على راسي يا دكتور
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
سلسلة شخصيات من روائع التاريخ الحديث ... متجدد
تقليص
X
-
ولد الشيخ عز الدين القسام في بلدة جبلة القريبة من مدينة اللاذقية الواقعة على الساحل السوري عام 1882، نشأ في أسرة ريفية عرفت بالعلم والتقوى، أبوه الشيخ عبد القادر مصطفى القسام من المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية، وأمه حليمة قصاب من عائلة علم ودين، وكان أبوه من المهتمين بنشر العلم، حيث درّس في كُتّاب القرية القرآن الكريم والعربية والخط والحساب وبث روح الجهاد بتعليم الأناشيد الدينية والحماسية، ثم عمل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية.الشيخ الثائر
عز الدين القسام
تعلم عز الدين في كتاب البلدة القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، وتميز بنبوغه وتفوقه على أقرانه وامتاز بميله للتأمل وطول التفكير، بعدها التحق عز الدين للدراسة في الأزهر بمصر، فحضر دروس الشيخ محمد عبده، وارتوت نفسه من علمه وفهمه. كما تتلمذ على معظم حلقات الأزهر، واعتكف في أروقة مكتباته، وكان يرافق اهتمامه بدروس العلم اهتمام آخر بحركات التحرر التي كان يغذيها رجال الأزهر، ففهم عز الدين أن الإسلام دين عز وقوة وتحرر وجهاد.
تعرّف القسام في أثناء وجوده في مصر على الاستعمار الإنكليزي وقسوته وتسلطه على الشعب المصري وثرواته، حينها ترسخت لديه قناعة بضرورة مكافحة الإقطاع والتخلص من المستعمر لأنهما في رأيه يمثلان وجهين لعملة واحدة، فالظلم إذا شاع وساد يسحق الإنسان ويدمر العمران. وقد ردته هذه المشاهدات غير الإنسانية إلى بلدته جبلة، وذكرته بما يعانيه أهلها من جهل وأمية وتدن في الأوضاع الاقتصادية.
القسّام مدرساً
في العام 1906 عاد عز الدين القسام إلى جبلة بعد أن قضى عشر سنوات في الدراسة في الأزهر، بعدها حصل على شهادة الأهلية، ومن ثم قام برحلة إلى تركيا للإطلاع على طرق التدريس في جوامعها، وبعد عودته عكف على التدريس في زاوية والده، في جامع السلطان بن أدهم قطب الزاهدين. كما أخذ القسام دور والده في تدريس أطفال البلدة قواعد القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعض العلوم الحديثة، وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة، وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس، وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة فقدم الإسلام بفهمه الواسع الطلق، وربطته بكثير من المواطنين صداقات متينة، فكثر أتباعه، وعظم شأنه، وذاع صيته.
اللقاء مع عمر المختار
حكايته مع الجهاد ضد الاستعمار الاوروبي كانت قد بدأت قبل ذلك وفور قيام الايطاليين باحتلال ليبيا عام 1911، نجح المجاهد عز الدين القسام الذي تخرج لتوه من جامعة الازهر في القاهرة بجمع التبرعات والمتطوعين في سوريا من اجل مساندة ثورة عمر المختار، حيث اعرب الكثير من السوريين عن استعدادهم للجهاد وخرجوا في مظاهرات رددوا خلالها القول ’’يا رحيم يا رحمان غرق اسطول الطليان‘‘ لكن السلطات التركية انذاك لم تـأذن لهم بالسفر الى ليبيا، فسافر المجاهد عز الدين القسام برفقة صديق له وسلم التبرعات التي جمعها للمختار ثم عاد الى سوريا.. .
الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي لسورية
وعندما دخلت القوات الفرنسية سورية عام 1920، رفع القسام راية المقاومة ضد المستعمرين الفرنسيين في الساحل الشمالي لسورية، وكان في طليعة المجاهدين الذين حملوا السلاح في الثورة (1919ـ 1920) مع المرحوم عمر البيطار، فقد ترك قريته على الساحل، وباع بيته ـ وهو كل ما يملك ـ واشترى أربعاً وعشرين بندقية، وانتقل بأسرته إلى قرية جبلية ذات موقع حصين، وحاول الفرنسيون إقناع الشيخ القسام بترك الثورة والرجوع إلى بيته وإغرائه بالمناصب، إلاّ أنه رفض عرضهم، ونتيجة لإصراره على خط الجهاد حكم عليه الديوان العرفي الفرنسي في اللاذقية وعلى مجموعة من أتباعه بالإعدام، وطارده الفرنسيون فقصد دمشق ومنها إلى فلسطين.
القسّام في فلسطين
عاش القسام ورفاقه في حيفا، ونزلت عائلاتهم في بيت واحد في الحي القديم من المدينة، وهو الحي الذي يجمع فقراء الفلاحين النازحين من قراهم بعد الاستيلاء عليها وتوطين اليهود المهاجرين إلى فلسطين، وأبدى القسام اهتماماً حقيقياً بتحسين أحوال معيشة هؤلاء الفلاحين، وبدأ يكافح الأمية في صفوفهم من خلال إعطاء دروس ليلية، وسرعان ما أصبح فلاحو المنطقة الشمالية وعمالها يكنون له المودة والاحترام بفضل زياراته المتكررة لهم وبما يتسم به من أصالة في الخلق والتقوى.
عمل القسام مدرساً في المدرسة الإسلامية بحيفا، وكان يحرص على لفت أنظار الطلاب إلى الدور المستقبلي الذي ينتظرهم في ظل وجود الاستعمار، ثم عمل إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال بموافقة من مفتي القدس وزعيم الحركة الوطنية الحاج محمد أمين الحسيني، واتجه القسام في أسلوبه إلى توعية الشعب الفلسطيني بالأخطار الماثلة أمامه، وكان يكثر من القول: (بأن اليهود ينتظرون الفرصة لإفناء شعب فلسطين، والسيطرة على البلد وتأسيس دولتهم)، كما كان للشيخ القسام دروس في المسجد تقام عادة بين الصلوات المفروضة، وقد جعل منها وسيلة لإعداد المجاهدين وصقل نفوسهم وتهيئتها للقتال، معتمداً اختيار الكيفية دون الكمية.
عندما استفحل الخطر البريطاني في فلسطين، عمل القسّام على تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وقام من خلال نشاطه في الجمعية بتربية جيل من الشباب المسلم، الذين أنقذهم من دائرة الانحراف والضياع بسبب قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية، وأدخلهم في دائرة العمل الجاد لصالح الوطن... كما أنه وثق اتصالاته بقيادات المدن الفلسطينية الأخرى، وكسب عدداً من شباب المناطق المختلفة للانضمام إلى تنظيم الجهاد.
عمل القسام مأذوناً شرعياً لدى محكمة حيفا الشرعية سنة 1930، وقد كانت هذه الوظيفة للقسام وسيلة من الوسائل التي اتصل عن طريقها بمختلف فئات المواطنين من شباب وشيوخ، وعمال وفلاحين، وطلاب وموظفين، وتجار وحرفيين، وتحدث إليهم وأقام معهم علاقات قوية كان لها أثر كبير في اتساع دائرة حركته الجهادية.
باع بيته ليشتري السلاح للثورة
وعن مثابرة القسام على الجهاد واستعداده لبذل الغالي والرخيص في سبيل الحرية ومكافحة الاستعمار الاجنبي للبلدان العربية ، لم يكتف المجاهد عز الدين القسام بشراء السلاح بواسطة المال الذي كان يجمعه وشقيقه فخري لقاء عملهما بل قام بارسال الاخير الى جبلة ليبيع بيتهما كي يستطيع شراء السلاح المهرب...
العمل الجهادي
ولم تكن عمليات مجموعات القسام تنحصر فقط بمهاجمة المستعمرات الصهيونية، وإنما قاموا بمجموعة أعمال أخرى ذكرها الأستاذ أميل الغوري في كتابه (فلسطين عبر ستين عاماً) "ملاحقة وتأديب الذين يخرجون عن الشعب ومصالحه، مثل التعاون مع الحكومة ضد الحركة الوطنية، والتجسس لحساب المخابرات البريطانية، أو بيع الأراضي لليهود أو السمسرة عليها للأعداء. وكان من أعمال القساميين العديدة الواسعة النطاق، التصدي لدوريات الجيش والشرطة، وقطع طرق المواصلات والإغارة على ثكنات الجيش ومراكز الشرطة، ومهاجمة حرس المستعمرات اليهودية، وزرع الألغام والمتفجرات فيها".
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه أعمال القسام بمثابة الروح التي سرت في أوصال الأمة، فحركت الهمم وشدت العزائم، وحفزت الناس إلى العمل، كانت الحكومة البريطانية تعلن عن مكافآت ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عن منفذي هذه الأعمال، لأنها فعلاً ألقت الرعب في قلوب اليهود الذين رأوا ولأول مرة عملاً جديداً من حديد ونار، وهذه لم يتعود عليها اليهود في فلسطين... وازدادت الحكومة البريطانية واليهود ذعراً وبثوا الأرصاد، ونشروا الجواسيس في الليل والنهار، وصار الاعتقال لمجرد الشبهة.
لذا أصبحت تحركات جماعة القسام تلاقي صعوبة شديدة، إذ استطاعت الشرطة الإنجليزية الحصول على معلومات بشأن عدد أفراد الجماعة وأسمائهم وأسلحتهم، نتيجة التحقيقات المكثفة التي قامت بها، وكذلك استطاعت الحصول على معلومات تساعدهم أكثر وأكثر على تحديد مكانهم.
استشهاد الشيخ المجاهد عز الدين القسّام
في شرح لوقائع استشهاد القسام يقول الباحث د. مصطفى كبها: "إن جماعة القسام خرجت من حيفا يوم 2 أو 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 وسارت بموازاة الانحدار الشمالي لجبال الكرمل نحو القرى بين حيفا وجنين"، موضحاً أن المجموعة التي ضمت 14 ثائرا انقسمت إلى اثنتين واحدة بقيادة القسام والأخرى بإمرة نائبه الشيخ فرحان السعدي. ورجح أن تكون الاحتياطات الأمنية هي السبب وراء ذلك، مستبعدا وقوع خلاف بين القسام ونائبه الذي ألح على استعجال إعلان الثورة".
لكن الأمور لم تسر حسب ما أراد لها الشيخ، فقد تم إطلاق النار من قبل أحد أتباعه على دورية إنجليزية وانكشف أمر الجماعة قبل تنفيذ المرحلة الأولى للخطة، أي حض الأهالي على الثورة المسلحة. فكان أن أحكمت الشرطة الإنجليزية قبضتها عليهم في أحراش نزلة "الشيخ زيد" بجوار يعبد.
ويضيف كبها أنه عند اكتشاف الشرطة مكان المجموعة ووصولها إليه، تقدم بعض أفراده من العرب وطالبوا بمكبرات الصوت الشيخ وأتباعه بالاستسلام, لكن الشيخ رفض ودعا رفاقه ليموتوا شهداء وهذا ما حصل.
من عز الدين القسام إلى أحمد ياسين
يقول الكاتب عوني فرسخ: كان لاستشهاد القسام ردة فعل جماهيرية تمثلت في موكب جنائزي مهيب في حيفا، حيث حملت نعوش القسام ورفيقي استشهاده: يوسف عبد الله الزيباري وسعيد عطية المصري، على الأكف مسافة خمسة كيلو مترات، اشتبك خلالها المشيعون بالشرطة والجنود البريطانيين دون مبالاة بالرصاص الذي انهال عليهم وسقط عدد من الشهداء والجرحى. ويذكر للزعيم الصهيوني التاريخي بن غوريون إدراكه الواعي لاغتيال القسام وتداعياته.
