولد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة 661 هـ، ولما بلغ من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هربًا من وجه الغزاة التتار، وتوفي ليلة الاثنين العشرين من شهر ذي القعدة سنة (728) هـ وعمره (67) سنة.
          نشأته:
          نشأ في بيت علم وفقه ودين، فأبوه وأجداده وإخوته وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، منهم جده الأعلى (الرابع) محمد بن الخضر، ومنهم عبد الحليم بن محمد بن تيمية، وعبد الغني بن محمد ابن تيمية، وجده الأدنى عبد السلام بن عبد الله ابن تيمية مجد الدين أبو البركات صاحب التصانيف التي منه: المنتقى من أحاديث الأحكام، والمحرر في الفقه، والمسودة في الأصول وغيره، وكذلك أبوه عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، وأخوه عبد الرحمن وغيرهم.ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة صاحب الترجمة، وقد بدأ بطلب العلم أولًا على أبيه وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير،وعرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره. ثم توسّع في دراسة العلوم وتبحر فيه، واجتمعت فيه صفات المجتهد وشروط الاجتهاد منذ شبابه، فلم يلبث أن صار إمامًا يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره.
          إنتاجه العلمي:
          وفي مجال التأليف والإنتاج العلمي، فقد ترك الشيخ للأمة تراثًا ضخمًا ثمينً، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه معينًا صافيً، توفرت لدى الأمة منه الآن المجلدات الكثيرة، من المؤلفات والرسائل والفتاوى والمسائل وغيره، هذا من المطبوع، وما بقي مجهولًا ومكنوزًا في عالم المخطوطات فكثير.
          المجالات العلمية التي أسهم فيه:
          ولم يترك الشيخ مجالًا من مجالات العلم والمعرفة التي تنفع الأمة، وتخدم الإسلام إلا كتب فيه وأسهم بجدارة وإتقان، وتلك خصلة قلما توجد إلا عند العباقرة النوادر في التاريخ.
          فلقد شهد له أقرانه وأساتذته وتلاميذه وخصومه بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، فإذا تكلم في علم من العلوم أو فن من الفنون ظن السامع أنه لا يتقن غيره، وذلك لإحكامه له وتبحره فيه، وأن المطلع على مؤلفاته وإنتاجه، والعارف بما كان يعمله في حياته من الجهاد باليد واللسان، والذب عن الدين، والعبادة والذكر، ليعجب كل العجب من بركة وقته، وقوة تحمله وجلده، فسبحان من منحه تلك المواهب.
          عصره:
          لقد عاش المؤلف - رحمه الله - في عصر كثرت فيه البدع والضلالات، وسادت كثير من المذاهب الباطلة، واستفحلت الشبهات وانتشر الجهل والتعصب والتقليد الأعمى، وغزيت بلاد المسلمين من قبل التتار والصليبيين (الإفرنج.
          ونجد صورة عصره جلية واضحة من خلال مؤلفاته التي بين أيدينا؛ لأنه اهتم بأجل أمور المسلمين وأخطره، وساهم في علاجها بقلمه ولسانه ويده، فالمتأمل في مؤلفات الشيخ يجد الصورة التالية لعصره:
          كثرة البدع والشركيات خاصة حول القبور والمشاهد والمزارات المزعومة، والاعتقادات الباطلة في الأحياء والموتى، وأنهم ينفعون ويضرون ويُدعون من دون الله.
          انتشار الفلسفات والإلحاد والجدل.
          هيمنة التصوف، والطرق الصوفية الضالة على العامة من الناس، ومن ثم انتشار المذاهب والآراء الباطنية.
          توغل الروافض في أمور المسلمين، ونشرهم للبدع والشركيات وتثبيطهم للناس عن الجهاد، ومساعدتهم للتتار أعداء المسلمين.
          وأخيرًا نلاحظ تَقَوّي أهل السنة والجماعة بالشيخ وحفزه لعزائمهم مما كان له الأثر الحميد على المسلمين إلى اليوم في التصدي للبدع والمنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم.
          جاء شيخ الإسلام إلى الدنيا في فترة فقد فيها المسلمون، أو كادو،يفقدون معالم الطريقة التي تهديهم إلى الحق، في غمرة من المحن، واشتداد من الخطوب والابتلاءات، فنهض بعبء الإصلاح للواقع المرير الذي تمر به الأمة الإسلامية، فبعث الحياة في الفكر الإسلامي بعد جمود أصابه، وأيقظ حياة كادت معالمها المشرقة أن تختفي بعد أن عمها الركود. جاء رحمه الله على فترة من المصلحين في تاريخ الإسلام، وكان المجتمع الإسلامي فيها قد وصل إلى صورة يعجز القلم عن تصويرها مما كان يغمره من الانحلال اجتماعي، وتفكك سياسي، وتفتت مذهبي، مجتمع فرقه الهوى، ومزقه الترف، واستولت على إدارة أموره وسايسته قيادات حاكمة عاشت لشهواتها الداعرة في ظل الجهالة..، واستحوذ البلاء على كل جانب، وصبت عليه المحن القواصم صبً، وأحاطت به الرزايا العواصف، تلك الفترة التي اجتاح فيها التتار العالم الإسلامي، و كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية متردية ومنهارة، تحتاج إلى داعية لبق، ومصلح فذ يراعي ظروف المرحلة، ويأخذ بيد الأمة إلى بر الأمان مع كل هذه الأنواء والأعاصير..
          وقد وقف الشيخ -رحمه الله- في عصره إزاء هذه الانحرافات موقفًا مشهودً، آمرًا وناهيً، وناصحً، ومبينً، حتى أصلح الله على يديه الكثير من أوضاع المسلمين، ونصر به السنة وأهله، والحمد لله.
          جهاده ودفاعه عن الإسلام:
          الكثير من الناس يجهل الجوانب العملية من حياة الشيخ، فإنهم عرفوه عالمًا ومؤلفًا ومفتيً، من خلال مؤلفاته المنتشرة، مع أن له مواقف مشهودة في مجالات أخرى عديدة ساهم فيها مساهمة قوية في نصرة الإسلام وعزة المسلمين فمن ذلك: جهاده بالسيف وتحريضه المسلمين على القتال، بالقول والعمل، فقد كان يجول بسيفه في ساحات الوغى، مع أعظم الفرسان الشجعان، والذين شاهدوه في القتال أثناء فتح عكا عجبوا من شجاعته وفتكه بالعدو أما جهاده بالقلم واللسان فإنه -رحمه الله- وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ، بالمناظرات -حينًا- وبالردود -أحيانًا- حتى فند شبهاتهم ورد الكثير من كيدهم بحمد الله، فقد تصدى للفلاسفة، والباطنية، من صوفية، وإسماعيلية ونصيرية وسواهم، كما تصدى للروافض والملاحدة، وفند شبهات أهل البدع التي تقام حول المشاهد والقبور ونحوه، كما تصدى للجهمية والمعتزلة والأشاعرة في مجال الأسماء والصفات، وبالجملة فقد اعتنى ببيان أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ورد الشبهات حول هذه الأنواع.
          والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فضلة، فقد حورب وطورد وأوذي وسجن مرات في سبيل الله، وقد وافته منيته مسجونًا في سجن القلعة بدمشق لا تزال -بحمد الله- ردود الشيخ سلاحًا فعالًا ضد أعداء الحق والمبطلين؛ لأنها إنما تستند على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهدي السلف الصالح، مع قوة الاستنباط، وقوة الاستدلال والاحتجاج الشرعي والعقلي، وسعة العلم، التي وهبها الله له، وأكثر المذاهب الهدامة التي راجت اليوم بين المسلمين هي امتداد لتلك الفرق والمذاهب التي تصدى لها الشيخ وأمثاله من سلفنا الصالح؛ لذلك ينبغي للدعاة المصلحين أن لا يغفلوا هذه الناحية؛ ليستفيدوا مما سبقهم به أولئك.
          ولست مبالغًا حينما أقول: إنه لا تزال كتب الشيخ وردوده هي أقوى سلاح للتصدي لهذه الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي راجت اليوم، والتي هي امتداد للماضي، لكنها تزيّت بأزياء العصر، وغيّرت أسماءها فقط، مثل البعثية، والاشتراكية، والقومية، والقاديانية والبهائية، وسواها من الفرق والمذاهب
          ابن تيمية وإصلاح السجون ( مقال)
          و على الرغم مما كتب عن ابن تيمية، وهو بالقياس إلى أعماله ومواقفه وشخصيته الفذة يعدّ قليلاً، إلا أن هذا الجانب من جوانب نشاطه المتعدد الأوجه لم يظهر فيما كتب عنه؛ فلم يشر المؤلفون الذين تناولوا شخصيته وأعماله بالدراسة والبحث إلى ما بذله من جهود مخلصة من أجل إصلاح أوضاع السجون، وجعل أحول المسجونين أقل قسوة مما كانت عليه في الظروف التي سادت مصر والشام في نهاية القرن السابع، وبداية القرن الثامن الهجريين؛ أثناء حكم المماليك هذين البلدين.
          ولعل ذلك يرجع إلى سببين، أولهما: أن الذين درسوا شخصية وأعمال ابن تيمية ليسوا من المهتمين بالنظم العقابية، ومن ثم فإن جهوده من أجل إصلاح أحوال المسجونين، وتخفيف المعاناة عنهم لم تلفت نظرهم.
          أما السبب الثاني فهو أن تلك الجهود التي بذلها ابن تيمية في هذا الصدد لم ترد فيما وضعه من كتب ومؤلفات، وهي كثيرة، أو لعلها وردت في بعض كتبه التي لم تصل إلينا وهي كثيرة أيضاً، حيث ذكر ابن تغري بردي أن مصنفات ابن تيمية بلغت خمسمائة مجلد ؛لم يصل إلينا منه إلا عدد قليل ربما لا يزيد عن خمسين مجلداً.
          أثره الواضح في أعمال الملك الصالح الإصلاحية ومع ذلك فإن تلك الجهود ليست من الخفاء بحيث يفوت الدارسين ملاحظتها؛ ففيما كتبه عنه المؤرخون أمثال ابن كثير والمقريزي وابن تغري بردي الكثير الذي يمكن أن نستخلص منه مواقف ابن تيمية المشرفة من أحوال المسجونين السيئة، ومساعيه الذاتية من أجل تخفيف المعاناة عنهم، وما بذله من جهود لدى الملك الناصر محمد بن قلاوون لكي يصلح من أوضاع السجون، ويهتم بأحوال المسجونين؛ وهي الجهود التي ظهرت آثارها واضحة فيما قام به الملك الصالح من أعمال؛ تعد في جملتها حركة إصلاح شاملة للسجون؛ تضمنت فيما تضمنته بذل المزيد من الرعاية للمسجونين سواء بإطلاق سراح أعداد كبيرة منهم، أو بتحسين أحوال من بقي مسجوناً لعدم قضائه المدة المحكوم بها عليه.
          أسباب وشواهد واعبتار ابن تيمية المشير بهذه الإصلاحات ليس من قبيل الاستنتاج؛ ذلك لأنه توجد كثير من الشواهد التي تجعل القول بغير ذلك ضرباً من التحكم. ومن هذا الشواهد:
          أولاً: أن ابن تيمية، على خلاف من عاصرهم من فقهاء وعلماء، كان يتمتع بصفات افتقر إليها سواه؛ مثل الجرأة في مواجهة الأوضاع غير الصحيحة، والشجاعة التي ليس لها نظير عند مواجهة الحكام فيما يعتقد أن حق انحرفوا عنه، أو باطل مالوا إليه، وموهبته الأصيلة في النقد، مع ما كان يتمتع به من بصيرة نافذة وبعد نظر.
          ثانياً: أنه عانى من الحبس أكثر من مرة، وخبر السجون وعرف ما يجري بداخلها من أمور لا يقرها الشرع ولا يقبلها العرف، وعلى الرغم من أن حبسه كان في بعض المرات في قصر أو في قاعة حسنة نظيفة في إحدى القلاع، إلا أنه حُبس ذات مرة في سجن »الجبّ« بقلعة صلاح الدين في القاهرة سنة 705 هـ، وذلك في ولاية الملك الناصر محمد بن قلاوون الثانية، حيث قضى في هذا الحبس المهول عامين، ثم أفرج عنه سنة 707 هـ.
          ثم حددت إقامته في دار ابن شقير في القاهرة؛ حتى نفاه الملك المظفر بيبرس الجاشنكير إلى الاسكندرية، وكان قد تولى الملك سنة 708 هـ عقب خلْع ابن قلاوون لنفسه للمرة الثانية، فظل ابن تيمية مقيماً بالإسكندرية حتى عاد [ابن] قلاوون إلى القاهرة حين استرد عرشه للمرة الثالثة سنة 709 هـ، فبعث في طلب ابن تيمية، حيث اجتمع به وتبادل معه الرأي في كثير من الأمور، وكان ابن تيمية كعادته صريحاً جريئاً.
          ثالثاً: أنه منذ عودة ابن تيمية من منفاه في سنة 709 هـ وإلى حين رجوعه إلى دمشق في سنة 712 هـ كان بصحبة ابن قلاوون، أو على اتصال دائم بهذا الملك الذي أصدر خلال هذه الفترة القصيرة كثيراً من الأوامر والمراسيم التي أبطل بها أوضاعاً فاسدة كان ابن تيمية قد وجه إليها نقداً شديداً؛ مثال ذلك الرشوة، ففي سنة 711 هـ أصدر الملك محمد بن قلاوون أمراً بأن لا يُولّى أحد بمال ولا برشوة.
          ويقول ابن كثير: »وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية.«
          تأثير ابن تيمية على ابن قلاوون في أعماله الإصلاحية ليس ذلك وحسب، بل إن ابن قلاوون أبطل أيضاً رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، والتي كانت تجبى من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش.ويقول ابن تغري بردي: »وأبطل ما كان يأخذه مهتار طشتخاناه السلطان من البغايا والمنكرات والفواحش« وكانت جملة مستكثرة.
          كذلك منع ابن قلاوون الخمر وعاقب شاربيها بشدة، وكان ابن تيمية يعيب على الحكومة تهاونها مع شاربي الخمر، ويقوم أحياناً بمهاجمة الأماكن التي تباع فيها، ويعاقب شاربيها بشدة.
          وفضلاً عن هذه الشواهد التي تؤيد ما ذهبنا إليه من أن ابن تيمية كان وراء حركة الإصلاح العقابي التي قام بها ابن قلاوون، والتي سنلقي الضوء عليها فيما بعد، فإن هناك مستشرقاً فرنسياً هو الأستاذ »هنري لاووست« الذي قضى أكثر من ثلاثين سنةفي دراسة عصر المماليك، والحنابلة، وابن تيمية بوجه خاص، وترجم كتاب »السياسة الشرعية« إلى الفرنسية، وقدم له بمقدمة قيمة، يرجح أن ابن تيمية صنّفه ما بين سنة 709 و 712 هجرية، في أعقاب استدعاء ابن قلاوون له من منفاه بالإسكندرية، وبناء على طلب من هذا الملك كما فعل هارون الرشيد مع أبي يوسف.
          ويرى »هنري لاووست« بالاستناد إلى ما كتبه ابن كثير في »البداية والنهاية« أن هناك مطابقة واضحة بين الخطط المرسومة في كتاب »السياسة الشرعية« والإصلاحات المقترحة فيه، والتدابير والإصلاحات التي قام بها محمد بن قلاوون في التاريخ نفسه.
          سجن ابن تيمية لم يحدّ من نفوذه العلمي وتأثيره الوجداني
          وعلى الرغم من أ ن الملك الناصر محمد بن قلاوون، كان قد أمر بحبس ابن تيمية أربع مرات كان آخرها سنة 726 هـ حيث سجن في قلعة دمشق إلى أن توفي سنة 728 هـ، إلا أن ذلك لم يكن عن حقد أو كراهية بالفقيه الكبير والمفكر العظيم، وإنما كان لخلاف في الرأي، ولعدم التزام ابن تيمية بما أمره به ابن قلاوون من الامتناع عن الفتيا في مسألة الطلاق، وبتحريض من الفقهاء الذين كانوا يخالفون ابن تيمية في آرائه.
          وإذا كان ابن تيمية قد توفي في سنة 728 هـ فإن تأثيره في ابن قلاوون ظل قائماً حتى وافت المنية هذا الملك سنة 741 هـ، حيث إن السياسة التي أشار عليها بها بشأن السجون ظلت مستمرة منذ أول أمر أصدره في سنة 711 هـ بالإفراج عن المسجونين، وألا يؤخذ من كل مسجون إلا نصف درهم، كما أصدر أمراً آمر يقضي بإطلاق سراح الأشخاص الذين سُخّروا غصباً في بعض الأعمال.
          أوضاع السجون في عهد ابن تيمية
          وزيادة في الوضوح سنبين للقارئ ما كانت عليه أوضاع السجون أيام ابن تيمية حتى يمكن أن ندرك طبيعة وأهمية الإصلاحات التي أشار بها ابن تيمية على ابن قلاوون.
          على الرغم من أن السجون كانت تتبع الدولة من حيث كونها أماكن يودع فيها الأشخاص؛ سواء الذين صدرت بحقهم أحكام بالحبس، أو الذين حبسوا على سبيل التوقيف، أو ما يسمى بالحبس الاحتياطي. كما أن حراسة هذه الأماكن كان يعهد بها إلى الشرطة إلا أن إدارتها في الداخل والإشراف على نزلائها من الوجوه كافة كان يعهد به إلى ضامن يتولى الإنفاق عليها مما يحصله من المسجونين، ويؤدي للحاكم مبلغاً من المال سنوياً، وكان يوجد فضلاً عن هذا الضامن أشخاص يسمون »مُقْطَعين« بعدد السجون؛ أن أنه كان يجمع لكل سجين »مقطع« مهمته إدارة السجن لحساب الضامن؛ الذي كان غاية همه أن يحصّل أكبر قدر من المال من المسجونين، ضارباً عرض الحائط بما هم عليه من فقر وفاقة، وقد اختلف الرأي فيما كان الضامن يحصله من كل مسجون.
