أهمية خطبة الجمعة
الأمة الإسلامية أمة غراء ، سمة شريعتها أن يعبد الله وحده في الأرض ، وزمام هذا وقطب رحاه هو الدعوة إلى ذلك وبثه بالأقوال والأفعال . ولما كان القول باللسان له وقع في القلب ، وتأثير حسن في أذن السامع ، ولأن الدعوة تستدعي ألسنة قوالة من أهل الإسلام لتأييده ونصره ، ونشر تعاليمه ومبادئه على أحسن وجه وأكمل حال ؛ فإن مخاطبة الحشود والجماعات قلما تتفق بصفة متكررة إلا في الجمع والأعياد ، ولعل من أوائل أنواع الخطابة في الإسلام هو ما صدع به المصطفى بين ظهراني قريش بعدما أنزل الله عليه قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فصعد على الصفا ثم نادى : (( يا صباحاه )) فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله : (( يا بني عبدالمطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ )) قالوا : نعم . قال : (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )) . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؛ فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} رواه البخاري ومسلم(1) .
فخطابة النبي في هذا الموضع لم يعهد لها من قبل مثيل بهذه الكيفية ، وهذا التوقيت وهذه الجرأة ، ولذلك كانت من أهم الحوادث وأعظم البواعث للدعوة الجهرية التي أطلقت الألسن من عقالها ، وأثارت الخطابة في الإسلام من مكمنها ، وأغرت العقول بأحكامها والتفنن فيها ، واختلاب الألباب بسحر بيانها فوق ما كانت عليه في جاهليتها . كيف لا ورسول الله هو القائل في معرض حديث عن الخطبة : (( إن من البيان لسحراً )) رواه البخاري ومسلم(2) .
وبعد فرض صلاة الجمعة وخطبتها أصبحت صلة النبي بجمهور الناس تتكرر نهاية كل أسبوع ؛ مما أضفى على الخطبة شيئاً من الأهمية والمكانة ؛ لأنها منبر التوجيه والإرشاد ، فضلاً عن الأعياد والمناسبات العامة كالكسوف والاستسقاء ، ثم ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون ، وهم أركان البلاغة ، ودعائم البيان ، وسادات الفصاحة ، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم ، ثم خلفاء بني العباس ، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع ، ولله الحمد والمنة .
وقد اشتهر في أمة الإسلام خطباء كثيرون يصعب حصرهم ، غير أن من أشهرهم علي بن أبي طالب ، وعبدالله بن عباس م ، وهو الذي قالوا عنه : إن ابن عباس : خطب بمكة وعثمان محاصر خطبة لو شهدتها الترك والديلم لأسلمتا . وقد ذكره حسان بن ثابت
فقال :
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع
سموت إلى العليا بغير مشقة
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
لذي إربةٍ في القول جداً ولا هزلا
فنلت ذُراها لا دنيّاً ولا وغلا (3)
وقال الحسن : كان عبدالله بن عباس أول من عرف بالبصرة ، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ، ففسَّرهما حرفاً حرفاً . وكان والله مِثجّاً يسيل غرباً (4) ، وكان من الخطباء أيضاً عطارد بن حاجب بن زرارة ، وقد قال فيه الفرزدق بن غالب :
ومنا خطيب لا يُعاب وحاملٌ أغرُّ إذا التفَّت عليه المجامع (5)
وكان من الخطباء المشاهير أيضاً عبدالله بن عروة بن الزبير ، وزيد بن علي بن الحسين ، والفضل بن عيسى الرقاشي ، وقس بن ساعدة ، وعمرو بن سعيد الأشدق ، وأبو الأسود الدؤلي ، ومنهم أيضاً شبيب بن أبي شيبة ، والحسن البصري ، وبكر بن عبدالله المزني ، ومالك بن دينار ، ويزيد الرقاشي ، ومحمد بن واسع الأزدي ، وغيرهم كثير وكثير ، ليس هذا محلاً لحصرهم .
ولقد أعجبني كلام جميل لطيف للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يذكر فيه أهمية الخطبة وها أنا أوجز شيئاً منه لأجل أن تحل الفائدة محلها .
فقد قال رحمه الله : " إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة ، فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب ، إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ ، الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء ، أما الخطب فلم تسمعوها إلا قليلاً ، الخطب العبقريات الخالدات التي لا تنسج من حروف ، ولا تؤلف من كلمات ، ولكنها تنسج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحق لكل قلب ، وتحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس .
ولا تقولوا : وماذا تصنع الخطب ؟ إن خطب ديموسئين صبت الحياة في عروق أمة كادت تفقد الحياة ، وهي كلمات وقفت سداً منيعاً في وجه أعظم قائد عرفته القرون الأولى ، الإسكندر ، ووجه أبيه من قبله : فيليب .
وخطبة طارق هي التي فتحت الأندلس . وخطبة الحجاج أخضعت يوماً العراق ، وأطفأت نار الفتن التي كانت مشتعلة فيه ، ثم وجهته إلى المعركة الماجدة ، ففتح واحد من قواد الحجاج أكثر مما فتحت فرنسا في عصورها كلها ، وبلغ الصين ، وحمل الإسلام إلى هذه البلاد كلها ، فاستقر فيها إلى يوم القيامة ، ذلك هو قتيبة بن مسلم .
ولما اجتاح نابليون بروسيا ، ما أعاد لها حريتها ، ولا ردَّ عليها عزمها ، إلا خطب ( فِختِه ) التي صارت لقومه كالمعلقات يحفظها في المدارس الطلاب ... الخ (6) . اهـ .
هذا حاصل كلام الشيخ رحمه الله . والذي من خلاله يتضح شيء من الأهمية لخطب الجمع والمواسم من جهة التأثير على الناس في دعوتهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة . فلله ما أعظم رتبة الخطباء ، وما أكرم مكانتهم . إنهم يغدون في خمائل الخطابة ، فتراهم تارة يحذرون ، وتراهم تارة يبشِّرون ، وأخري يعظون ، ورابعة يذكّرون ، يستلينون الناس بالقول إذا قسوا ، ويستخضعونهم به إذا عصوا ، ويمتلكون أفئدتهم بالرغبة والرهبة أخرى ، فلله ما أعظم محل الخطباء في النفوس ، وأنفذ كلامهم في القلوب ، وأشد إثارتهم للعواطف ، وبالله كم تتجه الأنظار نحوهم ، وتحدق الأبصار شاخصة بهم، وتلتف حولهم القلوب، وتترامى إليهم الآمال .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صحيح البخاري برقم ( 4801 )،وصحيح مسلم برقم ( 208 ) .
(2) انظر: صحيح البخاري برقم ( 5146 )،وصحيح مسلم برقم ( 869 ) .
(3) انظر : البيان والتبيين للجاحظ ص (174) .
(4) انظر : البيان والتبيين للجاحظ ص (174) .
(5) انظر : المصدر السابق
(6) انظر : هتاف المجد للشيخ علي الطنطاوي ص (23) .
مأخوذ من موقع الشيخ الشريم >> ركن المعرفة >> محاضرات ومقالات >> الشامل فى فقه الخطيبِ
تعليق