وعن ذلك كتب شبتاي تيبيت، المؤرخ الصهيوني، في كتابه "بن غوريون والعرب" يقول: تأثر بن غوريون كثيرا من موت الشيخ القسام. إذ كان حتى ذلك الحين على يقين بأن أي زعيم عربي على استعداد لبيع الشعب العربي كله لمصلحته الشخصية. أما الآن فهذه أول مرة يرى فيها أن زعيما عربيا يضحي بنفسه من أجل المبدأ. لذلك سيمنح هذا الحادث العرب قوة أخلاقية غير متوفرة لديهم الآن. بعد ذلك أصبح واضحا لبن غوريون أن هذا الحادث سيجر وراءه حوادث عديدة مماثلة. وأن المئات أو الآلاف الذين على استعداد للتضحية بأنفسهم مثل القسام". كما لم يفت بن غوريون التنبيه إلى أن استشهاد القسام يضع كلا من بريطانيا والحركة الصهيونية أمام نقلة نوعية في الصراع مع عرب فلسطين ومحيطهم القومي، الذي بدأ يعطي تلميحات بأن لا مناص من الدخول في مجابهة مع التحالف البريطاني ـ الصهيوني.
ويتابع قائلاً: لم تقتصر ردات الفعل لاستشهاد القسام على الزعامة الصهيونية، وإنما كان لها وقعها شديد التأثير في أوساط الزعامة الفلسطينية في أعلى المواقع. كما يتضح من موقف جمال الحسيني، زعيم الحزب العربي والرجل الثاني في قيادة الحركة الوطنية يومذاك بعد المفتي. إذ بعد زيارته لبيت الزيباري، وما لمسه من فقر عصبة القسام وبؤس عائلاتهم، كتب في "الجامعة العربية" – صحيفة الحزب– يقول: "ثورة القسام ثورة علينا جميعا شبابا وشيوخا وكهولا. إذ يقول كل واحد منا في قلبي إيمان وفي نفسي إخلاص وعزيمة، ولكني مثقل وورائي عائلة كبيرة أخاف عليها إن خرجت أن يتخطفهم الذل والعار والموت، وليس عندي ما يدفع عوادي الزمن. يسمع القسام وصحبه هذا فيثورون عليه ويخرجون... يخرجون عمن؟ عن أعشاش فيها قطع من اللحم كأفراخ العصافير ينتظر كل منها معيله ليلقي في منقاره ما يسد جوعه ويروي عطشه. فيندفع القسام وصحبه من تلك الأعشاش لتثبيت المبدأ، وإحقاق الحق، وإعلاء شأن الإيمان. ونحن نرى منهم ذلك لا يسعنا إلا أن نشعر بتبكيت الضمير واحمرار الوجوه، فندعو الله أن ينير قلوبنا بهذا الإيمان".
ويخلص الكتاب إلى القول: "ويقينا لو أن جمال الحسيني مد الله في عمره، وأتاح له زيارة بيت الشيخ أحمد ياسين بعد استشهاده، لما اختلف قوله عما كتبه عقب زيارته بيت الزيباري، رفيق القسام في استشهاده. وإن كنت أشك بأن غالبية سكان القصور من خلفاء الحسيني في الصفوف القيادية الفلسطينية الأولى لم تدر في خلدهم، وهم يشاهدون حال بيت الشيخ الشهيد، بعض الذي عبر عنه زعيم الحزب العربي ولا شعروا بتبكيت الضمير، ولا أحمرت منهم الوجوه، ولا دعوا في سرهم أن ينير الله قلوبهم بمثل الإيمان الذي كان يستبطنه خليفة القسام".
الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
شاعر الإسلام
محمد إقبال
محمد إقبال.. في سطور
- وُلد محمد إقبال ببلدة سيالكوت بإقليم البنجاب سنة 1289 هـ = 1873م.
- نشأ في أسرة متوسطة الحال ملتزمة بالدين.
- حفظ إقبال القرآن وتلقى تعليمه الابتدائي في بلدته، والتحق بمدرسة البعثة الأسكتلندية للدراسة الثانوية، ودرس في هذه المدرسة اللغتين العربية والفارسية.
- التحق بجامعة لاهور، واتصل بالمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد.
- سافر إلى لندن وعمل بها فترة سنة "1323 هـ = 1905م" ، ثم سافر إلى ألمانيا وحصل على درجة الدكتوراة "من جامعة ميونخ".
- وبعد عودته إلى بلاده اشتغل بالسياسة والفلسفة، وانتخب عضوًا بالمجلس التشريعي بالنبجاب، وأخيرًا رئيسًا لحزب مسلمي الهند.
- يُعد محمد إقبال أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين في الهند عن الهندوس، وتأسيس دولة خاصة بهم.
- دعا محمد إقبال إلى تجديد الفكر الديني وفتح باب الاجتهاد، وتقدير الذات الإنسانية ومحاربة التصوف السلبي الاتكالي.
- ترك محمد إقبال تراثًا فكريًا وأدبيًا، تُرجم معظمة إلى اللغة العربية.
- تُوفي محمد إقبال في "20 من صفر 1357 هـ = 21 من إبريل 1938م". • توطئة
إذا كان للداعية المصلح أسلحته الحاسمة في ميدان الجهاد ووسائله الصادقة في إقناع الجماهير بما يقول، وفي شدهم إلى الطريق الذي يرجو أن يسلكوه، فقد شاء الله أن يكون الشعر هو أمضى أسلحة محمد إقبال، وأكثرها نفاذًا في القلوب وأعظمها تأثيرًا في النفوس.
صنع بشعره صنيع الأبطال العظماء من القادة والفاتحين، حين أنشأ أمة بقلمه لا بسيفه، وبلسانه لا بجيشه، فقاد الجماهير المسلمة في شبة القارة الهندية إلى إنشاء دولة إسلامية منفصلة عن الهند، لها مثلها الثابتة ودستورها الخاص.. وتحقق الحلم وظهرت باكستان على أرض الإسلام دولة فتية وأمة عزيزة.
• النشأة والتكوين
وُلد محمد إقبال في بلدة "سيالكوت بإقليم البنجات، أحد أقاليم شبه القارة الهندية في "24 من ذي الحجة 1289 هـ = 22 من فبراير 1873م"، ونشأ في أسرة مسلمة متوسطة الحال، معظم أفرادها يشتغلون بالزراعة، وينتمون إلى سلالة البراهمة، نزلت منذ ثلاثة قرون عن امتيازاتها الوفيرة ومنزلتها المرموقة بين الطبقات الهندوسية واعتنقت الإسلام، وكان والد إقبال رجلاً صالحًا يغلب عليه التصوف.
حفظ إقبال القرآن الكريم في الصغر، وحرص أبوه أن تكون قراءة ابنه للقرآن قراءة وعي وتدبر وفهم تؤدي إلى العمل به والاهتداء بهديه، وكان يقول له: "يا بني اقرأ القرآن كأنه نزل عليك"، ويقول إقبال تعقيبًا علي هذه الوصية العظيمة بقوله : "ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست ومن بحره ما نظمت".
تلقى إقبال مبادئ العلوم في مدرسة إنجليزية ببلدته "سيالكوت"، وبعد أن أنهى دراسته بها التحق بمدرسة البعثة الأسكتلندية للدراسة الثانوية، وتلقى فيها أصول اللغتين الفارسية والعربية على أحد أصدقاء أبيه ويدعى "ميرحسن" وكان أستاذًا متمكنًا في آداب هاتين اللغتين، قام بتشجيع تلميذه على قرض الشعر والكتابة باللغة الأُردية، لما توسم فيه من نجابة وذكاء.
ثم دخل إقبال جامعة لاهور، وأظهر تفوقًا في اللغتين العربية والإنجليزية، ونال درجتي الليسانس والماجستير في الفلسفة، وفي لاهور توثقت صلته بالمستشرق الإنجليزي "السير توماس أرنولد" صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام"، وكان أرنولد شديد الإعجاب بمواهب تلميذه وإنتاجه الشعري، ولذلك طلب منه أن يقوم بدلاً منه بمهمة التدريس في جامعة لندن في فترة من الدراسة الجامعية سنة "1323 هـ = 1905م".
وهناك اتصل بكثيرين من أهل العلم، ثم رحل إلى ألمانيا، وحصل من جامعة ميونخ على الدكتوراة في الفلسفة برسالة قدمها عن تطور الفكر الفلسفي في إيران، ثم عاد إلى لندن، والتحق بمدرسة الاقتصاد والسياسة بجامعة لندن، ونال درجة في القانون، ثم عاد إلى الهند سنة "1326 هـ = 1908م".
• الدعوة إلى قيام دولة إسلامية
ولما عاد إقبال إلى وطنه اشتغل بالشعر والفلسفة والسياسة، وانتخب عضوًا بالمجلس التشريعي بالبنجاب سنة "1345 هـ = 1926م"، واختير رئيسًا لحزب مسلمي الهند، ورئيسًا لجمعية حماية الإسلام التي كانت تشرف على عدد من المؤسسات الدينية والاجتماعية، ولبث زمنًا طويلاً يلقي المحاضرات في أرجاء الهند.
ويُعد محمد إقبال أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين في الهند عن الهندوس، وتأسيس دولة خاصة بهم يحيون فيها الحياة التي تتمشى مع تعاليم الدين الحنيف، ومنذ أن أعلن إقبال هذه الفكرة سنة "1349 هـ = 1930م" حتى أصبحت الهدف الأول الذي جاهد المسلمون في الهند لتحقيقه، إلى أن تمّ لهم إنشاء دولة باكستان في سنة "1367 هـ = 1947م" بعد نضال متصل وكفاح مستمر، اشترك فيه جميع المسلمين هناك تحت قيادة "محمد علي جناح".
• تجديد الفكر الإسلامي
دعا إقبال إلى تجديد الفكر الإسلامي، وذلك في سلسلة من المحاضرات ألقاها باللغة الإنجليزية سنة "1347 هـ 1928م"، ثم نشرها سنة "1353 هـ = 1934م" بعنوان "تجديد بناء الفكر الديني في الإسلام، نادى فيه إلى فتح باب الاجتهاد، للكشف عن الحقائق الأصيلة في الإسلام، مثل الحرية والاتحاد والمساواة والاجتماع، فالاجتهاد هوالوسيلة العملية الملائمة للتوفيق بين أحداث الحياة المتجددة وبين مبادئ الإسلام، حتى لا تسير الحياة الإنسانية في المجتمع الإسلامي منعزلة عن الدين، وكان يرى أن إبطال الاجتهاد كان من أقوى الأسباب التي أدت إلى ضعف المسلمين.
وفي حديث إقبال عن الإجماع باعتباره أصلاً من أصول الشرع الإسلامي يقول: "والأصل الثالث من أصول الشرع الإجماع، وهو عندي أعظم السنن الشرعية، وعجيب أن هذه السنة الرشيدة نالت كثيرًا من بحث المسلمين وجدالهم، ولكنها لم تعدّ التفكير إلى العمل، وقلما صارت سنة عملية في بلد إسلامي، ولعل اتخاذها سنة دائمة ونظامًا محكمًا لم يلائم مطامع المُلك المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد الخلفاء الراشدين..، ولعل ترك الاجتهاد لأفراد من المجتهدين كان أقرب إلى منافع الخلفاء من بني أمية وبني العباس من تأليف جماعة دائمة عسى أن تفوقهم قوة..، ومما يبعث على الرضا والأمل أن سيرة الحوادث في هذا العصر وتجارب أمم أوربا أشعرت الفكر الإسلامي الحديث بقيمة الإجماع وعرفته أنه ممكن، وشيوع النزعة الجمهورية ونشوء المجالس التشريعية يمهدان السبيل إلى العمل بسنة الإجماع.
وكانت فلسفة إقبال في جوهرها ذات طابع إسلامي عميق، فهي تدعو إلى تمجيد الإسلام وبعث الحياة والقوة في المسلمين، وتبشرهم بمستقبل زاهر ومجد وفخار إذا ساروا في حياتهم علي هُدى دينهم الحنيف، وكان إقبال لا يسأم من الدعوة إلى النهوض والتشمير وحث الخطى على مواصلة السير مع القافلة، "فالغاية القصوى للنشاط الإنساني هي حياة مجيدة فتية مبتهجة، وكل فن إنساني يجب أن يخضع لتلك الغاية، وقيمة كل شيء يجب أن تُحدد بالقياس إلى تلك القوة على إيجاد الحياة وازدهارها، وأعلى فن هو الذي يوقظ قوة الإرادة النائمة فينا، ويستحثنا على مواجهة الحياة في رجولة، وكل ما يجلب إلينا النعاس، ويجعلنا نغمض عيوننا عن الحقيقة الواقعة فيما حولنا إنما هو إنحلال وموت".