          فبينما يقول ابن تغري بردي: إنه كان على كل شخص يورجع في السجن ولو للحظة واحدة أن يدفع للضامن مائة درهم، بالإضافة إلى الغرامة التي يلزم بدفعها، وكان الضامن يحصلها لحساب الحكومة، فإن المقريزي في »السلوك« يقول: إن هذا المبلغ كان ستة دراهم يدفعها للضامن، وليس مائة درهم.
          وسواء أكان المبلغ مائة درهم أو ستة دراهم فإن الذي لا شك فيه أن هذا اليس هو كل ما كان يتقاضاه الضامن من المسجونين، وإنما كان يتقاضى أضعافه من القادرين.
          أما الفقراء فإنه كان يسخرهم في بعض الأعمال التي تعود عليه بدخل كبير، غير عابئ بما يتحمله هؤلاء من أذى وما يصيبهم من ضرر.
          ومن ثم فإن إلغاء ابن قلاوون لهذا النظام يعد من قبيل الرجوع إلى الأصل، وهو قيام الدولة بالإشراف على السجون ورعايتها للمسجونين حماية لهم من استغلال الضمّان؛ وهو ما عليه الحال الآن في السجون القائمة.
          ولقد سبق أن ذكرنا أن ابن قلاوون أصدر مرسوماً في سنة 714 هـ يقضي بألا يؤخذ من كل مسجون إلا نصف درهم فقط، أي أنه بدأ أولاً بتحديد ما يجب على الضامن أن يأخذه من المسجونين بنصف درهم، ثم تلا ذلك إلغاء نظام الضمان تماماً، وربما يكون السبب راجعاً إلى عدم التزام الضامن بهذا التحديد لما يحق له أن يأخذه، وحصوله على مبالغ أكبر، ربما تكون قد وصلت إلى ما ذكره ابن تغري بردي، أي: مائة درهم في بعض الأحوال، ولم تقلّ عن ستة دراهم في أدنى الأحوال كما ذكر المقريزي.
          ولم يقف ابن قلاوون في سعيه إلى إصلاح أحوال المسجونين إلى هذا الحد، بل قطع شوطاً آخر لا يقل عن الشوط السابق أهمية: ذلك بأنه التفت إلى سجن »الجبّ« الذي كان بقلعة الجبل قبيح المنظر، شديد الظلمة، كريه الرائحة، فأصدر أمره سنة 729 هـ بردمه، لما عرفه من أن المحابيس يمرون به بشدائد عظيمة، فردِم وعمّر فوقه طباق للمماليك السلطانية.
          وقد عُمِل هذا الجب في سنة 681 هـ أيام الملك المنصور قلاوون.
          ويقول المقريزي في »خططه«: إن كان بالقلعة جب يحبس فيه الأمراء، وكان مهولاً مظلماً كثير الوطاويط كريه الرائحة؛ يقاسي المسجونون فيه ما هو أشد من الموت؛ عمّره الملك المنصور قلاوون سنة 681 هـ إلى أن أمر الملك الناصر محمد بن قلاوون بإخراج من كان فيه من المحابيس ونقلهم إلى الأبراج وردمه، وعمّر فوق الردم طباقاً (غرفاً) للمماليك في سنة 729 هـ.
          ويقول المقريزي: إن المسجونين كانوا يودعون في هذا السجن عن طريق التدلية فيه، أي أنهم يربطون بحبل ويدلون فيه، حتى إذا استقروا في قاعه بقوا فيه إلى ما شاء الله؛ وكان الطعام والشراب يدلّى إليهم كذلك.
          كذلك أزال الملك الناصر محمد بن قلاوون السجن الذي كان يسمى بـ (خزانة البنود) وأقام مكانه منزلاً خصصه لسكنى الأمراء من الفرنج مع أولادهم؛ وقد سمي السجن بـ (خزانة البنود) لأنه أقيم مكان أحد المخازن، وكانوا يسمونه خزانة، ويضعون فيه السلاح أو الأعلام وتسمى بنوداً، وكان يسجن فيه الأمراء والأعيان.
          ولم تقتصر جهود ابن قلاوون في مجال إصلاح السجون على سجون الأمراء، حيث إن كلاً من سجن الجب، وسجن خزانة البنود كانا مخصصين للأمراء والأعيان، بل إن جهوده شملت السجون التي يودع فيها أرباب الجرائم من السرّاق وقطاع الطريق ونحوهم، مثل السجن المسمى بـ (حبس المعونة) في القاهرة، حيث كان يوجد سجن آخر بالاسم نفسه في مصر (مصر القديمة الآن) ويقول المقريزي عن هذا السجن: إنه كان حرجاً ضيقاً شنيعاً يشم من قربه رائحة كريهة، فلما ولي الملك الناصر محمد بن قلاوون مملكة مصر هدمه وبناه قيسرية للعنبر.
          وهكذا نجد أن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان يتبع إزاء المجرمين سياسة حكيمة ومنهجاً سليماً، فهو لا يقاوم الجريمة بالسجون الموحشة والعقوبات المهلكة، وبزيادة عدد السجون ولا يقيم مكانها غيرها.
          وفي الوقت نفسه يصدر الأمر تلو الأمر بالإفراج عن المسجونين، ويقاوم عوامل الإجرام بحزم وقوة، ويضرب للناس المثل، ويجعل من نفسه قدوة صالحة لهم، فيلتزم بما أمر به الله تعالى، وينتهي عما نهى عنه،ويقول عنه ابن تغري بردي: إنه كان على غاية من الحشمة والرياسة وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه، ولا في انبساطه، مع عظيم ملكه وطول مدته في السلطة وكثرة حواشيه وخدمه، وكان مع هذه الشهامة وحب التجمّل مقتصداً في مجلسه لا يتحلى بالذهب، وكان لا يشرب الخمر، ويعاقب عليه، ويبعد من يشربه من الأمراء عنه؛ وكان في الجود والكرم والإفضال غية لا تدرك، خارجة عن الحدود، ولم يشهر عنه أنه ولى قاض في أيامه برشوة، ولا محتسب ولا وال؛ بل كان هو يبذل لهم الأموال، ويحرضهم على عمل الحق ويعظم الشرع الشريف. اهـ
          فلا عجب إذا قام بهذه الإصلاحات في مجال العقوبة فضلاً عن كثير غيرها في شتى المجالات من عسكرية وسياسية وإدارية وزراعية وقانونية وغيرها.
          ولذلك فإن ابن تغري بردي لم يكن مبالغاً حين وصفه بأنه أعظم ملوك الترك (المماليك) مهابة وأغرزهم عقلاً، وأحسنهم سياسة، وأكثرهم دهاءً، وأجودهم تدبيراً، وأقواهم بطشاً وشجاعة، وأحدقهم تنفيذاً.
          فإذا اجتمعت هذه الصفات كلها في ملك، ووُجد إلى جانبه عالم عظيم وفقيه كبير مثل ابن تيمية رحمه الله، اجتمعت فيه شروط الاجتهاط على وجهها، كما قال فيه كمال الدين بن الزملكاني غريمه اللدود، فهل تعجب إذا امتدت جهود الإصلاح إلى كل ميدان بما في ذلك ميدان الجريمة والعقوبة؟
          خصاله:
          بالإضافة إلى العلم والفقه في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد وهبه الله خصالًا حميدة، اشتهر بها وشهد له بها الناس، فكان سخيًا كريمًا يؤثر المحتاجين على نفسه في الطعام واللباس وغيرهم، وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن، وكان ورعًا زاهدًا لا يكاد يملك شيئًا من متاع الدنيا سوى الضروريات، وهذا مشهور عنه عند أهل زمانه حتى في عامة الناس، وكان متواضعًا في هيئته ولباسه ومعاملته مع الآخرين، فما كان يلبس الفاخر ولا الرديء من اللباس، ولا يتكلف لأحد يلقاه، واشتهر أيضًا بالمهابة والقوة في الحق، فكانت له هيبة عظيمة عند السلاطين والعلماء وعامة الناس، فكل من
          إلا من سيطر عليهم الحسد من أصحاب الأهواء ونحوهم.
          كما عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله، وكان ذا فراسة وكان مستجاب الدعوة، وله كرامات مشهودة، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
          عن عبادته وتقواه يقول تلميذه الحافظ أبي عمر البزار:
          أما تعبده فإنه قل أن سُمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى ما يراد له من أهل ولا من مال، وكان في ليله متفردًا عن الناسكلهم، خاليًا لربه عز وجل، ضارعًا مواظبًا على تلاوة القرآن العظيم، مكررًا لأنواع التعبدات الليلية والنهارية...
          وكان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهي إليها الورع. لأن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه، فإنه ما خلط الناس في بيع ولا شراء ولا تجارة... ولا كان يقبل صلة لنفسه من سلطان ولاأمير... و لا كان مدخرًا دينارًا ولا درهمً... وإنما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته ( العلم ) اقتداءً بسيد المرسلين: ( إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ) في الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
          قالوا عنه:
          ذكره الحافظ كمال الدين بن الزملكاني فقال:
          الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخرالمجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة،وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهدية المحجة، أعلى
          الله مناره،وشد به من الدين أركانه....انبهر أهل دمشق من فرط ذكاءه، وسيلان ذهنه، وقة حافظته وسرعة إدراكه.
          وكان لا بد لابن تيمية الذي سيقابل هذا الواقع الأليم بكل مآسيه وعقباته أن يكون عالمًا من طراز آخر، وأن يقر له جميع العلماء بالفضل والسبق عليهم، وأن يشهدوا أن أعينهم لمتر مثل هذا الرجل، وذلك حتى يستطيع أن يشق طريقه إلى الإصلاح، ولا يستطيع أحد أن يتهمه بجهل، أو قصور...
          قال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبدالهادي عنه * هو الشيخ الإمام الربابي إمام الأئمة ومفتي الأمة وبحر العلوم سيد الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ فريد العصر وقريع الدهر شيخ الإسلام بركة الأنام وعلامة الزمان وترجمان القرآن علم الزهاد وأوحد العباد قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبو العباس احمد بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبدالحليم ابن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبدالسلام بن أبي محمد عبدالله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبدالله ابن تيمية الحراني نزيل دمشق وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها قيل إن جده محمد بن الخضر حج على درب تيماء فرأى هناك طفلة فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتا فقال يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك قال ابن النجار ذكر لنا أن جده محمدا كانت أمه تسمى تيمية وكانت واعظة فنسب إليها وعرف بها قال عنه الإمام الذهبي في معجم شيوخه: سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل مالم يحصله غيره، برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليه، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوًا إلى أصوله وصحابته، معشدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس بمعرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده، وأتقن العربية أصولاً وفروعًا وتعليلاً واختلافً. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم، ونبه على خطئهم، وحذر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبً، وعلى طاعته، وأحيى به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم بتثبيت أولي الأمر، فلما أقبل حزب البغي والتتر في خيلائهم، فظنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشرأب النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه الكثيرة، وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله من الأعلام...**
          وقال عنه جلال الدين السيوطي: عني بالحديث، خرج وانتقى، وبرع في الرجال، وعلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام، وعلم الكلام، وغير ذلك، وكان بحرًا من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد والأفراد، ألف ألف وثلاثمائة مجلدة، وامتحن، وأوذي مرارً.
          وقال ابن حجر العسقلاني ( في تقريظ كتاب الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام كافر لابن ناصرالدمشقي ) قال: وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الذي هو للمقاصد التي جُمع لأجلها جامع، فتحققت سعة اطلاع الإمام الذي صنفه.. وشهرة إمامه الشيخ تقي الدين ( يقصد ابن تيمية) أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باقٍ إلى الآن على الألسنة الزكية، ويستمر غدًا ما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك إلا من جهل مقداره أو تجنب الإنصاف.... نبه عليه الحافظ البرزالي في تاريخه: أنه لم يوجد في الإسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشيخ تقي الدين.. على الرغم من أن أكثر من بالبلد من الفقهاء كانوا قد تعصبوا عليه حتى مات محبوسًا بالقلعة، ومع ذلك فلم يتخلف عن حضور جنازته والترحم عليه إلا ثلاثة أنفس.. ومع حضور هذا الجم الغفير، فلم يكن باعث ذلك إلا اعتقاد إمامته، وبركته لا بجمع السلطان ولا غيره، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أنتم شهداء الله في الأرض )، ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة من العلماء مرارًا بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك مجالس في القاهرة ودمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا حكم بسفك دمه، مع شدة المتعصبين عليه حينئذٍ من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه، وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله تعالى في السر والعلانية،... وإن أئمة عصره قد شهدوا له أن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى شهد له بذلك أشد المتعصبين له... ولو لم يكن للشيخ من المناقب إلا تلميذه الشهير الشيخ ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم، أئمة عصره من الشافعيه وغيرهم،فضلاً عن الحنابلة..
          وفاته:
          إن من علامات الخير للرجل الصالح، وقبوله لدى المسلمين، إحساسهم بفقده حين يموت؛ لذلك كان السلف يعدون كثرة المصلين على جنازة الرجل من علامات الخير والقبول له؛ لذلك قال الإمام أحمد: "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز". أي: أن أئمة السنة أكثر مشيعين يوم تموتون، ولقد شهد الواقع بذلك، فما سمع الناس بمثل جنازتي الإمامين: أحمد بن حنبل،وأحمد ابن تيمية حين ماتا من كثرة من شيعهما وخرج مع جنازة كل منهما، وصلى عليهما، فالمسلمون شهداء الله في أرضه.
          هذا وقد توفي الشيخ -رحمه الله- وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ليلة الاثنين 20 من شهر ذي القعدة سنة (728) ه، فهب كل أهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر جنازته جمهور كبير جدًا يفوق الوصف.
          رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
          ـــــــــــــــــــــــــــ
          * العقودالدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية
          ** طبقات الحنابلة لابن رجب.
          **عن مجلة الأمة، العدد 58، شوال 1405 هـ
          يمكن الاستزادة من كتاب ( ابن تيمية ) سلسلة أعلام المسلمين، وخاصة الجزء الخاص بـ أسس المنهج الدعوي عنده 219
          <
          الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
          نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
          روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
          ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

