رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية من سجنه بالإسكندرية إلى أصحابه ....
مجموع الفتاوى جزء 28 ص30
مجموع الفتاوى جزء 28 ص30
{وأما بنعمة ربك فحدث}، والذي أعرف به الجماعة - أحسن الله إليهم في الدنيا وفي الآخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة -، فإني والله العظيم الذي لا إله إلا هو في نعم من الله ما رأيت مثلها في عمري كله، وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال ولا يدور بالخيال .
هذا ويعرف بعضها بالذوق من له نصيب من معرفة الله وتوحيده وحقائق الإيمان، وما هو مطلوب الأولين والآخرين من العلم والإيمان. فإن اللذة والفرحة والسرور، وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه، إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، وقد قال بعض الشيوخ: ( لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في هذه الحال، إنهم لفي عيش وطيب )، وقال آخر: ( لتمر على القلب أوقات يرقص طربا، وليس في الدنيا يشبه نعيم الآخرة، إلا نعيم الإيمان والمعرفة )، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أرحنا بالصلاة يا بلال )، ولا يقول أرحنا منها، كما يقوله من تثاقل عليه الصلاة، كما قال الله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}. -والخشوع : الخضوع لله تعالى والسكون والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( حبب إلى من دنياكم النساء والطيب ) ثم يقول: ( وجعلت قرة عيني في الصلاة). ولم يقل حبب إلى من دنياكم ثلاث، كما يرفعه بعض الناس، بل هكذا رواه الإمام أحمد والنسائي، أن المحبب إليه من الدنيا النساء والطيب، أما قرة العين فتحصل بحصول المطلوب وذلك ف ي الصلاة.
والقلوب فيها وسواس النفس، والشيطان يأمر بالشهوات والشبهات ما يفسد عليه طيب عيشها، فمن كان محبا لغير الله فهو معذب في الدنيا والآخرة، فإن نال مراده عذب به، وإن لم ينله فهو في العذاب والحسرة والحزن. وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة غلا في محبة الله والتقرب غليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، وهي ملة إبراهيم الخليل -عليه السلام - وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ( قولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين )، والخير كله في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر - وأكثر الناس لا يعرفون حقائق ما جاء به - وإنما قسط من ذلك {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}. والإنسان ظالم جاهل، كما قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}.
وإنما غاية أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين التوبة، ولهذا كان الدين مجموعا في التوحيد والاستغفار، قال تعالى: {فاستقيموا إليه واستغفروه}، ففعل جميع المأمورات وترك المحظورات، يدخل في التوحيد، في قول " لا إله إلا الله "، والعبد إذا أنعم الله عليه بالتوحيد، فشهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه، حلاه الله بالأمن والسرور والحبور والرحمة للخلق. والخوف الذي يحصل في قلوب الناس، هو الشرك الذي في قلوبهم، قال تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا}، وفي الحديث الصحيح : (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش ). ولما خوفوا الخليل -عليه السلام - بما يعبدونه ويشركون به، قال الخليل : {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون}، ولهذا قال الإمام أحمد لبعض الناس : ( لو صححت لم تخف أحدا )، وكل من وافق الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره فله نصيب من قوله : {لا تحزن إن الله معنا}، فإن المعية الإلهية المتضمنة النصر هي لما جاء به إلى يوم القيامة، وهذا قد دل عليه القرآن، وقد رأينا من ذلك وجربنا ما يطول وصفه . ومن شنأ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فله من ذلك نصيب ( إن شانئك هو الأبتر )، ولهذا قال أبو بكر بن عياش: ( ولكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم، وذلك أن أهل البدعة شنئوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فأبترهم بقدر ذلك ). والذين أعلنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فصار لهم نصيب من قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك}.
وكل من دعا غير الله فهو مشرك، والعيان يصدق، فإن المخلوقين إذا اشتكى إليهم الإنسان، فضررهم أقرب من نفعهم، وهذا باب واسع - فقد كتبت فيه كثيرا وعرفته علما وذوقا وتجربة -
وفي الجملة، ما بين نعم الله التي أنعم بها علي وأنا في هذا المكان، اعظم قدرا وأكثر عددا ومالا يمكن حصره. وأكثر ما ينقص علي "الجماعة " فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات . . .
والمقصود، إخبار الجماعة بأن نعم الله علينا فوق ما كانت بكثير، ونحن بحمد الله في زيادة من نعم الله، وإن لم يمكن خدمة الجماعة باللقاء، فأنا داع لهم بالليل والنهار -قياما ببعض الواجب من حقهم، وتقربا إلى الله تعالى في معاملته فيهم -. والذي آمر به كل شخص منهم : أن يتق الله، ويعمل لله، مستعينا بالله، مجاهدا في سبيل الله، ويكون دعاؤه وغيره بحسب ذلك كما أمر به الله ورسوله .
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . اللهم انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين، اللهم عذب الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك ويبدلون دينك. اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم مجري السحاب ومنزل الكتاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم. ربنا أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، وانصرنا على من بغي علينا. ربنا اجعلنا لك شاكرين مطاوعين مخبتين. ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم صدورنا .
والحمد لله ناصر السنة وخاذل أهل البدعة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
تعليق