وقد تغنى إقبال بعزيمة المسلم فقال:
يبتسم المسلم في سلمه عن دقة الماء ولين الحرير
وتبصر الفولاذ في عزمه إذا دعا الحرب ونادى النفير
ويقول أيضًا:
يمشي على الأشواك والنار والسيف ويمضي ساخرًا بالعذاب
فهو ترابي ولكنه حرٌّ طليق من قيود التراب
ويرفض إقبال أن يكون المسلم المعاصر صورة مكررة من الرجل الأوربي الحديث؛ لأن الأخير قد طغت عليه نتائج نشاطه العقلي الصِّرف، وأعماه ذلك عن توجيه روحه توجيهًا سليمًا إلى حياة تشبع أعماق نفسه وتحقق له التوازن المطلوب، وأصبح ينكر ما هو غيبي ويراه وهمًا، ويجد نفسه في أغلب الأحيان عاجزًا عن ضبط أنانيته وشهواته، ومأخوذًا بسحر المادة، يتكالب عليها تكالبًا لا يعقبه إلا الحسرة والشقاء، وكان إقبال شديد الإيمان بأن للدين الأهمية الكبرى والأثر الفعال في توجيه حياة الفرد والجماعة علي حد سواء.
ورسالة الإسلام عند إقبال رسالة إنسانية ليس لها حدود زمانية أو مكانية، وأن به قوة كامنة تستطيع أن تحرر نفوس البشرية من قيود الأجناس، والألوان والعصبيات، وخلاصة هذه الرسالة هي إقرار الحرية وتدعيم العدالة، وتوطيد المحبة بين البشر.
• محاربة التصوف الإنسحابي
رأى إقبال أن الصوفية الهندية الحالمة، والصوفية الإسلامية المتواكلة قد كان من أثرهما في المسلمين نشر اليأس والاستسلام، والهروب من الدنيا، والقعود عن العمل والإقدام، فنهض إقبال المصلح لمحاربة هذه الفلسفة التي ترادف الضعف والفناء، وعارضها بفلسفة جديدة تبشر بالقوة والتفاؤل والنماء، أو ما أطلق عليها بتقدير الذات.
والشخصية عند إقبال حالة فريدة من التجلد والجهد أمام المكاره، ولما كانت بهذا هي أثمن ما يحققه الإنسان، فقد وجب عليه أن يدأب علي الصمود للأحداث وركوب الأخطاء، وتجنب مزالق التواكل والاسترخاء، وكل ما يجعلنا نمضي إلى السعي وضبط النفس ومغالبة العوائق والصعاب إنما ييسر لنا الانخراط في سلك الحياة الخالدة.
والحياة حركة دائمة، جوهرها استمرار خلق الرغبات والمثل العليا، وأكبر عقبة تعترض طريق الحياة هي المادة والطبيعة، ومع ذلك فالمادة ليست شرًا، وإنما هي وسيلة لإبراز ما في الحياة من قوىً كامنة، وتصل الذات إلى التحرر والانطلاق بإزالة جميع العوائق التي تعترض سبيلها، وهي تصل إلى حرية أتم وأكمل إذا اقتربت من الفرد الأعلى الذي هو مبرأٌ من كل قيْد وهو الله سبحانه وتعالى.
• موقفه من الوطنية
جاهر إقبال برأيه في الوطنية، وأعلن أنها دخيلة على مبادئ الإسلام، إذ أن الإسلام كله وطن، وأن الهندي أخ المغربي والفارسي والعربي والإفريقي والأوربي إذ جمعتهم عقيدة واحدة، وهي عقيدة الدين، فهي أقوى العقائد، ولن يقوم مقامها ما يصطنعه الناس من حدود جغرافية تسيطر عليها الجبال والصحاري والأنهار أو تفرضها السياسة الغاشمة فرضًا، ويوضح موقفه القاطع من الوطنية بقوله: أنا لا أقبل الوطنية كما تعرفها أوربا، وليس إنكاري إياها خوفًا من أن تضر بمضالح المسلمين في الهند، ولكني أنكرها لأني أرى فيها بذور المادية الملحدة، وهي عندي أعظم خطرًا على الإنسانية في عصرنا، لا ريب أن الوطنية لها مكانها وأثرها في حياة الإنسان الأخلاقية، ولكن العبرة بإيمان الإنسان وثقافته وسننه التاريخية، هذه في رأيي الأشياء التي تستحق أن يعيش لها الإنسان ويموت من أجلها، لا بقعة الأرض التي اتصلت بها روح الإنسان اتفاقًا.
• موقفه من حركة أتاتورك
انتقد إقبال حركة كمال أتوتورك في تركيا الحديثة التي أدارت ظهرها للإسلام، وانسلخت تمامًا منه، ومن كل ما يتصل به، فألغت الخلافة ومنصب شيخ الإسلام، والحروف العربية التي كانت تكتب بها اللغة التركية، وعطلت المدارس الإسلامية، وعدَّ إقبال هذه الحركة نوعًا من التجدد القائم على رفض القديم برمته، والأخذ بكل جديد دون وعي، ووصف أتاتورك بأنه محروم من الإبداع والابتكار وأنه مقلد فحسب، وقد عبر عن ذلك بقوله: "إن زعيم تركيا لا يملك أغنية جديدة، وإنما هي أغان مرددة معادة تتغنى بها أوربا من زمان، إن الجديد عنده هو القديم الأوربي الذي أكل عليه الدهر وشرب، ليس في صدره نفس جديد، وليس في ضميره عالم حديث، فاضطر إلى أن يتجاوب مع العالم الأوربي المعاصر.. إنه لم يستطع أن يقاوم وهج العالم الحديث، فذاب مثل الشمعة وفقد شخصيته".
• إقبال الشاعر
كان إقبال شاعرًا مجيدًا في اللغة الفارسية مع أنها لم تكن لغته، لكنه اختارها لينظم بها أكثر انتاجه الشعري؛ لانتشارها الواسع بين المسلمين في شبه القارة الهندسية وآسيا الوسطى، كما نظم بعض دواوينه باللغة الأردية لغة وطنه..وقد استمد إقبال موضوعات شعره من قضايا أمته، واتسم بشيوع المضامين القائمة على الأفكار الكبرى كالبحث عن الحق والخير والحرية والمساواة مع الالتزام بمبادئ الإسلام.
وقد ترجم الكاتب الكبير عبد الوهاب عزام عددًا من دواوينه إلى العربية، نقلها من الفارسية ونظمها شعرًا، وكذلك فعل محمد الصاوي شعلان، ومن شعره الذي ترجمه الشيخ شعلان:
ملكنا هذه الدنيا القرونا
وأخضعها جدود خالدونا
وسطَّرنا صحائف من ضياء
فما نسي الزمان ولا نسينا
وكنا حين يأخذنا قويٌّ
بطغيان ندوس له الجبينا
تفيض قلوبنا بالهدي بأسًا
فما تغضي عن الظلم الجفونا
• مؤلفاته
ترك محمد إقبال تراثًا أدبيًا وفلسفيًا احتل به مكانة مرموقة بين كبار الشعراء والفلاسفة في النصف الأول من القرن العشرين، ومن أهم مؤلفاته بالإنجليزية:
- تطور الفكر الفلسفي في إيران، وقد ترجمه إلى العربية حسن الشافعي ومحمد السعيد جمال الدين، ونشر بالقاهرة سنة 1989م.
- تجديد الفكر الديني في الإسلام، وترجمه عباس العقاد إلى العربية.
ومن أشهر دواوينه: ديوان أسرار إثبات الذات، وديوان رموز نفي الذات، وديوان: رسالة المشرق، وديوان ضرب الكليم، وقد ترجم عبد الوهاب عزام هذه الدواوين إلى العربية.
• وفاته
وبعد حياة حافلة بالفكر والجهاد تُوفي محمد إقبال في "20 من صفر 1357 هـ = 21 من إبريل 1938م"، ودفن في لاهور، واتخذ أصدقاؤه قبرًا له في فناء المسجد الجامع "شاهي مسجد"، ثم كتبوا على ضريحه: "إن محمد نادر شاه ملك الأفغان أمر بصنع ذلك الضريح اعترافًا منه ومن الأمة الأفغانية بفضل الشاعر الخالد".
• أهم المصادر
محمد إقبال: ديوان الأسرار والرموز – ترجمة عبد الوهاب عزام – دار المعارف – القاهرة – 1956.
عثمان أمين: رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة – 2001م.
محمد رجب البيومي: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين – دار القلم – دمشق – 1415 هـ = 1995م.
أبو الحسن الندوي: روائع إقبال – دار القلم – الكويت – 1978م.