          تعليق


          • #6
            بانتظار أن تقوم الإدارة - إذا ارتأت ذلك طبعا - أن تقوم بتثبيت الموضوع لتعميم الفائدة .
            الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
            نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
            روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
            ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

            تعليق


            • #7
              الإمام النووي



              هو صاحب أشهر ثلاثة كتب يكاد لا يخلو منها بيت مسلم وهي " الأربعين النووية " و"الأذكار" و "رياض الصالحين"، وبالرغم من قلة صفحات هذه الكتب وقلة ما بذل فيها من جهد في الجمع والتأليف إلا أنها لاقت هذا الانتشار والقبول الكبيرين بين الناس، وقد عزى كثير من العلماء ذلك، إلى إخلاص النووي رحمه الله، فرب عمل صغير تكبره النية.
              فمع سيرة الإمام النووي ومواقف من حياته.



              نسَبُه ومَوْلده
              هو الإِمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزَام، النووي نسبة إلى نوى، وهي قرية من قرى حَوْران في سورية، ثم الدمشقي الشافعي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
              ولد النووي رحمه اللّه تعالى في المحرم 631 هـ في قرية نوى من أبوين صالحين، ولما بلغ العاشرة من عمره بدأ في حفظ القرآن وقراءة الفقه على بعض أهل العلم هناك، وصادف أن مرَّ بتلك القرية الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي، فرأى الصبيانَ يُكرِهونه على اللعب وهو يهربُ منهم ويبكي لإِكراههم ويقرأ القرآن، فذهب إلى والده ونصحَه أن يفرّغه لطلب العلم، فاستجاب له.
              وفي سنة 649 هـ قَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال تحصيله العلمي في مدرسة دار الحديث، وسكنَ المدرسة الرواحية، وهي ملاصقة للمسجد الأموي من جهة الشرق.
              وفي عام 651 هـ حجَّ مع أبيه ثم رجع إلى دمشق.


              أخلاقُهُ وَصفَاتُه
              أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن النووي كان رأساً في الزهد، وقدوة في الورع، وعديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويطيب لنا في هذه العجالة عن حياة النووي أن نتوقف قليلاً مع هذه الصفات المهمة في حياته:



              الزهد
              تفرَّغَ الإِمام النووي من شهوة الطعام واللباس والزواج، ووجد في لذّة العلم التعويض الكافي عن كل ذلك. والذي يلفت النظر أنه انتقل من بيئة بسيطة إلى دمشق حيث الخيرات والنعيم، وكان في سن الشباب حيث قوة الغرائز، ومع ذلك فقد أعرض عن جميع المتع والشهوات وبالغ في التقشف وشظف العيش


              الورع
              وفي حياته أمثلة كثيرة تدلُّ على ورع شديد، منها أنه كان لا يأكل من فواكه دمشق، ولما سُئل عن سبب ذلك قال: إنها كثيرة الأوقاف، والأملاك لمن تحت الحجر شرعاً، ولا يجوز التصرّف في ذلك إلا على وجه الغبطة والمصلحة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها اختلاف بين العلماء.ومن جوَّزَها قال: بشرط المصلحة والغبطة لليتيم والمحجور عليه، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي؟. واختار النزول في المدرسة الرواحيّة على غيرها من المدارس لأنها كانت من بناء بعض التجّار.
              وكان لدار الحديث راتب كبير فما أخذ منه فلساً، بل كان يجمعُها عند ناظر المدرسة، وكلما صار له حق سنة اشترى به ملكاً ووقفه على دار الحديث، أو اشترى كتباً فوقفها على خزانة المدرسة، ولم يأخذ من غيرها شيئاً. وكان لا يقبل من أحد هديةً ولا عطيّةً إلا إذا كانت به حاجة إلى شيء وجاءه ممّن تحقق دينه. وكان لا يقبل إلا من والديه وأقاربه، فكانت أُمُّه ترسل إليه القميص ونحوه ليلبسه، وكان أبوه يُرسل إليه ما يأكله، وكان ينام في غرفته التي سكن فيها يوم نزل دمشق في المدرسة الرواحية، ولم يكن يبتغي وراء ذلك شيئاً


              مُناصحَتُهالحُكّام
              لقد توفرت في النووي صفات العالم الناصح الذي يُجاهد في سبيل اللّه بلسانه، ويقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مخلصٌ في مناصحته وليس له أيّ غرض خاص أو مصلحة شخصية، وشجاعٌ لا يخشى في اللَّه لومة لائم، وكان يملك البيان والحجة لتأييد دعواه.
              وكان الناسُ يرجعون إليه في الملمّات والخطوب ويستفتونه، فكان يُقبل عليهم ويسعى لحلّ مشكلاتهم، كما في قضية الحوطة على بساتين الشام:
              لما ورد دمشقَ من مصرَ السلطانُ الملكُ الظاهرُ بيبرسُ بعد قتال التتار وإجلائهم عن البلاد، زعم له وكيل بيت المال أن كثيراً من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها، أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيءٍ منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه، فلجأ الناس إلى الشيخ في دار الحديث، فكتب إلى الملك كتاباً جاء فيه "وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواعٌ من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثباتٌ لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحلّ عند أحد من علماء المسلمين، بل مَن في يده شيء فهو ملكه لا يحلّ الاعتراض عليه ولايُكلَّفُ إثباته" فغضب السلطان من هذه الجرأة عليه وأمر بقطع رواتبه وعزله عن مناصبه، فقالوا له: إنه ليس للشيخ راتب وليس له منصب. لما رأى الشيخ أن الكتاب لم يفِدْ، مشى بنفسه إليه وقابله وكلَّمه كلاماً شديداً، وأراد السلطان أن يبطشَ به فصرف اللَّه قلبَه عن ذلك وحمى الشيخَ منه، وأبطلَ السلطانُ أمرَ الحوطة وخلَّصَ اللَّه الناس من شرّها


              حَيَاته العلميّة
              تميزت حياةُ النووي العلمية بعد وصوله إلى دمشق بثلاثة أمور: الأول: الجدّ في طلب العلم والتحصيل في أول نشأته وفي شبابه، وقد أخذ العلم منه كلَّ مأخذ، وأصبح يجد فيه لذة لا تعدِلُها لذة، وقد كان جادّاً في القراءة والحفظ، وقد حفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة، واستطاع في فترة وجيزة أن ينال إعجاب وحبَّ أستاذه أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي، فجعلَه مُعيد الدرس في حلقته. ثم درَّسَ بدار الحديث الأشرفية، وغيرها. الثاني: سعَة علمه وثقافته، وقد جمع إلى جانب الجدّ في الطلب غزارة العلم والثقافة المتعددة، وقد حدَّثَ تلميذُه علاء الدين بن العطار عن فترة التحصيل والطلب، أنه كان يقرأ كلََّ يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللمع لابن جنّي في النحو، ودرساً في إصلاح المنطق لابن السكّيت في اللغة، ودرساً في الصرف، ودرساً في أصول الفقه، وتارة في اللمع لأبي إسحاق، وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، وكان يكتبُ جميعَ ما يتعلق بهذه الدروس من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة. الثالث: غزارة إنتاجه، اعتنى بالتأليف وبدأه عام 660 هـ، وكان قد بلغ الثلاثين من عمره، وقد بارك اللّه له في وقته وأعانه، فأذاب عُصارة فكره في كتب ومؤلفات عظيمة ومدهشة، تلمسُ فيها سهولةُ العبارة، وسطوعَ الدليل، ووضوحَ الأفكار، والإِنصافَ في عرض آراء الفقهاء، وما زالت مؤلفاته حتى الآن تحظى باهتمام كل مسلم، والانتفاع بها في سائر البلاد. ويذكر الإِسنوي تعليلاً لطيفاً ومعقولاً لغزارة إنتاجه فيقول: اعلم أن الشيخ محيي الدين رحمه اللّه لمّا تأهل للنظر والتحصيل، رأى أن من المسارعة إلى الخير؛ أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً، وهو غرض صحيح وقصد جميل، ولولا ذلك لما تيسر له من التصانيف ما تيسر له".



              ومن أهم كتبه
              "شرح صحيح مسلم" و"المجموع" شرح المهذب، و"رياض الصالحين" و"تهذيب الأسماء واللغات"، والروضة روضة الطالبين وعمدة المفتين"، و"المنهاج في الفقه" و"الأربعين النووية" و"التبيان في آداب حَمَلة القرآن" و"الأذكار "حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبّة في الليل والنهار"، و"الإِيضاح" في المناسك.


              شيوخه
              من شيوخه في الفقه:
              عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري، تاج الدين، عُرف بالفِرْكاح، توفي سنة 690 هـ. 3. إسحاق بن أحمد المغربي، الكمال أبو إبراهيم، محدّث المدرسة الرواحيّة، توفي سنة 650 هـ. 4. عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي، أبو محمد، مفتي دمشق، توفي سنة 654 هـ. 5. سلاَّر بن الحسن الإِربلي، ثم الحلبي، ثم الدمشقي، إمام المذهب الشافعي في عصره، توفي سنة 670 هـ.
              ومن شيوخه في الحديث:
              إبراهيم بن عيسى المرادي، الأندلسي، ثم المصري، ثم الدمشقي، الإِمام الحافظ، توفي سنة 668 هـ. 2. خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، أبو البقاء، زين الدين، الإِمام المفيد المحدّث الحافظ، توفي سنة 663 هـ. 3. عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري، الحموي، الشافعي، شيخ الشيوخ، توفي سنة 662 هـ. 4. عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي، أبو الفرج، من أئمة الحديث في عصره، توفي سنة 682 هـ. 5. عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد الحرستاني، أبو الفضائل، عماد الدين، قاضي القضاة، وخطيب دمشق. توفي سنة 662 هـ. 6. إسماعيل بن أبي إسحاق إبراهيم بن أبي اليُسْر التنوخي، أبو محمد تقي الدين، كبير المحدّثين ومسندهم، توفي سنة 672 هـ. 7. عبد الرحمن بن سالم بن يحيى الأنباري، ثم الدمشقي الحنبلي، المفتي، جمال الدين. توفي سنة 661 هـ. 8. ومنهم: الرضي بن البرهان، وزين الدين أبو العباس بن عبد الدائم المقدسي، وجمال الدين أبو زكريا يحيى بن أبي الفتح الصيرفي الحرّاني، وأبو الفضل محمد بن محمد بن محمد البكري الحافظ، والضياء بن تمام الحنفي، وشمس الدين بن أبي عمرو، وغيرهم من هذه الطبقة.
              ومن شيوخه في علم الأصول
              أما علم الأصول، فقرأه على جماعة، أشهرهم: عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي، أبو الفتح. توفي سنة 672 هـ.
              شيوخه في النحو واللغة
              وأما في النحو واللغة، فقرأه على: الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي اللغوي، أبي العباس، توفي سنة 664 هـ.والفخر المالكي.والشيخ أحمد بن سالم المصري.



              مسموعاته
              سمع النسائي، وموطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، والدارمي، وأبي عوانة الإِسفراييني، وأبي يعلى الموصلي، وسنن ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وشرح السنّة للبغوي، ومعالم التنزيل له في التفسير، وكتاب الأنساب للزبير بن بكار، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وكتاب آداب السامع والراوي للخطيب البغدادي، وأجزاء كثيرة غير ذلك


              تلاميذه
              وكان ممّن أخذ عنه العلم: علاء الدين بن العطار، وشمس الدين بن النقيب، وشمس الدين بن جَعْوان، وشمس الدين بن القمَّاح، والحافظ جمال الدين المزي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، ورشيد الدين الحنفي، وأبو العباس أحمد بن فَرْح الإِشبيلي، وخلائ


              وَفَاته
              وفي سنة 676 هـ رجع إلى نوى بعد أن ردّ الكتب المستعارة من الأوقاف، وزار مقبرة شيوخه، فدعا لهم وبكى، وزار أصحابه الأحياء وودّعهم، وبعد أن زار والده زار بيت المقدس والخليل، وعاد إلى نوى فمرض بها وتوفي في 24 رجب. ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجّت هي وما حولها بالبكاء، وتأسف عليه المسلمون أسفاً شديداً، وتوجّه قاضي القضاة عزّ الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره، ورثاه جماعة، منهم محمد بن أحمد بن عمر الحنفي الإِربلي، وقد اخترت هذه الأبيات من قصيدة بلغت ثلاثة وثلاثين بيتاً:
              عزَّ العزاءُ وعمَّ الحــادث الجلــل *** وخاب بالموت في تعميرك الأمل
              واستوحشت بعدما كنت الأنيـس لهـا *** وساءَها فقدك الأسحارُ والأصـلُ
              وكنت للدين نوراً يُستضاء به مسـدَّد *** منـك فيــه القولُ والعمــلُ
              زهدتَ في هــذه الدنيا وزخرفـها *** عزماً وحزماً ومضروب بك المثل
              أعرضت عنها احتقاراً غير محتفل *** وأنت بالسعـي في أخـراك محتفل
              وهكذا انطوت صفحة من صفحات عَلَمٍ من أعلاَم المسلمين، بعد جهاد في طلب العلم، ترك للمسلمين كنوزاً من العلم، لا زال العالم الإسلامي يذكره بخير، ويرجو له من اللَّه تعالى أن تناله رحماته ورضوانه.
              رحم اللّه الإِمام النووي رحمة واسعة، وحشره مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وجمعنا به تحت لواء سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم.
              ـــــــــــــــ
              (1) مستقاة بتصرف من مقدمة كتاب الأذكار والمصادر التالية:
              ) طبقات السبكي 8/395ـ 400، وتذكرة الحفاظ 4/1470 ـ 1474، والبداية والنهاية 13/278، ومعجم المؤلفين 13/202، و"الاهتمام بترجمة الإِمام النووي شيخ الإِسلام للسخاوي، والنووي؛ للشيخ علي الطنطاوي والإِمام النووي للشيخ عبد الغني الدقر. والمنهاج السوي في ترجمة محيي الدين النووي للسيوطي. طبعة دار التراث الأولى 1409 هـ تحقيق: د. محمد العيد الخطراوي.
              الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
              نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
              روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
              ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