معن زيادة: الموسوعة الفلسفية العربية "أعلام الفكر الإنساني" بيروت – 1997م.الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
الإمام شامل.. الأمل من ثقب جدار29/11/2003د.عاطف معتمد عبد الحميد**الإمام شامل رمز الجهاد الداغستانيهناك.. حينما تطأ قدماك أرض داغستان ستطالعك في كل بيت صورة رجل سرعان ما تظن من نظرة عينيه ومهابة ملامحه أنه بطل قومي، وسيتأكد ظنك حينما يصافحك في كل سوق ترتاده فتى يناديه أقرانه باسم صاحب الصورة: محمد شامل. والاسم لرجل قاد أشهر حركة للجهاد الإسلامي في محاولة بدت مستحيلة لوقف الزحف الروسي على أراضي مسلمي القوقاز.لم يولد محمد شامل لأسرة معدمة سقته فقرا وحرمانا؛ حتى يفسر البعض جهاده نحو الحرية بأنه جهاد الفقراء المسحوقين. ففي نهاية القرن الثامن عشر وبينما كان ملايين الفلاحين في روسيا يئنون من استعباد الإقطاعيين كان عليّ بن ديغنو –والد الإمام شامل- فلاحا من الأحرار، أما أمه فهي ابنة سيد الآفار (إحدى أهم القوميات في داغستان).ولد شامل في عام 1797 طفلا مريضا شاحبا حاملا اسم "علي"، وعندما بلغ الثامنة من عمره غير أبوه اسمه إلى شامل -يعني السعيد- أملا في أن يتعافى الصبي. وكانت سنوات الطفولة والساعات الطوال التي قضاها مشتغلا بالرعي عند أقدام جبال القوقاز فرصة في أن يتأمل ما تعلمه في المسجد من دروس في التفسير والحديث وقواعد اللغة العربية والشريعة الإسلامية. كما كانت هذه الساعات الطوال سببا في الارتباط الشديد بجغرافية المكان الذي سيدافع عنه فيما بعد، ويعمل على رده من المغتصبين.تفتحت عيناه على مناهج الطرق الصوفية، وتتلمذ على يدي علماء الطريقة النقشبندية التي كانت حاملة لراية الجهاد في القوقاز وآسيا الوسطى. ولم يُضع شامل وقتا في الانتقال من فكر إلى فكر، ومن مذهب إلى آخر. فسماء داغستان كان يسيّرها هدير الجهاد. وحينما انضم جنديا إلى قوات المريدين أمضى قطاعا مهما من شبابه في خيام القادة العسكريين يتعلم سبل مواجهة هجوم أو شن غزوة من الغزوات. ويعتبر الباحث الفنلندي ليتزنجر في كتابه "القوقاز.. تحالف غير مقدس" أن شامل أقرب لنموذج من الرجال عاش لينفذ أوامر الله، منحته الصوفية قدرا وافرا من ضبط النفس والقدرة على التحليل والتعلم من الماضي، والاعتقاد بدور الكاريزما في تسيير الشعوب، واليقين بأن الإسلام دين فوق القوميات.الإمام شامل.. حبة عقدفي نهاية القرن 15 كانت الشيشان وداغستان وباقي الأراضي بين البحر الأسود وقزوين تداعب مخيلة القيصر الروسي إيفان الثالث، فاتفق مع قبائل القوزاق الموالية للدولة الروسية الوليدة بالغزو التدريجي لأراضي المسلمين في إقليم القوقاز. وأدى القوزاق المهمة بنجاح، فأقاموا أول مخفر أمامي على نهر تيرك، وصار هذا المخفر مدينة "جروزني" العاصمة الشيشانية فيما بعد. وخلال حكم إيفان الرابع -منتصف القرن 16- قام القوزاق ببناء مجموعة من الحصون في شمال داغستان والشيشان، عاقدين تحالفات مع بعض شعوب الإقليم. ومع بداية القرن 18 كانت آلاف الأسر القوزاقية قد تجمعت في الإقليم، وامتزجت مع القبائل المحلية، وتزاوجوا منهم وإن احتفظوا بالمسيحية دينا وبالروسية لغة.وخلال حكم بطرس الأكبر وفي عام 1722 وقع أول صدام بين القوات الروسية والشيشانيين الذين كسبوا المعركة أمام قوة فتية مستكشفة. وسرعان ما تنتظم صفوف المقاومة تحت زعامة الإمام منصور (ولد في عام 1732) الذي استطاع بفهمه العميق للقرآن أن يحول شيوخ القبائل إلى الإسلام، ونظم عبر مجالس الصوفية (الطريقة النقشبندية) حركة من الأتباع والمريدين لمواجهة التوغل الروسي في القوقاز. وحقق مجموعة من الانتصارات حتى أوقع به الروس ومات في الأَسر سنة 1794. غير أن المسرح الشيشاني لم يهدأ بعد موت الإمام منصور إلا لعقدين من الزمان، بعدها كان الغازي مولا قائدا للمريدين يكمل الطريق.في عام 1829 بدأ الغازي مولا في تحريك شعوب الجبال نحو حرب مقدسة لمواجهة روسيا، وإن عرف عنه عدم مشاركته في المعارك، بل اشتهر بقدرته في التأثير على جنوده بسحر الكلمة وبلاغتها. كما قطع شوطا كبيرا في إرسال الدعاة من داغستان إلى سكان الجبال الشيشانية لتحويلهم من الوثنية إلى الإسلام.وأمام تماسك قوة المريدين اتخذ الروس أسلوب حرق الدور على ساكنيها كي يجبروا المقاومين على الخروج. وشنوا هجوما واسعا إلى أن سقط الغازي مولا في معركة غمري بين جثث آلاف المريدين. وفى معركة غمري لم ينجُ إلا القليل، وتمكن اثنان منهم من الفرار، كان أحدهما شامل الذي كان قد أصيب إصابة قاتلة.وبعد مقتل الغازي مولا وجرح شامل اختير "حمزة بيه" من قبل المريدين قائدا بعد تزكية من كبار الشيوخ. وأفنى حمزة العامين التاليين في ترتيب الصفوف وتدعيم قوة الجيش، إلا أنه لقي الهزيمة، ثم اغتاله العملاء وهو يؤم المصلين في المسجد الجامع بمعقل المقاومة في هونزا بداغستان.كفاح الإمام شاملحينما اختاره المريدون إماما بعد وفاة حمزة بيه في عام 1834 أعاد شامل تنظيم جيش المريدين على نمط أعدائه القوزاق بشكل أشبه إلى التنسيق الفيدرالي الحديث. كما نظم العمل البريدي في دولته، ونسق الإنفاق على الجيش من ريع الأراضي الزراعية التي ضُمت إلى المساجد، كما نظم جمع الزكاة لتجهيز الجيش. وفى المقابل طرد "الدراويش"، ولم يقبل عودتهم إلا كجند في جيشه.وفى دولة الإمام شامل -التي ارتكزت على الشيشان وداغستان، وامتدت من قزوين في الشرق إلى البحر الأسود في الغرب- كان السعي دءوبا للمساواة بين القوميات، بغض النظر عن اللغة والعرق والطبقة، في وقت كانت العبودية ما زالت مطبقة في روسيا. واستمد شامل من القوانين الإسلامية المنهج الذي نظم به الحياة الاجتماعية، وبصفة خاصة شؤون القصاص والعقاب في الجرائم المدنية، بل إنه تشدد في بعض القوانين التي كان القانون في بعض المذاهب الإسلامية أكثر اعتدالا؛ رغبة منه في الحفاظ على أركان دولته.كما استفاد من الأسرى من الضباط الروس ومن المرتدين عن التعاون مع الروس، وهم قد خبروا القدرات العسكرية الروسية في تطوير قدراته العسكرية على نمط أوروبي حديث. وحاول شامل أن يستفيد من القوى الدولية لمساعدته، غير أن عزلة الميدان الذي يقاتل فيه حالت دون تحقيق خطته. ففي منتصف القرن التاسع عشر سعى شامل إلى فتح خط اتصال بين كل من تركيا وإنجلترا وفرنسا بهدف أن تقدم هذه الدول لشامل الدعم العسكري في مقابل تحالفه معها في عِداها لروسيا. وقبل ذلك وفى عام 1840 تداول المريدون في داغستان خطابا يحمل توقيع الخاتم الملكي لمحمد علي باشا، يفوض فيه شامل بقيادة سكان الإقليم، ويعد بوصول الجيش المصري المتوغل في الأراضي التركية إليهم لتقديم العون العسكري في مواجهة الروس، غير أن فشل مشروع محمد علي في تركيا بدد آمال المريدين في وصول مدد مصري (من الثابت تاريخيا أن روسيا قدمت لتركيا -عدوتها اللدود- قطعا بحرية، وشاركت بجزء من أسطولها في البحر الأسود لضرب الأسطول المصري).يسلح نفسه من جيش عدوه!استمرت المقاومة بقيادة شامل في مسلسل متوالي الحلقات من حرب الكر، إلى أن نفذ شامل انسحابا تكتيكا إلى داخل الجبال، مغريا الروس بالتوغل خلفه عبر الغابات الكثيفة، فانقض عليهم المريدون من جهات مختلفة. واستخدم الشيشانيون أحد قارعي الطبول الذين تم أسرهم في العزف لحث الجنود الروس على التوجه نحو شرَك أعده الشيشانيون، قتلوا فيه أكثر من نصف ضباط الحملة. وتوالت الهجمات على الجيش الروسي المرتبك؛ ففقد أربعة مدافع من خمسة. ويقدر المؤرخون نتاج معارك الغابات التي استمرت أربع سنوات بنحو 10.000 قتيل روسي!وتمكن شامل بالمدافع الأربعة التي اغتنمها من الروس الهجوم على الروس في حصونهم، فأسقط آلاف القتلى، واغتنم في سنتين 14 مدفعا إضافيا بشكل بدا وكأن جيشا جديدا يبنى لشامل من المدافع الروسية الخطيرة التي لم يكن جنود المريدين يحلمون بالحصول على واحد منها.وكتب أحد الجنرالات الروس في مذكراته معلقا على ما يرى: "يا لها من مصيبة مفجعة، إن الرجال الذين تناثرت أشلاؤهم هنا كان بمقدورهم فتح بلاد تمتد من اليابان في الشرق إلى أوكرانيا في الغرب".وحينما رصدت روسيا 45.000 روبل للإيقاع بشامل كتب شامل خطابا إلى الجنرال الروسي على خط المواجهة، يقول فيه: "كم كانت سعادتي حين علمت أن رأسي تساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيدا حينما أخبرك أن رأسك بل رأس القيصر ذاته لا تساوي لدي كوبيكا واحدا".شيطان موسكو في داغستانقلاع المراقبة لجيش المريدينوقع كفاح الإمام شامل ضحية التسويات الدولية؛ ففي عام 1856 انتهت الحرب التركية الروسية؛ وهو ما سمح لروسيا بالتركيز بقوتها على الجبهة القوقازية بقوة 200.000 رجل، وأوكلت المهمة إلى الجنرال الشاب بريتانسكي في وقت كان شامل قد تخطى من عمره الستين.وعكف بريتانسكي طويلا على دراسة الجغرافية العسكرية لمعارك الإمام شامل، وخلص إلى أن أهم الانتصارات التي حققها شامل لم تكن في أرض مفتوحة بل حينما كان يحتمي بالغابة والجبل. واختار سياسة أكثر حنكة عمن سبقوه، فتقرب إلى الأهالي، وأحسن معاملتهم، ومنع التعرض للنساء، ولغير المقاتلين؛ فضمن عدم انقلابهم عليه في حربه الفاصلة مع الإمام.وضغط بريتانسكي على قوات شامل حتى التجأ الأخير إلى الاحتماء بالغابات، وهنا سخّر فرقة عسكرية بأكملها لقطع أشجار الغابات. وبعمل دءوب وبجنود حملوا الفؤوس بدلا من السلاح أزال بريتانسكي مساحات واسعة من غابات داغستان والشيشان، وذلك على طول الطرق بين القلاع والحصون الروسية، وفشل جيش شامل في مهاجمة القلاع الروسية التي صارت أكثر حذرا تحت أعين بريتانسكي الساهرة. وبخطوات واثقة زحفت قوات بريتانسكي على المناطق الخاضعة لشامل، واستمال الروس عشرات القبائل التي أنهكتها الحرب، وبدأت في لوم شامل على ما أصابهم من فقر وتشرد.هكذا أسدل الستاروبدأت العقلية العسكرية المسنة تقع في الخطأ القاتل؛ فركن شامل إلى توقع الهجوم الروسي من مصدر محدد في وقت تمسك الروس فيه بسرية المعلومات، وحركوا جزءا من جيشهم أوهم شامل أنهم ما زالوا في منتصف الطريق، بينما انقضّوا عليه من اتجاه آخر بحرب خاطفة، وخدعوا الرجل الذي كان بارعا في هذا النوع من الهجوم. وحدث ما كان متوقعا، وأسر الإمام شامل، وتم نقله في رحلة طويلة إلى موسكو في موكب بدا وكأنه استعراض عسكري بالبطل الذي سقط أخيرا، وطالب المحاربون القدامى على طول الطريق من ستافربول إلى موسكو بأن يتحدثوا إلى ذلك العدو المهيب. وظل شامل في موسكو إلى عام 1869 حينما لُبّي طلبه بأداء فريضة الحج. ومرت رحلته من موسكو إلى كييف إلى القسطنطينية، ومنها إلى المدينة؛ حيث لقي ربه في 1871.وببلاغة منصفة عبّر المؤرخ تورناو عن الأجواء التاريخية بالقضاء على حركة الإمام شامل بوصفه اللحظات الأخيرة من آخر معركة بين الجانبين، قائلا: "...هكذا أُسدل الستار عن المشهد الأخير في هذا الحدث المأساوي. وتدفق الليل على هذه البقعة الدامية من الأرض. وعاد كل رجل من الجيش الروسي قانعا نفسه بأنه أدى الواجب. وحصل الممثلون الرئيسيون على الخلود. أما الباقون فقد عادوا إلى خيامهم يسألون أنفسهم: لماذا حدث كل هذا؟ أمن المستحيل أن يجد كل إنسان لنفسه مأوى يعيش فيه آمنا بغض النظر عن منطوق لسانه ومبادئ عقيدته؟".وبقى شامل حيا في التراث الشعبي القوقازي وفى الأغاني والأهازيج والقصص البطولية إلى اليوم رمزا لكفاح لم ينظر إلى موازين القوى ولا بحتمية النصر القريب، بل اعتقد في الرسالة السامية للسعي نحو الهدف، وإن تأخر بلوغه طويلا عله يأتي على يد جيل من الأحفاد. ولم يخب ظن الإمام شامل فتوالت الأجيال حتى اليوم تسعى إلى الحرية، ورغم أنها لم تحقق من الحرية شيئا فإنها على يقين بأن الحرية آتية ولو بعد حين.مصادر الدراسة:باللغة الروسية:1. ديجوييف (2001) اللعبة الكبرى في القوقاز.. التاريخ والحاضر، دار روسكايا بانوراما، موسكو .2. جوردين (2001) القوقاز.. الأرض والدم. روسيا وحروب القوقاز في القرن التاسع عشر. موسكوباللغة الإنجليزية:1. Corrnell.S (2001) Small Nations and Great Powers. Curzon. London2. Leitzinger (1997) Caucasus and an Unholy Alliance. Helsinki.الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
طلب للإدارة : أرجو تثبيت الموضوع لأهميته , و لعله يكون موسوعة شاملة لأبرز الشخصيات في تايخ المسلمين الحديث إن شاء الله .