              تعليق


              • #8
                جزاك ربي خيرا أخي الحبيب
                باذن الله عندما تنتهي المده المحددة لتثبت المواضيع سأقوم بتثبيته على أن تصوت لتثبيته وهي يوم الجمعة باذن الله يعني غدااااااا

                واصل وصلك الله
                وأقوال الرسول لنا كتابا وجدنا فيه أقصا مبتغانا
                وعزتنا بغير الدين ذل وقدوتنا شمائل مصطفانا
                صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

                تعليق


                • #9
                  الفاتح المعنوي للقسطنطينية
                  الشيخ آق شمس الدين

                  العمائم نوعان : طاهرة وملوثة ، أما الطاهرة فمثل بياض الثلج لا تزداد مع الأيام إلا سناء فهي لأهل الإيمان نصير وللحق راية ، وفي وجه الباطل سد وللحائر دليل، وأما الملوثة فلا يزال ران النفاق يكسوها حتى تصبح مثل سواد الليل تقشعر لمرآها قلوب المؤمنين ، وتهش لها قلوب الشياطين، ولا يزداد الناس بها إلا ضياعاً وحيرة وأوهاماً، حتى إذا انتهى أهل الباطل منها رموها مثل ثوب عتيق ...
                  وبين النوعين فرق شديد فالعمائم البيضاء جبل عال من الاستقامة والفضائل وغيرة الإيمان ونصيحة الخلق ، والملوثة في قعر واد سحيق من الانتهازية وحب الظهور والتصنع أمام الخلق والحمية للنفس ومداهنة الحكام وغش العوام والتلبيس عليهم ... مع الذلة لصاحب الدينار ... بل حتى صاحب الطعام والمرق والكساء ....

                  خلق الله للمعالي أناساً وأناساً لقصعة وثريد .....

                  وأحياناً تلتبس الأحوال فتدور على لسان الضعيف من أصحاب العمائم عبارات يلوكها حتى تصبح عادة ... يتوهم بها الغيرة والحرص حتى لم يعد الإنسان يطيق سماعها .....
                  ومن العبارات العجيبة عبارة : لا تفجعنا بنفسك يقولها الصغار للأصاغر وقد كان يقولها الكبار للأكابر ... وإذا كانت قد قيلت لأبي بكر رضي الله عنه وهو يتلقى بصدره وحده فتنة تحيط بالأمة ... فلا يليق أن تقال لرجل امتنع عن النفاق ، وآخر جهر بحق لطيف ، وثالث امتنع عن مجاراة الغلط ، ورابع نصح بصدق ... وخامس دعاه رهط من أصحاب المسؤولية ... معززاً مكرماً فلم يوصه أصحابه بالصدق بل بالمداهنة والذلة ... وأردفوا: لا تفجعنا بنفسك!!
                  أرجوك أيها العالم يا من تحب أن تلحق بالعمائم البيضاء الطهور: افجعنا بنفسك وأعل الحق ولا تكتمه ... ودعنا نسير في جنازتك شهيد كلمة وصاحباً لحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريق السادة العظام.

                  و نعيش مع سيرة صاحب عمامة من أطهر العمائم البيضاء , و هو الشيخ العالم المربي آق شمس الدين


                  هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي ارتحل مع والده الى الروم، وطلب فنون العلوم وتبحر فيها وأصبح علم من أعلام الحضارة الإسلامية في عهدها العثماني.
                  وهو معلم الفاتح ومربيه يتصل نسبه بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق t، كان مولوده في دمشق عم 792هـ 1389م حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في انقرة وتوفي عام 1459هـ.
                  درّس الشيخ آق شمس الدين الأمير محمد الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الزمن وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية ، والفارسية والتركية وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة الولاية، وأصول الحكم .
                  واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش.
                  وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية، وكان شاباً صغير السن وجّهه شيخه فوراً الى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً. ودارت الحرب العنيفة 54 يوماً.
                  وعندما حقق البيزنطيون انتصاراً مؤقتاً وابتهج الشعب البيزنطي بدخول أربع سفن ارسلها البابا إليهم وارتفعت روحهم المعنوية اجتمع الأمراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمد الفاتح وقالوا له : إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ -يقصدون آق شمس الدين- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عون من بلاد الأفرنج للكافرين داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح.... فأرسل السلطان محمد وزيره ولي الدين أحمد باشا الى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله الحل فأجاب الشيخ: لابد من أن يمنّ الله بالفتح.
                  ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب، فأرسل وزيره مرة أخرى ليطلب من الشيخ أن يوضح له أكثر، فكتب هذه الرسالة الى تلميذه محمد الفاتح يقول فيها: هو المعزّ الناصر ... إن حادث تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملامة وأحدث في الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي : إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله... ولقد لجأنا الى الله وتلونا القرآن الكريم وماهي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث مثلها من قبل.
                  أحدث هذا الخطاب راحة وطمأنينة في الأمراء والجنود. وعلى الفور قرر مجلس الحرب العثماني الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية، ثم توجه السلطان محمد الى خيمة الشيخ شمس الدين فقبل يده، وقال : علمني ياسيدي دعاءً أدعو الله به ليوفقني ، فعلمه الشيخ دعاءً، وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام.
                  اراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله الفتح القريب.
                  وعاد السلطان محمد الفاتح عقب ذلك الى مقر قيادته ونظر الى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية.
                  ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني .

                  وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينية على يديه.
                  وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس، تقدم الشيخ الى السلطان الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في الشريعة الاسلامية.
                  وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا والعطايا وعمل لهم مأدبة حافلة استمرت ثلاثة أيام اقيمت خلالها الزينات والمهرجانات، وكان السلطان يقوم بخدمة جنوده بنفسه متمثلاً بالقول السائد سيد القوم خادمهم. ثم نهض ذلك الشيخ العالم الورع آق شمس الدين وخطبهم، فقال: ياجنود الاسلام. اعلموا واذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنكم: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا. ألا لاتسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولاتبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه. ثم التفت الى الفاتح وقال له : ياسلطاني ، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله. ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد.
                  وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية.
                  وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقي خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا.
                  الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان من الغرور:
                  كان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بين السلطان لمن حوله -بعد الفتح- : إنكم ترونني فرحاً . فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين.
                  وعبر الشيخ عن تهيبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا. قال السلطان الفاتح: إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري . إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة.
                  ذكر صاحب البدر الطالع أن :... ثم بعد يوم جاء السلطان الى خيمة صاحب الترجمة - أي آق شمس الدين - وهو مضطجع فلم يقم له فقبل السلطان يده وقال له جئتك لحاجة قال: وماهي؟ قال: ان ادخل الخلوة عندك فأبى فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال أنه يأتي إليك واحد من الاتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى عليّ فقال الشيخ: إنك اذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح ثم ارسل إليه ألف دينار فلم يقبل ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه: ماقام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام فاراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو.....
                  هكذا كان هذا العالم الجليل الذي حرص على تربية محمد الفاتح على معاني الإيمان والاسلام والإحسان ولم يكن هذا الشيخ متبحراً في علوم الدين والتزكية فقط بل كان عالماً في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهوراً في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض. وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلاً بين الناس يقول: إن النبات ليحدث آق شمس الدين.
                  وقال الشوكاني عنه: ...وصار مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان فإنه اشتهر أن الشجرة كانت تناديه وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني ثم اشتهرت بركته وظهر فضله... .
                  وكان الشيخ يهتم بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض النفسية.
                  واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتماماً خاصاً بالامراض المعدية، فقد كانت هذه الامراض في عصره تسبب في موت الآلاف، وألف في ذلك كتاباً بالتركية بعنوان "مادة الحياة" قال فيه: من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الاشخاص تلقائيا، فالأمراض تنتقل من شخص الى آخر بطريق العدوى. هذه العدوى صغيرة ودقيقة الى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة. لكن هذا يحدث بواسطة بذور حيّة .
                  وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك ، ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد. وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستير ليقوم بأبحاثه وليصل الى نفس النتيجة.
                  وأهتم الشيخ آق شمس الدين أيضاً بالسرطان وكتب عنه وفي الطب ألف الشيخ كتابين هما: مادة الحياة ، وكتاب الطب ، وهما باللغة التركية والعثمانية. وللشيخ باللغة العربية سبع كتب، هي : حل المشكلات، الرسالة النورية ، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، تلخيص المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بايرام ولي.
                  وفاته:
                  عاد الشيخ الى موطنه كونيوك بعد أن أحسس بالحاجة الى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في استنبول ومات عام 863هـ/1459م فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان.
                  وهكذا سنة الله في خلقه لايخرج قائد رباني ، وفاتح مغوار إلا كان حوله مجموعة من العلماء الربانيين يساهمون في تعليمه وتربيته وترشيده والأمثلة في ذلك كثيرة مثل دور عبدالله بن ياسين مع يحيى بن ابراهيم في دولة المرابطين، والقاضي الفاضل مع صلاح الدين في الدولة الأيوبية ، وهذا آق شمس الدين مع محمد الفاتح في الدولة العثمانية فرحمة الله على الجميع وتقبل الله جهودهم وأعمالهم وأعلى ذكرهم في المصلحين.
                  الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
                  نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
                  روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
                  ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

                  تعليق


                  • #10
                    الفاتح المعنوي للقسطنطينية
                    الشيخ آق شمس الدين

                    العمائم نوعان : طاهرة وملوثة ، أما الطاهرة فمثل بياض الثلج لا تزداد مع الأيام إلا سناء فهي لأهل الإيمان نصير وللحق راية ، وفي وجه الباطل سد وللحائر دليل، وأما الملوثة فلا يزال ران النفاق يكسوها حتى تصبح مثل سواد الليل تقشعر لمرآها قلوب المؤمنين ، وتهش لها قلوب الشياطين، ولا يزداد الناس بها إلا ضياعاً وحيرة وأوهاماً، حتى إذا انتهى أهل الباطل منها رموها مثل ثوب عتيق ...
                    وبين النوعين فرق شديد فالعمائم البيضاء جبل عال من الاستقامة والفضائل وغيرة الإيمان ونصيحة الخلق ، والملوثة في قعر واد سحيق من الانتهازية وحب الظهور والتصنع أمام الخلق والحمية للنفس ومداهنة الحكام وغش العوام والتلبيس عليهم ... مع الذلة لصاحب الدينار ... بل حتى صاحب الطعام والمرق والكساء ....

                    خلق الله للمعالي أناساً وأناساً لقصعة وثريد .....

                    وأحياناً تلتبس الأحوال فتدور على لسان الضعيف من أصحاب العمائم عبارات يلوكها حتى تصبح عادة ... يتوهم بها الغيرة والحرص حتى لم يعد الإنسان يطيق سماعها .....
                    ومن العبارات العجيبة عبارة : لا تفجعنا بنفسك يقولها الصغار للأصاغر وقد كان يقولها الكبار للأكابر ... وإذا كانت قد قيلت لأبي بكر رضي الله عنه وهو يتلقى بصدره وحده فتنة تحيط بالأمة ... فلا يليق أن تقال لرجل امتنع عن النفاق ، وآخر جهر بحق لطيف ، وثالث امتنع عن مجاراة الغلط ، ورابع نصح بصدق ... وخامس دعاه رهط من أصحاب المسؤولية ... معززاً مكرماً فلم يوصه أصحابه بالصدق بل بالمداهنة والذلة ... وأردفوا: لا تفجعنا بنفسك!!
                    أرجوك أيها العالم يا من تحب أن تلحق بالعمائم البيضاء الطهور: افجعنا بنفسك وأعل الحق ولا تكتمه ... ودعنا نسير في جنازتك شهيد كلمة وصاحباً لحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريق السادة العظام.

                    و نعيش مع سيرة صاحب عمامة من أطهر العمائم البيضاء , و هو الشيخ العالم المربي آق شمس الدين


                    هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي ارتحل مع والده الى الروم، وطلب فنون العلوم وتبحر فيها وأصبح علم من أعلام الحضارة الإسلامية في عهدها العثماني.
                    وهو معلم الفاتح ومربيه يتصل نسبه بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق t، كان مولوده في دمشق عم 792هـ 1389م حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في انقرة وتوفي عام 1459هـ.
                    درّس الشيخ آق شمس الدين الأمير محمد الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الزمن وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية ، والفارسية والتركية وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة الولاية، وأصول الحكم .
                    واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش.
                    وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية، وكان شاباً صغير السن وجّهه شيخه فوراً الى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً. ودارت الحرب العنيفة 54 يوماً.
                    وعندما حقق البيزنطيون انتصاراً مؤقتاً وابتهج الشعب البيزنطي بدخول أربع سفن ارسلها البابا إليهم وارتفعت روحهم المعنوية اجتمع الأمراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمد الفاتح وقالوا له : إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جرياً وراء كلام أحد المشايخ -يقصدون آق شمس الدين- فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن عون من بلاد الأفرنج للكافرين داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح.... فأرسل السلطان محمد وزيره ولي الدين أحمد باشا الى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله الحل فأجاب الشيخ: لابد من أن يمنّ الله بالفتح.
                    ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب، فأرسل وزيره مرة أخرى ليطلب من الشيخ أن يوضح له أكثر، فكتب هذه الرسالة الى تلميذه محمد الفاتح يقول فيها: هو المعزّ الناصر ... إن حادث تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملامة وأحدث في الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي : إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله... ولقد لجأنا الى الله وتلونا القرآن الكريم وماهي إلا سنة من النوم بعد إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث مثلها من قبل.
                    أحدث هذا الخطاب راحة وطمأنينة في الأمراء والجنود. وعلى الفور قرر مجلس الحرب العثماني الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية، ثم توجه السلطان محمد الى خيمة الشيخ شمس الدين فقبل يده، وقال : علمني ياسيدي دعاءً أدعو الله به ليوفقني ، فعلمه الشيخ دعاءً، وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام.
                    اراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ، فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله الفتح القريب.
                    وعاد السلطان محمد الفاتح عقب ذلك الى مقر قيادته ونظر الى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية.
                    ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني .

                    وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينية على يديه.
                    وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس، تقدم الشيخ الى السلطان الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب وبحقوق الأمم المفتوحة كما هي في الشريعة الاسلامية.
                    وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا والعطايا وعمل لهم مأدبة حافلة استمرت ثلاثة أيام اقيمت خلالها الزينات والمهرجانات، وكان السلطان يقوم بخدمة جنوده بنفسه متمثلاً بالقول السائد سيد القوم خادمهم. ثم نهض ذلك الشيخ العالم الورع آق شمس الدين وخطبهم، فقال: ياجنود الاسلام. اعلموا واذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأنكم: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويغفر لنا. ألا لاتسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولاتبذروا وأنفقوها في البر والخير لأهل هذه المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه. ثم التفت الى الفاتح وقال له : ياسلطاني ، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهداً في سبيل الله. ثم صاح مكبراً بالله في صوت جهوري جليد.
                    وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية.
                    وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقي خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا.
                    الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان من الغرور:
                    كان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بين السلطان لمن حوله -بعد الفتح- : إنكم ترونني فرحاً . فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين.
                    وعبر الشيخ عن تهيبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا. قال السلطان الفاتح: إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري . إنني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة.
                    ذكر صاحب البدر الطالع أن :... ثم بعد يوم جاء السلطان الى خيمة صاحب الترجمة - أي آق شمس الدين - وهو مضطجع فلم يقم له فقبل السلطان يده وقال له جئتك لحاجة قال: وماهي؟ قال: ان ادخل الخلوة عندك فأبى فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال أنه يأتي إليك واحد من الاتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى عليّ فقال الشيخ: إنك اذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئاً من النصائح ثم ارسل إليه ألف دينار فلم يقبل ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه: ماقام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام فاراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو.....
                    هكذا كان هذا العالم الجليل الذي حرص على تربية محمد الفاتح على معاني الإيمان والاسلام والإحسان ولم يكن هذا الشيخ متبحراً في علوم الدين والتزكية فقط بل كان عالماً في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهوراً في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض. وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلاً بين الناس يقول: إن النبات ليحدث آق شمس الدين.
                    وقال الشوكاني عنه: ...وصار مع كونه طبيباً للقلوب طبيباً للأبدان فإنه اشتهر أن الشجرة كانت تناديه وتقول: أنا شفاء من المرض الفلاني ثم اشتهرت بركته وظهر فضله... .
                    وكان الشيخ يهتم بالأمراض البدنية قدر عنايته بالأمراض النفسية.
                    واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتماماً خاصاً بالامراض المعدية، فقد كانت هذه الامراض في عصره تسبب في موت الآلاف، وألف في ذلك كتاباً بالتركية بعنوان "مادة الحياة" قال فيه: من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الاشخاص تلقائيا، فالأمراض تنتقل من شخص الى آخر بطريق العدوى. هذه العدوى صغيرة ودقيقة الى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة. لكن هذا يحدث بواسطة بذور حيّة .
                    وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك ، ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد. وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستير ليقوم بأبحاثه وليصل الى نفس النتيجة.
                    وأهتم الشيخ آق شمس الدين أيضاً بالسرطان وكتب عنه وفي الطب ألف الشيخ كتابين هما: مادة الحياة ، وكتاب الطب ، وهما باللغة التركية والعثمانية. وللشيخ باللغة العربية سبع كتب، هي : حل المشكلات، الرسالة النورية ، مقالات الأولياء، رسالة في ذكر الله، تلخيص المتائن، دفع المتائن، رسالة في شرح حاجي بايرام ولي.
                    وفاته:
                    عاد الشيخ الى موطنه كونيوك بعد أن أحسس بالحاجة الى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في استنبول ومات عام 863هـ/1459م فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان.
                    وهكذا سنة الله في خلقه لايخرج قائد رباني ، وفاتح مغوار إلا كان حوله مجموعة من العلماء الربانيين يساهمون في تعليمه وتربيته وترشيده والأمثلة في ذلك كثيرة وقد ذكرنا دور عبدالله بن ياسين مع يحيى بن ابراهيم في دولة المرابطين، والقاضي الفاضل مع صلاح الدين في الدولة الأيوبية ، وهذا آق شمس الدين مع محمد الفاتح في الدولة العثمانية فرحمة الله على الجميع وتقبل الله جهودهم وأعمالهم وأعلى ذكرهم في المصلحين.
                    الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
                    نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
                    روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
                    ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

                    تعليق


                    • #11
                      المفروض أخي تصوُت على تثبيت موضوعك فالتثبيت هنا بالتصويت
                      لكي لا تحمل شيء نحوي سوى المحبة والأخوة في الله
                      والتصويت
                      على موضوع المشاركة في تثبيت المواضيع بالقسم الاسلامي العام
                      والله من وراء القصد
                      وأقوال الرسول لنا كتابا وجدنا فيه أقصا مبتغانا
                      وعزتنا بغير الدين ذل وقدوتنا شمائل مصطفانا
                      صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

                      تعليق


                      • #12
                        الفاتح أسد بن الفرات رضي اللهعنه القاضي والفقيه وقائد الأسطول
                        بقلم فضيلة الشيخ/ محمد عبدالله الخطيب
                        الأسطورة التي تزعم أن في الإسلام رجل دين لا علاقة له بالدنيا ولا بالحياة، وأن هناك رجل دنيا لا علاقة له بالدين، أسطورة كاذبة لا يعرفها الإسلام على امتداد تاريخه؛ بل هي مستوردة من وراء البحار، والإسلام منها بريء، فالمسلم عالمي بحكم إسلامه، ونظام الإسلام الشامل للدين والدنيا والآخرة، يشمل العبادة والقيادة، ويتناول السياسة والاقتصاد.
                        والعالم المجاهد الذي نتحدث عنه "أسد ابن الفرات" كان قاضيًا وفقيهًا، ومجاهدًا، وقائدًا للأسطول الذي فتح جزيرة صقلية، إحدى جزر حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي تقع في جنوب إيطاليا.
                        واختياره- رضي الله عنه- يثير الدهشة في زماننا هذا، ويبعث على العجب، كيف يتولى قاض فقيه قيادة الأسطول في معركة من أشد المعارك، وهو سيلتقي ولا شك بالأسطول الروماني الذي يقوم بحماية هذه الجزيرة.
                        ومما يزيد من تلك الدهشة أن القاضي قد شارف على السبعين من عمره، فكيف يقوى على احتمال أهوال المعركة؟
                        لكن كل هذه الهواجس تتلاشى حين نستمع إلى صوت قائد الأسطول وهو يُكبِّر، وينادى في رجاله، هلموا على الجهاد، هلموا على الشهادة في سبيل الله، أقبلوا على جنة عرضها السموات والأرض، ويتولى التكبير والنداء، وتنطلق عبارات القائد قوية تنفذ إلى القلوب، وتحمل معها نور الإيمان والبشرى بالنصر أو الشهادة في سبيل الله.
                        وفي لحظات انطلق المجاهدون إلى أماكنهم، في إيمان وثقة وفرحة، وقد انطلقت حناجرهم بالتكبير والتهليل، والبحر ساكن من حولهم، وكأنه ينصت إلى تكبيراتهم في الحقيقة رهبة وخشوع وإجلال.
                        نبذة عن الجزيرة:
                        كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية، وفي مطلع القرن التاسع الميلادي حدث فيها الكثير من ألوان الفوضى والعبث، وكانت بحرية الروم تستغلها كقاعدة تغير منها على الساحل الإفريقي، وتقوم بالتخريب في بلاد المسلمين، فكان لابد من التفكير في فتح هذه الجزيرة؛ لدفع الأذى ونشر الإسلام، وليأمن جميع الناس في ظله، فأصدر "زيادة الله بن الأغلب" الأمر لأسد بن الفرات لقيادة الأسطول الذي يقوم بالفتح للجزيرة، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 212 هجرية.
                        وصقلية ليست جزيرة واحدة، إنها تشكل ثلاث جزر، وكل جزيرة لها طبيعة خاصة، وشهرة مختلفة عما عداها، وقد قيل قديمًا "إن صقلية أشبه بقارة".
                        كان الأسطول يتكون من ثمان وتسعين قطعة حربية، رست بالقرب من الشاطئ في تنسيق وانتظام.. وكانت أشرعة السفن، وهى ترفرف فوق البحر كأنها أجنحة ملائكة، جاءت لتشارك المؤمنين في الجهاد.
                        وكما احتشدت قطع الأسطول في ميناء سوسة، احتشدت كذلك مشاعر الناس وذكرياتهم عن مواقف الجهاد.
                        تذكروا مشهدًا رائعًا كهذا المشهد، وقف فيه التاريخ يدون بداية عظيمة لفتح عظيم.
                        كان ذلك قبل مائة سنة وأكثر، وكان ميناء سبتة حافلاً يومها بقطع الأسطول الذي عبر به طارق بن زياد إلى أرض القوط، وأخضع تلك الدولة الشاسعة الواسعة لحكم الإسلام.
                        وبرقت الأماني في قلوب الناس، أن يكرر التاريخ نفسه، ويكون هذا اليوم بداية عظيمة لفتح عظيم.
                        وبعد أن تمت مراسم الوداع بين أمير القيروان وقائد الأسطول صدرت الإشارة بالتحرك فوق عباب البحر صوب جزيرة صقلية.
                        وإذا كان الوقت في ربيع الأول فقد انبعثت في نفوس المجاهدين ذكريات باهرة ساحرة عما أصاب البشرية من خير عميم في هذا الشهر.
                        شرفت الإنسانية بمولده:
                        ألم يكن ربيع الأول نقطة زاهرة في غرة الزمن، ودرة ناصعة في عقد الأيام؟
                        ألم يكن بداية مرحلة جديدة شهدت فيها الإنسانية تحرير العقل من الباطل، وتحرير النفس من الشهوات، وتحرير الإنسان من العبودية والهوان؟
                        ألم يولد فيه نجم إنساني، ملأ الكون علمًا وحكمة، ووصل ما بين الأرض والسماء برباط من نور؟
                        شهر شرفت به الشهور كما شرفت الإنسانية بميلاد محمد بن عبد الله فيه صلى الله عليه وسلم.
                        وتوالت الذكريات على نفوس المجاهدين، كما تتوالى مواكب الشهب في تناسق بديع.
                        إن المهمة التي جردوا أنفسهم لها هي خطوة من تلك الخطوات المباركة التي بدأها النبي على طريق الجهاد.. وستتلوها خطوات ما دام للإنسانية وجود.
                        إنهم ذاهبون إلى فتح جزيرة ما زالت الوثنية توصد أبوابها في وجه النور، وما زالت أعلام الجاهلية ترفرف على نواحيها.
                        ولم يكن أمام المجاهدين إلا أحد أمرين: الاستشهاد أو النصر، وكلاهما أمنية غالية تداعب نفوسهم.
                        ولما وصلوا إلى ميناء مازر- ويقع في الطرف الغربي لجزيرة صقلية- نادى أسد بن الفرات في الجند بالنزول، وكانت أول لحظة يخط فيها التاريخ سطرًا مجيدًا من سطور الفتح الأكبر في هذه الجزيرة.
                        خطة الفتح:
                        كان أسد بن الفرات قد أعد خطة الفتح بعبقرية عسكرية ذكرت المجاهدين بتلك الخطط الدقيقة التي وضعها القواد العظام في أيام الفتح الأولى.
                        اتجه بالجيش إلى شرق الجزيرة، بعد أن خصص فرقة من الجند لحراسة الأسطول، وبعد أن سد جميع الطرق والشعاب التي يمكن أن يتسلل منها الروم من الخلف.
                        ثم أمر بالهجوم على جيش الروم، وكان يقوده رجل ممعن في الغطرسة والكبرياء كأشد ما يكون الإمعان.. هذا الرجل اسمه بلاطة، وكان له تاريخ عريض في كسب المعارك، مما جعل الغرور جزءًا من نفسه، وشطرًا من مشاعره.
                        وقد أقسم بلاطة بكل عزيز لديه بأن لن يكتفي بدحر المسلمين، وإنما سيأخذ بالثأر من أميرهم في القيروان، وسيوقف زحف المسلمين على المدن في المنطقة كلها.
                        ومما زاده صلفًا وغرورًا أنه نظر ناحية المسلمين فرأى أسد بن الفرات شيخًا متقدمًا في السن، تلمع لحيته البيضاء تحت أشعة الشمس، فقال لجيشه: أرأيتم هذا الشيخ.. إنه قائد المسلمين.. وهو كما ترون لا جلد له على القتال، ولا صبر له على الكر والفر، ولا يملك العزم على احتمال أهوال المعارك.. احملوا عليهم، واجعلوهم طعامًا لوحوش الجزيرة.
                        وبينما كان بلاطة يتهكم ويزري بقائد المسلمين، كان أسد بن الفرات يعظ جنده بالآية الكريمة:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 45- 46)، وكان يأمرهم بألا يقتلوا شيخًا ولا طفلاً ولا امرأة، وأن يكبروا عند كل ضربة سيف، وعند كل رمية سهم.
                        ثم التقى الجمعان، وحمي وطيس المعركة، وكانت المفاجأة لجيش الروم أن أسد بن الفرات، الشيخ الذي رق عظمه، ونالت منه السنون، يصول ويجول كأنه شاب في مقتبل العمر، وتجلت فيه القوة الذاتية للمسلم، القوة التي يستمدها من إيمانه وعقيدته، فتبعث في الجسد المحطم المتهالك تيارًا من العزيمة يصعق كل من يتصدى له.
                        وما هي إلا ساعة حتى ظهر الشحوب على وجه قائد الروم، وأدرك أنه كان يحلم بسراب خادع، وأنه يحارب رجالاً يحبون الموت ويقبلون عليه.. ويتلذذون بالاستشهاد في أرض المعركة.
                        ومرت به لحظات ثقال يتردد بين الاستمرار في القتال حتى ولو أدى ذلك إلى مصرعه، وبين الفرار وفيه ما فيه من وصمة العار!.
                        ثم آثر الحياة على الموت، وفر من ساحة القتال.. وهرب إلى فلورية تسبقه أنباء الهزيمة، ويغطي وجهه غبار الهوان.
                        وهنا سنحت الفرصة لخصومه أن ينتقموا منه، فطالما جرح كبرياءهم بجبروته وغطرسته.. وطالما جرعهم كئوس الذل والصغار.
                        وإذا هو في غمرة العار الذى جلله، والهزيمة التي أركسته، فوجئ بعدد من الجند، يحدقون به، ويروون سيوفهم في دمائه، وانتهت أسطورة القائد الذي كانت الجزيرة تعتمد عليه في حمايتها.
                        وإذا كانت الجزيرة قد قضت ليلة باكية منتحبة على ما لحقها من هوان، فإن المسلمين كانوا في الجانب الآخر يصلون لله شكرًا على النصر الذي أحرزوه بفضله ورحمته.
                        ولكن هل يستسلم حاكم الجزيرة، ويحني رأسه للهزيمة، ويتخلى عن سلطانه للمسلمين؟
                        إنه يعلم أن موت بلاطة أثر في الروح المعنوية لجيش الجزيرة، وأن أنباء الهزيمة ثبطت همم الذين كانوا يريدون قتال المسلمين، ويعلم أيضًا أن الجزيرة تسودها حالة من الفزع والرعب، وأن الموقف إذا استمر على هذه الحال، فإن الجزيرة ستقع في قبضة المسلمين لا محالة.
                        البلاط الروماني يتدخل:
                        وتنهد تنهيدة عميقة، وهو يفكر فيما آل إليه أمر الجزيرة، وفيما سوف يحدث لها إن لم تدركها نجدة سريعة.
                        ومن أين تأتي النجدة؟
                        الجزيرة تابعة للبلاط الروماني في القسطنطينية، وإن القسطنيطنية لن تتواني لحظة واحدة إذا علمت بأن الجزيرة على وشك السقوط في أيدي المسلمين.
                        كان الاستنجاد بالبلاط آخر سهم يلقيه ميخائيل الثاني للحفاظ على سلطانه في الجزيرة، وكانت الأحداث تجري سراعًا، تقطع الأحلام التي تزجيها رياح عاصفة، فالمسلمون يستولون كل يوم على جزء جديد من الجزيرة، ويرفعون عليه علم الإسلام، ويقيمون فيه شعائر الصلاة.
                        وفيما هم يتقدمون في الجزيرة شرقًا وغربًا، كان ميخائيل الثاني قد استنجد بالبلاط الروماني، وتحرك الأسطول من القسطنطينية حاملاً القوات الرومانية المتأهبة لقتال المسلمين.
                        وعندما وصل إلى الجزيرة كان القتال على أشده عند قلعة الكرات المنيعة، وكان ميخائيل الثاني إزاء عجزه عن مواصلة القتال قد لجأ إلى الخديعة، فطلب من المسلمين الصلح، وإغماد السيوف، وكان يهدف من وراء ذلك إلى وقف القتال ريثما يصل الأسطول الروماني.
                        ولكن أسد بن الفرات القائد الفطن الأريب، أدرك ببصيرته الواعية الحكيمة أن هناك خديعة لجأ إليها حاكم الجزيرة، وأن عليه أن يحتاط لهذا الأمر، فقام بتوزيع السرايا على جهات مختلفة من الجزيرة، حتى إذا ما اتضح وجه الخديعة، وأسفر عن ملامحه الكئيبة، يكون زمام الأمر في يديه.
                        وما لبث أسد بن الفرات أن اكتشف بعد أيام صدق حدسه، واتضحت أمام عينيه الصورة التي كان يخفيها ميخائيل الثاني وراء الصلح والمهادنة، فقد وصل الأسطول الروماني إلى الجزيرة، وتدفقت عليها القوات الرومانية كأمواج البحر، وبدأت المعارك تأخذ شكلاً عاصفًا في كل مكان من صقلية.
                        كيف واجه أسد بن الفرات الموقف وإمدادات الروم تكاد تغطي الجزيرة كلها؟ هل أثر هذا في روحه المعنوية؟ هل فكر في جمع القوات المتناحرة هنا وهناك ليركز على القتال في جبهة واحدة؟
                        إنه رفض أن يترك مكانًا استولى عليه، ورفع فوقه لواء الله، بل ظل يحارب في أنحاء الجزيرة بصورة أذهلت أنباؤها البلاط الروماني، ورغم جهاده المتصل لم يشعر باللغوب، ولم يدركه الوهن.
                        أي قوة خفية في هذا الرجل؟:
                        إنه يقوم بعمل أسطوري في رسم الخطط والاشتراك في القتال.
                        ومع ذلك لا يهدأ ولا يكل ولا يجنح إلى الراحة.
                        فلا عجب إذا أحرز النصر تلو النصر، وأيقنوا أنهم أمام قوة معجزة قاهرة تفوق قدرة البشر.
                        استمر القتال دائرًا بين المسلمين والروم سبعة عشر شهرًا، إذ بدأ في ربيع الأول سنة 212 هجرية، وظل على أشده حتى استهل رجب سنة 213 هجرية.
                        كانت المعركة طوال هذه الفترة تسير لصالح المسلمين، وقد أدارها أسد بن الفرات بحكمة أعادت إلى الذاكرة صور العبقرية العسكرية التي كان يتمتع بها القواد العظام أمثال: "خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وطارق بن زياد، ومسلم بن أبي قتيبة".
                        كان أسد بن الفرات حازمًا مع جنده، كما كان حازمًا مع أعدائه، حدث أن بعض الجند استبطئوا نهاية المعركة، فأرسلوا جنديًّا من بينهم اسمه أسد بن قادم يطلب من أسد بن الفرات السماح له ولعدد من زملائه بالعودة إلى القيروان.
                        وهنا دار حوار بين القائد والجندي حاول خلاله القائد أن يقنع الجندي بالعدول عن رأيه، ولكن دون جدوى، فما كان من أسد بن الفرات القاضي السمح إلا أن أمسك السوط، وضرب به الجندي وهدده بفصل رأسه عن جسده إذا تخلى عن الجهاد وخرج على طاعة الله.
                        توجس ابن الفرات من هذه الحادثة، وخشي أن تكون شرارة تشتعل بعدها فتنة التذمر في أوساط الجند، فقام بجولة في جميع جبهات القتال، وراح يتحدث إلى المجاهدين عما ادخره الله لهم من رضوان سابغ ونعيم لا يبلى.
                        ثم خرج من هذه الجولة بحقيقة مؤكدة، وهى أن الجيش عازم على القتال، حتى النصر أو الشهادة.
                        وبالرغم من الإمدادات العسكرية التي كانت ترسلها القسطنطينية إلى الجزيرة لمقاتلة المسلمين فإن قوات الروم كانت تتساقط كأوراق الخريف هزها إعصار في يوم عاصف، وكانت أعلام الإسلام ترتفع كل يوم على بقعة جديدة من بقاع الجزيرة حتى أصبح الاستيلاء على صقلية قاب قوسين أو أدنى.
                        ولكن الظروف تغيرت فجأة، وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فبينما المسلمون في قمة انتصارهم، ويرفعون ألوية الله، ويواصلون فتوحات أسلافهم إذا بوباء مبيد ينشر أجنحته السوداء على الجزيرة، ويصحب معه أشباح الموت ويسوق مواكب الفناء.
                        مفاجأة قلبت موازين المعركة:
                        المسلمون الذين عجزت أسلحة الطغاة أن تنال منهم، أنشب الوباء فيهم أظافره، وراح يحصدهم حصد الهشيم.
                        المقاتلون الأشداء الذين اكتسبوا صلابة الجبال وبأس الصحراء تساقطوا صرعى دون جلاد أو قتال، المؤمنون الذين تدافعوا إلى ساحات الشهادة لم تسل أرواحهم على حد السيوف، وإنما أسالتها جراثيم فتاكة لا ترى بالعين ولا تحس باليد.
                        وكان لابد للمأساة أن تبلغ الذروة وتصل إلى القمة، فامتدت يد الوباء إلى القائد العظيم أسد بن الفرات، وتسلل الموت إلى جسد الشهيد.. فقضى نحبه والسيف في يده.
                        استشهد أسد بن الفرات، وفَتْح صقلية على وشك أن يتم، مات وهالة الجهاد تكسو وجهه الوضيء، وظلال الرضوان تنبسط على أيامه الغاربة، مات وكل شبر في صقلية يشهد بجهاده المقدس، وكل بقعة فيها يرفرف عليها علم الإسلام.
                        وكما هزت الدنيا أنباء انتصاراته هزتها أنباء استشهاده، وبات المغرب كله ليلة حزينة آسية، وخفتت أضواء المصابيح والأسرجة في القيروان، ولم تقتصر آلام الفجيعة على المغرب كله، وإنما امتدت إلى كل أرجاء الدولة العباسية.
                        وإذا كان القدر لم يمهله حتى يتمتع بثمرة جهاده، فلا ريب أن روحه كانت تطل من عليائها في سنة 264 لترى الجزيرة وقد فتحها المسلمون، وأصبحت إحدى الإمارات الإسلامية.
                        وبعد...
                        فهذا جانب من قصة الشهيد أسد بن الفرات.. القصة التي بدأت سطورها في ساحات القضاء، ثم كتب الفصل الأخير منها في ساحات القتال.. إنها ليست سيرة حياة بقدر ما هي نموذج عمل، يتأسى بها من يأنس في نفسه القدرة على تكييف حياته وصبها في قالب المواقف الصعبة، والظروف القاسية، إذا شاءت له الأقدار أن يضع قدميه على طريق لم يألف السير فيه، أو يتبوأ منصبًا لم تؤهله له ثقافته وعلمه.
                        إن كثيرًا من عظماء التاريخ كشفت المصادفة البحتة عن عبقريتهم، فقد فرضت عليهم الظروف مواقف لا يجتازها إلا كل ذي عقل مضيء، ومواهب خلاقة.. ومن ثم تتفتح كمام عبقريته، وتؤتي ثمارًا متجددة خالدة؛ لأن نتاج العقيدة والإيمان بالله لا يموت.
                        لقد امتد تاريخ المسلمين في الجزيرة مدة تزيد عن قرنين من الزمان، ترك خلالها بصمات ما زالت ماثلة في مدن الجزيرة.
                        إن مدنية الإسلام في هذه الفترة كانت في أوج عظمتها، فانساب الإسلام في الجزيرة بكل معطياته ورقيه، وأصبحت الجزيرة مركزًا حيًّا هامًّا من مراكز نقل الفكر الإسلامي، والثقافة الإسلامية إلى الغرب المتخلف.
                        جاء في دائرة معارف لاروس: "إن صقلية مدينة للعرب بأسمى ما عرفته من تقدم زراعي، فالقطن وقصب السكر والفستق وغيرها لم تعرفه الجزيرة إلا بالفتح العربي".
                        لقد كثرت في الجزيرة بعد الفتح الإسلامي المساجد، وامتلأت بطلاب العلم من جميع الأجيال وبالعلماء الذين يوجهون ويعلمون ويؤدبون، لقد كان دأب المسلمين بعد الفتح تأكيد التسامح الديني، ونبذ التعصب، فتركوا لسكان صقلية أن يمارسوا طقوسهم الدينية بحرية تامة.
                        وقد زار ابن جبير- الرحالة المسلم- جزيرة صقلية فرأى الأزياء الإسلامية محبوبة ومستعملة وشائعة، كما رأى النساء النصرانيات ترتدين أزياء المسلمات" (رحلة ابن جبير).
                        الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
                        نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
                        روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
                        ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

                        تعليق


                        • #13
                          الإمام المجاهد العلامة الرباني
                          عبد الله بن المبارك


                          قال الإمام الذهبي : ( ... الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته ، طلب العلم وهو ابن عشرين سنة،سمع من هشام بن عروة،وإسماعيل بن أبي خالد ، وسليمان الأعمش ، وسليمان التيمي ،وحميدالطويل،ويحيىبنسعيدالأنصاري ، وموسى بن عقبة ، ومعمر بن راشد ، وابن جريج ،ومالك بن أنس،والثوري ، وشعبة ، وخلق كثير .
                          وروى عنه داود العطار وابن عيينة ، وأبو إسحاق الفزاري ، ومعتمر بن سليمان ، ويحيى بن القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، وعبد الله وهب ، وعبد
                          الرزاق الصنعاني وخلق غيرهم ) .
                          مكانته العلمية :
                          قال الخطيب البغدادي : كان ابن المبارك من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ ومن المذكورين بالزهد .
                          وقال عبد الرحمن بن المهدي : ما رأيت أعلم بالحديث من سفيان الثوري ، ولا أحسن عقلاً من مالك ، ولا أقشف من شعبة ، ولا أنصح لهذه الأمةمن عبد الله بن المبارك .
                          وقال الأسود بن سالم : كان ابن المبارك إماماً يقتدي به ، وكان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام .
                          وقال سفيان بن عيينة : نظرت في أمر الصحابة و أمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضل إلا بصحبتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وغزوهم معه .
                          وقال العباس بن مصعب : جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة . والسخاء والتجارة .
                          وقال أحمد بن حنبل : لم يكن أحدفي زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.

                          في مدينة (مرو) سنة 118هـ ولد (عبد الله بن المبارك) ونشأ بين العلماء نشأة صالحة، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة العربية، وحفظ أحاديث كثيرة من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرس الفقه، وأنعم الله عليه بذاكرة قوية منذ صغره، فقد كان سريع الحفظ، لا ينسى ما يحفظه أبدًا، يحكي أحد أقربائه واسمه (صخر بن المبارك) عن ذلك فيقول: كنا غلمانًا في الكتاب، فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب، فأطال خطبته، فلما انتهى قال لي ابن المبارك: قد حفظتها، فسمعه رجل من القوم،
                          فقال: هاتها، أسمعنا إن كنت حفظتها كما تدَّعي، فأعادها عليه ابن المبارك وقد حفظها ولم يخطئ في لفظ منها.
                          وفي الثالثة والعشرين من عمره رحل عبد الله إلى بلاد الإسلام الواسعة طلبًا للعلم، فسافر إلى العراق والحجاز.. وغيرهما، والتقى بعدد كبير من علماء عصره فأخذ عنهم الحديث والفقه، فالتقى بالإمام مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة النعمان، وكان عبد الله كلما ازداد علمًا، ازداد خوفًا من الله وزهدًا في الدنيا، وكان إذا قرأ كتابًا من كتب الوعظ يذكره بالآخرة وبالجنة والنار، وبالوقوف بين يدي الله للحساب، بكى بكاء شديدًا، واقشعر جسمه، وارتعدت فرائصه، ولا يكاد يتكلم أحد معه.
                          وكان عبد الله يكسب من تجارته مالا كثيرًا، وها هو ذا يعطينا درسًا بليغًا في السلوك الصحيح للمسلم، وذلك حين أتاه أحد أصدقائه واسمه (أبو علي) وهو يظن أن الزهد والتجارة لا يجتمعان قائلاً لعبد الله: أنت تأمرنا بالزهد، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد (خراسان) إلى (البلد الحرام) كيف ذا ؟! فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأُكْرِم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، لا أرى لله حقًّا إلا سارعت إليه حتى أقوم به، وكان عبد الله بن المبارك لا يبخل على أحد بماله، بل كان كريمًا سخيًّا، ينفق على الفقراء والمساكين في كل سنة مائة ألف درهم.
                          وكان ينفق على طلاب العلم بسخاء وجود، حتى عوتب في ذلك فقال:إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- لا أعلم بعد النبوة أفضل من بثِّ العلم.
                          وكان ابن المبارك يحبُّ مكة، ويكثر من الخروج إليها للحج والزيارة، وكان كلما خرج من مكة قال:
                          بُغْضُ الحياةِ وخوْفُ اللَّهِ أخرجنَـِـي
                          وَبيعُ نَفْسي بما لَيسَتْ لَهُ ثمَنَـــــا
                          إنــي وزنْتُ الَّذي يبْقَـــي لِيعْدلَــه
                          ما ليس يبْقي فَلا واللَّهِ مـا اتَّزَنَـــا