و انتظروا قريبا إن شاء الله :
ابن العثيمين ... العالم العابد
الفقيه الصابر ... عبد الفتاح أبو غدة
المربي الحكيم .... عبد الله ناصح علوان
المفتي المشاكس .... محمد حسنين مخلوف
الشيخ أمجد الزهاوي و ثورة العشرين بالعراق
الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
علاّمة العراق الشيخ أمجد الزهاوي
هناك رجال حياتهم خير، ومماتهم خير، فهم يبقون في ذاكرة الشعوب والأفراد ، يذكرون أولئك الأخيار الأبرار، ويتأسون بهم، فيستمر خيرهم زمناً طويلاً. وهناك رجال، حياتهم شر، ومماتهم شر، وقد عرفنا بعض هؤلاء. وكان الشيخ أمجد من الفريق الأول، فقد عاصر أخطر الحوادث في العالم الإسلامي والوطن العربي، وكان يؤدي دوره الكبير في هذه الحقبة الحرجة من تاريخ الإسلام والمسلمين، وتسجَّل أعماله ومواقفه بأحرف من نور، فقد عاش للإسلام وللإسلام، فكان حياً في قلوب الناس، وتجرد لله، فأحبّه الناس، ولا ينبغي إلا أن يكون حاله هكذا، فمن عمل لله، ولمصلحة المسلمين، وضحّى بعمره كله في سبيل هذين الهدفين العظيمين، أحبّه الله، وبارك عمله، وجعله محبوب الجماهير المؤمنة.
ولادته ونشأته :
وُلد الشيخ أمجد في مدينة بغداد سنة 1300هـ - 1882م لأبوين كريمين، ومن أسرة علم وفضل ودين وإفتاء، فأبوه الشيخ محمد سعيد مفتي بغداد، وجدّه الشيخ محمد فيضي كان مفتي بغداد أيضاً، وهذا هو ابن الشيخ أحمد بن حسن بيك بن رستم، بن خسرو بن الأمير سليمان باشا، رئيس الأسرة البابانية التي تعود أصولها إلى أرومة عربية عريقة تنحدر من بني مخزوم، وهم من سلالة البطل العظيم خالد بن الوليد سيف الله المسلول، رضي الله عنه وأرضاه، وتحتفظ هذه الأسرة الكريمة بشجرة النسب، وتذكره في المناسبات.
نشأ الشيخ أمجد في رعاية جدّه المفتي الشيخ محمد فيضي الذي كان يحبّه ويربيه ويرعاه منذ طفولته، فقد كان يتوسم فيه النبوغ والذكاء، وكان جدّه يقول: «إن حفيدي أمجد أحبّ إليّ من ابني».
تعليمه:
تلقّى تعليمه الأوّلي على يدي والده وجدّه، وكلاهما عالم فاضل، ومربّ حكيم، ثم انطلق إلى مجالس العلماء في بغداد، يستمع إليهم، ويحاورهم فيما يشكل عليه، ويستمعون إلى الفتى الذي غدا عالماً في الشريعة، فقيهاً، يقتنص الشوارد في الفتاوى والأحكام، ولغوياً أديباً، ثم رحل إلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، ودرس في كلية القضاء، وتخرج فيها بتفوّق عام 1906.
واستمرّ الشيخ في تحصيله العلمي حتى غدا فقيهاً حنفياً متمكناً، يقول علي الطنطاوي عنه: «ولقد بقيت معه أكثر من سبعة أشهر، وكنت أجالسه كل يوم أربع ساعات أو خمساً على الأقل، كان يتكلم فيها، على الغالب، وحده، فما سمعت منه من الأحاديث المعادة أو الآراء المكررة إلا القليل».
وليس هذا بمستغرب على فقيه مجتهد بارز بين علماء المسلمين في عصره، فهو كبير علماء العراق، ومن كبار علماء المسلمين، ورجل الفتوى بينهم، ذاع صيته في الآفاق، وتعلّقت به القلوب، وكان مرجعاً كبيراً ترد إليه الأسئلة والاستفتاءات من سائر أرجاء العالم الإسلامي، ويجيب عليها، وقد أطلقوا عليه بحق، لقب «أبو حنيفة الصغير» لإحاطته بالمذهب، واستيعابه وإدراكه الذكي لدقائق المسائل الفقهية في هذا المذهب، حتى قال قائلهم: لو فُقد المذهب الحنفي، واندثرت كتبه، لأملاه الزهاوي عن ظهر قلب، من أول أبوابه حتى خواتيمها.
صفاته :
كان غنياً، ولكن منظره يوحي بالفقر، فقد كان يملك 16 ألف دونم من الأرض، ولكنه زاهد حقاً، وقلبه مسكون بمراقبة الله وذكر الآخرة، لا يفرح بما آتاه الله من مال فرحاً يطغيه وينسيه دينه، ولا يحزن إذا فقد ما أعطاه الله، ولا يقنط من رحمته. كان في شبابه يؤثر الانعزال عن الناس، منفرداً بكتبه وتلاميذه وأولاده، فلما ترك العمل، وبلغ السن التي يستريح فيها أمثاله، انتفض انتفاضة، فإذا هو يرجع شاباً في جسده وفي همته، يختلط بالناس، في حيوية ونشاط، حتى بلغ به الأمر أن يرأس أكثر الجمعيات التي تأسست، وإذا هو يصلح مدارس الأوقاف، ثم يفتتح مدرسة ابتدائية، وثانوية خاصتين. وكان مضرب المثل في العفّة والورع والنزاهة والأمانة والصلابة في الحق، وكان فوق الشبهات، ولا يخشى في الله لومة لائم، ومواقفه والحوادث التي تدل على ذلك كثيرة وكثيرة جداً.
وكان كثير العبادة، يضع سجادة الصلاة على كتفه أينما ذهب، حتى لا يؤخر صلاة عن وقتها ولو لدقائق، وكان صديقه نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي المعروف، يدرس في الوقت نفسه في الكلية العسكرية في استانبول، ولذلك عندما كان يلتقيه كان يسأله ممازحاً: «أمجد أفندي، أين سجادتك؟».
إذا سمع المؤذن، قام من فوره إلى الصلاة، أينما كان وكيفما كان.. فهو يترك المائدة الملوكية، والحفلات الرسمية، ويبادر إلى الوضوء والصلاة.
وبلغ من حرصه على تعاليم إسلامه، أنه بعد انقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958 تشاءم الشيخ منه، واستنكر المجزرة التي ارتكبها الانقلابيون بحق الأسرة المالكة، وصلّى صلاة الغائب عليهم، لأنهم مسلمون، ولم يصلّ عليهم أحد، وخشي أن يصيبه الإثم إذا لم يصلّ عليهم، وتوقّع أن تصيب العراق كوارث تحصد الملايين، وقرر الهجرة إلى باكستان لتكون مستقراً له، وبعيداً عن الفتن التي كان يقودها الشيوعيون إبان حكم قاسم .
كان صريحاً جداً، لا يعرف المداهنة ولا المجاملة.ويكره تقليد الإفرنج، لكنه يقرأ ما يصل إليه من كتبهم، ويروي النافع من أقوالهم، ويضيق صدره بالحديث عنهم.
ولا يقول: هذا طيب، وهذا رديء، بل يأكل ما يقدَّم إليه ويحمد الله عليه. ولشدة ورعه، أنه لما شك في طعام فنادق الهند التي كان يزورها، بقي شهرين لا يأكل إلا الخبز والشاي، وهو المريض بالإمساك.
وكان لا يبالي مالاً ولا جاهاً ولا منصباً، ولا يستهويه مديح الملوك له، ولا تقديمهم إياه.
كان بركة العصر بحق، وفياً لإخوانه العلماء حيث كانوا، فكان يراسلهم، ويسأل عن أخبارهم، ويدافع عنهم، ويدعو لهم، وينصحهم، ويتدارس معهم شؤون المسلمين، كالشيخ الصواف، والسباعي، والطنطاوي، والكتاني، والصلاحي، وغيرهم.
وكان يحمل بين جنبيه نفساً عالية، وروحاً يجيش فيها حبُّ الجهاد في سبيل الله، وكان ورعاً من رجال الآخرة، ولم يكن من رجال الدنيا، فما كان يريدها، ولا يسعى إليها، ولا يحرص على ما يأتيه منها، والدنيا عنده مزرعة للآخرة، وكان يحب العمل الجماعي المنظم، ويكره الانزواء والانطواء والانعزال والعمل الفردي، والارتجال.
وظائفه :
بعد عودته من الآستانة عام 1906 عُيِّن مفتياً في الأحساء، ثم عضواً في محكمة استئناف بغداد، ثم رئيس محكمة حقوق الموصل، ثم اعتزل الوظيفة، وعمل محامياً، بعد دخول القوات الإنجليزية إلى بغداد، ثم عاد إلى الوظيفة وعمل مستشاراً للحقوق في وزارة الأوقاف، وأستاذاً في كلية الحقوق العراقية، ثم رئيس مجلس التمييز الشرعي، وكان في الوقت نفسه يدرِّس في المدرسة السليمانية في بغداد، فقد كان التدريس، وتربية النشء على الفضيلة ومكارم الأخلاق أحبَّ إلى نفسه من سائر الوظائف والمناصب مهما علت، فعندما صدر أمر وزاري بعدم جواز الجمع بين مجلس التمييز الشرعي والتدريس، استقال من المجلس، وآثر عليه البقاء في التدريس.
ثم انتخب الشيخ رئيساً لرابطة علماء العراق، ورئيس جمعية إنقاذ فلسطين، ورئيس جمعية الآداب الإسلامية، ورئيس جمعية الأخوة الإسلامية (الإخوان المسلمون) ومنها تفرعت جمعية الأخت المسلمة التي رأستها بنته العالمة الفاضلة الأديبة: نهال أمجد الزهاوي. بل نستطيع أن نزعم أنه كان يرأس كل جمعية خيرية وعلمية وتربوية في العراق.
رحلاته :
كانت رحلات الشيخ لله، ومن أجل نصرة قضايا العرب والمسلمين، ولم تكن يوماً للراحة والاستجمام والسياحة، وقد سافر وحضر المؤتمرات من أجل فلسطين خاصة، وقضايا المسلمين عامة، كقضية الجزائر وثورتها المظفَّرة، سافر إلى بلاد الشام، والحجاز، ومصر، وباكستان والهند، وشمال أفريقيا، وإندونيسيا، وماليزيا مرات ومرات، كان فيها يلتقي العلماء العاملين، والزعماء الصالحين، ويشرح لهم المهمات التي ارتحل من أجلها، ويحثهم على العمل الجاد لإصلاح أحوال المسلمين، وعندما التقى الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى، بهره، وحرص على ملازمته، وأوصى صهره الداعية الكبير سعيد رمضان- رحمه الله – بمرافقته والإفادة منه، وقال له: «إذا أردت أن تنظر إلى صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى الشيخ أمجد الزهاوي، فاستمع إلى حديثه، فإنه يحرك سواكن النفوس، ويبعث الهمة فيها، ويدفعها نحو الخير حيثما وُجد وحيثما كان».
تربية الأجيال :
كان الشيخ مشغولاً بأمور المسلمين، شغلته أوضاعهم، ومشكلاتهم، ومصائبهم عن نفسه وصحّته وأهله وماله، وقد أهمَّه ما هم عليه من ضعف، واستكانة، وخنوع، فانطلق يدعوهم إلى القوة، وتربية النشء عليها، وهذه لا تتأتّى إلا إذا رُبِّيت الناشئة على الإسلام .