                          جهاده :
                          كانت حياة ابن المبارك كلها جهاداً في سبيل الله بنفسه وماله وعلمه. فكان-رحمه الله - يرابط في الثغور كثيراً ، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً ، ومانزلبلداًفي رحلته لطلب العلم ثم سمع منادي الجهاد إلا تجهز وخرج للغزو .
                          وكان - رحمه الله - يدعو إلى الجهاد ويحث الناس عليه لنصرة دين الله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا .
                          كما كان ينعي على النساك القاعدين عن الجهاد كسلهم وخمولهم وسوء فهمهم لمعنى العبادة ، فهو يقول :
                          أيها الناسك الذي لبس الصو ف وأضحى يُعد في العباد
                          الزم الثغر والتعبد فيه ليس بغداد مسكن الزهاد
                          إن بغداد للملوك مَحَل مناخ للقارئ الصياد
                          وها هو يراسل الفضيل بن عياض من ثغر من الثغور :
                          يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعبُ
                          من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
                          أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ
                          ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
                          لقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
                          لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
                          هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
                          فلما قرأه الفضيل ذرفت عيناه ثم قال : صدق أبو عبد الرحمن ونصح .
                          وكان ابن المبارك فارسا ًشجاعا ًذا خبرة في فنون القتال و المبارزة مع حرصه أن لا يُرى موقعه من القتال ، كل ذلك ورعاً وحسبة لله (سبحانه وتعالى) .
                          روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى عبدة بن سليمان المروزي قال : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم ، فصادفنا العدو ، فلما التقى الصفان
                          خرج رجل من العدو فدعا إلى البِرَاز ، فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه ابن المبارك ،فطارده ساعة فطعنه فقتله ، فازدحم إليه الناس فكنت فيمن ازدحم إليه ، فإذاهو يلثّم وجهه بكمه ، فأخذت بطرف كمه فمددته ، فإذا هو عبد الله بن المبارك ، فقال : وأنت - يا أبا عمرو ! - ممن يشنع علينا!.
                          وأخرج الذهبي بإسناد ه إلى محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الله بن سنان قال : كنت مع ابن المبارك ومعمر بن سليمان - بطرسوس - فصاح الناس : النفير ، النفير ؛ فخرج ابن المبارك والناس ، فلما اصطف الجمعان ، خرج علج رومي فطلب البراز فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله...حتى قتل ستة من المسلمين ، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ، ولا يخرج إليه أحد ، فالتفت إلى ابن المبارك ، فقال : يا فلان إن قُتلت فافعل كذا وكذا ، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة ، فقتل العلج ،وطلب المبارزة ، فبرز له علج آخر فقتله ، حتى قتل ستة علوج وطلب المبارزة ، فكأنهم كاعوا - أي جبنوا - عنه ، فضرب دابته وطرد بين الصفين ، ثم غاب ، فلم نشعر بشيء ،فإذا أنا به في الموضع الذي كان ، فقال لي : يا عبد الله ! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي ... فذكر كلمة ... ! ! .
                          قال صاحب مفتاح السعادة : كان ابن المبارك يقضي جل وقته في الجهاد في سبيل الله ، وكان يقاتل ويبلي بلاءً حسناً،فإذاجاءوقت القسمة غاب ، فقيل له في ذلك ، فقال : يعرفني الذي أقاتل له .
                          هكذا تكون النية في الجهاد ، إنه لأجل إعلاء كلمة الله وابتغاء مرضاته - سبحانه وتعالى - لا لمنصب ولا لجاه ولا لمال ، إنما يكون الجهاد لنشر دين الله
                          بين الناس ، وإقامة العدل في الأرض بتحكيم الكتاب والسنة ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، لا لمجرد تسلُّم السلطة لذاتها،ولا من أجل تغلب حزب على حزب أو فئة على فئة .



                          في مجال العلم :
                          تلقى ابن المبارك العلم على مشايخ بلده ثم رحل في طلب العلم على غيرهم كعادة الأئمة من السلف الصالح في طلب العلم .
                          وكانت سنه آنذاك عشرين سنة عند رحلته ، وأخذ العلم عمن أدرك من التابعين ومن بعدهم ، وأكثر من الترحال والتطواف إلى أن مات في طلب العلم
                          والغزو ، قال الذهبي : روىالعباس بن مصعب في تاريخه عن إبراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك قال : حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ ، فرويت عن ألف منهم ..
                          قال الذهبى : وحدث عنه خلق لا يحصون من أهل الأقاليم ، فإنه من صباه ما فتر عن السفر .. .
                          وقال الحافظ ابن معين : كانت كتب ابن المبارك التي حدث بها نحواً من عشرين - أو واحد وعشرين ألف حديث .
                          وقد كان لابن المبارك جهود ومشاركات في خدمة منهج أهلالسنةوالجماعةمن خلال مجال العلم والتعلم ، ويمكن إيجاز تلك الجهود والمشاركات فيما يلي :
                          1- منهج التعلم والتعليم .
                          2 - علوم الحديث .
                          3- مؤلفاته .



                          الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
                          نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
                          روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
                          ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

                          تعليق


                          • #14
                            أولاً : منهج التعلم والتعليم :

                            لسلفنا الصالح منهج في تعلم العلم ، إذ لم يكن عندهم فوضى علمية كما نشاهدها في عالمنا اليوم ضاربة أطنابها .

                            وهذا المنهج يقوم على أسس ومبادئ ثابتة ، ومن لم يسلكها يكون تعلمه ناقصاً قاصراً وربما كان علمه عليه لا له ، وهذه بلية كثير من طلبة العلم اليوم ، نسأل الله العافية .

                            وهذا الإمام العالم الرباني عبد الله بن المبارك - رحمه الله - أحد مؤسسي ذلك المنهج وواضعي مبادئه الثابتة يوضح لنا ذلك المنهج قولاً وعملا .

                            - قال ابن المبارك : طلبت الأدب ثلاثين سنة ، وطلبت العلم عشرين سنة ، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم .

                            -قيل له بالشام : إلى كم تطلب العلم ؟ فقال : أرجو أن تروني فيه إلى أن أموت ، أليس يقال له - طالب العلم - يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء ، أفلهذا مترك ؟ .

                            وقال أيضاً : طلبنا العلم للدنيا فدلنا على ترك الدنيا .

                            - قال أبو صالح الفرّاء : سألت ابن المبارك عن كتابة العلم فقال : لولا الكتابة ما حفظنا .

                            - وقال نعيم بن حماد : سمعت ابن المبارك يقول : عجبت لمن لم يطلب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة .

                            - قال شقيق البلخي : قيل لابن المبارك : إذا أنت صليت لِمَ لا تجلس معنا ؟

                            قال : أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر إلى كتبهم وآثارهم ، فما أصنع معكم ؟ ؛ أنتم تغتابون الناس .

                            وقال ابن المبارك : إن أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر .

                            هذه أوجز وأدق عبارة تضمنت الأسس ، والمبادئ الأساسية الثابتة لمنهج التعلم والتعليم عند السلف ، وهى نفسها عبارة الإمام سفيان الثوري - أمير المؤمنين

                            في الحديث - حيث قال - وهو يوجه تلاميذه - : تعلموا هذا العلم ، فإذا تعلمتموه فتحفظوه ، فإذا حفظتموه فاعملوا به ، فإذا عملتم به فانشروه .

                            ولا غرو فابن المبارك والثوري ، كلاهما تلقيا هذا المنهج عن السلف الصالح ، والسلف تلقوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بُعث معلماً للخير ومتمماً لمكارم الأخلاق ، وكل منهج للتعلم يخالف ذلك المنهج فهو منهج خاطئ .

                            - قال ابن المبارك : كاد الأدب يكون ثلثي العلم .

                            ومر من قبل قوله : ( طلبت الأدب ثلاثين سنة ، والعلم عشرين سنة ، وكانوا يطلبون الأدب ، ثم العلم ) .

                            وهذه ركيزة من ركائز التعلم الأساسية عند السلف وهى البدء بالأدب أولاً ثم العلم ثانياً ، وهذا معنى قول الحسن البصري وابن سيرين والشافعي : ( كانوا يتعلمون الهَدي أولاً ثم العلم ) .

                            أما نحن اليوم فأحسننا حالاً الذين يعكسون هذا المبدأ ، أي أنهم بعد أن يفرغوا من طلب العلم يبدأون بطلب الأدب ، والغالبية العظمى لا يعرفون أدب الطلب ولا أدب العلم والتعلم ، فضلاً عن أدب الخلاف ، وأدب الفتوى وطرق الاستنباط والاستدلال ، فقد دُفن أصحاب ذلك الأدب وذلك المنهج منذ قرون خلت (رحمهم الله وأجزل لهم الثواب) .

                            - وعن محبوب بن الحسن قال : سمعت ابن المبارك يقول : من بخل بالعلم ابتلُي بثلاث : إما موت يُذهب علمه ، وإما يُنسى ، وإما يلزم السلطان فيذهب

                            علمه .

                            ثانياً : جهوده في علوم الحديث :

                            يعتبر ابن المبارك أحد الجهابذة النقاد المعتد بقولهم في الجرح والتعديل . وله اجتهادات في علوم الحديث ومعرفة في عالم الرجال والعلل .

                            وقد عبر عن ذلك الخليفة هارون الرشيد عندما أتي بأحد الزنادقة ليقتله ، فقال الزنديق : أين أنت من ألف حديث وضعتها ؟ فقال الرشيد : فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها ويخرجانها حرفاً حرفاً .

                            وهذه جملة من أخباره وآرائه في هذا المجال :

                            - قال الحافظ علي بن المديني : انتهى العلم إلى رجلين : إلى ابن المبارك ثم من بعده إلى يحيى بن معين .

                            - وقال فضالة النسائي : كنت أجالسهم بالكوفة ، فإذا تشاجروا في الحديث قالوا : مروا بنا إلى هذا الطبيب حتى نسأله - يعنون ابن المبارك - .

                            - وقال علي بن المديني أيضاً : ابن المبارك أوسع علماً من ابن مهدي ويحيى بن آدم .

                            - وقال الإمام أحمد : لم يكن أحد في زمن ابن المبارك أطلب للعلم منه .

                            - وقال ابن المبارك -رحمه الله- : في صحيح الحديث شغل عن سقيمه .

                            - قال عبدان بن عثمان : سمعت ابن المبارك يقول : الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء .

                            - وعنه أيضاً قال : الذي يطلب دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سُلم .

                            - وقال ابن المبارك : ليكن الذي تعتمدون عليه هذا الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث .

                            - وقال أيضاً : إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تذكر المحاسن .

                            - وسئل عبد الله بن المبارك عمن نأخذ ؟ قال : من طلب العلم لله وكان في إسناده أشد ، قد تلقى الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة ، وتلقى الرجل غير ثقة وهو يحدث عن ثقة ، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة .

                            ما أحوجنا اليوم نحن طلبة العلم إلى هذه الوصية وهذا التوجيه الكريم من الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك ، إنه يرسم منهجاً يجب أن يلتزم به طلبة العلم طول حياتهم .

                            إن آفة الأخبار رواتها ، وما أقل الثقات في رواة الأخبار في عصرنا وأخص بالذكر طلبة العلم فهم قدرة الأمة وهم المخاطبون بوصية ابن المبارك ، والمفترض

                            فيهم التوثق ، ودقة الفهم وتمحيص الأخبار والنظر فيمن يرويها : في دينه وعقله وضبطه وعدله ، في سيرته واتجاهه الذي يسير عليه في حياته ، لكن الواقع خلاف ذلك ، إذ أن مجتمع طلبة العلم اليوم أصبح في الغالب مرتعاً خصباً للإشاعات والأراجيف التي لا أساس لها من الصحة -وآفتها من مروجيها بينهم- ولا سيما تلك الإشاعات التي تتعلق بسمعة أحدهم ، فإنها تنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم أو أسرع .

                            وكان الأولى بطلبة العلم وعلى وجه أخص من يزعمون أنهم دعاة إلى الخير أن يلتزموا منهج المحدثين في التثبت في الرواية والتمحيص للأخبار والنظر في أحوال الرجال ، فإن ذلك هو الموافق لمنهج الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح ، وهذا المنهج هو منقبة للأمة الإسلامية ، وميزة لها عن سائر الأمم .

                            ثالثاً : مؤلفاته :

                            قال الإمام الذهبي : دَوَّن ابن المبارك العلم في الأبواب والفقه وفي الغزو ، والزهد ، والرقائق وغير ذلك .

                            وهذه جريدة أسماء مؤلفات ابن المبارك التي وقفت عليها فيما اطلعت عليه من المصادر :

                            1 - تفسير القرآن .
                            2 - السنن في الفقه .
                            3 - كتاب التاريخ .
                            4 -كتاب الزهد ، طبع باسم : كتاب الزهد والرقائق بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي .
                            5 - كتاب البر والصلة .
                            6 - رقاع الفتاوى .
                            7 - الرقائق .
                            8 - الجهاد ، طبع بتحقيق الدكتور نزيه حماد .
                            9 - الأربعين في الحديث .


                            رابعاً : في مجال الإنفاق في سبيل الله :

                            كما كان ابن المبارك جواداً بنفسه في سبيل الله كان أيضاً كريماً جواداً بماله منفقاً في سبيل الله . ولا غرو فقد ورث ذلك من القدوة الحسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي وصفه ابن عباس -كما في الحديث الصحيح - بأنه كان أجود من الريح المرسلة ، وأجود ما يكون في رمضان .

                            وهذه نبذة من أخباره -رحمه الله- في هذا المجال :

                            - قال الحسن بن شقيق : كان ابن المبارك ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم ، وإنه قال مرة للفضيل بن عياض : لولاك وأصحابك ما اتجرت .

                            - وقال علي بن الفضيل بن عياض : سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك .

                            أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ، ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام ، كيف ذا ؟

                            فقال ابن المبارك : يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي أستعين به على طاعة ربي ، ولا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به ، فقال له الفضيل : يا ابن المبارك ما أحسن ذا إذا تمّ ذا .

                            - وبإسناد الخطيب أيضاً إلى حبان بن موسى المروزي قال : عوتب ابن المبارك فيما يفرق من الأموال في البلدان ، ولا يفعل في أهل بلده ، قال : انني اعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا الطلبة للحديث ، وقد احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم ، وإن أعنَّاهم بثوا علمهم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم .

                            هكذا يكون الفهم الصحيح لوظيفة المال في الحياة الدنيا ، إنه لصون الوجه والعرض إعانة طلبة العلم والصالحين والاستعانة به على مرضاة الرب ، هذا هو فهم سلفنا الصالح لوظيفة المال ، فهل يقتدي بهم أرباب الأموال من أثرياء المسلمين اليوم ، فينفقون أموالهم في وجهها الصحيح .

                            إن الإمام ابن المبارك يرسم لنا بسيرته العملية في ماله منهجاً بيناً واضحاً .

                            إن هذا المنهج ليبين لأرباب الأموال الطريقة الصحيحة لتوزيع صدقاتهم وأموالهم التي ينفقونها في سبيل الله ، في هذا المنهج يبدأ بالإنفاق على من نفعه لدينه ولأمته أكبر ، أولئك هم طلبة العلم العاملون بعلمهم المشتغلون بنشر العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عن طلب الرزق .

                            إنه من المؤلم حقاً أن نرى أموالاً كثيرة - تعد بالملايين - تنفق سنوياً من قبل أثرياء المسلمين ثم لا تؤدي هذه الأموال الأثر المطلوب من إنفاقها ، إنها تنفق دون تخطيط ودون هدف من إنفاقها سوى إرادة أصحابها أداء الحق الشرعي في أموالهم وكفى .

                            إن أموال اليهود تنفق لتخدم عقيدتهم وهدفهم الذي يسعون من أجل تحقيقه .