ويرى أن هذه مهمة العلماء.. ومن أجل ذلك أسس جمعية التربية الإسلامية التي فتحت لها مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية لتعليمهم وتربيتهم التربية الإسلامية السليمة، وكذلك كان يريد من جمعية الأخوة الإسلامية التي أسسها مع تلميذه الصواف، وكان رئيساً لها. لقد كانت تربية النشء من همومه الكبيرة التي لا تفارقه، يدعو إخوانه ويلحّ عليهم في هذه الوظيفة المهمة.
فلسطين :
كانت فلسطين همّه الكبير، وشغله الشاغل، أسس من أجلها الجمعيات وحضر المؤتمرات، وجمع المعونات، وجنّد المجاهدين، وأرسلهم إلى فلسطين، من أجل استنقاذها من براثن اليهود المحتلين، وحاضر من أجلها في العديد من الدول والمدن والجمعيات، وبيّن للمسلمين خطورة هذه القضية على العرب والمسلمين، ما لم يبادروا إلى العمل الجاد المكافئ لأعمال اليهود ومن يقف وراءهم من دول الاستكبار العالمي المعادية للإسلام والمسلمين.
حضر المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في ساحة المسجد الأقصى في 27 من رجب 1372هـ للنظر في قضية فلسطين، وشؤون إسلامية أخرى، وكان الداعي إلى المؤتمر الشيخ محمد عبد اللطيف دراز رئيس جبهة الكفاح لتحرير الشعوب الإسلامية، باسم الجمعية، التي مقرها في القاهرة، وهو مؤتمر شعبي مبرأ من وصمات السياسة التي فرّطت في حقوق المسلمين، وأكسبتهم عاراً لا تمحوه سوى الدماء.
حضر الزهاوي هذا المؤتمر بصفته رئيساً لجمعية إنقاذ فلسطين، ومعه سكرتير الجمعية الشيخ محمد محمود الصواف، وتخلّف الداعون إلى المؤتمر، فبادر الشيخان، الزهاوي والصواف إلى تبني فكرة المؤتمر، وصارا أصحابها، وجمعا العلماء والخطباء وشباب الدعوة الإسلامية من الإخوان المسلمين، وعقد الجميع اجتماعات متواصلة، وتشاوروا وتذاكروا في قضية فلسطين، وقضايا المسلمين، وقد أسفر عملهم عن تأسيس مكتب دائم في القدس أسموه: مكتب الإسراء والمعراج، ليكون نقطة التقاء وارتكاز وانطلاق.
ثم عاد الوفد العراقي إلى بغداد، وقد صمموا أن يتجهوا –بعد الله تعالى- إلى الشعوب الإسلامية، وأعلنوا يأسهم من الحكام ومن تصرفاتهم الخائبة التي نكّست رؤوس العرب، وفضحتهم في العالمين، واعتبروا القضية الفلسطينية هي قضية الإسلام الكبرى في هذا العصر، ومن الممكن أن تكون المنطلق الصحيح لخدمة قضية القضايا في مشكلات المسلمين، وهي قضية الإسلام نفسه.
قررت جمعية إنقاذ فلسطين الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي بمناسبة شهر المولد النبوي الشريف من 27 ربيع الأول حتى الثالث من ربيع الثاني 1373هـ (3/12/1953) واستطاع الزهاوي جمع الأموال لهذا المؤتمر من الحكومة العراقية، ومن التجار الأغنياء العراقيين، ووجّهوا الدعوة إلى قادة العالم الإسلامي.
ثم سافر الزهاوي والصواف إلى مصر والسعودية، والتقوا رجال الحركة الإسلامية، والعلماء، ثم عادا إلى الأردن، فالقدس، لاستقبال المدعوين قبل الموعد ببضعة أيام.
وقد حضر المؤتمر 75 شخصية إسلامية، كالأستاذ سيد قطب، وعصام العطار، وعلال الفاسي، والقليبي، والورتلاني، والأميري ، وسعيد رمضان، وكامل الشريف، ومحمد عبد الرحمن خليفة، وسواهم من القادة، واعتذر قادة آخرون، ووصلت إلى المؤتمر مئات البرقيات المؤيدة والتي تبدي استعدادها للقيام بما تكلّف به.
أعلن المؤتمر بطلان الوضع الذي أحدثه اليهود في فلسطين من تقسيم واحتلال وتشريد للفلسطينيين، وغصب لحقوقهم. واعتبار الصلح مع إسرائيل، أو التعامل معها خيانة عظمى، والتفكير في تدويل القدس مؤامرة استعمارية يقف العالم الإسلامي في وجهها.. إلى آخر ما هنالك من قرارات وتوصيات لو عمل العرب والمسلمون بها، لكانت الحال غير الحال، وكان للزهاوي جهود مبرورة هائلة في انعقاد المؤتمر الذي اختاره رئيساً دائماً له بالإجماع، ثم انطلق في رحلة استمرت سبعة أشهر طاف فيها عدداً من البلدان الإسلامية، والتقى الكثير من القادة والمفكرين الإسلاميين، وجمع الأموال، واستجاش العواطف، واستثار العقول من أجل هذه القضية الكبرى التي خانها من خانها، وتآمر عليها من تآمر، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً.
وكان يكاتب الملوك من أجل هذه القضية، ومن أجل قضايا المسلمين الأخرى، فقد كتب إلى الملك سعود، والملك محمد الخامس، والملك إدريس السنوسي، والرئيس السوداني، والرئيس الباكستاني محمد أيوب خان، والملك فيصل وسواهم.
وكان يراسل ويلتقي رجال الإسلام، ويدعوهم إلى التعاقد على نصرة الإسلام والمسلمين حيث كانوا، وخاصة القضية الفلسطينية، ويدعوهم إلى الجد في العمل، والإخلاص فيه، وأن يكون هدفهم الأول استرجاع فلسطين العزيزة، وأن يبذلوا في سبيلها كل غال ونفيس، وكان يخاطب العاملين لنصرة فلسطين بقوله: «إخواني لا تهتموا بالمال، فإن الناس متى علموا صدق أعمالنا ونياتنا، فسوف يحملون المال على أطباق فوق رؤوسهم، ويأتون به إلينا».
وقد بدأ وإخوانه في تجهيز المتطوعين بجميع مستلزماتهم، وكلهم كانوا يطلبون الإسراع بالتوجه إلى ساحة الشرف، ليكون لهم الشرف في حماية أرض الإسلام من أرجاس اليهود ومن والاهم من أعداء الله والمسلمين.
وفاته :
توفي الشيخ عصر يوم الجمعة، الرابع عشر من شعبان 1387هـ - 17/11/1967 وشُيّع جثمانه من داره في حي الوزيرية ببغداد، إلى مثواه الأخير في مقبرة الإمام الأعظم في حي الأعظمية في بغداد، وحضر الجنازة كل من تناهى إليه خبر نعيه، فقد أجمعت سائر فئات الشعب العراقي على محبته، فبكته وبكت فيه الرجولة والعلم والجهاد حتى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، رحمه الله رحمة واسعة.الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
ماشاء الله و لا قوة الا بالله..
اللهم بارك يارب,جزاكم الله خير الجزاء اخي الكريم أسأل الله العلي العظيم ان يكتب لك بكل حرف الف حسنة فنحن و الله في اشد الحاجة لمثل هذه المواضيع لاحياء القدوة في قلوب فقدت الاحساس بمعني الاقتداء و الي الله المشتكي..
و لا تنسي اخي
القائد خطاب ...
الشيخ احمد ياسين..
الدكتور عبد العزيز الرنتيسي...
اسد القوقاز شامل باسييف..
و جزاكم الله خيرا..اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان.اللهم من خذلهم فاخذله، ومن أسلمهم فأسلمه إلى نفسه، ومن كادهم فَكِِدْهُ، ومن عاداهم فعادِهِ،ومن تَتَبَّعَ عوراتهم فافضحه على رؤوس الخلائق أجمعين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك.
تعليق
-
سلامات هاشم.. جهاد المصحف والسيف
سلامات هاشمالعالم الإسلامي قلب وأطراف، أو متن وهوامش، وربما اقتصرت معرفتنا بهوامش العالم الإسلامي وأطرافه على دعوات لأهله المظلومين والمضطهدين نرددها في خطب الجمع والمؤتمرات في النوازل التي لا تتوقف عن أطرافنا وهوامشنا: اللهم انصر إخواننا المسلمين في الشيشان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في بورما، وفي كشمير، وفي الفليبين وهي أحد هوامش أمتنا النائية وجروحها التي لا تتوقف عن النزف والتي جاء منها أسد ميندناو سلامات هاشم.وصل الإسلام لجزر الفليبين منذ مئات السنين على أيدي التجار المسلمين الذين نشروا الإسلام في العديد من مناطق شرق وجنوب شرق آسيا، وقد استعمر الإسبان الفليبين منذ عام 1521م، واستمر وجودهم حوالي 375 سنة، وبعدهم استعمرها الأمريكان الذين استمروا بها ما يقرب من 47 سنة، حتى نالت استقلالها في 4 يوليو 1946م. أما عاصمتها مانيلا فكانت تحريفا لاسمها الأصلي: أمان الله.وفي ظل الاستعمار الإسباني والأمريكي تركزت الحملات التبشيرية الداعية لدين المستعمرين؛ حتى أصبح المسلمون أقلية متركزة في الجنوب، وخاصة في ميندناو. وقد عانوا -وما زالوا يعانون- من التمييز ضدهم ومحاربة الحكومة المركزية لهم؛ لأنهم يسعون للانفصال عنها وإقامة دولة خاصة بهم.وكان من طلائع المجاهدين المسلمين في الفليبين الشيخ الأزهري سلامات هاشم الذي كان من أولئك النفر الذين تصدوا لقيادة قضية المسلمين في الفليبين.رحلة حياةولد سلامات هاشم في السابع من يوليو عام 1942 جنوب الفليبين في ميندناو لعائلة متدينة، وتعلم أول ما تعلم على يد والدته؛ حيث تولت رعايته وإرشاده وتوجيهه، وعندما وصل إلى سن السادسة كان قد حفظ العديد من سور القرآن الكريم، وفي نفس السن التحق بالتعليم الرسمي، وأنهى تعليمه الأساسي عام 1954م، وبعد ذلك التحق بالتعليم الثانوي.وفي عام 1958 قرر سلامات الحج إلى بيت الله الحرام، وتحققت أمنيته، وكانت فرصة مناسبة لأداء المناسك الشريفة ومدارسة العلوم الإسلامية، وتعلمها على يد الشيخ الزواوي الذي اهتم به اهتماما خاصا، وظل سلامات مواظبا على حضور حلقاته بالحرم الشريف لعدة أشهر، إلى أن انتقل إلى القاهرة عام 1959 لإتمام تعليمه هناك، وكانت القاهرة آنئذٍ مركزا سياسيا نشطا في العالم العربي، وهناك التحق بالتعليم الأزهري؛ فدرس في معهد البعوث الإسلامية، وتخرج فيه عام 1963، ثم التحق بكلية أصول الدين؛ حيث درس العقيدة الإسلامية والفلسفة، وتخرج فيها عام 1967.وقد تعلم في مصر على يد أساتذة ومشايخ عديدين من داخل الأزهر وخارجه، منهم الشيخ محمد الغزالي، والدكتور عبد الواحد وافي، والشيخ السيد سابق، والشيخ الباقوري وغيرهم.ومن نفس الجامعة استطاع أن يحصل على الماجستير عام 1969، وواصل تحضيره لنيل درجة الدكتوراة، لكنه لم يكملها في تلك الأثناء، واضطر للعودة إلى الفليبين عام 1970 للمشاركة في تنظيم ثورة مسلمي المورو ضد الحكومة الفليبينية المسيحية المتعصبة.زعامة مبكرةكان سلامات أثناء دراسته في القاهرة من الطلاب النشطين، وكان نشاطه هذا يميل إلى الثورية؛ دفعه إلى ذلك ما كان يتعرض له إخوانه المسلمون من ظلم واضطهاد على أرضهم، وقد أثر كل ذلك فيه؛ فمال إلى الاتجاه الإسلامي، واحتل مكانة خاصة في وسط جمعية الطلاب الفليبينيين المسلمين التي أسسها هو وبعض أعضاء حركة الإخوان المسلمين من إندونيسيا وماليزيا وتايلاند وسنغافورة، وتولى هو رئاستها، وعلى إثر ذلك استدعته السلطات، وأغلقت مقر الجمعية، ثم سمح له بعد ذلك بتسجيلها بشكل رسمي.ومن التجمعات التي كان له دور بارز فيها مجلس التضامن لجمعيات الطلاب جنوب شرق آسيا، وتقلد منصب السكرتير العام لهذا المجلس، وكان يتكون هذا المجلس من الطلاب القادمين من بورما وماليزيا وإندونيسيا واليابان وتايلاند وفيتنام وكمبوديا وغيرها.منبع فكري ثوريتجدر الإشارة إلى المنبع الفكري الثوري الذي تأثر به سلامات، ونقصد بذلك اثنين من المفكرين الإسلاميين، وهما المصري سيد قطب والهندي أبو الأعلى المودودي؛ حيث كان لأفكارهما السياسية أثرها في إصراره على الثورة ضد الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون ببلاده. وارتبط سلامات بجماعة الإخوان المسلمين في مصر ارتباطا روحيا وتأثر بأفكارها، ولاقى بسبب ذلك معاناة من الأجهزة الأمنية آنذاك التي استدعته وحققت معه، وفرضت رقابة على طلاب الوفود الإسلامية الذين يدرسون بمصر، وكان سلامات هاشم من قَبل أحدَ هؤلاء الطلاب.مورو الإسلاميةمجاهدون من جبهة تحرير مورو الإسلاميةعند عودته أسس سلامات جبهة تحرير مورو الإسلامية (MILF) "Moro Islamic Liberation Front"، وتأثر في عمله بالجبهة بمناهج الحركات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي، وخاصة الإخوان المسلمين بمصر، والجماعة الإسلامية بباكستان، واهتم بتربية الشباب الفليبيني المسلم تربية إسلامية صحيحة بعيدة عن البدع والخرافات، اعتمدت على بث روح التدين في نفوسهم وإلهاب حماسهم الجهادي. واستغل الغابات الكثيرة التي تتميز بها جزيرة ميندناو ومناطقها المختلفة في إقامة المعسكرات التربوية والجهادية لهؤلاء الشباب الذين كان يجهل أكثرهم دينه؛ نظرا للتغريب والتبشير الدؤوب الذي تقوم به المنظمات والحكومات الغربية والحكومة الفليبينية في المناطق الإسلامية، ونجحت هذه الطريقة في جذب الشباب المسلم حتى وصلت أعدادهم إلى الآلاف.إلا أن الأمر بالنسبة لجبهة تحرير مورو لم يسِر كما رتب له سلامات؛ حيث بدأت بعض المنظمات المسيحية المتطرفة في الفليبين مثل منظمة أطلق عليها اسم "الفئران" تعتدي على المسلمين، وكانت الحكومة الفليبينية آنئذ تدعم هذه المنظمات في الخفاء، وسببت اعتداءاتهم أضرارا بالغة بمناطق المسلمين، وأزهقت عشرات الأرواح من نساء وأطفال وشباب وشيوخ، وتم هتك أعراض واعتداء على حرمات؛ لذلك ما كان لسلامات أن يقف عاجزًا إزاء هذا الوضع المأساوي؛ فاضطر لخوض المعركة مبكرا قبل أن تكتمل لديه العدة الكافية لخوض مثل هذا الصراع المرير؛ حيث كان قد أعد خطة تربوية تستمر 5 سنوات دون اللجوء للسلاح، ومن ثم خاض صراعا من أجل الاستقلال عن الحكومات الفليبينية المختلفة المدعومة من الدول الاستعمارية الكبرى.واستمر الصراع عقودا طويلة، خاضت فيها الجبهة حربا ضد جيش الرئيس الفليبيني ماركوس على كافة الجبهات، استمرت ما يقرب من عام: 1970-1971، وبعد انقطاع المساعدات وتخلي العديد من الدول المجاورة عن مناصرة قضية المسلمين في الفليبين، وبعد ضغوط من العديد من الدول الإسلامية.. توقف القتال، ودخل الطرفان في مفاوضات سلمية، واستمر الوضع بين الجبهة والحكومات الفليبينية بين شد وجذب؛ مفاوضات، وصراع تتبعه مفاوضات، وهكذا إلى الوقت الحاضر دون أن يحسم الأمر لأحد الطرفين، فلم يحصل المجاهدون بعدُ على استقلالهم، ولم تستطع الحكومة الفليبينية أن تقضي عليهم.شرف القتالوتختلف جبهة تحرير مورو الإسلامية عن العديد من الجبهات والحركات التحررية في العديد من مناطق العالم في أنها تراعي حكم الله فيما يعرف بآداب الجهاد في التعامل مع أعدائها، وكذلك في التعامل مع باقي الأجانب الذين يزورون مناطق المسلمين أو يتواجدون في الفليبين؛ حيث لا تعمد إلى أساليب خطف الرهائن الأبرياء التي تتبعها بعض الجماعات المنسوبة للإسلام في الفليبين أو الجزائر أو غيرها، ولم تلجأ إلى الأساليب الإرهابية التي تتبعها الجماعات الشيوعية في الفليبين. ويرجع ذلك إلى تلك التربية التي ربى سلامات هاشم أتباعه عليها، والتي تستضيء بنور الله وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.سلامات وميسواري.. الإسلامية والقوميةنظرا لنشأة سلامات الإسلامية وتعليمه الديني وتأثره بسيد قطب وأبو الأعلى المودودي؛ فقد كان الإسلام بالنسبة له هوية يصعب التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف؛ لذلك انفصل سلامات عن الجبهة الموحدة التي كانت قد ضمت رجاله مع رجال نور ميسواري عندما التزم نور بالعمل بالإسلام، وتم اختيار نور لرئاسة جبهة تحرير مورو التي تشمل الفصيلين: الإسلامي بقيادة سلامات والوطني بقيادة ميسواري.وعلى الرغم من أن التيارين مختلفان كثيرا في أفكارهما فقد جمعهما هدف واحد، وهو المقاومة والتحرير واستعادة الحقوق.وبمرور الوقت لم يوف ميسواري بالتزاماته الخاصة بتطبيق المبادئ الإسلامية، والتي تتعلق بالدعوة إلى الله وتربية المسلمين على مبادئ الإسلام، واستنكر ميسواري "إقامة حكم إسلامي في جنوب الفليبين، على الرغم من أن الدول العربية نفسها لا تقيم مثل هذا الحكم!"، فقرر أصحاب الاتجاه الإسلامي الانفصال عن الجبهة الموحدة، وكان ذلك عام 1979، والتف هؤلاء حول زعيم جبهة تحرير مورو الإسلامية التي تضم أكثر من 12 ألف عضو من الإسلاميين.حياة الغابة والمنصبآثر سلامات حياة الجهاد والعيش مع المجاهدين على حياة الرفاهية؛ حيث عرضت عليه الحكومة الفليبينية العديد من المناصب. وعاش سلامات مع المجاهدين حياة البؤس والحرمان، مصطحبا معه أسرته وأهله، بالإضافة إلى كتبه، وبالطبع بندقيته ورصاصاته.وكان إذا قبل وظيفة لا يقبلها إلا إذا كانت ستعود بالنفع على دعوته في سبيل الله وخدمة المجاهدين وعامة المسلمين.ومن المواقف الطريفة التي رويت عنه وحكاها الدكتور عبد الله الأهدل -وقد قابل سلامات في إحدى رحلاته لجنوب شرق آسيا عام 1989- أنه "بعد رجوعه إلى الفليبين وجد أن الدعوة صعبة بدون إمكانات مادية، وبخاصة الدعوة الموسعة؛ فعمل مع الحكومة؛ لأن عنده فرصة طيبة في الحصول على المنصب؛ حيث إن بعض حكام البلاد من أقربائه مثل المحافظين في بعض المناطق، فأصبح مدير المكتبات في كوتاباتو، فاستفاد من ذلك لمصلحة الدعوة؛ لأن له مكتبًا خاصًّا وموظفين تابعين له وسيارة خاصة تنتقل في المحافظة والمحافظات المجاورة.. فاستغل المصروفات الحكومية والوظيفة لعمل الدعوة والتنظيم بطريقة سرية.وكان من يصل إلى وظيفة مدير عام له الحق في أن يستعمل السيارة الحكومية؛ فمكنه ذلك من التنقل إلى عدة أماكن للدعوة والتنظيم وشراء الأسلحة، والسيارة الحكومية لا تفتش.وحدث في بداية الحرب مع الحكومة أنه كان في المعسكر والحكومة لم تزل تدفع له راتبه عن طريق سكرتيره الخاص، ولم تدرِ أنه مع المجاهدين، واستمر على ذلك عدة شهور.سلامًا سلاماتمن الممكن أن نوجز الحديث عن سلامات في أنه: مجاهد مسلم أزهري، كانت التربية شغله الشاغل لتنشئة جيل مسلم يحقق طموحات الإسلام، وهو كذلك عاشق للعلم والقراءة حتى لو كان الأمر وهو في الغابة مع جنوده وسط الأحراش، فلم تكن تفارقه كتبه.. وهو كاتب من ذلك النوع الذي لا يكل قلمه، وخطيب مفوه يتحدث العربية والإنجليزية ولغته المحلية. وعلى الرغم من اتباعه للمذهب الشافعي فقد كان على معرفة وافية بالكثير من المذاهب والآراء التي تخالفه.وظل رحمه الله على هذا الدرب؛ درب العلم والتربية والجهاد إلى أن توفاه الله في الثالث عشر من يوليو عام 2003، ودفن في اليوم التالي بإحدى مقاطعات جنوب الفليبين. وقد تأخر الإعلان عن وفاته حوالي أسبوعين حتى لا يؤثر هذا الإعلان على محادثات كان يتم الاتفاق بشأنها بين الحكومة الفليبينية وجبهة تحرير مورو الإسلامية.الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
ما شاء الله ..
أثابك الحي القيوم كل خير أخى الكريم على هذا الموضوع الرائع ..
فهو بالفعل موسوعة لم تكن إلا أن تقتنى بمكتبة المنتدى
بانتظار التكملة بمزيد من الشخصيات المثلى لعالمنا الإسلامى ..
ولا تنس ما أشارت إليه أختنا الفاضلة proud_moslima من شخصيات وأزيد علبها القائد الشهيد أبى مصعب الزرقاوى _رحمه الله_ ..
وفقك الله وسدد خطاكأخى الكريم : فرق شاسع جدا فى المعنى بين الإرادة وبين الخلق أوالصنعفاحرص على أن تكتبها ( إن شاء الله ) لا أن تكتبها ( إنشاء الله )ثم تدبر معى قوله تعالى(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ**الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(آل عمران :190-191)__________________________C O M I N G S O O N ... A L L A H W I L L I N G________________________________أعتذر لقلة الردود حالياً نظراً للانشغال الشديد .....
تعليق
-
حياكم الله وبياكم...
أخى الحبيب الغالى"جندى العقيدة"::: بارك الله فيكم وجزاكم ربى خيرااااااااااااااااااً...
بالفعل ما شاء الله موضوع مميز جداااا .....
أولئك أبائى فجأنى بمثلهم ...إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ...
بإنتظار الباقى إن شاء الله...وأضم صوتى لصوت أختنا الفاضلة proud وأخى الحبيب الغالى "حسام" فلا تنسى ولا أخالك تنساهم إن شاء الله....