                            وأموال الرافضة تنفق لنشر العقيدة الرافضية بين أهل السنة في جميع أنحاء العالم الإسلامي . وأموال النصارى قد أدت دوراً مهماً في تنصير أبناء المسلمين في أفريقيا وآسيا ، أما أموال أثرياء المسلمين فغالبيتها العظمى تنفق ولا تؤدي دوراً مهماً لأنها تنفق بدون وعي وبدون تخطيط ، وغالبها يوضع في غير محله .

                            إن أعداداً كثيرة من خريجي الجامعات العربية والإسلامية من أبناء المسلمين في أفريقيا وآسيا بحاجة ملحة إلى من ينفق عليهم ليتفرغوا للدعوة إلى الله ونشر العقيدة الصحيحة بين المسلمين وغيرهم في تلك الديار المقفرة من الدعاة إلا من النزر اليسير ، إنهم بحاجة إلى عشرات من أمثال عبد الله بن المبارك ليتفقدوا أحوالهم ويعينوهم على بث العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لشدة حاجة الأمة إلى علمهم لاسيما وهي تصارع الشرك والخرافة والتنصير والمبادئ الهدامة من علمانية وقاديانية وبهائية ورافضة وباطنية وغيرها .

                            - عن محمد بن عيسى قال : كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس ، وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث ، قال فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب ، وكان مستعجلاً فخرج في النفير ، فلما قفل من غزوته ورجع الرقة سأل عن الشاب ، فقالوا : إنه محبوس لدين ركبه ، فقال عبد الله : وكم مبلغ الدين ؛ فقالوا : عشرة آلاف درهم ، فلم يزل يستقصي حتى دُل على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلفه أن لا يخبر أحداً مادام عبد الله حياً ، وقال : إذا أصبحت فاخرج الرجل من الحبس وأدلج عبد الله ، فأخرج الفتى من الحبس وقيل له عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج ، فخرج الفتى في إثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة ، فقال : يا فتى إن كنت لم أرك في الخان ؟ قال : نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين ، قال : كيف كان سبب خلاصك ، قال : جاء رجل فقضى ديني ولم أعلم به حتى خرجت من الحبس ، فقال له عبد الله : يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك ، فلم يخبر ذلك الرجل أحداً حتى مات عبد الله .

                            وهذه منقبة أخرى لهذا العالم المجاهد عبد الله بن المبارك - وما أكثر مناقبه - وهي تفقده لأحوال تلاميذه وقضاؤه حاجاتهم ، وهذه حال كثير من أئمة السلف - يرحمهم الله- ، مع تلاميذهم ، وقدوتهم في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يتفقد أحوال أصحابه فيقضي حاجاتهم ويعين فقيرهم ويعود مريضهم ... ويعينهم جميعاً على نوائب الحق ، فهل من مشايخنا وعلمائنا اليوم من يفعل ذلك مع تلاميذه ؟ ؟ .

                            كم تخرج على أيديهم في الجامعات الإسلامية من أبناء أفريقيا وآسيا وغيرها ؟

                            فهل سألوا عنهم بعد تخرجهم ، هل عرفوا شيئاً من أخبارهم ؟ ! !

                            إنهم يعانون في بلادهم من الفقر والفاقة ومن اضطهاد طواغيت بلادهم ، كما يعانون من هجوم أعدائهم من مبشرين وقاديانيين ورافضة وعلمانيين ، ولقد شاهدت ذلك بأم عيني أثناء زياراتي لغرب أفريقيا وجنوب شرق آسيا ، إنهم يحتاجون إلى مديد المساعدة بالمال والنصح والتوجيه والكتب العلمية النافعة ، وهم بحاجة إلى بناء مدارس لأبنائهم ليحفظوا عليهم دينهم وعقيدتهم وليحموهم من مدارس المبشرين والعلمانيين والباطنيين .

                            من غرر كلامه وشعره :

                            لقد كان ابن المبارك شاعراً وأديباً كما كان إماماً في الفقه والحديث والتفسير واللغة وغيرها من الفنون ، وكان والده يحفزه على حفظ الشعر وهو صغير ويكافئه على حفظ القصيدة بدرهم ، وكان ابن المبارك شاعراً مجيداً صادق اللهجة فلذلك كان لشعره وقع في النفوس ، لا سيما أنه كان مليئاً بالحكم والمواعظ والنصح .

                            قال الدكتور نزيه حماد : (وشعر ابن المبارك ليس بالقليل ، غير أنه منثور في بطون مدونات العلم وكتب التراجم وأسفار التاريخ والأدب ، ويحتاج لمن ينقب عنه في مظانه ، ويعرف الناس بيواقيته ودرره ونفيس مكنوناته ، وإنه لمهم حقاً باعتباره يمثل نموذجاً رفيعاً رائعاً من شعر الزهاد الأوائل والمجاهدين الحكماء من السلف الصالح ، فصاحبه قد قضى عمره في الجهاد والرباط والعلم والزهد ، فجاء شعره مرآة صادقة لتلك النفس الإنسانية السامية التي ارتقت في مدارج الكمال وعلت في مراتب الفضيلة ومقامات الإيمان والإحسان . وقد وصف الإمام الذهبي

                            في سير أعلام النبلاء موهبته الشعرية الصادقة بقوله : كان ابن المبارك –رحمه الله- شاعراً محسناً قوالاً بالحق) . اهـ .

                            ومن شعره ما يلى : قال الذهبي : قال أحمد بن جميل المروزي : قيل لابن المبارك إن إسماعيل بن علية قد ولي القضاء فكتب إليه :

                            يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين

                            احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين

                            فصرت مجنوناً بها بعدما كنت دواءً للمجانين

                            أين رواياتك في سردها عن ابن عون وابن سيرين

                            أين رواياتك فيما مضى في ترك أبواب السلاطين

                            إن قلت أُكرهت فماذا كذا زل حمار العلم في الطين

                            لاتبع الدين بدنيا كما يفعل ضلال الرهابين

                            وعن سلام الخواص قال : أنشدني ابن المبارك :

                            رأيت الذنوب تميت القلوب ويورثك الذل إدمانها

                            وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها

                            وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ، ورهبانها

                            وباعوا النفوس فلم يربحوا ولم تغل في البيع أثمانها

                            لقد رتع القوم في جيفة يبين لذي العقل إنتانها

                            وأنشد أبو بكر الآجري لابن المبارك :

                            اغتنم ركعتين زُلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحاً

                            وإذا ما هممت بالنطق بالبا طل فاجعل مكانه تسبيحاً

                            فاغتنام السكوت أفضل من خو ض وإن كنت بالكلام فصيحاً

                            وقال ابن المبارك يمدح حماد بن زيد مع التحذير من المبتدعة :

                            أيها الطالب علماً إئت حماد بن زيد

                            فاستفد علماً وحلماً ثم قيده بقيد

                            لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد

                            وقال يمدح الإمام مالك إمام دار الهجرة :

                            يأبى الجواب فما يراجع هيبة فالسائلون نواكس الأذقان

                            هدي الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان

                            وهذه نماذج من كلامه :

                            * قال ابن المبارك : إن البصراء لا يأمنون من أربع :

                            - ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب -عز وجل- .

                            - وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة .

                            - وضلالة قد زينت يراها هدى .

                            - وزيغ قلب ساعة ، فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر .

                            - وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج .

                            وقال أبو وهيب المروزي : سألت ابن المبارك : ما الكبر ؟ قال : أن تزدري الناس ، فسألته عن العجب ؟ فقال : أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك ، ولا أعلم في المصلين شيئاً شراً من العجب .

                            قال حبيب الجلاب : سألت ابن المبارك : ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال : غريزة عقل ، قلت : فإن لم يكن ؟ قال : حسن أدب ، قلت : فإن لم يكن ؟ قال : أخ شقيق يستشيره ، قلت : فإن لم يكن ؟ قال : صمت طويل ، قلت : فإن لم يكن ؟ قال : موت عاجل .

                            مكانة ابن المبارك واهتمامه بإخوانه العلماء :

                            - قال أبو أسامة : كان ابن المبارك في أصحاب الحديث مثل أمير المؤمنين في الناس .

                            - وعن أشعث بن شعبة المصيصي قال : قدم هارون الرشيد الرقة ، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك ، وتقطعت النعال ، وارتفعت الغبرة ، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين الرشيد من برج من قصر الخشب ، فلما رأت الناس قالت . ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خرسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت : هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعو .

                            - أخرج الخطيب البغدادي بإسناده إلى الحمادين قالا : كان عبد الله بن المبارك يتجر في البز ، وكان يقول لولا خمسة ما اتجرت ، فقيل له من الخمسة يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال : سفيان الثوري وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ومحمد بن السماك وإسماعيل بن علية . قالا : وكان يخرج فيتجر إلى خراسان فكلما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج والباقي يصل به إخوانه الخمسة ، قالا : وقدم سنة ، فقيل له قد ولي ابن علية القضاء ، فلم يأته ولم يصله بالصرة التي كان يصله بها في كل سنة فبلغ ابن علية أن ابن المبارك قدم فركب إليه فتنكس على

                            رأسه ، فلم يرفع به عبد الله رأساً ولم يكلمه فانصرف ، فلما كان من غد كتب إليه رقعة : بسم الله الرحمن الرحيم ، أسعدك الله بطاعته ، وتولاك بحفظه ، وحاطك بحياطته قد كنت منتظراً لبرك وصلتك أتبرك بها وجئت أمس فلم تكلمني ورأيتك واجداً علي ، فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر إليك منه ؟ فلما وردت الرقعة على عبد الله بن المبارك دعا بالدواة والقرطاس ، وقال :

                            يأبى هذا الرجل إلا أن نقشر له العصا ، ثم كتب إليه : رقعة : بسم الله الرحمن الرحيم

                            يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين

                            إلى آخر الأبيات وقد سبق ذكرها كاملة في الكلام عن شعره ، فلما وقف ابن علية على هذه الأبيات قام من مجلس القضاء ، فوطئ بساط هارون الرشيد وقال : يا أمير المؤمنين ، ألله الله ، ارحم شيبتي ، فإني لا أصبر للخطأ ، فقال له هارون :

                            لعل هذا المجنون أغرى عليك ؟ فقال : الله الله أنقذني أنقذك الله ، فأعفاه من القضاء ، فلما اتصل بعبد الله وجه إليه بالصرة ..

                            دروس وعبر

                            ونختم هذا البحث ببعض الدروس والعبر من تلك السيرة العطرة لهذا الإمام المجاهد والعالم الرباني -رحمه الله ورضي عنه- :

                            أولاً : إن العالم المسلم يجب أن يعيش لدينه وأمته ونشر العقيدة الصحيحة بين الأمة وأن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيعه من نفس ونفيس وغال وثمين ، وهذا ما عبر به عبد الرحمن بن مهدي عندما وصف ابن المبارك بأنه كان أنصح علماء الأمة للأمة .

                            ثانياً : الفهم الصحيح للزهد هو ترك ما بأيدي الناس والرغبة فيما عند الله ، وأن طلب المال لصون العرض والاستعانة على طاعة الرب وإعانة طلبة العلم والصالحين لا ينافي الزهد .

                            وهذا الفهم جسده الإمام ابن المبارك في حياته العملية وفي قوله عندما عاتبه الفضيل بن عياض على أمره لهم بالزهد والتقلل مع اشتغاله بالتجارة فقال : إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي ، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به ، فقال الفضيل : ما أحسن ذا إن تم ذا .

                            ومن ذلك نفهم أن زهد الصوفية الداعي إلى الكسل والخمول وتعطيل الحياة ليس صحيحاً ، بل هو خلاف فهم السلف الصالح للزهد وخلاف ما أراده الشارع من المؤمنين .

                            ثالثاً : إن مهمة العالم المسلم ليست منحصرة في تعليم الناس العلم وتلقينهم الأحكام ، وتحفيظهم المتون بل إن مهمته أوسع من ذلك ، إنه القدوة العملية لمن يربيهم ويعلمهم الفهم الصحيح لطلب العلم والعمل به ، والفهم الصحيح لوظيفة المال في الحياة الدنيا ، والمعنى السليم للزهد .

                            فهو إلى جانب تعليمهم يتفقد أحوالهم وينفق عليهم ويوجههم توجيهاً عملياً فلا يعلمهم أحكام الجهاد وهو قاعد متخلف مع القاعدين ، ولا يعلمهم سُبل الانفاق وهو مقتر بخيل أو فقير عاطل ، ولا يعلمهم التواضع وسعة الأفق وهو متكبر غليظ القلب ضيق الأفق .

                            رابعاً : تلك المكانة التي كان يحتلها علماؤنا من السلف الصالح بين الأمة ، إنها مكانة عالية مكانها القلوب والأرواح ، مكانة لا يبلغها أرباب المال والجاه المتسلطون على الأمة بالقوة والقهر والذين غالباً ما تكون محبتهم مصحوبة بالرياء والمداهنة ، وأصدق تعبير عن هذه المكانة لأئمتنا من السلف الصالح أمران :

                            الأول : ما قاتله أم ولد لهارون الرشيد عندما رأت بأم عينها مكانة الإمام عبد الله بن المبارك في قلوب ونفوس الأمة ، فانطلق لسانها معبراً عن تلك المكانة : ..

                            هذا والله الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان أو ترغيب وترهيب ...

                            هذه المكانة لم يكن لينالها علماؤنا لو أن أعمالهم كانت تناقض أقوالهم أو كانوا يؤثرون الدعة والراحة على التعب والنصب أو كانوا يؤثرون أنفسهم بالرفاه والعافية عن باقي الأمة .

                            خامساً : إن لسلفنا الصالح منهجاً في طلب العلم يتدرج فيه حتى يبلغ درجة الاجتهاد ولا يتجاوز الطالب مرحلة من تلك المراحل إلى التي تليها حتى يتقن المرحلة السابقة وقد أوجز ابن المبارك المبادئ الأساسية لهذا المنهج فقال : أول العلم النية ثم الاستماع ثم الفهم ثم العمل ثم الحفظ ثم النشر . وقال : كانوا يطلبون الأدب ثم العلم .

                            سادساً : العناية بالنابغين والأذكياء من طلبة العلم والعمل على تفرغهم لطلب العلم وتعليمه للأمة ومساعدتهم بما يحتاجون من المال وغيره .

                            هذا ما فعله ابن المبارك مع النابغين من طلبة العلم في عصره ومن قبله فعله شيخه أبو حنيفة -رحمه الله- مع بعض تلاميذه النابهين .

                            هذا ما يسر الله لي أن أكتبه عن ابن المبارك وأسأله -سبحانه- أن يرزقنا

                            العلم النافع وأن ينفعنا بما علمنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
                            الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
                            نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
                            روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
                            ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك

                            تعليق


                            • #15
                              جزاك ربي خيرا أخونا الكريم
                              وزادك علما- وعملا صالحا خالصا لوجهه الكريم
                              وأسجل متابعتي
                              وأقوال الرسول لنا كتابا وجدنا فيه أقصا مبتغانا
                              وعزتنا بغير الدين ذل وقدوتنا شمائل مصطفانا
                              صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

                              تعليق

                              يعمل...
                              X