وفقكم الله...تالله ما الدعوات تُهزم بالأذى أبداً وفى التاريخ بَرُ يمينى
ضع فى يدىَ القيد ألهب أضلعى بالسوط ضع عنقى على السكين
لن تستطيع حصار فكرى ساعةً أو نزع إيمانى ونور يقينى
فالنور فى قلبى وقلبى فى يدىَ ربىَ وربى حافظى ومعينى
سأظل مُعتصماً بحبل عقيدتى وأموت مُبتسماً ليحيا دينى
_______________________________""الدعاة أُجراء عند الله ، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا ، عملوا ، وقبضوا الأجر المعلوم !!!..وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أى مصير ، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !!!!...__________________________________نظرتُ إلىَ المناصب كلها.... فلم أجد أشرف من هذا المنصب_أن تكون خادماً لدين الله عزوجل_ لا سيما فى زمن الغربة الثانية!!أيها الشباب ::إنَ علينا مسئولية كبيرة ولن ينتصر هذا الدين إلا إذا رجعنا إلى حقيقته.
تعليق
-
الأخ الكريم " رمضان "
لا مانع شرعا من التأسي بمن نظن صلاحهم في أي عصر كانوا , و لذلك ألف كبار علماء الأمة الكتب في التراجم للصالحين و المجاهدين للاقتداء بهم , و ليس معنى ذلك القطع لهم بالجنة فهذا في علم الله تعالى , و لكن نقتدي بما ظهر لنا منهم , و يدخل في هذا كتاب " صفة الصفوة " للإمام ابن الجوزي مثلا .
و نستكمل إن شاء الله تعالى .
الحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
-
بنان علي الطنطاوي
الشهيدة زوجة الطريد
لقد أكرم الله المرأة أيما إكرام، فهي الزوجة المخلصة والابنةالمحبة والأم الحاضنة والجدة الرؤوفة والحفيدة الوفية ...
هي الصابرة المحتسبة في كل أنواع البلاء، وفي كل أوقاتحياتها...
هي العالمة العارفة بأمور دينها، الباحثة عن السعادة الأخروية ..
هي المجاهدة بكل ما تستطيع، إن لم يكن بالسيف فبالكلمةوالمساندة والدعاء ...
هكذا كانت المرأة المسلمة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتىيومنا هذا، وأنا لا أتحدث في هذه السلسلة عن إحدى الصحابيات أو التابعيات حتى نقولكان هذا في ذاك الزمان، الجيل الفريد وخير القرون، لا، إنما أتحدث عن نساء لاتفصل بيننا وبينهن سنوات، أُمتُحنَّ وابتُلين في سبيل دعوة الله، والعمل من أجلرفع راية لا إله إلا الله، فدارت الدائرة عليهن ليسجنّ أو يقتلن أو يخرجن منبلادهن فراراً بدينهن وإيمانهن.
من منا لم يسمع بالعالِم الجليل الشيخ علي الطنطاوي، الداعيةالإسلامي الذي ذاع صيته في كل مكان، وسمعت خطبته على كل المنابر، ونشرت مقالاته فيالصحف، يدعو إلى الواحد الأحد، يذب عن دين الله. كان شجاعا ثابتا على مبادئه، لايلين، ولا يهادن ولا يتنازل.
هذا الداعية الإسلامي الكبير رزق بخمس بنات، وليس له ذكور، وقدتمنى أن يكون له ولد ذكر - شأنه شأن باقي البشر- ليحمل اسمه بعده، يعلمه مما علمهالله ويرثه من بعده، ولكنها مشيئة الله النافذة، ومع ذلك أحب بناته الخمس حباشديدا وأولاهن عناية كبيرة جدا واهتم بكل صغيرة وكبيرة تخصهن، فهو عرف فضل تربيةالبنات فالتزم أوامر الله، أيقن بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البنات حجابلأهلهن من النار إن أحسنوا تربيتهن فعمل على تطبيق ذلك.. فهكذا هو الإسلام عِلموعمل وتطبيق على أرض الواقع، قال صلى الله عليه وسلم:" من كان له ثلاث بنات فأنفقعليهن وأحسن إليهن حتى يغنيهن الله عنه أوجب الله له الجنة إلا أن يعمل عملا لايغفر له".
وكانت بنان من أحب البنات الى قلبه، كان إذا جلس داعبها وإذاغابت افتقدها، إذا فرحت فرح من أجلها وإذا حزنت ظل يحادثها حتى يذهب عنها لمساتالحزن. تربت بنان وأخواتها على الإيمان الصافي وعلى العفة والطهارة والحياء والبذلوالعطاء . تعودت بنان وأخواتها أن الذي في يدها ليس ملكا لها، كانت تشعر أن حياتهاوأسرتها هي وقف لله تعالى.
وتدور عجلة الأيام لتكبر بنان على مدارج الإيمان والفضيلة،ويختار لها زوجا هو من خير شباب الإسلام وقد أسماه الطنطاوي " العالم الأديب" فعاشتمع زوجها وأكملت المسيرة في طريق الإيمان والعلم والجهاد.
ويعاني العطار زوج بنان - وكان في ذلك الوقت المراقب العامللإخوان في سوريا- ما عانى منه الإخوان المسلمون في سوريا فيُعتقل ويسجن.
فكيف كان رد فعل هذه الزوجة التي رضعت الإيمان مع الحليب؟
وشربت هم الدعوة مع الماء ؟
هل صرخت؟ هل ولولت ؟
هل قالت لماذا زوجي أنا؟
هل حمّلت الدعوة ذنب سجن زوجها؟
ماذا فعلت بنان!
هذه المرأة التي وصفها أحدهم بقوله:" إنها امرأة أبكت الرجال" ماذا قالت لتبكي الرجال، وما أصعب دمعة الرجال في النزول!
قال: كنت أزور والدي في السجن وكانت الأخت بنان تزور زوجها فيسجنه بعد أن اعتقله النظام الحاكم، فسمعتها تقول لزوجها " يا عصام، أنا والأولادبخير وسلامة، فلا تقلق علينا، كن قويا كما عرفتك دائما ولا ترِ هؤلاء الأنذال مننفسك إلا قوة وصلابة واستعلاء الحق على الباطل" كانت تتجلد وتصبر نفسها أمامه،لتربط على قلبه، وكم بحاجة هي لمن يربط على قلبها.
هكذا هن النساء المسلمات وهكذا هي المرأة المؤمنة، تمسك نفسهاعند الشدائد لتريح نفس الزوج المتعبة، وأمثال بنان كثيرات، فهذه هي زوجة أبو طلحةمات ابنها وزوجها غائب، ولما عاد وسأل عن الولد قالت : هو في خير، فتزينت لزوجهاوقضى حاجته منها، ولما استراح من سفره أخبرته بحادثة موته ... هذه مواقف، فهلنتمثل هذه المواقف ونجعلها عبرة ودرسا لحياتنا، أم أننا نقرأ فقط للتسلية وقضاءالوقت؟!
لم يتوقف صبر بنان وجلدها وحبها لزوجها ودعوتها عند هذا الحد،فقد أُجبر عصام العطار على أن يترك زوجته وبلده ويهاجر الى بلد بعيدة، لتواصل بنانمواقفها العظيمة تجاه الإسلام ورسالة الاسلام، تودعه بعيون دامعة وقلب حزين ومع ذلكتحثه على الثبات وعدم الخضوع أو التنازل.
وفي رسائلها لم تنس تذكيره بدعوته، فها هي تقول له في إحداها:" نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذييرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت،والله معك يا عصام، وما يكتبه الله لنا هو الخير".
ويستمر عطاء هذه المرأة المحتسبة المتوكلة على الله المؤمنةبقضاء الله، فيصاب العطار بالشلل لما كان في مدينة بروكسل، ليجتمع المرض المقعدمع الغربة المؤلمة، وفي هذه المحنة تبعث بنان برسالة لزوجها البعيد عنها القريب الىقلبها، فتقول فيها كلمات مؤثرة تبكي القلب قبل العين، قالت :" لا تحزن يا عصام،إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقكالإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك - إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام .." يا الله ... يا لهذهالكلمات ...
من منا تستطيع أن تنسج هذه الدرر لتجعل المحنة منحة، وتحولالألم واليأس الى أمل مشرق يزهو بالحب والإيمان.
من منا تستطيع تحمل كل هذه المصائب ومع ذلك لا يسعها إلاالازدياد من الإيمان والتحلي بزينة الصبر .. من؟!
وتشتاق بنان لزوجها المبعد المشلول، وتختار أن تترك بلدها لتلحقبه، لتكون معه تؤازره وتسانده وتعلي من همته وتعمل في طاعة الله ولترفع لواءالإسلام هناك في المانيا، وفي مدينة من مدنها أنشأت بنان المركز الإسلامي النسائيللمسلمات ... وعملت على رفع راية الإسلام، وفي هذا المركز اهتدى عدد كبير منالنساء ليلحقن بركب الإيمان.
بالله عليك، لو أصبت بما أصيبت به بنان، هل تفكرين في إنشاءدار للقرآن أو مركز تعلمين فيه النساء؟ إن من نسائنا إذا مرض ابنها أو أصيب أحدأفراد عائلتها بمكروه تركت الدعوة أشهرا بل سنوات، فماذا نقول لله غدا إن سألناماذا عملنا بعلمنا الذي تعلمناه؟ وماذا قدمنا لدعوتنا ولأهلنا ولمجتمعنا؟!
" إن طريق الحق والواجب ليس مفروشا بالسجاد الأحمر والأمنوالملذات فلا بد أن تمشيَ على الأشواك والمخاوف والآلام، وأن تدمي نفسك وقدميك،وربما فقدت فيه الحياة، لكن تذكر ان نهايته الجنة ورضوان من الله أكبر، وما الحياةالدنيا إلا متاع الغرور".
وتستمر بنان في تقديم التضحيات، إذ يأبى أهل الكفر أن يروا أهلالإيمان يتنعمون، فيأتي رجال ثلاثة الى المانيا يبحثون عن ذلك المشلول المطرود لاليزوروه أو يسلموا عليه وإنما ليكملوا فصول المسرحية التي حيكت في حكومة البعث،ليجهزوا على ذلك الجسد الذي توقف عن الحركة ولكن العقل ما زال يعمل ويفكر لله ومازالت المعلومات تكتب عنه بيد زوجته، جاؤوا ليقتلوه، اقتحموا منزلها بعد أن هددواجارتها بأن تستأذن لهم، دخلوا البيت بجبروتهم وطغيانهم، فلما لم يجدوا المطلوب .. أفرغوا رصاصات حقدهم في صدر بنان..
خمس رصاصات اخترقت ذلك الصدر الذي حمل هم الدعوة الى الله،سقطوا هم في الخسة والرذيلة والهوان وعلت هي بروحها شهيدة الى أعلى عليين، تشكوإلى بارئها ظلم الظالمين وحقد الحاقدين، في 17/3/1981 صعدت روح بنان الى جنان الله- أن شاء الله- لتبتعد عن رجس أهل الأرض، لترتاح من حقد أهل الكفر، وتخلد مع أهلالجنة.
غادرت بنان الأرض، لتترك الأب الغالي الذي أحب بناته، لا يصدقما تسمع أذناه، ليبكي ابنته الحبيبة بكاءً مرا.يقول الطنطاوي:" فهمت وأحسست كأنسكينا غرس في قلبي ولكني تجلدت إلا أن النار كانت تضطرم في صدري... كنت أحسبني جلداصبورا، أثبت للأحداث أو أواجه المصائب، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا منالصبر ولا من الثبات...".
إنها بنان التي بكاها أبوها وزوجها وأولادها وكل من عرفها أو سمععنها ...
إنها بنان التي علمت أن طريق الجنة محفوف بالمخاطر، فشمرتوسلكته لتصل إليها ... وأظنها وصلت.
فمتى نصل نحن ؟
وكيف سنصل إن لم نتبع خطوات سمية أم عمار، وأم سليم، ونسيبة،وزينب الغزالي وعلية الجعار وبنان و ... القائمة طويلة ...
فهل نقتدي بهؤلاء المتميزات بإيمانهن وصبرهن لنلتقي معهن على حوضالمصطفى صلى الله عليه وسلم!!
--------
بقلم: سـوسن مصاروة - محاضرة في كلية الدعوة والعلوم الإسلامية- أم الفالحـق و الإيمان يذكــي في دمـــي
نــــورا ســموت به على الأفـــلاك
روحي على كفي إذا احـتدم الوغى
ألفيـــتني بــين الـــلظى الــــــفتاك
تعليق
تعليق